- أرسطو-
د.زهير الخويلدي
لو تكلمنا بلغة الأرقام والرسوم البيانية والمعدلات والأشكال الهندسية والمؤشرات ونسب النمو والتمدرس والتمتع بالرعاية الصحية والحصول على فرص في الشغل والدخل الفردي والاستهلاك والادخار والإنفاق فإننا نلاحظ بروز الفوارق والتفاوت بين الأفراد والمجموعات والدول ويتبين لنا أن ساكني المعمورة قد اختاروا اللاّمساواة بدل المساواة والتنازع عوض التعاون وتعودوا على إنتاج علاقات غير عادلة بينهم وإفراز الفوارق الاجتماعية والطبقية المقيتة بدل الانصهار في الجسد الواحد كالبنيان المرصوص. وكانت النتيجة أن خمس البشرية يحيا الرفاهية ورغد العيش بينما يعاني أرع أخماس منها البؤس والفقر والشقاء.
فهل اختارت البشرية اللاّمساواة بوعي ودراية منها أم نتيجة الإكراه والتسلط؟ ولماذا تنمو عدة أشكال من اللاّمساواة في واقع الحياة من جهة التطبيق بالرغم من استهجانها على صعيد الحق ومن جهة القانون؟ ألا يتعلق الأمر بالصراع على الثروة والسلطة والموقع والنفوذ في المجتمع؟ وكيف تنتج المدرسة التفاوت والتمييز والفوارق في الحظوظ والأمل في الحياة؟ ما سبب التمييز بين الإناث والذكور وبين الميسورين والمقتدرين وبين الأقوياء والضعفاء وبين المرضى والمتعافين وبين الأطفال والأحداث من ناحية والكهول والراشدين من ناحية أخرى؟ ولماذا يوجد فقراء من جهة وأغنياء من جهة أخرى في المجتمع على مستوى المعرفة والثروة والسلطة والصحة؟ وكيف يمكن مواجهة هذه الفوارق ومحاربة اللاّمساواة؟ هل يقتصر الأمر على التقليل والتخفيف منها واختزالها أم يمكن القضاء عليها وتفاديها بشكل تام؟ كيف تمثل أشكال التعاون المحلية قوة مقاومة لظلم اللاّمساواة؟ والى مدى يمكن اعتبار التمييز الايجابي أقل الأضرار التي تمنح حلولا مستقبلية؟
يكرس المجتمع والثقافة ما يظهر من تفاوت في القدرات والاستعدادات الطبيعية بين الإناث والذكور وبين سكان الدول النامية وقاطني الدول المتقدمة ويترتب عن ذلك ظهور مشاعر الازدراء والاضطهاد والغبن وقد تتدهور الأمور إلى ولادة الأحقاد والكراهية والاحتجاج والإقصاء وقد تتشكل صور نمطية متعاكسة.
تظهر أشكال اللاّمساواة الأولى في الطبيعة وبالوراثة وذلك نتيجة الاختلافات الجينية في الجسم من جهة اللون والطول والحجم والسلامة من الأمراض ويتعمق بعد ذلك التفريق أثناء التنشئة ويتم معاملة البعض بشكل حسن وتمنح لهم الرعاية الكاملة ويتم حرمان البعض الآخر من العناية اللائقة ويعاملون بصورة سيئة ونحصل على منبوذين وفي المقابل تتشكل فئة من المدللين. كما تعيد المدرسة إنتاج نفس الممارسة حينما تمنح النجاح لشريحة من المتفوقين المميزين وتعامل البقية من المتعلمين بوصفهم عاديين وفاشلين.
زد على ذلك يصدر المجتمع أحكامه التقليدية حسب الجنس واللون والانحدار العرقي والانتماء الهووي والعقدي ويمنح الاندماج والأهلية والتقدير للذين يمتلكون الطباع والمواصفات التي تتوافق مع المجموعة ويتم معاملة الشريحة المتبقية من المختلفين و بصورة مزرية ونابذة ويعزف عن دمجهم والاعتراف بهم.
يعاني المفروزون من الظلم والإقصاء والصد والحرمان والمنع والاضطهاد ومحاولات شطب حقهم في الوجود ويتمتع المحظوظون بالتبجيل والتقدير والاعتراف والدمج والمعاملة الحسنة والتكريم والتشريف.
يظهر التفاوت في عالم المعرفة والفكر بين الذين يقعون ضحية الجهل والخرافة ويسقطون بسهولة في شراك الخديعة والشعوذة وألاعيب السياسة ويسهل غسيل أدمغتهم وترويضهم من أجل تحقيق أشياء مضادة لمصالحهم وأهدافهم من ناحية والذين ينتجون المعرفة ويدركونها ويستخدمونها صورة نافعة.
في دنيا المال والأعمال نجد طابورا من العاطلين عن العمل من خريجات وخريجي الجامعات وفي المقابل نجد من يحصل على فرصة عمل بواسطة وبطريقة سهلة وذلك نتيجة الحظ والحظوة والمكانة المتمتع بها.
والحق أنه لم يعد هناك تفاوت اجتماعي كبير بين المتعلم والحاصل على مرتبة علمية والذي لم يتمكن من مواصلة تعليمه وانهمك في قنص الفرص التي توفرها الحضارة الرأسمالية قصد الربح والثراء السريع.
يقف العامل الاقتصادي السياسي وراء كل أشكال اللاّمساواة التي تظهر على مسرح التاريخ بين البشر، دون التقليل من أدوار العوامل الثقافية والاجتماعية ولكن منزلة الفرد أو الجماعة وحصة كل واحد من الملكية هو الذي سيحدد طريقة المعاملة ومضمون النظرة التي سيجدها كل واحد منهما في المجتمع.
غير أن السبب الجوهري هو المرتبط بالميكانيزم الذاتي وقدرة الفرد على مواجهة التحديات الموضوعية والتغلب على المشاكل الحادة التي تعصف به واستطاعته بالتعويل على نفسه قلب ثقل الموازين لصالحه وافتكاك موقع له في جحيم العولمة الملتهب ورفع منسوب النجاح في كل معركة مصيرية يخوضها ضد الفشل والتخلف والحاجة وتبديل نظرات الآخرين إليه من الامتعاض والتقزز إلى الافتخار والإشادة به.
الخطورة تأتي من تبرير النظام المعولم للتفاوت والتمييز وذلك دفاعا على التصور الرأسمالي للعالم وحق الملكية الخاصة دون حدود وبلا ضوابط وأسبقية نظام الأجرة والتعامل بالعملة في قيادة قاطرة الاقتصاد.
لقد استند هذا الموقف على جملة من الخيارات تتعلق في مجملها بالقيم التحررية التي تبشر بها العالم مابعد الصناعي وتخص اختيار اللاّمساواة بوصفها المحرك الرئيسي للتنمية والتقدم بالرغم عما يترب عن ذلك من ضحايا وأضرار بالبشر والبيئة وربما شعارهم في ذلك التضحية بالبعض من أجل إنقاذ البعد المتبقي.
لقد تحولت اللاّمساواة في زمن العولمة إلى اختيار اقتصادي وسياسي وثقافي واجتماعي وارتبطت بالدعوة إلى التركيز على العناية بالذات والشفقة على الآخر واهتمام كل أحد بتدبير مصلحه الخاصة دون التفكير بمصالح الآخر وإسقاط حرص الفرد على المصلحة المشتركة وعدم متابعته عند إضراره بمصالح الغير.
يخشى المحظوظون في مجتمع الوفرة والرفاه من عدم الاعتماد على ترتيب تفاضلي في النظام الاجتماعي وعدم تكريس واقع التفاوت الطبقي بينهم والبقية من أجل ممارسة الهيمنة وتحويل الدولة إلى جهاز مكلف بحمايتهم والمحافظة على تفوقهم وصيانة ممتلكاتهم ويضمن لهم فرص الاستثمار والزيادة في ثروتهم.
يعتقد البعض من عرابي العولمة أن أشكال اللاّمساواة تبدو عادلة وضرورية من أجل خلق ديناميكية التنافس في اقتصاد السوق وتحريك دواليب الإنتاج والتبادل والاستهلاك ضمن قوانين العرض والطلب.
من هذا المنطلق تبدو الحلول المقترحة مقتضبة ومرتبكة وغير جدية بما أنها تركز على التوزيع المتفاوت بطبعه للضرر والخسائر بعد الفشل الذريع في توفير الحصة الدنيا من المنفعة العامة للجميع وتشجع كذلك على الثقة في المؤسسات الخيرية في تقديم المساعدات وإبعاد منبوذي المجتمع عن التشويش على النظام.
من جهة أخرى يقترح بعض الناشطين ثورة ضريبية على الأغنياء وإلغاء الديون ومراجعتها قصد تخفيفها على صغار التجار والمهنيين والفلاحين والموظفين وعلى اقتصاديات الدول النامية التي ترزح بصورة دائمة وتتبع بشكل عضوي وبنيوي المؤسسات الاحتكارية والأجهزة الربوية لشركات الاقتصاد العالمي.
إن القيام بالحملات التطوعية قصد التشخيص المبكر للأمراض وتقديم العلاج المجاني وتنظيم القوافل الصحية بغية توزيع الأدوية على الأحياء الفقيرة والمناطق الداخلية يراها البعض مجرد حلول ترقيعية لمشاكل هيكلية وتمثل مسكنات لآفات مستدامة وغير قادرة على القضاء على اللاّمساواة في الصحة.
كما أن سياسة التمييز الايجابي الذي تعتمدها بعض الدول تجاه بعض الأفراد والجهات والفئات من ذوي الاحتياجات العاجلة هي فلسفة مبتورة تسمح للقطاع الخاص بالمشاركة في إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه وإصلاح ما ساهم هو عينه في تشويهه وتخليفه عن طريق آليتي الاستغلال الاقتصادي والتوظيف الإيديولوجي.
صحيح أن التفاوت ليس قانونا طبيعيا وأن اللامساواة هي علاقة غير متكافئة وصحيح أيضا أن الانسانية قادرة على ايجاد مؤسسات تهتم بالعدل في بعده التشريعي والتنفيذي وتغرس المساواة في المعاملة، ولكن بأي معنى نتحدث عن قدرة حواضن التضامن المحلية على درء المخاطر التي تخلفها أشكال اللاّمساواة؟ وما جدوى الكفاح ضد التفاوت في ظل الإقبال المتزايد على اقتصاد السوق والتشجيع على سلطة رأسمال؟ وألا يوجد تناقض في دفاع العاطلين على حق الاستثمار وفي التنظير إلى أشكال من اللاّمساواة النافعة؟
المرجع:
Revue Sciences Humaines, N°267, Février, 2015, Dossier :Inégalités, pp26-47