في البداية يفرق هنتنغتون بين الحضارة في صيغة المفرد والحضارات في صيغة الجمع ويقدر فكرة الحضارة بوصفها معيارا ونقيضا لفكرة الهمجية
ويعتبرها مثالا للمجتمع المتحضر على خلاف المجتمع البدائي ويقر بوجود حضارة إنسانية عامة وكونية وثقافات قومية تابعة وبعد ذلك فإنه يستشكل العلاقة بين الحضارة والثقافة ويعتبر مفهوم الحضارة كيانا ثقافيا ويشترك كلاهما في الإشارة إلى نمط الحياة العام للبشر ويتضمنان القيم والمبادئ والمؤسسات وأنماط التفكير التي تعطي لها الأجيال المتعاقبة في مجتمع معين منزلة فريدة.
بيد أن ما يلفت الانتباه إلى تفرقة الأمان بين تضمن الحضارة للآلية والتقنيات والعوامل المادية والتطور التكنولوجي وبين احتواء الثقافة على القيم العالية والمثاليات والخصائص العقلية والفنية والأخلاقية للمجتمع. ولكنه يخفف من هذه الفروقات ويشيد باستيعاب المجتمعات الهمجية وغير المتمدنة وغير المتغيرة للثقافة بل يذهب إلى اعتبار الحضارة فضاء ثقافي ومساحة تتشكل من ظواهر ثقافية ويقر في نهاية الأمر بأن" الحضارة هي ثقافة كتبت بحروف كبيرة" ويقصد الحضارة نسق من العادات والأبنية المادية والمعنوية التي تشكل نوعا من الكيان التاريخي لشعب معين وبالتالي يصبح التحضر عملية أصلية من الخلق الثقافي يترجم بها شعب قدرته على العمل والاجتهاد والإبداع. وهكذا تمثل الثقافة الموضوع المشترك في تعريف الحضارة.وتكون الحضارة المصير المحتوم من عملية المثاقفة وكيانا ثقافيا في أوسع معانيه تتميز بالشمولية وتعمر طويلا وتتطور وتتكيف ولكنها تعرف المجد والازدهار والفناء والانهيار.[2]
لكن ما الفرق بين الثقافة والحضارة وبين المثاقفة والتحضر؟ وكيف يتم الانتقال من الثقافة إلى الحضارة؟ وهل العلاقة بين الثقافات هي مبنية على التعاون والتواصل أم على المغالبة والصراع؟ وما سبب التصادم بين الحضارات؟ وهل يمكن تفادي هذا التصادم وتأسيس أرضية للتلاقي والتفاهم بين الشعوب؟ و الي أي حد يتحقق العيش المشترك في ظل التصادم بين الحضارات؟
بعد ذلك يقر الكاتب بأن " الحضارات هي القبائل الإنسانية وصدام الحضارات هو صراع قبلي على المستوى العالمي... والعلاقات بين جماعات من حضارات مختلفة لن تكون حميمي فهي عادة باردة وغالبا عدائية".[3] على هذا الأساس إن من بين أسباب المواجهة هو الانحراف نحو التعامل مع الحضارات من زاوية اعتبارها كيانات سياسية وليست كيانات ثقافية والإشارة إلى الحضارة الغربية عالميا بوصفها حضارة كونية والى الغربنة باعتبارها نمط التحديث ونموذج التمدن وانتشال الحضارة من محتواها التاريخي والجغرافي والثقافي وتبرير ذلك بأن الغرب هو الحضارة الوحيدة التي تشكلت في اتجاه دائري وليس من خلال مساهمة شعب أو دين أو مجال جغرافي وبالتالي نفي مساهمات الثقافات والشعوب الأخرى في نقل التحضر إلي أوروبا.
والحق" أن الشعوب لا تستعمل السياسة لمجرد أن تدفع بمصالحها قدما ولكن أيضا من أجل تحديد هويتها. إننا نعرف من نحن فقط عندما نعرف من لسنا نحن وفي أغلب الأحيان عندما نعرف أولئك الذين ضدنا".[4]
زد على ذلك اعتماد الحضارة الغربية على الميراث الكلاسيكي للإغريق والرومان وعلى التقاء جوهراني بين الديانتين اليهودية والمسيحية (الكاثولوكية والبروتستانتينية) ومساعدة اللغات الأوربية على النقل والترجمة والانفتاح والإضافة وكذلك استجابة الغرب نفسه إلى عملية التحديث وتكريس سيادة القانون والتعددية الاجتماعية والكيانات التمثيلية وتقديس الفردانية وتصدير البحث عن الرخاء في دولة الرفاه. علاوة على ذلك يضيف هنتنغتون أسباب أخرى مثل:
- مشاعر التفوق (مركزية الذات الحضارية) نحو شعب يعتقد أنه مختلف جدا عن الشعوب الأخرى.
- مشاعر الخوف من المجهول ومن صعود قوة أخرى منافسة أو فقدان الثقة في ذلك الشعب.
- صعوبة التفاهم مع ذلك الشعب بحكم وجود اختلافات في اللغة والدين والنموذج الحضاري المتبع.
- فقدان التجانس مع ذلك الشعب فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية وتصورات الحياة ورؤى العالم.
- الانتشار الدائم للصراع نتيجة عدوانية للبشر وحاجتهم الدائمة إلى صناعة الأعداء لتحديد هويتهم.[5]
- هيجان أزمة الهوية لدى البشر والتقارب على أساس الارتباط بالأصل الثقافي والمهم عند البشر هو الدم والعقيدة والإيمان والعائلة.
- معظم الصراعات في العالم ليست اقتصادية أو إيديولوجية بل لأسباب ثقافية ومن أجل تأكيد الهوية الثقافية وهي أكثر المصادمات خطورة لأن توزيع الثقافات في العالم يعكس توزيع القوة.
- تراجع الإنتاج الاقتصادي للغرب وانحسار القدرة العسكرية وانبعاث الثقافات غير الغربية من سباتها ومنافستها الجدية على الإنتاج دفع بالدول المتقدمة إلى الدفاع عن نفسها بزرع الفوضى في العالم وخلق الحروب والتصدعات والفتن الداخلية قصد التفرقة والإضعاف والإلهاء.
"ليس هناك أصدقاء حقيقيون بدون وجود أعداء حقيقيين. إننا ما لم نكره الآخرين فلن نستطيع أن نحب أنفسنا...وبالنسبة إلى البشر الذين يبحثون عن هوية ويعيدون اختراع نسب عرقي جديد فإن الأعداء شيء جوهري.وان أكثر الأعداء قابلية وأكثرهم خطرا هم أولئك الذين يقيمون عند خطوط الصدع بين حضارات العالم الكبرى".[6] لكن كيف يمكن تجنب حرب عالمية بين الحضارات؟
- التقليل من صدام الحضارات يكون من خلال تقوية الحضارة في تفردها وخصوصيتها
- الكف عن النظر إلى الغربنة على أنها نموذج التحديث والتمدن وفسح المجال لنماذج أخرى
- ايجاد توجه علماني يتجاوز الحضارات المتصارعة نحو مستوى أعلى من التحضر والتحديث
- بناء نظام دولي مؤسس على حوار الحضارات والسلام والتضامن والتفاهم ومعادي للهمجية بوصفه الضمان الأكيد ضد قيام حرب العالم
- الحفاظ على الطابع المتعدد للحضارات والسمة المتنوعة للثقافات بالنسبة للسياسة العالمية.
- إذا كانت الإيديولوجيا تفصل بين الشعوب وتزيد من درجة العداء وتغذي الشعور بالكراهية فإن دور الثقافة يكون في الاتجاه المعاكس وتزيد من درجة التحضر والتقارب والتعاون بين الشعوب.
"إن الثورة ضد الغرب كانت أصلا مشروعة بالتأكيد على عالمية القيم الغربية وهي الآن مشروعة من خلال التأكيد على تفوق القيم غير الغربية".[7]
لكن في نهاية المطاف إلى أي مدى تشكل الحضارة الأوروبية للغرب هي الحضارة العالمية للعالم؟ هل الغرب مستثنى من نمط المجتمعات التي تفترض بأن تاريخها قد انتهى؟ كيف نستطيع بيان صعود وهبوط تطور الحضارات الإنسانية؟ وماذا تمتلك المجتمعات غير الغربية عموما فيما بينها عدا الحقيقة بأنها غير غربية؟ هل بالحفاظ على الطابع المتعدد للحضارة العالمية نتجنب حربا بين الثقافات؟
***
الهوامش:
[1] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات واعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، ليبيا، طبعة أولى، 1999، ص. 101.
[2] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور، صص 103- 104.
[3] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور،ص.367.
[4] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور،ص.74.
[5] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور، صص 244- 245.
[6] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور،ص71.
[7] صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، مرجع مذكور،ص186.
*****
المصدر:
صامويل هنتغنتون، صدام الحضارات واعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، ليبيا، طبعة أولى، 1999،