د. زهير الخويلدي
" إن فعل التفكير هو في حد ذاته مشروع خطير جدا ولكن عدم التفكير هو أيضا أكثر خطورة" - حنة أرندت-
يصعب على المرء دراسة التفكير الفلسفي دون المرور بقضية ماهية الفلسفة وحدّها الجامع المانع ولكن عدد قليل من الفلاسفة حاول تقديم جواب شاف عن السؤال الشائك: ما الفلسفة؟، وهذا الأمر في الحقيقة مثير للاستغراب والدهشة بالنظر لانتماء معظمهم إلى المشروع الفلسفي ومساهمتهم في تركيز دعائمه.لم يتفق الفلاسفة حول تعريف دقيق ونهائي للفلسفة ولا يوجد أمر معين اختلفوا حوله وتخاصموا أكثر من تعريفها إلى درجة أن بعض المؤرخين نفى إمكانية حصول اتفاق في العمق حول الأساس الذي يقوم عليه المشروع الفلسفي والمضمون الحي الذي تقوم الخبرة الفلسفية بتحليله والمقصد الذي يسعى الفيلسوف من خلال ممارسته وأفعاله وسيرته تحقيقه وبلوغه والمنهج الذي يجدر بكل تفلسف فعلي أن يتبعه ويسلكه.
لم يسبق أن تعرضت الفلسفة إلى التجاهل والاستخفاف من قبل العامة والخاصة لمثل ما تتعرض له زمن العولمة المتوحشة والثقافة الاستهلاكية ومجتمع الفرجة وبعد سيطرة الصورة وظهور أنماط الاستنساخ.
يحوز غالبية الفلاسفة على فن الصياغة الفريدة للمفاهيم ويحاولون من خلال آثارهم فتح العالم وتحرير الإنسان. لكن أي مكان للفلسفة اليوم؟ ولماذا يبحث الإنسان دائما عن طرق للتفلسف؟ وهل ثمة تلازم بين ازدياد المعرفة الفلسفية والتقدم المادي في الحياة؟ وماذا تبقى للفلسفة من دور تقوم به زمن الاضطراب؟ وما الفائدة المرجوة من تدريس الفلسفة ؟ ولم تصلح الفلسفة في الوجود البشري؟ هل يجب رد الاعتبار إليها ؟ ماهو الثمن الذي يجب تقديمه في سبيل ذلك؟ وهل من شروط يلزم توفيها لتحقيق رقيها؟
من البديهي أن تكمن مهمة الفلسفة عند الاشتغال على مسارات الحقيقة والوجود والقيم من أجل تكوين رؤية للعالم وتشكيل وحدة المعرفة بالانطلاق من الدين والفن واللغة والتاريخ في التفسير والنقد والإبداع.
والحق أن الفلسفة تمثل مصدر تخوف وخشية عند من يجهلونها وتثير القلق والشقاء عند من يدرسونها وتعد من الإفرازات العبقرية للعقول الكبيرة للبشرية والذين نحتوا عظمتها وتاريخا وجعلوا العالم مفهوما.
لقد قدم لنا تاريخ الفلسفة ثلاثة أجوبة كبرى: الأولى تنتمي إلى العصر القديم وتقدم الفلسفة بوصفها طريق نحو السعادة ويمثلها أبيقور والرواقية والريبية، والثانية تنتمي إلى العصر الحديث وتجعل من الفلسفة أسلوب لفتح العينين ويمثلها ديكارت من خلال منهجه الحاسم، والثالثة تنتمي إلى الحقبة المعاصرة وتعتبر الفلسفة فعالية إبداعية ويجسدها جيل دولوز من خلال تصوره للفيلسوف على أنه موقع لمفاهيمه بنفسه.
والحق أن الفلسفة هي ممارسة نظرية ( بحثية، استدلالية، مفهومية) غير علمية ولا تخضع إلا للعقل والتجربة ، مع حذف كل وحي له مصدر متعال أو ما فوق طبيعي وترنو إلى القليل من المعرفة والكثير من التفكير أو فعل المساءلة ، وتضيف عدد قليل من معارفنا وتفكر في ما نعرفه أو نجهله بصورة كبيرة1 .
لقد اهتم البعض من الفلاسفة بتأسيس الأخلاق وفق الخير والسعادة والفضيلة وتناول آخرون بالدرس المباحث السياسية كالدولة والسلطة والحرب وبحثوا عن السلم والتعاقد من خلال القانون والمؤسسات. كما جعل فلاسفة شغلهم الشاغل العلوم من جهة رصدهم رحلة المفاهيم وقيامهم بإبداع النظريات بعد القيام بالتجارب وإنقاذ ظواهر الطبيعة ، ولقد صعد قسم آخر بالتفكير الفلسفي نحو الخوض في عالم الميتافيزيقا والمعتقد الديني وبحث في الجواهر المفارقة وحقائق الغيب وحاول البرهنة على وجود الله وعلاقته بالعالم والبشر، واعتنى فريق جديد بالراهن واستفسر عن الزمان والمكان وأحوال الإنسان وشروط وجوده.
يعتقد المتابعون بوجود أسلوب كوني ولغة مخصوصة يعتمدها الفلاسفة وطريقة متفق عليها في الحجاج ولكن المتمعن في الأعمال الفلسفية يلحظ الفوارق والاختلافات بين المحاورات والشذرات والرسائل والمختصرات والمقالات والدراسات والبيانات وينتبه إلى المراوحة بين اعتماد عبارة واضحة ومحددة تتفق مع اللغة المتداولة والكلام الدارج وبين توخي لغة صعبة وتعبير ملتو وتقنية دقيقة في الكتابة.
عما يتساؤاون عندئذ هؤلاء الفلاسفة اذا غاب عنهم التفاهم والاتفاق والتواصل وحضر عندهم النسخ والنقد والتجاوز وانتفى العمق الذي يرتكزون عليه وافتقدوا الى الاشتراك في القالب والشكل والصورة والإطار.
بيد أن المتمعن في تاريخ الفلسفة يمكنه استخراج سبع ملامح فلسفية كبرى تميز الفلاسفة عن بعضهم البعض:
1-الفلسفة بماهي نسقsystème : تجمع هذه العائلة كل الميتافيزيقيين الذي طمحوا إلى العثور على نقاط اصطباغ بالنسبة الى الفكر ورسموا خطوطا ووضعوا الحدود بالنسبة الى المعرفة وكانوا خرائطيين بحق وذلك بأن شيدوا الأنساق الصلبة التي تعانق كلية ماهو كائن. في هذا الصدد لقد ميّز بارمنيدس في شذراته عن الطبيعة بين اللاّوجود من حيث هو غير متصور والوجود بوصفه الدرب الذي يتبعه كل باحث عن الحقيقة، وأيده أفلاطون برسمه الحد الذي يفصل العالم المحسوس والذي يمثل المرئي المتغير والعالم المعقول الذي يتضمن جملة من المثل الثابتة، في حين خط سبينوزا مسارا من خلال تمثل هندسي بالذهاب من الله - الطبيعة بغية الوصول بالحكيم الواعي بالكل إلى درجة الغبطة السرمدية من حيث درجة ثالثة من المعرفة. أما لايبنتز فقد أوجد تصورا متناسقا للكون حيث يحوز كل شيء على سبب وجوده وأين تشكل المونادات العناصر البسيطة التي يتركب منه بطريقة يتناغم فيها ويصبح أفضل العوالم الممكنة. بيد أن كانط رسم حدود المعرفة الممكنة بين الظواهر المرئية والماورء مجال الآمال الميتافيزيقية. بينما قام هيجل ببناء النسق الذي تحقق ضمنه مصالحة الإنسان مع ذاته والعالم مع المطلق. في نفس الاتجاه شيّد شوبنهاور رؤية للعالم تكون فيها إرادة الحياة هي ماهية كل شيء2 .
2-الفلسفة بماهي حكمةsagesse : يفرق مجموعة من الفلاسفة بين الحياة العادية والحياة الجيدة ويحاولون تحديد شروط تحصيل السعادة والفوز بالرقي والازدهار ويرون أن بلوغ الحقيقة يتطلب تحقيق التناغم مع العالم ومع الآخرين ويعتبرون العناية بالذات أمرا ضروريا للاكتمال ولكنهم يختلفون في توجيه البوصلة في الحياة وتقديم وصفة التوجه في الوجود وإرساء السفينة على بر الأمان ولقد آمنوا بأن المنهج هو المبدأ الذي يسري في الكون وبأنه يجتاز اللاّفعل ويتغلب على كل كاتم للصوت ويسمح للمرء بأن يكون خيرا بممارسة الفضائل على غرار الإيثار والرأفة والإخلاص. لقد مثل منهج سقراط عن معرفة الذات قولا افتتاحيا في العناية بالنفس من أجل تزكية الجسد، وأضاف إليه أبيقور مطلب استهداف اللذة من خلال إشباع الرغبات الطبيعية والضرورية. أما الرواقية فقد نادت مع سنيك بلزومية العيش وفق العقل وبلوغ هدوء النفس بتخلصها من الأهواء وزادت عليها مع مارك أورال الفعل من أجل الخير المشترك للمدينة بقبول نظام الكون بفرح والعناية بالذات والرضا بالقدر المحتوم. في بدايات الحداثة ارتبط المنهج عند مونتاني بالتركيز على ما يفعله المرء ويعرفه وبالإخلاص للوجود وللحياة عن بعد. على إثر ذلك عثر أمرسن على الرابط الذي يصل الإنسان بالعالم وذلك عبر تطوير الثقة في النفس بالاقتدار على التفكير الذاتي. تبعا لذلك تكاثرت الأصوات المنادية بالعودة إلى الطبيعة والتواصل معها وتبسيط الحياة وطلب الأساسي من الأشياء بالتعامل مع اللحظة على أنها فرصة واستغلال ماهو حاضر أمام المرء من جهة الزمان والمكان. لقد كان ألبرت كامي معبرا عن هذا المنهج بتنصيصه على تعلم أصعب علوم الحياة في ظل العبث والاستحالة والعدم والوجود في العالم من خلال الجسد والاستمتاع بمظاهر الجمال فيه والتخلي عن كل الأوهام المتراكمة عبر تاريخ الفكر والعثور على درب الواقع وقبول عرضية الوجود وتوجيهه نحو الفرح وتقاسم المتع والخيرات مع الغير وممارسة الحياة كماهي في الحاضر بلا أمل في الخلاص ومن خلال الفعل والمحبة وتأمل الطبيعة من حيث هي المصدر الرئيسي للإلهام والإبداع3 .
3-الفلسفة بماهي شعلة ملتهبة Molotov تحرق كل البديهيات عند مفكيكي الأنساق وهادمي الميتافيزيقا وحفاري قبور الذات، ولقد كان سلاحهم رفض كل أشكال الشرف والمجد والألقاب المفخمة التي كانت تعطى للنبلاء والمختصين والجهابذة والقيام بنفي الطقوس والشعائر والجوائز وكل ما يبعد عن الحياة البدئية. في البدء قام ديوجان اللاّيرتي باعتداء صادم على قوانين وعادات المدينة وواصل جوردانو برينو المعركة مع المؤسسة الكهنوتية بنفي مركزية الأرض وإقراره بلاتناهي الكون وتشكله من عوالم متعددة. في نفس الاتجاه نادى روسو بالعودة إلى الطبيعة الأصلية والطيبة للإنسان مادام التطور الحضاري قد أفسده وسارع ساد إلى مدح ممارسة الرذيلة القصوى وإخضاع جسد الغير إلى قانون رغبة الأنا، في حين دافع كارل ماركس على مجتمع بلا طبقات لكي يتفادى الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا وبين المصلحة المشتركة التي ترعاها الدولة باسم النظام العام والملكية الخاصة التي تدعمها الرأسمالية. على هذا الأساس وجه فريدريك نيتشه مطرقته لكي تدك حصون الميتافيزيقا وجعل من الجسد بؤرة إرادة القوة ومسرح إبداع قيم جديدة ودفع بالاقتدار إلى إثبات الحياة في مواجهة الأخلاق الموروثة عن التقليد اليهودي المسيحي. بعد ذلك تأتي محاولة جان بول سارتر في الاعتماد على الحرية بغية رفض الانغلاق في ماهية مجردة وجبرية صارمة والاندراج ضمن التاريخ الحي والاشتغال على إبداع الذات بتجاوزها لذاتها. في زمن لاحق عن ذلك وقع الانتباه إلى مخاطر التخلف الاقتصادي ومواجهته للنموذج الصناعي للتقدم وتبنى أنطونيو نيغري التفكيك من أجل خلخلة الأشكال الجديدة من الهيمنة التي تمارسها الإمبراطورية وانتصر إلى الإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها الحشود من أجل الثورة على الظلم وبناء إمبراطورية مضادة. هذا الأمر لن يكتمل إلا إذا تم خلع الهالة عن الانسانوية الغربية والكف عن معاملة الأفراد بتأديب وانضباط4 .
4-الفلسفة بماهي طريقpista وعر يسلكه العقل أثناء البحث في الواقع عن الحقيقة ولقد مارسها المغامرون من البحاثة الذين يمحصون ويحققون ويدققون وليس لهم من انفعال غير معرفة العالم وإدراك قوانين الطبيعة وفك رموز الواقع . لقد كانت المواضيع والألغاز التي يهتم بها المدققون كثيرة ومتنوعة مثل تعدد المقاربات وتكاثر الطرق التي تتم بواسطتها الدراسة والبحث والاستقصاء ، وبالتالي يوجد من يخير الذهاب مباشرة إلى التجربة ويوجد أيضا من يعتمد على العودة إلى التاريخ والاستفادة من التراث. منذ الإغريق خاض أرسطو في كل شيء وجعل من الفلسفة أم العلوم ودقق في الميتافيزيقا والمنطق والأخلاق والسياسة وقام بتصنيف الظواهر الطبيعية والكائنات الحية ضمن التاريخ الطبيعي. في الأزمنة الحديثة نهض ماكيافيللي لكي يبين طرق الحصول والمحافظة على السلطة وانتبه الى أهمية الاستعمال الجيد للقوة والحيلة عند تغير الظروف وتبدل الوضعيات. بينما دقق هيوم في طبيعة الذهن البشري بالانطلاق من التجربة وقاده هذا التقصي إلى القول بأن أفكارنا متأتية من انطباعاتنا الحسية. في الأزمنة المعاصرة منح دي توكفيل الديمقراطية معنى النظام السياسي والنمط المجتمعي الذي تُحتَرمُ فيه المساواة، في حين أشار ولتر بنيامين إلى مراوحات الحداثة بين الحاجة إلى تمدين وسيطرة الإعلام الجماهيري. كما نقدت حنة أرندت التجربة الشمولية وكشفت عن تفاهة الشر نتيجة غياب التفكير وفقدان معنى المسؤولية. بينما تابع مارسيل غوشيه مسارات الأديان في خلع الهالة عن العالم والسماح بحدوث الديمقراطية. من ناحية مختلفة تساءل بروند لاتور عن الأسس الخفية للعلم والتقنية طارحا مفهوما جديدا للطبيعة ومبينا الأزمة الايكولوجية التي أصابت الكون في أعماقه وجعلت مستقبل الحياة على الكوكب مهدد وعلى الحافة5 .
5-الفلسفة بماهي أخلاق moralia نعثر عليها عند نقاد الشيم البشرية وقد فرقوا بين عملية تأسيس الأخلاق والتجارب التاريخية التي تشهد الالتزام بالقيم والمبادئ والقواعد والمعايير الأخلاقية وقد حاولوا التخلص من التصورات المصطنعة للحياة ونقدوا بشدة تفشي الآفات الاجتماعية والأمراض السلوكية. لقد حرص هذا الفريق من الأخلاقيين على إظهار تضارب الأغنياء فيما بينهم ونسيانهم متعة اللحظة الحاضرة ووصفوا الحياة الاجتماعية من حيث هي موجهة بواسطة الاهتمام بالمظاهر وفن الخداع والمفاخرة وبرعوا في إزاحة الأقنعة عن الرذائل والمصالح وزرعوا الفضائل والقيم الحقيقية على غرار الصداقة. لقد انتبه باسكال الى أن سبب بؤس الإنسان هو تمركزه على ذاته بدل محبة الله وسانده فولتير في نقده اللاّتسامح الديني والتعصب بين الطوائف وتقديسه الاختلاف في الآراء والتعددية في الاعتقاد. في نفس الاتجاه كشف ديدرو عن الطابع المنافق للأخلاق في المجتمعات الرأسمالية، وأفرغ سيوران مثاليات الوجود التي كانت تثقل كاهله بالأحمال غير قابلة للتحمل وتصالح مع اليأس والسخرية والعدم، ونبه ديبور من تحطيم مجتمع الفرجة المشاعر الأصيلة و صنع أشكال معاصرة من التبعية والاغتراب والعبودية، في حين أعاد ألان فنكايلكروت الاعتبار الى الأدب ورجع بالفلسفة الى ينابيعها من أجل وضع حد للتفاهة والعار والقذارة التي خلفتها سياسات التمييز العنصري6 .
6-الفلسفة بماهي خلقEureka وينتسب إليها خالقو المفاهيم وواضعو المصطلحات وراسمو الحدود ويتمثل هذا الشغل المعجمي تارة بالرجوع إلى لفظ في اللغة المتداولة والقاموس المشترك للفاعلين وطورا بتحكيم منطق البحث اللغوي والتحديد الايتيمولوجي والاستناد على الفضاء الدلالي والتداولي للمصطلح، واللافت للنظر أن كل فيلسوف جديد يظهر يقترن مع توقيعه لمفهوم جديد من جهة الميتافيزيقا أو الإيتيقا. لقد اقترن اسم ديموقريطس بمفهوم الذرة والذي منحها خاصية المادة غير قابلة للقسمة. أما طوماس مور فقد وضع مفهوم اليوتوبيا تخيل فيه إمكانية قيام عدالة اجتماعية بين سكان الجزيرة في حياتهم اليومية. بعد ذلك أبدع لابواتيه مفهوم العبودية الطوعية حيث بين فيه حاجة الناس من تلقاء أنفسهم إلى وازع يحكمهم، ثم جاء دور هنري برجسون في الأزمنة الحديثة لكي يركز على مفهوم الديمومة من حيث هي تدفق الحياة الباطنة وتتعارض مع التفسير العلمي للزمن في الفيزياء الرياضية. بعد ذلك جعل ليفيناس من الوجه الطريقة التي يظهر عبرها الغير في عطوبيته وغيريته بالنسبة إلى الذات، بينما لا يوجد مفهوم واحد يستحق الإبداع من طرف الفلسفة بل حشد من المفاهيم تظهر في شكل ريزوم وجسد بلا أعضاء وأرضنة. على نفس الأرضية وقف جاك دريدا بتوقيعه مفهوم التفكيك من حيث هو حركة للفكر يقلب فيها الأزواج الميتافيزيقية، كما عول رينيه جيرار على الرغبة المحاكاتية في تفسير تفجر العنف في حقل المقدس ذاته، وأعلن جان فرنسوا ليوتار نهاية السرديات الكبرى ودخول البشرية في الوضع مابعد الحديث. بيد أن يورغن هابرماس يتمسك باستراتيجية الفعل التواصلي ضمن مشروع استكمال الحداثة عن طريق التفاعل الاجتماعي والتلاقي بين الذوات والثقافات ضمن الباراديغم اللغوي7 .
7-الفلسفة بماهي لامعروف incognita وقد مارسها بعض المستثمرين explorateurs وكشفوا من خلالها عن وجود معنى خفي وراء المظاهر والبديهيات وبالتالي عزم هؤلاء على الغوص في الأعماق وتقليب الطيات والنفاذ إلى البواطن بغية تسليط الضوء على الأشياء وإنارة المسالك المطمورة والدهاليز المظلمة. لقد قذفوا أنفسهم داخل محيطات مجهولة واجتازوا كل الحدود المعتادة ورسموا دروب جديدة من أجل فهم كينونة الإنسان وما يحيط بها. لقد جعل أوغسطين من الباطنية الأرض الجديدة التي يجب امتحانها وغزوها وقد عثر على هذا الآخر الذي يتقدم عليها ويغمر كامل الحياة الحميمة للمرء وهو الله. من وجهة نظر حديثة استخدم ديكارت منهج الشك للوقوف على أرض النفس والفكر وانتهى به المطاف عند الكوجيتو كيقين أول ومبدأ للفلسفة. في حين وزّع كيركجارد الوجود إلى ثلاثة مستويات الجمالي والإيتيقي والديني ، ولقد استفاد سغموند فرويد من فرضية اللاوعي لدى الفلاسفة لكي يحلل التمثلات المكبوتة والعقد الدفينة، بيد أن أدموند هوسرل أعاد الانطلاق من الوعي لكي يصف التجارب المعيشة بواسطة منهج جديد قامت الفنومينولوجيا بنحته ويتمثل في القصدية والعودة إلى الأشياء في حد ذاتها. من هذا المنظور واصل مارتن هيدجر جهود أستاذه في تقويض السؤال الميتافيزيقي عن الوجود ونسيان هذا النسيان بالقيام بتحطيم طبقات الأنطولوجيا التقليدية وتحليل الدازاين بوصفها نمط وجود الكائن البشري. بينما جدد موريس مرلوبونتي ثقته في الجسد الخاص من حيث هو لوغوس العالم ونقطة التمفصل بين الذات والعالم. بيد أن كلود ليفي ستراوس ظل مشدودا إلى واقع البنى اللاّواعية والقواعد الاجتماعية وعلاقات القرابة التي يفكر من خلالها الناس ويفعلوا8 .
في نهاية المطاف إذا كانت الفلسفة فعالية إبداعية وطريق نحو السعادة وطريقة في فتح الأعين ، ألا يكمن الجهل الحقيقي ،على حد تعبير كارل بوبر، في رفض البحث المعرفة في ظل غيابها وحجبها؟ كيف صمد سؤال لايبنتز الشائك : لماذا الوجود موجود والعدم غير موجود؟ أمام تراكم الأنساق والمفاهيم والمناهج؟
الإحالات والهوامش:
[1] Comte-Sponville (André), la philosophie, édition PUF, Paris, 2005, rééditions Point Delta, 2009pp20-21.
[2] Voir Revue philosophie magazine, n°100, juin 2016,dossier, qu’est-ce que la philosophie ?, pp.48-79.
[3] Idib
[4] Idib
[5] Idib
[6] Idib
[7] Idib
[8] Idib
المراجع:
Comte-Sponville (André), la philosophie, édition PUF, Paris, 2005, rééditions Point Delta, 2009
Revue philosophie magazine, n°100, juin 2016,