نوفمبر 2014 23:38 عادل أبو هاشم
وترجل الفارس الذي نذر حياته للكفاح والنضال من أجل أشرف قضية يمكن أن يدافع عنها إنسان بروحه وفكره ووقته.ترجل القائد والمعلم والرمز الرئيس ياسر عرفات.. هذا المقاتل الصلب الذي ما فارقت البزة العسكرية جسده..
وتحمل شظف العيش وعشرات محاولات الاغتيال الصهيونية، والتهديد اليومي بالقتل والتصفية.. وارتضى صابرًا ومصابرًا ومرابطا في سبيل الله والحق حصار ثلاث سنوات بين أربعة جدران مؤمنا بقضيته التي نذر حياته لها.
مقاتلا من طراز نادر، وسياسيا من طراز نادر.. ومتوازنا من طراز نادر..
لكنه في كل الأحوال لم يخرج عن منظومة الوطن.
أربعون عاماً وهو رفيق صباحاتنا..
ابتسامته تلون أيامنا..
ويذكي فينا في الأوقات الصعبة سراج الأمل..
ترجل أبو عمار يوم الخميس 28 رمضان 1425ﻫ الموافق 2004/11/11م عندما قام الإرهاب الإسرائيلي بتسميم دمه بشكل عجز الأطباء عن اكتشافه بعد حصار دام أكثر من ثلاث سنوات في ظروف لا إنسانية لا يمكن لأي شخص أن يتحملها.
وقد أكدت جميع المصادر الفلسطينية بأن الرئيس ياسر عرفات قد تعرض لسم (إشعاعي) تسلل إلى جسده عبر تقنية إسرائيلية معروفة ومجربة قبل ذلك.
فتقنية التسميم الإشعاعي التي احترفها جهاز المخابرات الصهيوني "الموساد"، وصلت إلى جسم الرئيس الفلسطيني عن بعد، ربما عن مسافة مترين أو ثلاثة أمتار، وربما كان أحد زواره من الصحفيين الغربيين أو عميلا للموساد الصهيوني قام بهذه المهمة.
كتبت الكثير من المقالات والدراسات التي تتسع لمجلدات ضخمة، عن القائد والرمز والمعلم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وقيل فيه الكثير، ولكن تبقى حقيقته البسيطة واضحة لأبناء شعبه وللعالم أجمع: فلقد ظل عرفات وفيا للثوابت التي أمن بها، كقضايا القدس واللاجئين والدولة، وكان مرنا إلى أقصى درجات المرونة في كل شيء إلا في تلك الثوابت.
أربعون عاما في رئاسة اللجنة المركزية لحركة فتح، وست وثلاثون عاماً على رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعشر سنوات على قمة هرم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.. خلال هذه المسيرة الطويلة، والتي تشكل بلا أدنى شك مرحلة مهمة من التاريخ الفلسطيني المعاصر، انفردت شخصية ياسر عرفات بنمط خاص في واحدة من أعقد الثورات المعاصرة، نمط قد لا يتكرر كثيرًا بطابعه وخصائصه ومفارقاته.. وإشكالياته.
الميلاد والنشأة
محمد عبد الرحمن عبد الرءوف القدوة الحسيني، هو الاسم الحقيقي للقائد الرمز ياسر عرفات، الذي اتخذ اسم "ياسر" وكنية "أبو عمار"، أثناء دراسته في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، إحياءً لذكرى مناضل فلسطيني قتل وهو يكافح الانتداب البريطاني
مكان ولادة عرفات ما زال محل خلاف، فهو يقول أنه من مواليد القدس في أغسطس "آب" 1929م، أما جميع من تتبعوا سيرة حياته، فيعتقدون أنه من مواليد مدينة القاهرة يوم 24 أغسطس "آب" 1929م.
وهو الابن السادس لأب كان يعمل في التجارة، وهاجر إلى القاهرة عام 1927م وعاش في حي السكاكيني، وعندما توفيت والدته وهو في الرابعة من عمره أرسله والده إلى القدس، وهناك بدأ وعيه يتفتح على أحداث ثورة 1936م.
في عام 1937م عاد مرة أخرى إلى القاهرة ليعيش مع عائلته، ثم التحق بكلية الهندسة في جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليا) حيث تخصص في دراسة الهندسة المدنية وتخرج فيها عام 1951م، وعمل بعدها في إحدى الشركات المصرية، وخلال فترة دراسته كون رابطة الخريجين الفلسطينيين التي كانت محط اهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام المصرية آنذاك، واشترك إلى جانب الجيش المصري في صد العدوان الثلاثي عام 1956م.
وباستثناء الخلاف حول مكان ولادته، لا يختلف أحد من المؤرخين على التاريخ النضالي المشرف لهذا الفلسطيني الذي حمل الهم الفلسطيني في قلبه وعلى كاهله، طوال أكثر من أربعة عقود.
بدأ عرفات حياته السياسية في مطلع حقبة الخمسينيات من القرن الماضي حينما شارك في عام 1952م عندما كان طالﺑا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة في تأسيس اتحاد طلبة فلسطين في مصر، وقد تولى رئاسة رابطة الخريجين الفلسطينيين بعد نجاح ثورة يوليو "تموز" بقيادة جمال عبد الناصر في الاستيلاء على السلطة.
ظهرت مواهبه منذ سنوات شبابه المبكر كناشط وزعيم سياسي، وقد انجذب في البداية لجماعة الأخوان المسلمين، لكنه سرعان ما اعتنق فكر الكفاح المسلح ضد إسرائيل عقب "نكبة" عام 1948م وقيام دولة إسرائيل فوق ما يزيد عن 70 بالمئة من مساحة فلسطين التي كانت خاضعة للحكم البريطاني
بعد انتصار ثورة الضباط الأحرار في مصر في 23 يوليو "تموز" 1952م بعث عرفات، عام 1953م خطابا إلى اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر حمل ثلاث كلمات فقط هي: "لا تنس فلسطين"، وقيل إن عرفات سطر الكلمات الثلاث بدمائه.
الثائر ياسر عرفات
تأسيس "فتح":
التحق القائد الرمز ياسر عرفات بالخدمة العسكرية في الجيش المصري، وشارك في التصدي للعدوان الثلاثي الإسرائيلي الفرنسي البريطاني على مصر في حرب السويس، وفي عام 1956م مُنح عرفات رتبة ملازم في الجيش المصري.
وفي 1958م شكل عرفات الذي كان وقتها يعمل مهندسا في الكويت مع مجموعة صغيرة من المغتربين الفلسطينيين الخلية الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وهي اختصار لحركة تحرير فلسطين التي تبنت الكفاح المسلح وسيلة لتحرير فلسطين، ومن أبرز الذين شاركوه تأسيس فتح: صلاح خلف "أبو إياد"، وخليل الوزير "أبو جهاد"، وعبد الله الدنان، ومحمود سويد، وعادل عبد الكريم.
وكشف عرفات في ما بعد عن قيامه في ذلك الوقت بجمع بنادق من مخلفات الحرب العالمية الثانية من الصحارى المصرية لتسليح حركته.
وفي 31 كانون الأول "ديسمبر" 1964م نفذت حركة فتح أول عملية مسلحة في الاراضي الإسرائيلية عبر محاولة نسف محطة مائية وقام عرفات شخصيا بتسليم بيان تبني العملية إلى صحيفة "النهار" اللبنانية.
وفي 28 أيار "مايو" 1964م تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية تحت رعاية مصر، وترأسها احمد الشقيري، واعتمدت المنظمة ميثاقا وطنيا يطالب بحق تقرير المصير للفلسطينيين ويرفض قيام دولة إسرائيل.
وفي حزيران "يونيو" 1967م انتقل عرفات إلى العمل السري تحت اسمه الحركي "أبو عمار"، وفي تموز "يوليو" من نفس العام توجه سرًا إلى الضفة الغربية المحتلة حيث أمضى أربعة أشهر قام خلالها بتنظيم خلايا حركة فتح.
وفي 4 شباط "فبراير" 1969م انتخب عرفات رئيسا للمنظمة التي أصبحت ممثلا للشعب الفلسطيني.
اكتسب عرفات أثناء خدمته بالجيش المصري خبرة في العمليات العسكرية واستخدام المتفجرات أهلته لقيادة الجناح العسكري لحركة فتح الذي عرف باسم "العاصفة"، وبدأ عملياته عام 1965م.
معركة الكرامة ورئاسة منظمة التحرير:
وفي تلك المرحلة بدأ نجم عرفات في البزوغ كزعيم سياسي فلسطيني ثائر، غير أن نجمه لمع أكثر في الأردن حيث كانت توجد أعداد كبيرة من الفلسطينيين الذين هجروا عام 1948م و1967م، فتوفر المناخ لعرفات كي يقوم بتدريب أفراد من قوات فتح التي عرفت باسم "العاصفة"، وهو ما شجعه في الأمد القريب على تنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف إسرائيلية من خلال التسلل عبر الحدود الأردنية إلى الأراضي المحتلة، أو من خلال استهداف الدوريات الإسرائيلية العاملة على الشريط الحدودي.
وقامت عناصر العاصفة بشن هجمات على إسرائيل من الأردن ولبنان وقطاع غزة الذي كان يخضع للحكم المصري.
وبعد حرب عام 1967م التي ألحقت فيها إسرائيل الهزيمة بالجيوش العربية، واستولت على القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء وهضبة الجولان، قامت جماعات المقاومة الفلسطينية بتكثيف أنشطتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يبق في ساحة القتال ضد إسرائيل سوى حركة فتح.
وقد اكتسب عرفات المزيد من الشهرة كقائد عسكري ميداني في عام 1968م عندما قاد قواته في القتال دفاعا عن بلدة "الكرامة" الأردنية أمام قوات إسرائيلية أكثر عددًا وأقوى تسلحا، وزرعت معركة الكرامة الإحساس بالتفاؤل بين الفلسطينيين، كما أدت لارتفاع راية قوى التحرر الوطني الفلسطينية بعد فشل الأنظمة العربية في التصدي لإسرائيل.
وبعد مضي عام على معركة الكرامة اختير عرفات رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أسستها جامعة الدول العربية عام 1965م خلفا ليحيى حمودة.
أيلول الأسود والانتقال إلى لبنان:
في العام 1970م هاجم الجيش الأردني القوات الفلسطينية في الأردن بعد أن خطف رجال المقاومة أربع طائرات ركاب إلى مطار في صحراء المملكة، ووقعت اشتباكات بين الطرفين أسفرت عن سقوط ضحايا من كلا الجانبين وعرفت بأحداث "أيلول الأسود"، وبعد وساطات عربية قررت المقاومة الفلسطينية في العام التالي الخروج من الأردن والانتقال إلى لبنان بعد أن نجحت مصر في إنقاذ عرفات من الموت المحقق في عمان وتهريبه سرًا إلى القاهرة حيث حضر القمة العربية في أيلول "سبتمبر" 1970م، فكانت أول قمة عربية تسلط فيها بقوة أضواء وفلاشات الكاميرات عليه.
ومع انتقال المنظمة إلى لبنان، واصل "الثائر" أبو عمار رحلة الكفاح المسلح، فشرع في ترتيب صفوف المقاومة معتمدًا على مخيمات اللاجئين، وفي السنوات التي أعقبت انتقال عرفات إلى بيروت نفذ مسلحون فلسطينيون ينتمون لفصائل مختلفة عمليات تفجير وخطف طائرات واغتيالات، من أشهرها عملية خطف وقتل 11 رياضيا إسرائيليا أثناء دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في ميونخ عام 1972م.
في 10 نيسان "أبريل" 1973م حاولت إسرائيل اغتيال ياسر عرفات، في بيروت، حيث قامت مجموعة إسرائيلية ضمت بين افرادها من أصبح لاحقا رئيسا لوزراء إسرائيل إيهود باراك، وقد تمكنت المجموعة من اغتيال ثلاثة من مساعدي عرفات وهم القادة أبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر ولكنها لم تعثر على عرفات، وأكد مقربون منه أن "معجزة سمحت له بالبقاء بعيدًا"، وفي الواقع لم يكن عرفات يمضي أكثر من بضع ساعات تحت سقف واحد وقد لف تحركاته بتكتم مطلق.
وقد شنت قوات الاحتلال الصهيوني هجمات عنيفة على قواعد المقاومة الفلسطينية في لبنان في الفترة بين عامي 1978م و1982م، حيث دمرت عام 1978م بعض قواعد المقاومة وأقامت شريطا حدوديا بعمق يتراوح بين أربعة وستة كيلومترات أطلقت عليه اسم الحزام الأمني.
غصن الزيتون والبندقية:
وفي 29 تشرين الأول "أكتوبر" 1974م أعلنت القمة العربية في الرباط منظمة التحرير "الممثل الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني.
وفي 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م تحدث عرفات للمرة الأولى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قائلا:
"أتيت إلى هنا حاملا غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى.. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي".
ومُنحت منظمة التحرير الفلسطينية صفة مراقب في المنظمة الدولية.
وفي نيسان "أبريل" 1975م، مع اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، وقف عرفات في صف القوى التقدمية اللبنانية.
وفي حزيران "يونيو" 1980م أصدرت السوق الاوروبية المشتركة "إعلان البندقية" الذي يطالب بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في أي مفاوضات لاحلال السلام.
وخاضت المقاومة الفلسطينية الكفاح من لبنان ضد الكيان الإسرائيلي، ونتيجة لنجاح المقاومة الفلسطينية في حقبة السبعينيات في تسديد ضربات موجعة للاحتلال قررت إسرائيل شن هجوم على قواعد المقاومة والقضاء عليها وهو ما توج بغزو بيروت عام 1982م.
برنامج النقاط العشرة:
الانعطاف الكبير الأول في مسيرة منظمة التحرير بقيادة عرفات كان في المجلس الوطني الثاني عشر في القاهرة في حزيران "يونيو" 1974م حيث تم التخلي لأول مرة عن التحرير الكامل من البحر إلى النهر والدعوة إلى إقامة (سلطة) وطنية على جزء من أرض فلسطين، خلافا لما ورد في نصوص الميثاق الفلسطيني ومقرراته في الدورة الحادية عشر عام 1972م للمجلس الوطني الفلسطيني حيث طرحت مشاريع التسوية السياسية.. وقوبلت برفض قاطع وحازم لا يقبل المناورة أو حتى التأويل، بل إن المجلس الوطني الفلسطيني قد ذهب إلي أبعد من ذلك فقد جرى التأكيد بنص مكتوب وملزم للجميع يحرم على كل الأجيال الفلسطينية حتى الأجيال التي لم تولد بعدم الاقتراب أو المساس بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.. وكانت صياغة النص والتحذير على النحو التالي: "لا يحق لأية جهة من أي جيل من أجيال الشعب، مهما تألبت عليه الظروف أن تتنازل عن أي حق من حقوقه الثابتة والطبيعية".
وهيأ هذا الانعطاف السبيل لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني (1988م) في الجزائر والتي أعلنت قرار الاستقلال والموافقة على القرار الأممي 242.
خطاب عرفات في الأمم المتحدة:
ألقى ياسر عرفات خطابا تاريخيا مهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م أكد فيه أن القضية الفلسطينية تدخل ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني من الاستعمار والاضطهاد، واستعرض الممارسات الصهيونية العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وناشد ممثلي الحكومات والشعوب مساندة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى دياره، وفي ختام كلمته قال:
"إنني جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين".
ويشكل هذا الخطاب بداية التحول إلى مفهوم إقامة الدولة والعمل السياسي لأجل ذلك بدلاً من سياسة التحرير والكفاح المسلح.
من لبنان إلى تونس:
بعد اجتياح بيروت عام 1982م، وفرض إسرائيل حصارًا لمدة 10 أسابيع على المقاومة الفلسطينية اكتسب خلالها عرفات احترام شعبه بصموده وشجاعته، وقد وافق في 30 آب "أغسطس" 1982م على الخروج من لبنان تحت الحماية الدولية ومن ثم الانتقال إلى تونس التي شكلت المعقل الأخير لمنظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 1994م.
كانت المحطة الثالثة للمقاومة الفلسطينية بعد عمان وبيروت في تونس بعيدًا عن خطوط التماس، وبالرغم من بعد المسافة بين تونس والأراضي الفلسطينية إلا أن يد جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) طالت أبرز العناصر الفاعلة في المنظمة، إذ اغتيل خليل الوزير "أبو جهاد" (1988م)، وصلاح خلف "أبو إياد" و هايل عبد الحميد "أبو الهول" (1991م)، وتميزت تلك الفترة بمحاولات عرفات الدؤوبة للمحافظة على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية واستمرار قيادته لها.
وحاولت إسرائيل اغتيال عرفات ثانية بعد انتقاله إلى تونس، وقد تعرض مقره هناك في الأول من تشرين الأول "أكتوبر" 1985م لقصف الطيران الإسرائيلي، ودمر بشكل شبه كامل في غارة أدت إلى مقتل 70 شخصا، وكان عرفات في طريقه إلى مكتبه وولكنه عاد أدراجه مع بداية الغارة.
وتعرض عرفات طوال مسيرة قيادته لحركة فتح والمنظمة للكثير من حركات التمرد ضده وكان أبرزها خلال فترة تواجد المنظمة في لبنان، حيث انشق عنه عدد من قادة الحركة ومن أبرزهم أبو موسى وأبو صالح وأبو نضال، إلا أن دهاءه السياسي مكنه من تجاوز كل هذه الانشقاقات فظل متماسكا ومسيطرًا على المنظمة وعلى فتح.
وفي تونس واصل ياسر عرفات تكوين شخصية الزعيم السياسي الذي يتبنى الحل السلمي، وكانت ارهاصات هذا التوجه قد تجلت عمليا في الخطاب الذي ألقاه عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م والذي قال فيه: "إنني جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين".
الجزائر.. إعلان الدولة:
وكان لاندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المباركة الأولى في كانون الأول "ديسمبر" 1987م ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتعرض الفلسطينيين فيها للقمع والقتل أثره في حصول القضية الفلسطينية على تعاطف دولي، استثمره عرفات بحنكته السياسية لتحريك عملية السلام حيث دفع المجلس الوطني الفلسطيني بدورته المنعقدة في الجزائر في 15 تشرين الثاني "نوفمبر" 1988م إلى تبني قرار مجلس الأمن الدولي 242 معترفا بذلك ضمنا بإسرائيل، وفي الوقت ذاته أعلن المجلس قرار اقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة وغزة، وتلا عرفات إعلان استقلال الدولة الفلسطينية.
وفي نيسان "أبريل" 1989م كلف المجلس المركزي الفلسطيني عرفات برئاسة الدولة الفلسطينية، وفي 2 أيار "مايو" 1989م خلال زيارة رسمية إلى باريس كانت أول تكريس لعلاقات دبلوماسية مع دولة غربية أعلن ياسر عرفات أن الميثاق الوطني الفلسطيني أصبح "لاغيا".
في عام 1990م وبعد اجتياح القوات العراقية للكويت اتخذ عرفات موقفا ﻓسر بأنه مؤيد لخطوة الرئيس العراقي - آنذاك- صدام حسين، مما انعكس سلبيا على القضية الفلسطينية، وتوقف دعم دول الخليج للقضية الفلسطينية.
وفي 1991م في أوج أزمة الخليج انقلبت سيارة عرفات عدة مرات على الطريق بين عمان وبغداد، وبعدها في كانون الثاني "يناير" 1992م تزوج عرفات من مساعدته سهى الطويل (28 عاماً)، وبعد شهرين في نيسان "أبريل" 1992م، تحطمت طائرته في الصحراء الليبية، وقيل حينذاك أنه قتل في الحادث ولكنه ظهر من جديد بعد ساعات من الحادث.
أوسلو.. غزة وأريحا:
وبعد انتهاء حرب الخليج كان هناك إجماع دولي على ضرورة العمل من أجل تسوية القضية الفلسطينية دعما للاستقرار في الشرق الأوسط.
ولدفع عملية السلام أعلن عرفات أوائل عام 1990م أنه يجري اتصالات سرية مع القادة الإسرائيليين بهذا الخصوص، وفي عام 1991م عقد مؤتمر السلام في مدريد تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.
وفي 13 أيلول "سبتمبر" 1993م بعد ستة أشهر من المفاوضات السرية في اوسلو وقع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في واشنطن اتفاق أوسلو الذي جعل أضواء الإعلام الغربي تسلط عليه بكثافة، كما كان نقطة تحول بارزة في القضية الفلسطينية، وقد وقع الطرفان على "إعلان مبادئ"، هو عبارة عن اتفاق سمح للفلسطينيين بممارسة الحكم الذاتي في قطاع غزة ومدينة أريحا بالضفة الغربية مقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل.
لكن لم تحسم عدة قضايا شائكة وأبرزها مستقبل المستوطنات المقامة على أراض محتلة، ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك مدنهم وقراهم بعد حرب عام 1948م، والوضع النهائي لمدينة القدس.
وفي 1 تموز "يوليو" 1994م خرجت غزة عن بكرة أبيها لاستقبال عرفات والعائدين معه من "ثوار فتح" بحفاوة كبرى بعد 27 عاماً قضاها في المنفى، واتخذ عرفات من غزة مقرًا لقيادته.
وقد بدأ عرفات فور عودته إلى غزة مسيرة سلام مرت بصعوبات بالغة، وفي نفس السنة فاز بجائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وشمعون بيريز.
وفي 1995/9/28م وقع عرفات ورابين بواشنطن على اتفاقية الوضع المؤقت التي مهدت الطريق لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية "اتفاقية طابا"، وقد اغتيل رابين إثر ذلك في الرابع من تشرين الثاني "نوفمبر" من عام 1995م بأيدي متطرف إسرائيلي، وهو ما شكل انتكاسة لعملية السلام، وواجه عرفات تحديا ضخما تمثل في السعي للحفاظ على التزام الفلسطينيين والإسرائيليين بما أطلق عليه "سلام الشجعان".
شرع عرفات لدى وصوله إلى غزة في تأسيس السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المختلفة، وعمل على إعادة تأهيل بعض المؤسسات وتدريب أفراد من الشرطة والجيش للحفاظ على الأمن مبشرًا شعبه بقرب تحقيق حلم التحرير والصلاة في المسجد الأقصى.
رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية:
وفي 20 كانون الثاني "يناير" 1996م انتخب عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية في انتخابات ظل يفتخر دوما بأنها كانت حرة وشفافة في منطقة نادرًا ما تشهد مثلها.
في 15 كانون الثاني "يناير" 1997م وقع الفلسطينيون برئاسة عرفات اتفاقية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لتسلم معظم مدينة الخليل والذي تعطل كثيرًا بعد ذلك أصيبت عملية السلام بالجمود.
وفي 23 تشرين الأول "أكتوبر" 1998م وقع عرفات ونتانياهو على اتفاقية واي ريفر لانسحاب إسرائيلي تدريجي من الضفة الغربية، والتي جمدها نتنياهو بعد شهرين زاعما أن عرفات لم ينفذ شروطا أمنية.
في 5 أيلول "سبتمبر" 1999م وقع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في شرم الشيخ في مصر اتفاقا يفتح الطريق أمام مفاوضات حول تسوية سلمية نهائية بين إسرائيل والفلسطينيين، ويحدد الاتفاق شهر أيلول "سبتمبر" عام 2000م موعدًا لتوقيع معاهدة سلام دائمة.
فشل كامب ديفيد وإنتفاضة الأقصى:
وشهد منتجع كامب ديفيد في 25 تموز "يوليو" 2000م حيث شارك عرفات في قمة ثلاثية جمعته ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وصول عملية السلام إلى طريقها المسدود، إلا أن رفض أبو عمار تقديم تنازلات لإسرائيل في قضايا تتعلق بالوضع النهائي للأراضي الفلسطينية ومن بينها القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين أعاد إليه مرة أخرى قدرًا من شعبيته بين الفلسطينيين.
غير أن اصطدام السلطة بالمواقف الإسرائيلية المتعنتة أدى إلى انحسار التأييد الشعبي لمشروع السلطة الفلسطينية وقيادتها الممثلة في شخص عرفات، وساهم في ذلك الانحسار قيام السلطة الفلسطينية بملاحقة نشطاء فصائل المقاومة خاصة الإسلامية منها تنفيذًا لاستحقاقات الاتفاقيات التي وقعتها مع إسرائيل، فتوالت على عرفات الاتهامات بأنه أصبح أداة في يد الاحتلال لقمع المقاومة الفلسطينية، كما تزامن مع ذلك بداية الحديث المتصاعد عن فساد السلطة وتراخي رئيسها في مواجهته.
وبحلول عام 2000م توقفت تماما عملية السلام، واشتعلت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المباركة الثانية "انتفاضة الأقصى" في 29 أيلول "سبتمبر" 2000م بعد الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم المعارضة في ذلك الحين أرييل شارون للحرم القدسي في ظل تنامي الحديث عن "هيكل سليمان" المزعوم والحفريات التي تتم تحت المسجد الأقصى والخوف المتزايد من إلحاق الضرر به، وكرد فلسطيني على مسيرة أوسلو وسنواتها العجاف.
وقد تعامل إيهود باراك رئيس الحكومة الصهيونية السابق بعنف مع هذه الانتفاضة ولم يستطع إخمادها.
إثر ذلك استقالت حكومة باراك في إسرائيل، وتولى السلطة أرييل شارون، زعيم اليمين المتطرف الذي عمل منذ توليه لمنصبه على تنفيذ مخططه الهادف إلى تدمير السلطة الفلسطينية.
وفي عهد أرييل شارون - الذي اختاره الناخب الصهيوني لتحقيق الأمن بعد أن عجز باراك عن تحقيقه- استمرت بل تصاعدت أعمال الانتفاضة والمقاومة.
وساءت علاقات أبو عمار بالولايات المتحدة الأميركية التي تبنت وجهة النظر الصهيونية باعتباره متكاسلا عن اتخاذ ما يجب من إجراءات لوقف ما تسميه "الإرهاب" رغم كل ما فعله لقمع المقاومة وملاحقة المجاهدين لاسيما في الأعوام (1996- 2000م)، وتعالت الأصوات داخل الحكومة الصهيونية الداعية إلى طرد عرفات أو تصفيته جسديا أو اعتقاله ومحاكمته، وأعادت القوات الأسرائيلية في 29 آذار "مارس" 2002م احتلال أغلب مدن وقرى الضفة الغربية، وفرض شارون حصارًا محكما على ياسر عرفات في مقره برام الله إلى أن خرج بعد تدهور حالته الصحية متوجﻫا إلى العاصمة الفرنسية باريس لتلقي العلاج في مستشفى "بارسي" العسكري.
مجرم الحرب شارون:
وفي 3 كانون الأول "ديسمبر" 2001م قامت الحكومة الإسرائيلية بقيادة آرييل شارون، خصم عرفات القديم واللدود بفرض حصار عسكري عليه داخل مقره بمدينة رام الله بالضفة الغربية بمساندة أمريكية، فكان أن حظي عرفات مرة أخرى بتعاطف كبير من جانب الشارع الفلسطيني في مواجهة الأصوات الإسرائيلية المتعالية والمطالبة بطرده أو تصفيته، فعاد الرمز الفلسطيني مرة أخرى للواجهة بقوة.
وفي 29 آذار "مارس" 2002م: غداة عملية استشهادية نفذتها المقاومة الفلسطينية وختام القمة العربية في بيروت التي حُرم عرفات من حضورها، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي أوسع هجوم له في الضفة الغربية منذ حزيران "يونيو" 1967م ودمر الجزء الأكبر من مقر عرفات الذي بقي في المبنى الذي يضم مكاتبه تطوقه الدبابات الإسرائيلية.
وقد بقي على هذا الحال حتى ليلة الثاني من أيار "مايو" حين رفع جيش الاحتلال الإسرائيلي الحصار عنه.
***
وفيما يلي أبرز احداث الحصار
عام 2001م:
8 كانون الأول "ديسمبر": إسرائيل تعلن انها تحتفظ لنفسها بحق منع عرفات من مغادرة رام الله للتوجه الى الخارج.
13 كانون الأول " ديسمبر": إسرائيل تمنع الرئيس الفلسطيني من مغادرة رام الله وتنشر دبابات على بعد 200 متر من مقره العام، ودمرت الطائرات الاسرائيلية محطة البث التلفزيوني والاذاعة الفلسطينية القريبة من مكاتب عرفات.
24 كانون الأول "ديسمبر": إسرائيل تمنع عرفات من التوجه الى بيت لحم لحضور القداس بمناسبة عيد الميلاد.
عام 2002م:
2 كانون الثاني "يناير": رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون يعلن ان عرفات سيبقى في رام الله ما لم يوقف الذين قتلوا وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي في تشرين الأول من العام الماضي.
5 كانون الثاني "يناير": إسرائيل تؤكد مجددا معارضتها لزيارة عرفات الى بيت لحم للمشاركة في عيد الميلاد الارثوذكسي.
3 شباط "فبراير": 300 من الاسرائيليين اليهود والعرب يلتقون الرئيس الفلسطيني في رام الله لادانة الاحتلال الاسرائيلي.
14 شباط "فبراير": وزير الخارجية البريطاني جاك سترو يدعو عرفات في لقاء طويل في رام الله، الى وقف "العنف".
16 شباط "فبراير": وزير الخارجية الالماني يوشكا فيشر يجري محادثات مع عرفات.
19 شباط "فبراير": لقاء بين عرفات ووزير الخارجية الاردني مروان المعشر.
25 شباط "فبراير ": الدبابات الاسرائيلية تنسحب من القطاع المحيط بمكاتب عرفات طبقا لقرار اتخذته الحكومة الاسرائيلية.
9 آذار "مارس": وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني يقوم بزيارة "تضامنية" مع عرفات.
15 آذار "مارس": المبعوث الأمريكي أنطوني زيني يجري محادثات مع عرفات في رام الله التي انسحبت منها القوات الاسرائيلية بعد ان اعادت احتلالها لساعات.
19 آذار "مارس": شارون يصرح ان عرفات يستطيع ان يغادر الاراضي الفلسطينية "فور تطبيق خطة تينيت" لوقف اطلاق النار.
26 آذار "مارس": إسرائيل تمنع عرفات من التوجه الى بيروت للمشاركة في القمة العربية.
29 آذار "مارس": بدء العملية العسكرية الاسرائيلية "السور الواقي" في الضفة الغربية، جيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل رام الله ويطوق مقر عرفات ويدمر كل المباني باستثناء مكاتبه.
31 آذار "مارس": حوالي اربعين من دعاة السلام الغربيين يشكلون "درعاً بشرية" حماية لعرفات، واسرائيل تعلن رام الله "منطقة عسكرية مغلقة".
2 نيسان "أبريل": جيش الاحتلال الإسرائيلي يستولي على مقر جهاز الامن الوقائي الفلسطيني في رام الله، وشارون يقترح على عرفات "رحلة ذهاب" فقط الى الخارج، وعرفات يرفض الاقتراح.
4 نيسان "أبريل": شارون يعارض لقاء بعثة اوروبية مع عرفات.
13 نيسان "أبريل": عرفات يدين باسمه وباسم القيادة الفلسطينية "كل الاعمال الارهابية التي تستهدف مدنيين سواء كانوا اسرائيليين او فلسطينيين، والارهاب سواء مارسته دولة او مجموعات او افراد".
14 نيسان "أبريل": وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يجري محادثات في رام الله مع عرفات ثم مع شارون.
17 نيسان "أبريل": لقاء ثان بين عرفات وباول.
21 نيسان "أبريل": آرييل شارون يعلن انتهاء المرحلة الاولى من عملية "السور الواقي" بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من نابلس والجزء الاكبر من رام الله.
25 نيسان "أبريل": محكمة عسكرية تعقد جلسة في مقر عرفات وتصدر احكاما بالسجن لمدد تتراوح بين عام و18 عاما على المتهمين باغتيال وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي، وشارون يطالب بتسليمهم لاسرائيل.
28 نيسان "أبريل": وفد أمريكي يقوده قنصل الولايات المتحدة في القدس رونالد شلايكر يلتقي عرفات في رام الله، والإسرائيليون والفلسطينيون يوافقون على اقتراح أمريكي يقضي بان يرفع جيش الاحتلال الإسرائيلي الحصار المفروض على عرفات شرط سجن المتهمين باغتيال زئيفي واثنين آخرين من الفلسطينيين تطالب بهما اسرائيل تحت حراسة أمريكيين وبريطانيين في سجن اريحا.
30 نيسان "أبريل": الخبراء الأمريكيون والبريطانيون يقومون مع السلطات الفلسطينية بتسوية التفاصيل التقنية لرفع الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني "خلال 24 ساعة".
1 أيار "مايو": قنصلا بريطانيا والولايات المتحدة يباشران ممحادثات مع عرفات حول طرق نقل الفلسطينيين الستة، وفي اليوم نفسه تم نقل هؤلاء الفلسطينيين الى سجن فلسطيني في اريحا باشراف أمريكي وبريطاني.
2 أيار "مايو": جيش الاحتلال الإسرائيلي يغادر موقع مقر الرئيس الفلسطيني.
انهيار السلطة.. تدهور حالة الرئيس:
خلال فترة الحصار تلك أعادت إسرائيل احتلال أغلب مدن وقرى الضفة الغربية، وبعد ضغوط دولية تعهد شارون بعدم استهداف عرفات أثناء تنفيذ العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي زعمت حكومة شارون إنها تهدف للقضاء على ما اسمته "البنية التحتية للإرهاب"، بينما وصفها الفلسطينيون بأنها "جرائم حرب" و"إرهاب دولة".
لكن التهديدات استمرت من قبل بعض المسؤولين الإسرائيليين بإبعاد عرفات وحتى بقتله.
وفي 2003/9/11م اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارًا أطلقت عليه صفة "مبدأي"، بإبعاد الرئيس ياسر عرفات عن أرض الوطن، ولم تنفذ إسرائيل هذا القرار فعليا، إلا أنها لوحت به بعد كل عملية استشهادية.
وكان رد فعل عرفات للحصار الإسرائيلي إعلانه أنه "يتوق للشهادة التي سبقته إليها أعداد كبيرة من أبناء شعبه".
وخلال هذه الفترة اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة على عزل الرئيس ياسر عرفات واعتباره "غير ذي صلة"، وسعت واشنطن إلى فرض تعيين رئيس وزراء فلسطيني على أمل أن تتعامل معه في القضايا الفلسطينية وتجاوز عرفات، وفي 19 آذار "مارس" 2003م عين عرفات أمين سر منظمة التحرير محمود عباس رئيسا للوزراء تحت ضغوط دولية للتنازل عن بعض سلطاته، لكنه رفض التخلي عن سيطرته على القوات الأمنية فاستقال عباس في 6 آيلول "سبتمبر" 2003م، وتم تعيين أحمد قريع خلفا له في 7 تشرين الثاني "أكتوبر" من نفس العام.
وفي 30 نيسان "أبريل" 2003م أيضا صادق الفلسطينيون على خطة خارطة الطريق المدعومة من الولايات المتحدة، هو الاسم الذي أطلق على مبادرة سلام في الشرق الأوسط هدفها البدء فمحادثات لتوصل إلى حل نهائي لتسوية سلمية من خلال إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005م، إلا أن إسرائيل رفضت تطبيق الخارطة رغم زعما تبنيها لها، ورفضت إسرائيل إجراء أي مفاوضات مع عرفات أو مواصلة الاتصالات بينها وبين القيادة الفلسطينية، بل سعت إلى فرض المقاطعة الدولية على عرفات بحيث أعلنت رفضها استقبال أي مسؤول دولي يقوم بجولة في المنطقة، ويزور عرفات.
وبعد انتخاب شارون لرئاسة الحكومة الأسرائيلية في دورة ثانية، بدأ تكثيف العمل في إقامة جدار الفصل العنصري على أراضي الضفة الغربية، رافضا الانصياع إلى مقررات الأمم المتحدة التي اعتبرت الجدار عملا غير مشروع ومخالﻓا للقانون الدولي، وبدأ شارون في العام 2003م التحدث عن خطة الفصل الأحادي الجانب، المعروفة باسم "فك الارتباط" مع قطاع غزة وشمال الضفة الغربية والتي أصر على تنفيذها من جانب واحد دون أي اتفاق مع الفلسطينيين، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي على هذه الخطة، قبل يوم واحد من تدهور صحة الرئيس الفلسطيني عرفات ونقله بعد يومين تقريبا إلى باريس، حيث حاول الاطباء تحسين وضعه الصحي وإنقاذ حياته في مستشفى بيرسي العسكري.
في 2003/9/11م اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بإبعاد الرئيس ياسر عرفات عن أرض الوطن.
وفيما يلي أقوال الرئيس ياسر عرفات رداً على هذا القرار:
- قال عرفات مخاطباً الجماهير الحاشدة التي أمت مقر الرئاسة في رام الله دعماً وتأييداً رداً على قرار الحكومة الإسرائيلية بإبعاده:
"يا أخوتي يا أحبتي، إن هذا الشعب شعب الجبارين، شعب الشهيد فارس عودة، شعب الجبارين لا ينحني، لا ينحني إلا لله".
وتابع:
"عندما هددوا بتفجير هذا المقر في الحصار السابق، وأجرينا اتصالات هنا وهناك لم يفعلوا شيئاً، وإنما خرجت النساء وخرج الشيوخ والأطفال والرجال من رفحغراد إلى جنينغراد، وقرعوا الطناجر محتجين على الحصار، والآن أقول للحكومة الإسرائيلية هذا هو الرد على قراركم، المسيرات التي انطلقت من جنينغراد إلى رفحغراد وغزة وخانيونس وبيت حانون ونابلس وطولكرم وقلقيلية والخليل "يا جبل ما يهزك ريح".
- قال عرفات للصحافيين أمام مقره في رام الله إن أحداً لن يستطيع إخراجه من بلاده، وإن إسرائيل يمكنها قتله بما لديها من قنابل ولكنه لن يرحل، ودعا لجنة الوساطة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى سرعة التحرك لحماية السلام وخطة السلام المعروفة باسم خارطة الطريق.
- وجه عرفات التحية لأنصار السلام والاسرائيليين المدافعين عن السلام، الذين ارتفعت أصواتهم بقوة وصلابة معنا.
- قال عرفات خلال كلمة وجهها عبر الهاتف إلى الجماهير المحتشدة في مخيم الرشيدية في جنوب لبنان، من القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية:
"يا أخوتي يا أحبتي في لبنان وشعب لبنان، وأخوتي الأحبة الفلسطينيين في لبنان، أحييكم تحية من عند الله مباركة وأشد على أياديكم وأقول لكم وأقول للعالم أجمع من خلالكم إن هذا الشعب اللبناني البطل والشعب الفلسطيني البطل من الذين تصدوا ولا زالوا يتصدون لهذا العدو الذي يريد أن يسطر بدمائنا أحلامه الصهيونية، ولكننا نقول له وللعالم أجمع يا جبل ما يهزك ريح".
وقال:
"نعم يا أخوتي يا أحبتي إنني من هذا الحصار لشعبنا ولي شخصياً، وهذه المحاولات الإسرائيلية التي تحاول أن تركع شعبنا فإنني أقول باسمكم لبنانيين وفلسطينيين وعرب إننا لن نركع إلا لله تعالى".
- قال عرفات في كلمة له عبر "راديو الأحلام" مخاطباً أهالي جنين الذين جددوا بيعتهم وثقتهم بقيادته:
"أحبتي وأهلي المرابطين في لينينغراد.. في جنين القسام.. يا رجالنا ونساءنا وأشبالنا وزهراتنا في مخيم جنين، قلعة البطولة والصمود والتحدي ليس أحب إلى عقلي وقلبي من التحدث إليكم في هذا المعترك المصيري الذي يخوضه كل الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل حماية المقدسات المسيحية والاسلامية في أرض الرباط الأرض المباركة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى نبينا محمد صلوات الله عليه وسلم، ومهد ورفعة سيدنا المسيح عليه السلام".
وقال:
"إن حياتنا أيها الأحبة الأطفال ليست أعز علينا من حياة أي طفل أو شاب أو رجل أو إمرأة، وليست أحب ولا أعز من حياة فارس عودة الذي رفع علم فلسطين عالياً ثم سقط شهيد الوطن والحرية والاستقلال، قدرنا أن نضحي في سبيل فلسطين ومقدساتها وكرامتها وقدسها الشريف ومستقبل الأجيال، ونضحي اليوم من أجل وطن حر عزيز مستقل".
- قال عرفات في كلمة وجهها لاجتماع عقده المجلس الوطني الفلسطيني في مقره بنابلس في 2003/9/16م رداً على القرار الإسرائيلي القاضي بإبعاده والدعوات المطالبة بتصفيته: "إن حياتي ليست هي القضية، بل حياة الوطن والقدس مسرى الرسول ومهد المسيح.. هذه هي القضية الكبرى التي قدم الشعب الفلسطيني من أجلها التضحيات.. قدم التضحيات من أجل عودة الأرض والمقدسات".
- قال عرفات في مقابلة مع إذاعة رويترز وهو يشير إلى سلاحه داخل مكتبه في رام الله: "أنا جندي فلسطيني، وقبلها كنت ضابط احتياط في الجيش المصري، وأنا لا أدافع عن نفسي فقط بل وأيضاً عن كل شبل وطفل وإمرأة ورجل فلسطيني وعن القرار الفلسطيني".
وقال:
"هل هناك أحد في فلسطين لا يتمنى الشهادة، كلنا مشاريع شهادة، فالقصف الإسرائيلي متواصل من الطائرات والمدفعيات والصواريخ، ويومياً يسقط شهداء كل يوم نسمع عن شهيد".
وحول الفيتو التي استخدمته الولايات المتحدة ضد قرار تقدمت به دول عربية تطالب بمنع إسرائيل من ابعاد الرئيس عرفات قال الرئيس عرفات:
"هذا ليس أول فيتو ولن يكون الأخير، أهم شيء هو موقف هذه الجماهير الفلسطينية والعربية والدولية".
وتابع:
"أولاً هذا التحدي ليس لي، إنما لأمتنا العربية والاسلامية وتحدي للقمة الأفريقية ولدول عدم الانحياز، وتحدي لأمريكا لأنه بوش الأب - الرئيس الأمريكي السابق- هو من عمل على اتفاق الأرض مقابل السلام".
قال عرفات في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت في 2003/11/17م:
"شارون يريد قتلي؟ مسدسي جاهز".
"لا ريب أن قرار الحكومة الإسرائيلية كان بلا أي منطق أو عقل".
"فقد اعترف شارون نفسه أنه حاول قتلي 17 مرة في بيروت، ولكن ها أنا هنا، أجلس والمسدس إلى جانبي، متى لم أكن جاهزاً؟ أنتم لا تعرفونني؟؟!!"
"تفضلوا، تطبيق الخطة نحن وأنتم، نجلب إلى المنطقة مراقبين أو قوة دولية، هكذا اتفق في خارطة الطريق، هكذا نوقف الدم".
".. ساعدونا على تحقيق الهدنة".. "كفوا عن الاجتياحات، التصفيات، وهدم المنازل". - قال عرفات، في كلمة عبر الهاتف لأعضاء المهرجان الذي يمثل الكونغرس الفلسطيني الأمريكي المنعقد في الولايات المتحدة:
"إن الشعب الفلسطيني الذي يواجه هذا العدوان الإسرائيلي اليومي ضد مقدساته الاسلامية والمسيحية، وضد مدنه وقراه ومخيماته وبنيته التحتية واقتصاده ومدارسه ومستشفياته صامد ومرابط حتى تحقيق الأهداف الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، نحن متمسكون بسلام الشجعان الذي وقعته مع شريكي الراحل اسحق رابين الذي دفع حياته عندما اغتالته العناصر المتطرفة التي تحكم الآن إسرائيل..".
- تحدث عرفات عبر الهاتف مخاطباً الجماهير المحتشدة أمام الكنيسة في بيت ساحور قائلاً:
"أحييكم على هذه الهبة الجماهيرية في وجه ما يحاك ضد شعبنا ومقدساتنا ووطنا، ونرفض هذه الهجمة الإسرائيلية التي لا مثيل لها… مدعومة من دولة عظمى، مما يؤكد أنهم لا يريدون سلاماً وإنما استسلاماً، ونحن نقول لهم إن شعب الجبارين لن يركع إلا لله تعالى، ولن يستسلم أبداً، بل إننا صامدون وسنمضي قدماً للدفاع عن وجودنا ومقدساتنا وأرضنا وحقوق شعبنا حتى نقيم دولتنا الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".
- وصف عرفات قرار الأمم المتحدة الذي يطالب إسرائيل بسحب تهديدها بإبعاد سيادته أو إيذائه بأنه "بمنتهى الأهمية".
وشكر عرفات في تصريحات للصحفيين عقب انتهاء مسيرة جماهيرية حاشدة أمام مقر الرئاسة في رام الله للتضامن معه جميع الدول التي صوتت لصالح القرار، معتبراً ذلك دلالة على الموقف الدولي الصديق والشقيق الذي يقفونه مع الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت الاحتلال العنصري الذي لا يحترم الانسانية والديانات المسيحية والاسلامية.
وأضاف:
"أن هذا التصويت بالأغلبية “133” دولة يعني أنهم يقولون لمن يحتلون هذه الأرض المقدسة إنها أرض فلسطينية، مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومهد ورفعة سيدنا المسيح عليه السلام".
وأكد عفات:
"أنه لا يخيفنا قرار ولا حصار وقتال، لأننا ندافع عن ما هو أغلى من أنفسنا وهو التراث التاريخي والحضاري لشعب الجبارين، ونقول للعالم أجمع معاً وسوياً وجنباً إلى جنب حتى القدس الشريف".
- قال عرفات مخاطباً أعضاء المجلس الوطني في قطاع غزة:
"إن القضية ليست قضية “أبو عمار” إنما قضية حياة الوطن واستقلاله وكرامة هذا الشعب وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ولن ننحني إلا لله سبحانه وتعالى، كما لن ننحني أمام التهديد والوعيد، فحياتي ليست أغلى من حياة أي طفل فلسطيني، وهي ليست أغلى من حياة الشهيد الطفل فارس عودة، فكلنا فداءً للوطن الغالي فلسطين الأرض المباركة".
عرفات.. الرمز: لم يكن القائد والمعلم والرمز ياسر عرفات "أبو عمار" خطيﺑا مفوﻫا بمنظار الفصاحة والبيان، لكنه كان يجيد لفت الأنظار إذا ما اعتلى المنصة ليرتجل كلمة يختلط فيها ما هو فصيح بما هو عامي في لكنة فلسطينية مصرية مختلطة، وقد حاول عبر أدائه الخطابي المعهود عنه أن يبدو تلقائيا وغير متكلف.
كما اشتهر بقدرته العالية على التكتيك في مواجهة خصومه حتى إن كان هذا التكتيك يضرب المفاصل الاستراتيجية.
وقدعُرف عنه - رحمه الله- بالتزامه ببرنامج عمل يومي لا يكاد يتيح متسعا للرقود أو الراحة، حتى إنه كاد أن يصل الليل بالنهار في برنامج عمل مكتبي.
وبغض النظر عن الممارسة السياسية المتأرجحة بين محطة وأخرى، لم تكن مهارات "أبي عمار" الشخصية تتوقف عند هذا الحد، فقد برع في مراكمة الكاريزما، موظﻓا ورقة "الشرعية النضالية" في هذا الاتجاه، بينما جاء وصف "القائد الرمز" الذي عممته الآلة الدعائية لحركة فتح ليصب في تعظيم الهالة الرمزية للرجل الأول والمركزي في الحركة ومنظمة التحرير.
ولا يمكن تصور الحضور الكاريزمي لعرفات بدون جملة من الخصائص الشكلية التي تشبث بها هو شخصيا وآتت مفعولاً مثيرًا للانتباه، إذ لم يتخل عرفات عن كوفيته إطلاقا إلا لحساب خيارات مؤقتة تلائم الظرف كارتداء قبعة عسكرية في حصار بيروت 1982م، أو قبعة الفراء الشهيرة في سنوات التنقل بين العواصم العربية والغربية، والتي كان يحرص على أن يعتمرها بشكل خاص في زياراته إلى موسكو وفق أدبيات منظمة التحرير، إلا أنه لم يضعها أيضا أثناء خروجه للعلاج إلى باريس في مرضه الأخير.
ولا يمكن على أي حال تقليل مفعول الكوفية في تعميم "علامة ثورية" خاصة بعرفات، إذ سرعان ما أصبحت دلالة رمزية على مسيرة الكفاح الفلسطيني الحديث، وازدادت فعالية ذلك مع حرص عرفات على الظهور بالهيئة ذاتها تقريبا على مدى أربعة عقود.
ورغم أهمية العوامل المظهرية في نحت نموذج ياسرعرفات الزعامي، فإن ذلك لا يُغفل عاملاً مهما يتمثل في فهم عرفات وفي مراحل مبكرة لخصوصية الحالة الفلسطينية، وطبيعة المزاج العام السائد لدى شعب حُرم من وطنه وسيادته ويتطلع إلى تقرير مصيره عبر مسيرة نضال شاقة.
مقاتلا من طراز نادر، وسياسيا من طراز نادر.. ومتوازنا من طراز نادر..
لكنه في كل الأحوال لم يخرج عن منظومة الوطن.
أربعون عاماً وهو رفيق صباحاتنا..
ابتسامته تلون أيامنا..
ويذكي فينا في الأوقات الصعبة سراج الأمل..
ترجل أبو عمار يوم الخميس 28 رمضان 1425ﻫ الموافق 2004/11/11م عندما قام الإرهاب الإسرائيلي بتسميم دمه بشكل عجز الأطباء عن اكتشافه بعد حصار دام أكثر من ثلاث سنوات في ظروف لا إنسانية لا يمكن لأي شخص أن يتحملها.
وقد أكدت جميع المصادر الفلسطينية بأن الرئيس ياسر عرفات قد تعرض لسم (إشعاعي) تسلل إلى جسده عبر تقنية إسرائيلية معروفة ومجربة قبل ذلك.
فتقنية التسميم الإشعاعي التي احترفها جهاز المخابرات الصهيوني "الموساد"، وصلت إلى جسم الرئيس الفلسطيني عن بعد، ربما عن مسافة مترين أو ثلاثة أمتار، وربما كان أحد زواره من الصحفيين الغربيين أو عميلا للموساد الصهيوني قام بهذه المهمة.
كتبت الكثير من المقالات والدراسات التي تتسع لمجلدات ضخمة، عن القائد والرمز والمعلم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وقيل فيه الكثير، ولكن تبقى حقيقته البسيطة واضحة لأبناء شعبه وللعالم أجمع: فلقد ظل عرفات وفيا للثوابت التي أمن بها، كقضايا القدس واللاجئين والدولة، وكان مرنا إلى أقصى درجات المرونة في كل شيء إلا في تلك الثوابت.
أربعون عاما في رئاسة اللجنة المركزية لحركة فتح، وست وثلاثون عاماً على رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعشر سنوات على قمة هرم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.. خلال هذه المسيرة الطويلة، والتي تشكل بلا أدنى شك مرحلة مهمة من التاريخ الفلسطيني المعاصر، انفردت شخصية ياسر عرفات بنمط خاص في واحدة من أعقد الثورات المعاصرة، نمط قد لا يتكرر كثيرًا بطابعه وخصائصه ومفارقاته.. وإشكالياته.
الميلاد والنشأة
محمد عبد الرحمن عبد الرءوف القدوة الحسيني، هو الاسم الحقيقي للقائد الرمز ياسر عرفات، الذي اتخذ اسم "ياسر" وكنية "أبو عمار"، أثناء دراسته في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، إحياءً لذكرى مناضل فلسطيني قتل وهو يكافح الانتداب البريطاني
مكان ولادة عرفات ما زال محل خلاف، فهو يقول أنه من مواليد القدس في أغسطس "آب" 1929م، أما جميع من تتبعوا سيرة حياته، فيعتقدون أنه من مواليد مدينة القاهرة يوم 24 أغسطس "آب" 1929م.
وهو الابن السادس لأب كان يعمل في التجارة، وهاجر إلى القاهرة عام 1927م وعاش في حي السكاكيني، وعندما توفيت والدته وهو في الرابعة من عمره أرسله والده إلى القدس، وهناك بدأ وعيه يتفتح على أحداث ثورة 1936م.
في عام 1937م عاد مرة أخرى إلى القاهرة ليعيش مع عائلته، ثم التحق بكلية الهندسة في جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليا) حيث تخصص في دراسة الهندسة المدنية وتخرج فيها عام 1951م، وعمل بعدها في إحدى الشركات المصرية، وخلال فترة دراسته كون رابطة الخريجين الفلسطينيين التي كانت محط اهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام المصرية آنذاك، واشترك إلى جانب الجيش المصري في صد العدوان الثلاثي عام 1956م.
وباستثناء الخلاف حول مكان ولادته، لا يختلف أحد من المؤرخين على التاريخ النضالي المشرف لهذا الفلسطيني الذي حمل الهم الفلسطيني في قلبه وعلى كاهله، طوال أكثر من أربعة عقود.
بدأ عرفات حياته السياسية في مطلع حقبة الخمسينيات من القرن الماضي حينما شارك في عام 1952م عندما كان طالﺑا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة في تأسيس اتحاد طلبة فلسطين في مصر، وقد تولى رئاسة رابطة الخريجين الفلسطينيين بعد نجاح ثورة يوليو "تموز" بقيادة جمال عبد الناصر في الاستيلاء على السلطة.
ظهرت مواهبه منذ سنوات شبابه المبكر كناشط وزعيم سياسي، وقد انجذب في البداية لجماعة الأخوان المسلمين، لكنه سرعان ما اعتنق فكر الكفاح المسلح ضد إسرائيل عقب "نكبة" عام 1948م وقيام دولة إسرائيل فوق ما يزيد عن 70 بالمئة من مساحة فلسطين التي كانت خاضعة للحكم البريطاني
بعد انتصار ثورة الضباط الأحرار في مصر في 23 يوليو "تموز" 1952م بعث عرفات، عام 1953م خطابا إلى اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر حمل ثلاث كلمات فقط هي: "لا تنس فلسطين"، وقيل إن عرفات سطر الكلمات الثلاث بدمائه.
الثائر ياسر عرفات
تأسيس "فتح":
التحق القائد الرمز ياسر عرفات بالخدمة العسكرية في الجيش المصري، وشارك في التصدي للعدوان الثلاثي الإسرائيلي الفرنسي البريطاني على مصر في حرب السويس، وفي عام 1956م مُنح عرفات رتبة ملازم في الجيش المصري.
وفي 1958م شكل عرفات الذي كان وقتها يعمل مهندسا في الكويت مع مجموعة صغيرة من المغتربين الفلسطينيين الخلية الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وهي اختصار لحركة تحرير فلسطين التي تبنت الكفاح المسلح وسيلة لتحرير فلسطين، ومن أبرز الذين شاركوه تأسيس فتح: صلاح خلف "أبو إياد"، وخليل الوزير "أبو جهاد"، وعبد الله الدنان، ومحمود سويد، وعادل عبد الكريم.
وكشف عرفات في ما بعد عن قيامه في ذلك الوقت بجمع بنادق من مخلفات الحرب العالمية الثانية من الصحارى المصرية لتسليح حركته.
وفي 31 كانون الأول "ديسمبر" 1964م نفذت حركة فتح أول عملية مسلحة في الاراضي الإسرائيلية عبر محاولة نسف محطة مائية وقام عرفات شخصيا بتسليم بيان تبني العملية إلى صحيفة "النهار" اللبنانية.
وفي 28 أيار "مايو" 1964م تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية تحت رعاية مصر، وترأسها احمد الشقيري، واعتمدت المنظمة ميثاقا وطنيا يطالب بحق تقرير المصير للفلسطينيين ويرفض قيام دولة إسرائيل.
وفي حزيران "يونيو" 1967م انتقل عرفات إلى العمل السري تحت اسمه الحركي "أبو عمار"، وفي تموز "يوليو" من نفس العام توجه سرًا إلى الضفة الغربية المحتلة حيث أمضى أربعة أشهر قام خلالها بتنظيم خلايا حركة فتح.
وفي 4 شباط "فبراير" 1969م انتخب عرفات رئيسا للمنظمة التي أصبحت ممثلا للشعب الفلسطيني.
اكتسب عرفات أثناء خدمته بالجيش المصري خبرة في العمليات العسكرية واستخدام المتفجرات أهلته لقيادة الجناح العسكري لحركة فتح الذي عرف باسم "العاصفة"، وبدأ عملياته عام 1965م.
معركة الكرامة ورئاسة منظمة التحرير:
وفي تلك المرحلة بدأ نجم عرفات في البزوغ كزعيم سياسي فلسطيني ثائر، غير أن نجمه لمع أكثر في الأردن حيث كانت توجد أعداد كبيرة من الفلسطينيين الذين هجروا عام 1948م و1967م، فتوفر المناخ لعرفات كي يقوم بتدريب أفراد من قوات فتح التي عرفت باسم "العاصفة"، وهو ما شجعه في الأمد القريب على تنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف إسرائيلية من خلال التسلل عبر الحدود الأردنية إلى الأراضي المحتلة، أو من خلال استهداف الدوريات الإسرائيلية العاملة على الشريط الحدودي.
وقامت عناصر العاصفة بشن هجمات على إسرائيل من الأردن ولبنان وقطاع غزة الذي كان يخضع للحكم المصري.
وبعد حرب عام 1967م التي ألحقت فيها إسرائيل الهزيمة بالجيوش العربية، واستولت على القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء وهضبة الجولان، قامت جماعات المقاومة الفلسطينية بتكثيف أنشطتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يبق في ساحة القتال ضد إسرائيل سوى حركة فتح.
وقد اكتسب عرفات المزيد من الشهرة كقائد عسكري ميداني في عام 1968م عندما قاد قواته في القتال دفاعا عن بلدة "الكرامة" الأردنية أمام قوات إسرائيلية أكثر عددًا وأقوى تسلحا، وزرعت معركة الكرامة الإحساس بالتفاؤل بين الفلسطينيين، كما أدت لارتفاع راية قوى التحرر الوطني الفلسطينية بعد فشل الأنظمة العربية في التصدي لإسرائيل.
وبعد مضي عام على معركة الكرامة اختير عرفات رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أسستها جامعة الدول العربية عام 1965م خلفا ليحيى حمودة.
أيلول الأسود والانتقال إلى لبنان:
في العام 1970م هاجم الجيش الأردني القوات الفلسطينية في الأردن بعد أن خطف رجال المقاومة أربع طائرات ركاب إلى مطار في صحراء المملكة، ووقعت اشتباكات بين الطرفين أسفرت عن سقوط ضحايا من كلا الجانبين وعرفت بأحداث "أيلول الأسود"، وبعد وساطات عربية قررت المقاومة الفلسطينية في العام التالي الخروج من الأردن والانتقال إلى لبنان بعد أن نجحت مصر في إنقاذ عرفات من الموت المحقق في عمان وتهريبه سرًا إلى القاهرة حيث حضر القمة العربية في أيلول "سبتمبر" 1970م، فكانت أول قمة عربية تسلط فيها بقوة أضواء وفلاشات الكاميرات عليه.
ومع انتقال المنظمة إلى لبنان، واصل "الثائر" أبو عمار رحلة الكفاح المسلح، فشرع في ترتيب صفوف المقاومة معتمدًا على مخيمات اللاجئين، وفي السنوات التي أعقبت انتقال عرفات إلى بيروت نفذ مسلحون فلسطينيون ينتمون لفصائل مختلفة عمليات تفجير وخطف طائرات واغتيالات، من أشهرها عملية خطف وقتل 11 رياضيا إسرائيليا أثناء دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في ميونخ عام 1972م.
في 10 نيسان "أبريل" 1973م حاولت إسرائيل اغتيال ياسر عرفات، في بيروت، حيث قامت مجموعة إسرائيلية ضمت بين افرادها من أصبح لاحقا رئيسا لوزراء إسرائيل إيهود باراك، وقد تمكنت المجموعة من اغتيال ثلاثة من مساعدي عرفات وهم القادة أبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر ولكنها لم تعثر على عرفات، وأكد مقربون منه أن "معجزة سمحت له بالبقاء بعيدًا"، وفي الواقع لم يكن عرفات يمضي أكثر من بضع ساعات تحت سقف واحد وقد لف تحركاته بتكتم مطلق.
وقد شنت قوات الاحتلال الصهيوني هجمات عنيفة على قواعد المقاومة الفلسطينية في لبنان في الفترة بين عامي 1978م و1982م، حيث دمرت عام 1978م بعض قواعد المقاومة وأقامت شريطا حدوديا بعمق يتراوح بين أربعة وستة كيلومترات أطلقت عليه اسم الحزام الأمني.
غصن الزيتون والبندقية:
وفي 29 تشرين الأول "أكتوبر" 1974م أعلنت القمة العربية في الرباط منظمة التحرير "الممثل الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني.
وفي 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م تحدث عرفات للمرة الأولى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قائلا:
"أتيت إلى هنا حاملا غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى.. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي".
ومُنحت منظمة التحرير الفلسطينية صفة مراقب في المنظمة الدولية.
وفي نيسان "أبريل" 1975م، مع اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، وقف عرفات في صف القوى التقدمية اللبنانية.
وفي حزيران "يونيو" 1980م أصدرت السوق الاوروبية المشتركة "إعلان البندقية" الذي يطالب بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في أي مفاوضات لاحلال السلام.
وخاضت المقاومة الفلسطينية الكفاح من لبنان ضد الكيان الإسرائيلي، ونتيجة لنجاح المقاومة الفلسطينية في حقبة السبعينيات في تسديد ضربات موجعة للاحتلال قررت إسرائيل شن هجوم على قواعد المقاومة والقضاء عليها وهو ما توج بغزو بيروت عام 1982م.
برنامج النقاط العشرة:
الانعطاف الكبير الأول في مسيرة منظمة التحرير بقيادة عرفات كان في المجلس الوطني الثاني عشر في القاهرة في حزيران "يونيو" 1974م حيث تم التخلي لأول مرة عن التحرير الكامل من البحر إلى النهر والدعوة إلى إقامة (سلطة) وطنية على جزء من أرض فلسطين، خلافا لما ورد في نصوص الميثاق الفلسطيني ومقرراته في الدورة الحادية عشر عام 1972م للمجلس الوطني الفلسطيني حيث طرحت مشاريع التسوية السياسية.. وقوبلت برفض قاطع وحازم لا يقبل المناورة أو حتى التأويل، بل إن المجلس الوطني الفلسطيني قد ذهب إلي أبعد من ذلك فقد جرى التأكيد بنص مكتوب وملزم للجميع يحرم على كل الأجيال الفلسطينية حتى الأجيال التي لم تولد بعدم الاقتراب أو المساس بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.. وكانت صياغة النص والتحذير على النحو التالي: "لا يحق لأية جهة من أي جيل من أجيال الشعب، مهما تألبت عليه الظروف أن تتنازل عن أي حق من حقوقه الثابتة والطبيعية".
وهيأ هذا الانعطاف السبيل لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني (1988م) في الجزائر والتي أعلنت قرار الاستقلال والموافقة على القرار الأممي 242.
خطاب عرفات في الأمم المتحدة:
ألقى ياسر عرفات خطابا تاريخيا مهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م أكد فيه أن القضية الفلسطينية تدخل ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني من الاستعمار والاضطهاد، واستعرض الممارسات الصهيونية العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وناشد ممثلي الحكومات والشعوب مساندة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى دياره، وفي ختام كلمته قال:
"إنني جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين".
ويشكل هذا الخطاب بداية التحول إلى مفهوم إقامة الدولة والعمل السياسي لأجل ذلك بدلاً من سياسة التحرير والكفاح المسلح.
من لبنان إلى تونس:
بعد اجتياح بيروت عام 1982م، وفرض إسرائيل حصارًا لمدة 10 أسابيع على المقاومة الفلسطينية اكتسب خلالها عرفات احترام شعبه بصموده وشجاعته، وقد وافق في 30 آب "أغسطس" 1982م على الخروج من لبنان تحت الحماية الدولية ومن ثم الانتقال إلى تونس التي شكلت المعقل الأخير لمنظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 1994م.
كانت المحطة الثالثة للمقاومة الفلسطينية بعد عمان وبيروت في تونس بعيدًا عن خطوط التماس، وبالرغم من بعد المسافة بين تونس والأراضي الفلسطينية إلا أن يد جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) طالت أبرز العناصر الفاعلة في المنظمة، إذ اغتيل خليل الوزير "أبو جهاد" (1988م)، وصلاح خلف "أبو إياد" و هايل عبد الحميد "أبو الهول" (1991م)، وتميزت تلك الفترة بمحاولات عرفات الدؤوبة للمحافظة على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية واستمرار قيادته لها.
وحاولت إسرائيل اغتيال عرفات ثانية بعد انتقاله إلى تونس، وقد تعرض مقره هناك في الأول من تشرين الأول "أكتوبر" 1985م لقصف الطيران الإسرائيلي، ودمر بشكل شبه كامل في غارة أدت إلى مقتل 70 شخصا، وكان عرفات في طريقه إلى مكتبه وولكنه عاد أدراجه مع بداية الغارة.
وتعرض عرفات طوال مسيرة قيادته لحركة فتح والمنظمة للكثير من حركات التمرد ضده وكان أبرزها خلال فترة تواجد المنظمة في لبنان، حيث انشق عنه عدد من قادة الحركة ومن أبرزهم أبو موسى وأبو صالح وأبو نضال، إلا أن دهاءه السياسي مكنه من تجاوز كل هذه الانشقاقات فظل متماسكا ومسيطرًا على المنظمة وعلى فتح.
وفي تونس واصل ياسر عرفات تكوين شخصية الزعيم السياسي الذي يتبنى الحل السلمي، وكانت ارهاصات هذا التوجه قد تجلت عمليا في الخطاب الذي ألقاه عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 13 تشرين الثاني "نوفمبر" 1974م والذي قال فيه: "إنني جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين".
الجزائر.. إعلان الدولة:
وكان لاندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المباركة الأولى في كانون الأول "ديسمبر" 1987م ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتعرض الفلسطينيين فيها للقمع والقتل أثره في حصول القضية الفلسطينية على تعاطف دولي، استثمره عرفات بحنكته السياسية لتحريك عملية السلام حيث دفع المجلس الوطني الفلسطيني بدورته المنعقدة في الجزائر في 15 تشرين الثاني "نوفمبر" 1988م إلى تبني قرار مجلس الأمن الدولي 242 معترفا بذلك ضمنا بإسرائيل، وفي الوقت ذاته أعلن المجلس قرار اقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة وغزة، وتلا عرفات إعلان استقلال الدولة الفلسطينية.
وفي نيسان "أبريل" 1989م كلف المجلس المركزي الفلسطيني عرفات برئاسة الدولة الفلسطينية، وفي 2 أيار "مايو" 1989م خلال زيارة رسمية إلى باريس كانت أول تكريس لعلاقات دبلوماسية مع دولة غربية أعلن ياسر عرفات أن الميثاق الوطني الفلسطيني أصبح "لاغيا".
في عام 1990م وبعد اجتياح القوات العراقية للكويت اتخذ عرفات موقفا ﻓسر بأنه مؤيد لخطوة الرئيس العراقي - آنذاك- صدام حسين، مما انعكس سلبيا على القضية الفلسطينية، وتوقف دعم دول الخليج للقضية الفلسطينية.
وفي 1991م في أوج أزمة الخليج انقلبت سيارة عرفات عدة مرات على الطريق بين عمان وبغداد، وبعدها في كانون الثاني "يناير" 1992م تزوج عرفات من مساعدته سهى الطويل (28 عاماً)، وبعد شهرين في نيسان "أبريل" 1992م، تحطمت طائرته في الصحراء الليبية، وقيل حينذاك أنه قتل في الحادث ولكنه ظهر من جديد بعد ساعات من الحادث.
أوسلو.. غزة وأريحا:
وبعد انتهاء حرب الخليج كان هناك إجماع دولي على ضرورة العمل من أجل تسوية القضية الفلسطينية دعما للاستقرار في الشرق الأوسط.
ولدفع عملية السلام أعلن عرفات أوائل عام 1990م أنه يجري اتصالات سرية مع القادة الإسرائيليين بهذا الخصوص، وفي عام 1991م عقد مؤتمر السلام في مدريد تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.
وفي 13 أيلول "سبتمبر" 1993م بعد ستة أشهر من المفاوضات السرية في اوسلو وقع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في واشنطن اتفاق أوسلو الذي جعل أضواء الإعلام الغربي تسلط عليه بكثافة، كما كان نقطة تحول بارزة في القضية الفلسطينية، وقد وقع الطرفان على "إعلان مبادئ"، هو عبارة عن اتفاق سمح للفلسطينيين بممارسة الحكم الذاتي في قطاع غزة ومدينة أريحا بالضفة الغربية مقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل.
لكن لم تحسم عدة قضايا شائكة وأبرزها مستقبل المستوطنات المقامة على أراض محتلة، ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك مدنهم وقراهم بعد حرب عام 1948م، والوضع النهائي لمدينة القدس.
وفي 1 تموز "يوليو" 1994م خرجت غزة عن بكرة أبيها لاستقبال عرفات والعائدين معه من "ثوار فتح" بحفاوة كبرى بعد 27 عاماً قضاها في المنفى، واتخذ عرفات من غزة مقرًا لقيادته.
وقد بدأ عرفات فور عودته إلى غزة مسيرة سلام مرت بصعوبات بالغة، وفي نفس السنة فاز بجائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وشمعون بيريز.
وفي 1995/9/28م وقع عرفات ورابين بواشنطن على اتفاقية الوضع المؤقت التي مهدت الطريق لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية "اتفاقية طابا"، وقد اغتيل رابين إثر ذلك في الرابع من تشرين الثاني "نوفمبر" من عام 1995م بأيدي متطرف إسرائيلي، وهو ما شكل انتكاسة لعملية السلام، وواجه عرفات تحديا ضخما تمثل في السعي للحفاظ على التزام الفلسطينيين والإسرائيليين بما أطلق عليه "سلام الشجعان".
شرع عرفات لدى وصوله إلى غزة في تأسيس السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المختلفة، وعمل على إعادة تأهيل بعض المؤسسات وتدريب أفراد من الشرطة والجيش للحفاظ على الأمن مبشرًا شعبه بقرب تحقيق حلم التحرير والصلاة في المسجد الأقصى.
رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية:
وفي 20 كانون الثاني "يناير" 1996م انتخب عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية في انتخابات ظل يفتخر دوما بأنها كانت حرة وشفافة في منطقة نادرًا ما تشهد مثلها.
في 15 كانون الثاني "يناير" 1997م وقع الفلسطينيون برئاسة عرفات اتفاقية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لتسلم معظم مدينة الخليل والذي تعطل كثيرًا بعد ذلك أصيبت عملية السلام بالجمود.
وفي 23 تشرين الأول "أكتوبر" 1998م وقع عرفات ونتانياهو على اتفاقية واي ريفر لانسحاب إسرائيلي تدريجي من الضفة الغربية، والتي جمدها نتنياهو بعد شهرين زاعما أن عرفات لم ينفذ شروطا أمنية.
في 5 أيلول "سبتمبر" 1999م وقع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في شرم الشيخ في مصر اتفاقا يفتح الطريق أمام مفاوضات حول تسوية سلمية نهائية بين إسرائيل والفلسطينيين، ويحدد الاتفاق شهر أيلول "سبتمبر" عام 2000م موعدًا لتوقيع معاهدة سلام دائمة.
فشل كامب ديفيد وإنتفاضة الأقصى:
وشهد منتجع كامب ديفيد في 25 تموز "يوليو" 2000م حيث شارك عرفات في قمة ثلاثية جمعته ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وصول عملية السلام إلى طريقها المسدود، إلا أن رفض أبو عمار تقديم تنازلات لإسرائيل في قضايا تتعلق بالوضع النهائي للأراضي الفلسطينية ومن بينها القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين أعاد إليه مرة أخرى قدرًا من شعبيته بين الفلسطينيين.
غير أن اصطدام السلطة بالمواقف الإسرائيلية المتعنتة أدى إلى انحسار التأييد الشعبي لمشروع السلطة الفلسطينية وقيادتها الممثلة في شخص عرفات، وساهم في ذلك الانحسار قيام السلطة الفلسطينية بملاحقة نشطاء فصائل المقاومة خاصة الإسلامية منها تنفيذًا لاستحقاقات الاتفاقيات التي وقعتها مع إسرائيل، فتوالت على عرفات الاتهامات بأنه أصبح أداة في يد الاحتلال لقمع المقاومة الفلسطينية، كما تزامن مع ذلك بداية الحديث المتصاعد عن فساد السلطة وتراخي رئيسها في مواجهته.
وبحلول عام 2000م توقفت تماما عملية السلام، واشتعلت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المباركة الثانية "انتفاضة الأقصى" في 29 أيلول "سبتمبر" 2000م بعد الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم المعارضة في ذلك الحين أرييل شارون للحرم القدسي في ظل تنامي الحديث عن "هيكل سليمان" المزعوم والحفريات التي تتم تحت المسجد الأقصى والخوف المتزايد من إلحاق الضرر به، وكرد فلسطيني على مسيرة أوسلو وسنواتها العجاف.
وقد تعامل إيهود باراك رئيس الحكومة الصهيونية السابق بعنف مع هذه الانتفاضة ولم يستطع إخمادها.
إثر ذلك استقالت حكومة باراك في إسرائيل، وتولى السلطة أرييل شارون، زعيم اليمين المتطرف الذي عمل منذ توليه لمنصبه على تنفيذ مخططه الهادف إلى تدمير السلطة الفلسطينية.
وفي عهد أرييل شارون - الذي اختاره الناخب الصهيوني لتحقيق الأمن بعد أن عجز باراك عن تحقيقه- استمرت بل تصاعدت أعمال الانتفاضة والمقاومة.
وساءت علاقات أبو عمار بالولايات المتحدة الأميركية التي تبنت وجهة النظر الصهيونية باعتباره متكاسلا عن اتخاذ ما يجب من إجراءات لوقف ما تسميه "الإرهاب" رغم كل ما فعله لقمع المقاومة وملاحقة المجاهدين لاسيما في الأعوام (1996- 2000م)، وتعالت الأصوات داخل الحكومة الصهيونية الداعية إلى طرد عرفات أو تصفيته جسديا أو اعتقاله ومحاكمته، وأعادت القوات الأسرائيلية في 29 آذار "مارس" 2002م احتلال أغلب مدن وقرى الضفة الغربية، وفرض شارون حصارًا محكما على ياسر عرفات في مقره برام الله إلى أن خرج بعد تدهور حالته الصحية متوجﻫا إلى العاصمة الفرنسية باريس لتلقي العلاج في مستشفى "بارسي" العسكري.
مجرم الحرب شارون:
وفي 3 كانون الأول "ديسمبر" 2001م قامت الحكومة الإسرائيلية بقيادة آرييل شارون، خصم عرفات القديم واللدود بفرض حصار عسكري عليه داخل مقره بمدينة رام الله بالضفة الغربية بمساندة أمريكية، فكان أن حظي عرفات مرة أخرى بتعاطف كبير من جانب الشارع الفلسطيني في مواجهة الأصوات الإسرائيلية المتعالية والمطالبة بطرده أو تصفيته، فعاد الرمز الفلسطيني مرة أخرى للواجهة بقوة.
وفي 29 آذار "مارس" 2002م: غداة عملية استشهادية نفذتها المقاومة الفلسطينية وختام القمة العربية في بيروت التي حُرم عرفات من حضورها، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي أوسع هجوم له في الضفة الغربية منذ حزيران "يونيو" 1967م ودمر الجزء الأكبر من مقر عرفات الذي بقي في المبنى الذي يضم مكاتبه تطوقه الدبابات الإسرائيلية.
وقد بقي على هذا الحال حتى ليلة الثاني من أيار "مايو" حين رفع جيش الاحتلال الإسرائيلي الحصار عنه.
***
وفيما يلي أبرز احداث الحصار
عام 2001م:
8 كانون الأول "ديسمبر": إسرائيل تعلن انها تحتفظ لنفسها بحق منع عرفات من مغادرة رام الله للتوجه الى الخارج.
13 كانون الأول " ديسمبر": إسرائيل تمنع الرئيس الفلسطيني من مغادرة رام الله وتنشر دبابات على بعد 200 متر من مقره العام، ودمرت الطائرات الاسرائيلية محطة البث التلفزيوني والاذاعة الفلسطينية القريبة من مكاتب عرفات.
24 كانون الأول "ديسمبر": إسرائيل تمنع عرفات من التوجه الى بيت لحم لحضور القداس بمناسبة عيد الميلاد.
عام 2002م:
2 كانون الثاني "يناير": رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون يعلن ان عرفات سيبقى في رام الله ما لم يوقف الذين قتلوا وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي في تشرين الأول من العام الماضي.
5 كانون الثاني "يناير": إسرائيل تؤكد مجددا معارضتها لزيارة عرفات الى بيت لحم للمشاركة في عيد الميلاد الارثوذكسي.
3 شباط "فبراير": 300 من الاسرائيليين اليهود والعرب يلتقون الرئيس الفلسطيني في رام الله لادانة الاحتلال الاسرائيلي.
14 شباط "فبراير": وزير الخارجية البريطاني جاك سترو يدعو عرفات في لقاء طويل في رام الله، الى وقف "العنف".
16 شباط "فبراير": وزير الخارجية الالماني يوشكا فيشر يجري محادثات مع عرفات.
19 شباط "فبراير": لقاء بين عرفات ووزير الخارجية الاردني مروان المعشر.
25 شباط "فبراير ": الدبابات الاسرائيلية تنسحب من القطاع المحيط بمكاتب عرفات طبقا لقرار اتخذته الحكومة الاسرائيلية.
9 آذار "مارس": وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني يقوم بزيارة "تضامنية" مع عرفات.
15 آذار "مارس": المبعوث الأمريكي أنطوني زيني يجري محادثات مع عرفات في رام الله التي انسحبت منها القوات الاسرائيلية بعد ان اعادت احتلالها لساعات.
19 آذار "مارس": شارون يصرح ان عرفات يستطيع ان يغادر الاراضي الفلسطينية "فور تطبيق خطة تينيت" لوقف اطلاق النار.
26 آذار "مارس": إسرائيل تمنع عرفات من التوجه الى بيروت للمشاركة في القمة العربية.
29 آذار "مارس": بدء العملية العسكرية الاسرائيلية "السور الواقي" في الضفة الغربية، جيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل رام الله ويطوق مقر عرفات ويدمر كل المباني باستثناء مكاتبه.
31 آذار "مارس": حوالي اربعين من دعاة السلام الغربيين يشكلون "درعاً بشرية" حماية لعرفات، واسرائيل تعلن رام الله "منطقة عسكرية مغلقة".
2 نيسان "أبريل": جيش الاحتلال الإسرائيلي يستولي على مقر جهاز الامن الوقائي الفلسطيني في رام الله، وشارون يقترح على عرفات "رحلة ذهاب" فقط الى الخارج، وعرفات يرفض الاقتراح.
4 نيسان "أبريل": شارون يعارض لقاء بعثة اوروبية مع عرفات.
13 نيسان "أبريل": عرفات يدين باسمه وباسم القيادة الفلسطينية "كل الاعمال الارهابية التي تستهدف مدنيين سواء كانوا اسرائيليين او فلسطينيين، والارهاب سواء مارسته دولة او مجموعات او افراد".
14 نيسان "أبريل": وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يجري محادثات في رام الله مع عرفات ثم مع شارون.
17 نيسان "أبريل": لقاء ثان بين عرفات وباول.
21 نيسان "أبريل": آرييل شارون يعلن انتهاء المرحلة الاولى من عملية "السور الواقي" بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من نابلس والجزء الاكبر من رام الله.
25 نيسان "أبريل": محكمة عسكرية تعقد جلسة في مقر عرفات وتصدر احكاما بالسجن لمدد تتراوح بين عام و18 عاما على المتهمين باغتيال وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي، وشارون يطالب بتسليمهم لاسرائيل.
28 نيسان "أبريل": وفد أمريكي يقوده قنصل الولايات المتحدة في القدس رونالد شلايكر يلتقي عرفات في رام الله، والإسرائيليون والفلسطينيون يوافقون على اقتراح أمريكي يقضي بان يرفع جيش الاحتلال الإسرائيلي الحصار المفروض على عرفات شرط سجن المتهمين باغتيال زئيفي واثنين آخرين من الفلسطينيين تطالب بهما اسرائيل تحت حراسة أمريكيين وبريطانيين في سجن اريحا.
30 نيسان "أبريل": الخبراء الأمريكيون والبريطانيون يقومون مع السلطات الفلسطينية بتسوية التفاصيل التقنية لرفع الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني "خلال 24 ساعة".
1 أيار "مايو": قنصلا بريطانيا والولايات المتحدة يباشران ممحادثات مع عرفات حول طرق نقل الفلسطينيين الستة، وفي اليوم نفسه تم نقل هؤلاء الفلسطينيين الى سجن فلسطيني في اريحا باشراف أمريكي وبريطاني.
2 أيار "مايو": جيش الاحتلال الإسرائيلي يغادر موقع مقر الرئيس الفلسطيني.
انهيار السلطة.. تدهور حالة الرئيس:
خلال فترة الحصار تلك أعادت إسرائيل احتلال أغلب مدن وقرى الضفة الغربية، وبعد ضغوط دولية تعهد شارون بعدم استهداف عرفات أثناء تنفيذ العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي زعمت حكومة شارون إنها تهدف للقضاء على ما اسمته "البنية التحتية للإرهاب"، بينما وصفها الفلسطينيون بأنها "جرائم حرب" و"إرهاب دولة".
لكن التهديدات استمرت من قبل بعض المسؤولين الإسرائيليين بإبعاد عرفات وحتى بقتله.
وفي 2003/9/11م اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارًا أطلقت عليه صفة "مبدأي"، بإبعاد الرئيس ياسر عرفات عن أرض الوطن، ولم تنفذ إسرائيل هذا القرار فعليا، إلا أنها لوحت به بعد كل عملية استشهادية.
وكان رد فعل عرفات للحصار الإسرائيلي إعلانه أنه "يتوق للشهادة التي سبقته إليها أعداد كبيرة من أبناء شعبه".
وخلال هذه الفترة اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة على عزل الرئيس ياسر عرفات واعتباره "غير ذي صلة"، وسعت واشنطن إلى فرض تعيين رئيس وزراء فلسطيني على أمل أن تتعامل معه في القضايا الفلسطينية وتجاوز عرفات، وفي 19 آذار "مارس" 2003م عين عرفات أمين سر منظمة التحرير محمود عباس رئيسا للوزراء تحت ضغوط دولية للتنازل عن بعض سلطاته، لكنه رفض التخلي عن سيطرته على القوات الأمنية فاستقال عباس في 6 آيلول "سبتمبر" 2003م، وتم تعيين أحمد قريع خلفا له في 7 تشرين الثاني "أكتوبر" من نفس العام.
وفي 30 نيسان "أبريل" 2003م أيضا صادق الفلسطينيون على خطة خارطة الطريق المدعومة من الولايات المتحدة، هو الاسم الذي أطلق على مبادرة سلام في الشرق الأوسط هدفها البدء فمحادثات لتوصل إلى حل نهائي لتسوية سلمية من خلال إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005م، إلا أن إسرائيل رفضت تطبيق الخارطة رغم زعما تبنيها لها، ورفضت إسرائيل إجراء أي مفاوضات مع عرفات أو مواصلة الاتصالات بينها وبين القيادة الفلسطينية، بل سعت إلى فرض المقاطعة الدولية على عرفات بحيث أعلنت رفضها استقبال أي مسؤول دولي يقوم بجولة في المنطقة، ويزور عرفات.
وبعد انتخاب شارون لرئاسة الحكومة الأسرائيلية في دورة ثانية، بدأ تكثيف العمل في إقامة جدار الفصل العنصري على أراضي الضفة الغربية، رافضا الانصياع إلى مقررات الأمم المتحدة التي اعتبرت الجدار عملا غير مشروع ومخالﻓا للقانون الدولي، وبدأ شارون في العام 2003م التحدث عن خطة الفصل الأحادي الجانب، المعروفة باسم "فك الارتباط" مع قطاع غزة وشمال الضفة الغربية والتي أصر على تنفيذها من جانب واحد دون أي اتفاق مع الفلسطينيين، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي على هذه الخطة، قبل يوم واحد من تدهور صحة الرئيس الفلسطيني عرفات ونقله بعد يومين تقريبا إلى باريس، حيث حاول الاطباء تحسين وضعه الصحي وإنقاذ حياته في مستشفى بيرسي العسكري.
في 2003/9/11م اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بإبعاد الرئيس ياسر عرفات عن أرض الوطن.
وفيما يلي أقوال الرئيس ياسر عرفات رداً على هذا القرار:
- قال عرفات مخاطباً الجماهير الحاشدة التي أمت مقر الرئاسة في رام الله دعماً وتأييداً رداً على قرار الحكومة الإسرائيلية بإبعاده:
"يا أخوتي يا أحبتي، إن هذا الشعب شعب الجبارين، شعب الشهيد فارس عودة، شعب الجبارين لا ينحني، لا ينحني إلا لله".
وتابع:
"عندما هددوا بتفجير هذا المقر في الحصار السابق، وأجرينا اتصالات هنا وهناك لم يفعلوا شيئاً، وإنما خرجت النساء وخرج الشيوخ والأطفال والرجال من رفحغراد إلى جنينغراد، وقرعوا الطناجر محتجين على الحصار، والآن أقول للحكومة الإسرائيلية هذا هو الرد على قراركم، المسيرات التي انطلقت من جنينغراد إلى رفحغراد وغزة وخانيونس وبيت حانون ونابلس وطولكرم وقلقيلية والخليل "يا جبل ما يهزك ريح".
- قال عرفات للصحافيين أمام مقره في رام الله إن أحداً لن يستطيع إخراجه من بلاده، وإن إسرائيل يمكنها قتله بما لديها من قنابل ولكنه لن يرحل، ودعا لجنة الوساطة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى سرعة التحرك لحماية السلام وخطة السلام المعروفة باسم خارطة الطريق.
- وجه عرفات التحية لأنصار السلام والاسرائيليين المدافعين عن السلام، الذين ارتفعت أصواتهم بقوة وصلابة معنا.
- قال عرفات خلال كلمة وجهها عبر الهاتف إلى الجماهير المحتشدة في مخيم الرشيدية في جنوب لبنان، من القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية:
"يا أخوتي يا أحبتي في لبنان وشعب لبنان، وأخوتي الأحبة الفلسطينيين في لبنان، أحييكم تحية من عند الله مباركة وأشد على أياديكم وأقول لكم وأقول للعالم أجمع من خلالكم إن هذا الشعب اللبناني البطل والشعب الفلسطيني البطل من الذين تصدوا ولا زالوا يتصدون لهذا العدو الذي يريد أن يسطر بدمائنا أحلامه الصهيونية، ولكننا نقول له وللعالم أجمع يا جبل ما يهزك ريح".
وقال:
"نعم يا أخوتي يا أحبتي إنني من هذا الحصار لشعبنا ولي شخصياً، وهذه المحاولات الإسرائيلية التي تحاول أن تركع شعبنا فإنني أقول باسمكم لبنانيين وفلسطينيين وعرب إننا لن نركع إلا لله تعالى".
- قال عرفات في كلمة له عبر "راديو الأحلام" مخاطباً أهالي جنين الذين جددوا بيعتهم وثقتهم بقيادته:
"أحبتي وأهلي المرابطين في لينينغراد.. في جنين القسام.. يا رجالنا ونساءنا وأشبالنا وزهراتنا في مخيم جنين، قلعة البطولة والصمود والتحدي ليس أحب إلى عقلي وقلبي من التحدث إليكم في هذا المعترك المصيري الذي يخوضه كل الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل حماية المقدسات المسيحية والاسلامية في أرض الرباط الأرض المباركة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى نبينا محمد صلوات الله عليه وسلم، ومهد ورفعة سيدنا المسيح عليه السلام".
وقال:
"إن حياتنا أيها الأحبة الأطفال ليست أعز علينا من حياة أي طفل أو شاب أو رجل أو إمرأة، وليست أحب ولا أعز من حياة فارس عودة الذي رفع علم فلسطين عالياً ثم سقط شهيد الوطن والحرية والاستقلال، قدرنا أن نضحي في سبيل فلسطين ومقدساتها وكرامتها وقدسها الشريف ومستقبل الأجيال، ونضحي اليوم من أجل وطن حر عزيز مستقل".
- قال عرفات في كلمة وجهها لاجتماع عقده المجلس الوطني الفلسطيني في مقره بنابلس في 2003/9/16م رداً على القرار الإسرائيلي القاضي بإبعاده والدعوات المطالبة بتصفيته: "إن حياتي ليست هي القضية، بل حياة الوطن والقدس مسرى الرسول ومهد المسيح.. هذه هي القضية الكبرى التي قدم الشعب الفلسطيني من أجلها التضحيات.. قدم التضحيات من أجل عودة الأرض والمقدسات".
- قال عرفات في مقابلة مع إذاعة رويترز وهو يشير إلى سلاحه داخل مكتبه في رام الله: "أنا جندي فلسطيني، وقبلها كنت ضابط احتياط في الجيش المصري، وأنا لا أدافع عن نفسي فقط بل وأيضاً عن كل شبل وطفل وإمرأة ورجل فلسطيني وعن القرار الفلسطيني".
وقال:
"هل هناك أحد في فلسطين لا يتمنى الشهادة، كلنا مشاريع شهادة، فالقصف الإسرائيلي متواصل من الطائرات والمدفعيات والصواريخ، ويومياً يسقط شهداء كل يوم نسمع عن شهيد".
وحول الفيتو التي استخدمته الولايات المتحدة ضد قرار تقدمت به دول عربية تطالب بمنع إسرائيل من ابعاد الرئيس عرفات قال الرئيس عرفات:
"هذا ليس أول فيتو ولن يكون الأخير، أهم شيء هو موقف هذه الجماهير الفلسطينية والعربية والدولية".
وتابع:
"أولاً هذا التحدي ليس لي، إنما لأمتنا العربية والاسلامية وتحدي للقمة الأفريقية ولدول عدم الانحياز، وتحدي لأمريكا لأنه بوش الأب - الرئيس الأمريكي السابق- هو من عمل على اتفاق الأرض مقابل السلام".
قال عرفات في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت في 2003/11/17م:
"شارون يريد قتلي؟ مسدسي جاهز".
"لا ريب أن قرار الحكومة الإسرائيلية كان بلا أي منطق أو عقل".
"فقد اعترف شارون نفسه أنه حاول قتلي 17 مرة في بيروت، ولكن ها أنا هنا، أجلس والمسدس إلى جانبي، متى لم أكن جاهزاً؟ أنتم لا تعرفونني؟؟!!"
"تفضلوا، تطبيق الخطة نحن وأنتم، نجلب إلى المنطقة مراقبين أو قوة دولية، هكذا اتفق في خارطة الطريق، هكذا نوقف الدم".
".. ساعدونا على تحقيق الهدنة".. "كفوا عن الاجتياحات، التصفيات، وهدم المنازل". - قال عرفات، في كلمة عبر الهاتف لأعضاء المهرجان الذي يمثل الكونغرس الفلسطيني الأمريكي المنعقد في الولايات المتحدة:
"إن الشعب الفلسطيني الذي يواجه هذا العدوان الإسرائيلي اليومي ضد مقدساته الاسلامية والمسيحية، وضد مدنه وقراه ومخيماته وبنيته التحتية واقتصاده ومدارسه ومستشفياته صامد ومرابط حتى تحقيق الأهداف الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، نحن متمسكون بسلام الشجعان الذي وقعته مع شريكي الراحل اسحق رابين الذي دفع حياته عندما اغتالته العناصر المتطرفة التي تحكم الآن إسرائيل..".
- تحدث عرفات عبر الهاتف مخاطباً الجماهير المحتشدة أمام الكنيسة في بيت ساحور قائلاً:
"أحييكم على هذه الهبة الجماهيرية في وجه ما يحاك ضد شعبنا ومقدساتنا ووطنا، ونرفض هذه الهجمة الإسرائيلية التي لا مثيل لها… مدعومة من دولة عظمى، مما يؤكد أنهم لا يريدون سلاماً وإنما استسلاماً، ونحن نقول لهم إن شعب الجبارين لن يركع إلا لله تعالى، ولن يستسلم أبداً، بل إننا صامدون وسنمضي قدماً للدفاع عن وجودنا ومقدساتنا وأرضنا وحقوق شعبنا حتى نقيم دولتنا الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".
- وصف عرفات قرار الأمم المتحدة الذي يطالب إسرائيل بسحب تهديدها بإبعاد سيادته أو إيذائه بأنه "بمنتهى الأهمية".
وشكر عرفات في تصريحات للصحفيين عقب انتهاء مسيرة جماهيرية حاشدة أمام مقر الرئاسة في رام الله للتضامن معه جميع الدول التي صوتت لصالح القرار، معتبراً ذلك دلالة على الموقف الدولي الصديق والشقيق الذي يقفونه مع الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت الاحتلال العنصري الذي لا يحترم الانسانية والديانات المسيحية والاسلامية.
وأضاف:
"أن هذا التصويت بالأغلبية “133” دولة يعني أنهم يقولون لمن يحتلون هذه الأرض المقدسة إنها أرض فلسطينية، مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومهد ورفعة سيدنا المسيح عليه السلام".
وأكد عفات:
"أنه لا يخيفنا قرار ولا حصار وقتال، لأننا ندافع عن ما هو أغلى من أنفسنا وهو التراث التاريخي والحضاري لشعب الجبارين، ونقول للعالم أجمع معاً وسوياً وجنباً إلى جنب حتى القدس الشريف".
- قال عرفات مخاطباً أعضاء المجلس الوطني في قطاع غزة:
"إن القضية ليست قضية “أبو عمار” إنما قضية حياة الوطن واستقلاله وكرامة هذا الشعب وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ولن ننحني إلا لله سبحانه وتعالى، كما لن ننحني أمام التهديد والوعيد، فحياتي ليست أغلى من حياة أي طفل فلسطيني، وهي ليست أغلى من حياة الشهيد الطفل فارس عودة، فكلنا فداءً للوطن الغالي فلسطين الأرض المباركة".
عرفات.. الرمز: لم يكن القائد والمعلم والرمز ياسر عرفات "أبو عمار" خطيﺑا مفوﻫا بمنظار الفصاحة والبيان، لكنه كان يجيد لفت الأنظار إذا ما اعتلى المنصة ليرتجل كلمة يختلط فيها ما هو فصيح بما هو عامي في لكنة فلسطينية مصرية مختلطة، وقد حاول عبر أدائه الخطابي المعهود عنه أن يبدو تلقائيا وغير متكلف.
كما اشتهر بقدرته العالية على التكتيك في مواجهة خصومه حتى إن كان هذا التكتيك يضرب المفاصل الاستراتيجية.
وقدعُرف عنه - رحمه الله- بالتزامه ببرنامج عمل يومي لا يكاد يتيح متسعا للرقود أو الراحة، حتى إنه كاد أن يصل الليل بالنهار في برنامج عمل مكتبي.
وبغض النظر عن الممارسة السياسية المتأرجحة بين محطة وأخرى، لم تكن مهارات "أبي عمار" الشخصية تتوقف عند هذا الحد، فقد برع في مراكمة الكاريزما، موظﻓا ورقة "الشرعية النضالية" في هذا الاتجاه، بينما جاء وصف "القائد الرمز" الذي عممته الآلة الدعائية لحركة فتح ليصب في تعظيم الهالة الرمزية للرجل الأول والمركزي في الحركة ومنظمة التحرير.
ولا يمكن تصور الحضور الكاريزمي لعرفات بدون جملة من الخصائص الشكلية التي تشبث بها هو شخصيا وآتت مفعولاً مثيرًا للانتباه، إذ لم يتخل عرفات عن كوفيته إطلاقا إلا لحساب خيارات مؤقتة تلائم الظرف كارتداء قبعة عسكرية في حصار بيروت 1982م، أو قبعة الفراء الشهيرة في سنوات التنقل بين العواصم العربية والغربية، والتي كان يحرص على أن يعتمرها بشكل خاص في زياراته إلى موسكو وفق أدبيات منظمة التحرير، إلا أنه لم يضعها أيضا أثناء خروجه للعلاج إلى باريس في مرضه الأخير.
ولا يمكن على أي حال تقليل مفعول الكوفية في تعميم "علامة ثورية" خاصة بعرفات، إذ سرعان ما أصبحت دلالة رمزية على مسيرة الكفاح الفلسطيني الحديث، وازدادت فعالية ذلك مع حرص عرفات على الظهور بالهيئة ذاتها تقريبا على مدى أربعة عقود.
ورغم أهمية العوامل المظهرية في نحت نموذج ياسرعرفات الزعامي، فإن ذلك لا يُغفل عاملاً مهما يتمثل في فهم عرفات وفي مراحل مبكرة لخصوصية الحالة الفلسطينية، وطبيعة المزاج العام السائد لدى شعب حُرم من وطنه وسيادته ويتطلع إلى تقرير مصيره عبر مسيرة نضال شاقة.