مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
صورة المثقف ودوره الثوري في الرواية الجزائرية
سماح بن خروف
كرّاف الخطايا لـ عبد الله عيسى لحيلح أنموذجا

تقديم:
لقد استوعبت الرواية العربية جيدا المفهوم الحضاري للثورة ودعت إليه ولازالت تفعل ذلك أن الثورة في حدّ ذاتها حلم،فهي القوة الخارقة التي أيقظت قديما الأنا من غفلتها، ليتحقق مبتغاها وتقوم قائمة الواقع الحلم الذي يفرض على الفرد التعرف على نفسه في حضور هويته، لأن الثورة يكتمل انتصارها عندما تتعرف هذه الأنا على سلبياتها وإيجابياتها ، بدلا من أن تكون نتاجا لممارسات الآخر الذي سيزيدها اغترابا على اغترابها فالثورة بمعناها الحضاري هي الكينونة التي’’يختلط فيها الفكر والخبرة والوعي والممارسة لإنتاج الفاعلية الثورية’’(1) والقول بالوعي وإدماجه في المفهوم أمر ضروري وقد لا يعيه إلا النخبة أو المرموقون فكريا لا ماديا مثل زمرة المثقفين.
ومصطلح المثقف من المفاهيم التي كثرت حولها النقاشات، وتعددت وجهات النظر حول تحديد معناها ، أو وضع تعريف شامل له، ولعل ذلك راجع كما يرى بعض الباحثين إلى تداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى في اللغات الأوروبية. أما عن الجانب اللغوي فقد اشتق لفظ المثقف من الفعل الثلاثي ثَقَفَ ،وثقف الشيء ثقفا وثِقافا وثُقُوفة ،حذقه ورجل ثَقَفَ وثَقِف وثَقُفٌ : حاذق فهم.
ويقال ثَقِفَ الشيء وهو سرعة التعلم. ابن دريد: ثقفت الشيء حَذَقْتُه وثِقِفْتُه إذا ظفرت به ...وثَقُفَ الرجل ثقافة أي صار حاذقا خفيفا. والثِّقاف خشبة تسوى بها الرِّماح،وحديدة تكون مع القواس والرماح يُقوّم بها الشيء المعوج(2)
أما اصطلاحا فقد ارتبط ظهور لفظ المثقف باسم ضابط فرنسي من أصل يهودي ألفريد دريفوس ’’Alfred Dreyfus ’’،الذي حكم عليه سنة 1894 بالنفي إلىغوايانا بتهمة التجسس لصالح ألمانيا نتيجة الحقد والكره الذي يكنه الفرنسيون لليهود، وحنقهم على سيطرة اليهود على الحياة المالية والشؤون السياسية الفرنسية، فانقسم بذلك المجتمع الفرنسي ونخبته المثقفة إلى مناصر ’’لدريفوس’’ ومعاد له، وعرفت الحياة الثقافية الفرنسية ظاهرة جديدة بنزول عدد من علماء الفكر والأدب في فرنسا أمثال إميل زولا’’أناتول فرانس و مارسيل بروست وليون بلوم’’إلى حلبة الصراع والساحة العمومية، محتجين على قرار المحكمة والمطالبة بإعادة النظر في قضية دريفوسبإصدار بيان حمل توقيعهم ،ونشرته جريدة الفجرالفرنسية سنة 1898 بعنوان’’بيان المثقفين*’’le manifeste des intellectuels من أجل رفع التهمة عنه وإطلاق سراحه ورد اعتباره(3) وقد كانت هذه الحادثة في فرنسا السبب الأول لإطلاق كلمة المثقفينles ’’ ’’intellectuels، وشهادة ميلاد للمثقف التي أصبحت تحمل معنىً تهكميا لدى المعارضين الذين أرادو محاكمة’’ دريفوس’’ كما هوالحال عند ’’نابليون’’ والأيديولوجيين.
إن كلمة المثقف هي ترجمة للكلمة الفرنسية intellectuel’’ التي يرجع تاريخها إلى أزيد من قرن .ولفظintellecteul مشتق من intellect الذي معناه العقل أو الفكر،وبالتالي فهو يدل عندما يستعمل وصفا لشيء على انتماء أو ارتباط هذا الشيء بالعقل كملكة للمعرفة.أما عندما يستعمل اسما فهو يحيل إلى الشخص الذي له ميل قوي إلى شؤون الفكر، وإلى شؤون الروح ’’(4)
هذا في اللغة الفرنسية أما في اللغة العربية فتحيل لفظة المثقف على مصطلح الثقافة الذي هو ترجمة لكلمةculture الفرنسية، وهي تعني ’’كل مدخلات الذهن المكتسبة عند إنسان ما،من معتقدات أو عادات ومعارف وتقنيات، وآداب وسلوك، وفن ونقد ولغة، بقصد أو بغير قصد،والوعي بها لتدبير شؤونه الخاصة وحياته وحل مشكلاته وتطويرها’’(5). إذن هي باختصار مجموعة المعارف والخبرات، والقيم والفنون،والعلوم والنظريات الفكرية والأدبية والنقدية واللغوية .فالمثقف قوة فاعلة ومفعول بها لأن نظرته الثاقبة للحياة هي التي تصنفه ضمن المستهدفين من مختلف الجهات أيا كان توجّهها.
و لم تعد الرواية التسعينية تهتم بموضوع الثورة التحريرية والمشاكل الاجتماعية التي ميزت أعمال كتاب السبعينيات، بقدر ما اهتمت بوصف الصراع الأيديولوجي القائم بين الشخصيات المثقفة والاتجاهات المختلفة، فحملت في طياتها أثار القلق والخوف والتوتر والرغبة في الانتقام، والصراع من أجل تحقيق غايات وأهداف تصبوا إليها شخصيات وأبطال هذه الروايات. فقد عملت الرواية على تجسيد أحداث المأساة الوطنية، ومحنة ومعاناة المثقف الجزائري في ظل تلك الأحداث الشائكة التي نتج عنها صراع بين أطراف مختلفة، ضاع المثقف وسطها، وفقد دوره الحقيقي في النهوض والإسهام الفاعل في التغيير وبناء مجتمع راق. إذ إنّ الدور الحقيقي الذي يقوم به المثقف ’’لا يظهر في الأوضاع الهادئة أو العادية. بل يتجلى في خضم تمزق المجتمعات،والمثقف هو الشاهد على تمزق المجتمعات وبالتالي هو الذي يعيش ويستوعب في داخله تمزق مجتمعه’’(6)، وعليه أن يؤكد هويته ويثبت وظيفته الاجتماعية،وأن يعمل على تغيير نظام مجتمعه إلى الأحسن والتأثير على السلطة بقراراته وأفكاره وهذا ما يرمي إليه في غالب الظن الكاتب عبد الله عيسى لحيلح الذي آثر نقد مجتمعه عبر روايته ’’كرّاف الخطايا’’ لمّا آثرت التعبير عن قلق الوجود والضياع، والعبث المفروض مع الحياة بالصوت والبعد الواحد أو بالانكفاء المثالي للشخصية الجذع التي ضاقت ذرعا من ال فن الحاصل في مجتمعها، فارتمت وسط دوامة الاغتراب واختارت حلّ التمرد والثورة على السائد حتى تّع تسهم بتطلعاتها النّاجمة عن صحوة وعي ثاقب في تشكيل تصوّر نقدي خاص بالوسط الذي تعيش فيه. وسينظر هذا العمل إلى الرواية على أنها نتاج فني، والمجتمع فيها مجتمع متخيـل، يحاكي الواقع الخارجي دون أن يطابقه أو ينسخه، بالرغم من علاقته الوثيقة به، ولـذلك سينطلق الباحث فـي دراسـته من الشخصية الروائية المثقفة الثورية والتي تعكس رؤية مؤلفها وموقفه من الواقع، لنخرج بعد ذلك منها إلى السياقات المنتجة للنص وعلى رأسها التاريخ محاولين استخلاص الطرق التي اعتمـدها الروائيون في تصويرهم لشخصـية المثقـف الثوري ودلالاتها وانعكاساتها الخارج نصية.
وقد اعتقد الكثيرون بأن الدافع الأساس للأحداث المزرية التي تخبطت فيها الجزائر كانت وليدة باعث سياسي محض و لم تختص الجانب السياسي وحده بل اعتصرتها محصلة أزمات متقاطعة فيما بينها منشئة ذاك الصراع بدعوى الشرعية الثورية المسببة لكبح دام عشريتين متواليتين وقد استشرف الثالثة بحسب مثقف الرواية المختارة... وقضية الصدام مع السلطة أمر لابد منه ذلك أن أي إنسان حيوان سياسي بطبعه مثلما يقر أحد الفلاسفة وهو ما يخلق الشعور بالرغبة في الثورة والتمرد من طرف الذات المثقفة ’’بحيث تمنع من حرية التعبير عن مصالحها بطرقة منظمة وضمن أطر شرعية’’(7) لأن حبه لصنع القرار لا يفارقه طالما ألفى الاعوجاجات والتواطؤات الرافضة رائجة في بلده وكل هذه الأوضاع والاضطرابات لم تغفل عنها الرواية الجزائرية التسعينية بخاصة، التي واكبت الأزمة وسجلت التاريخ بطرق فنية وكان المثقف عينه يسرد التجارب الحياتية وطرق الكفاح والثورة على السائد كتمظهر ثوري يفسر كنه ذاته المحتارة.
وتيمة الوطنية فرضتها المأساة ووعي المثقف بها وقد’’فرضت أساليب سردية وطرائق بنائية اشتركت كلها في التنديد بالواقع وإدانة الأعمال الدموية’’(8) كما عملت الرواية التسعينية على فضح الأيديولوجيات المتضاربة فأرّخت للمأساة بطابع درامي صارم الأحداث تارة أو محلل ناقد تنصه الذات المثقفة المشاركة مما يؤكد على فعلية الصدق الفني وهذا ما توفر لدينا في الرواية المختارة للدراسة والبحث: فكيف قدمت الرواية الأنساق السائدة في المجتمع الجزائري؟ وما علاقة سلبية المحمولات السياسية والاجتماعية والدينية بثورة الفرد والواقع؟ وما مدى تماهي ذات الكاتب-المثقف- لحيلح مع سيرة البطل الثائر السردية؟. وقد فرضت الإشكالية المصاغة سابقا الوصول إلى إجابات تقريبية عنها عبر التوسل بالمنهج الوصفي التحليلي بغية تفعيل المقاربة وتحقيق نتائج كلية نوعا ما.
وسيكون للمنهج والإشكالية الموجهة لمسار البحث أيضا الفضل في استكشاف الخطوط العريضة التي تتبعها العمل بدءا بالبواعث الأيديولوجية المميزة لمثقف الرواية، مرورا بأشكال وكيفيات تجسيده لمواقفه الثورية وإن كانت عجيبة تارة أو ساخرة تارة أخرى، كما ولهذه الثورة آفاق وتغييرات تطمح لها متجاوزة بذلك قصور التكريس، ومن ثمة ربطنا ثورة المثقف في الرواية بالعولمة كأنموذج من نماذج الخارج نصي على غرار باقي الأنساق، وأخيرا إثبات التقاطع، والتطابق إلى حدّ بعيد بين ثورة الكاتب وبطله ومدى تسجيل العمل لمبادئه وقيمه الثورية.
1- المنطلقات الأيديولوجية لثورة المثقف:
تعرّج الرواية السياسية التي بين أيدينا على أهم فكرة اقتضاها المنظور الأيديولوجي المفروض، فأبرزت من خلال بطلها حقيقة الصراع السياسي الحاصل ذلك’’أن الرواية السياسية هي التي تفضي إلى معالجة الجوانب السياسية للقضية ضمن توجهات ومحاور مختلفة مستوعبة للمراحل المختلفة’’(9).وقد اضطر المثقف منصور إلى الاحتماء بذاتيته في ظل القهر السياسي الممارس عليه وذلك لافتقاره لأبسط الحقوق المجسدة للحرية الفردية أولا، ومن ثم الحرية العامة والمتمثلة في حرية المشاركة أو الانخراط في الأحزاب السياسية في الوطن، والمؤدية إلى تقلّد منصب هام في السلطة.
وقد عانى البطل المثقف وبعض الشخصيات التي أثبتت فاعليتها الاجتماعية في الرواية من هذا النمط الثوري بفعل تسيّسهم الفطري إذا سلّمنا بمقولة أرسطو المبررة للنزوع السلطوي المبطن لدى كل إنسان يقول: ’’إن الإنسان حيوان سياسي وكل الناس منذ الأزل لم ينفكوا عن الكشف بأن الإنسان سياسي بطبعه’’(10) فالإنسان يسعى دوما إلى إيجاد الوسائل والإجراءات المساعدة على تفعيل اتخاذ القرار، حتى يصبح صانعا له.لكن هذا الأمر لا يتحقق إلا في دولة مستقرة اجتماعيا بالدرجة الأولى.
وقد يتجاوز الإنسان فكرة اعتباره مجرد كائن حي خلق ليستقر فيزيقيا ونفسيا، إلى البحث والتنقيب وتشكيل رؤية خاصة بالكون الذي يعيش فيه،فيحاول أن يرتقي بفكره ويلجأ إلى التجديد في ثقافة بلده لأنه يشكل جزءا أساسيا من مكوناتها الأصلية ولا يغيب عنا أن الثقافة’’مجموعة من الصفات الخلقية،والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لاشعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة’’(11)لذا فالتأثير والتأثر أمر مفترض بين الطرفين لا محالة واستقرار هذا النسق ينعكس بدوره على طبيعة ثقافة الفرد الذي يسعى دائما إلى توسيع ثقافته وفق ما يقتضيه المنشور السائد إلا أن هذا التوسع قد يعود بالضرر عليه،لا لشيء سوى لأن ثقافة المجتمع ترتكز في أصلها على تناقضات قيمية لا تخدم العامة بل تسعى إلى تغليب المصلحة الفردية وبهذا’’لا يصبح المثقف أو المنتج في حقول الفكر والثقافة والسياسة عقلا فعالا ذا هيبة تبجيلية..وإنما مجرد مبدع يمارس حيويته الفكرية’’(12)في إطار ضيّق ومحدود جدا اقتضته حالة التقويض التي تعانيها ثقافة بلاده،ومن المفترض أن تكون-الثقافة-الباعث الأساس’’في صناعة المجتمع ورسم ملامح نوعية تميزه عن غيره، وتؤهله لتقرير مصيره’’(13)وعلى صعيد الالتزام كان على المثقّف أن ينقاد إلى العادات والتقاليد الرائجة من باب التعايش والحفاظ على الذاكرة الثقافية العامة وعدم تكدير صفو سيرورتها، إلا أن مثقفنا منصور قد عجز عن التّماهي مع استراتيجيات لا تنفك تبتعد آلاف الأميال عن طموحاته المثالية،ووعيه الفكري المبصّر للمنظور الاجتماعي هذا الأخير قد أنساه عقلانيته وأسهم في موته.
فلا وجود للديمقراطية السياسية بدون ديمقراطية اجتماعية؛ ومن ثم إتاحة إمكانية المشاركة السياسية الفعالة وإن حدث العكس؛ أي إذا غيّب الأمن بنوعيه المادي والمعنوي تعمق بذلك الإحساس بالعجز في الحياة الاجتماعية والسياسية وقد يكون راجعا إلى استبداد السلطة-السياسية-القائمة بسبب’’شدة العصبيات واختلاف الآراء والأهواء،وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت’’(14) وهذا ما حدث مع البطل الثوري،لخروجه عن نواميس بلده .
وإنّ نعت مثقفنا في الرواية لأهل القرية بطائفة من البهائم لخير دليل على رفضه لهم وثورته عليهم جنسا وعقلا وروحا كضرورة عمياء للانغلاق الذي سمّ موطن أسراره كي يتحول إلى آلة تفضح كينونته الفارغة كليةً من كل معنى إنساني لمّا كتب منشوراته الفاضحة لأهل القرية فضحا مبينا...ولا بد من الإقرار بأن شخصية البطل قد أغرتنا كرؤية تأملية للعالم بضرورة الكشف عن معالمها وسبر أغوارها،والتوسل بحاستها النقدية لتنير لنا دروبنا المؤسسة للمواقف الباغمة. تعزو الملمح المتفرد المعبر عمّا هو رائج كانطباع مخالف للمبادئ المتعارف عليها بالرغم من انغماسها في الانحطاط الظاهر في إعلان العزلة والمضمر لما فتحت باب القلب إلى رياح الضغينة ورفض العالم الخارجي.

2-آليات الثورة وآفاقها التغييرية:
وإن كانت انقلابية البطل المثقف سلمية الأهداف عبّرت عن حرمانه من معظم الحريات المفترض بها أن ترافقه في مواجهة أعباء الحياة المفتقرة للاّمعيارية أو المعنى(حرية العمل،حرية الارتباط،حرية الوجود الآمن)إلا أن لغته في التعبير أمست هي الأخرى فارغة، ومجرّدة من المقومات الفعلية لإمكانية الانسجام أو الأمل في التوافق الكلي. ’’فالظروف الأمنية لا تسمح أن ينام المرء خلف باب بلا قفل ولا مفتاح...وإن الناس في هذه القرية لينامون غير مطمئنين وراء أبواب ونوافذ من حديد’’(15) وهو ما أكده الراوي والبطل المثقف بتقفي أثر الشخصيات الممثلة لهذا الفساد بدءا بالسلطة العليا والحاكمة إلى الدنيا والمحكومة(رئيس البلدية،مسؤول الأمن،مدير سوق الفلاح،الأحزاب) وإن كان منصور/المثقف يقرّ بجهله النسبي للسياسية ومضامينها،أما ما يفقهه فهو جزء يسير يساعده على تأويل رموز الفساد وحل شفرات العنف السياسي الحاصل بلغة الجنون وتعرية الحقيقة العمياء والجوفاء لنفسه ولغيره بحيلة التهريج الرمزي(التسجيل الحيواني،الفردة،الجنون)...
وتنشئته السياسية ركيكة ومشوشة للخراب السياسي السائد زهاء الأزمة وبعدها؛ لأن حدسه واستشرافه لمستقبلها قد مدّدا لعشريتين اثنين أو أكثر، ولأن التفاعل-لاستفحال عزلته-بين البنى الاجتماعية والسياسية هائر هو الآخر، طغى الاغتراب السياسي بسبب الاضطهاد الذي عاشه المجتمع والعنف الذي انسحب عليه هو الآخر كبنية كبرى’’لاستخدام القوة المادية أو التهديد لتحقيق أهداف سياسية قد يكون موجها من النظام إلى المواطنين،أو بعض أجنحة النخبة الحاكمة بغية ضمان الاستمرار وتقلي دور القوى المعارضة’’(16)وهذه الأخيرة لطالما خيّرت بين نمطين من المعارضة كذات ضديدة للنظام القائم، إما بتبني الحوار والسلم شعارا للتعبير عن القمع وإلا بحمل السلاح واعتماد الترهيب والشغب لإسماع الصوت تحت غطاء الإرهاب’’كعمل رمزي موجه للآخرين لإحداث أثر نفسي سلبي، يتمثل في حالة من الخوف والقلق والرعب والتوتر لدى المستهدفين’’(17)مما أدّى إلى خلخلة الاستقرار بشتى أشكاله، وتحجيم الحريات وفق قالب الرغبات الفردية وتغليب المصلحة الذاتية، وفقدان الأمن والأمان اللاّزمين.
وقد أبرزت السمة التنازعية الجليّة في الرواية طبيعة الجدل القائم بين العديد من الثنائيات (الفرد/المجتمع)، (السلطة/الشعب)، (أصحاب الجبل/أصحاب السهل)، (الحاضر/المستقبل) وبدورها أحاطت بالتمّزق الكئيب الذي مسّ بطل الرواية الثائر فلم يبق مكتوف الأيدي تجاهها بل ضاعف من فردانيته، بغية تعزيز أسئلة ذاته الوجودية الطامحة إلى التغيير بأيديولوجيات سارت على وتيرة واحدة وإن كانت مجهولة في عمقها لما شوقنا الرّاوي ببتر الزمن، وقطعه عن المسار السابق وتفريغ عشر سنوات من أحداثها، كانت فترة حاسمة من الضياع والشرود الوجودي، والهروب من الموت المحتم بفعل الأيديولوجيا الجهادية المغلّفة بالإسلاموية فيما بعد على يد جماعات إرهابية كما أسماها البطل وإن كان الجهاد في اللغة’’يعني المبالغة في الشيء واستفراغ الوسع والطاقة في الحرب أو اللسان أو غيرهما وفي الشّرع يعني قتال الكفار’’(18) والقتال للكافر وللمؤمن ولا يختص بأحدهما دون الآخر،ولا خلاف في أن التيارات الإسلامية التي قصدتها الرواية ذات توجه سياسي مصبوغ بصبغة دينية انشقت عن الحزب الواحد وخرجت عن الناموس الغالب إلى تعددية فرضتها الديمقراطية.
وقد كان حلّ الشريط الحيواني كحيلة استكشافية لمكامن التوتر السياسي السائد السبيل الأنجع لبلورة أيديولوجيا البطل، والأيديولوجيات السياسية الأخرى على حد سواء، فكان ذا طابع سياسي مؤدلج حين ارتبطت’’الأدلوجات السياسية بمصالح الفئات التي تتصارع لتصل إلى السلطة السياسية’’(19) فقابل منصور كل فئة سياسية بصوت حيواني مشابه، واهتدى إلى هذه الفكرة الجهنّمية وهو يتأمل صغارا يتمارحون في حديقة تناغمت، وللأسف بالوجوه المصفرة المغبرة من جراء دخان السجائر، والألسنة السوداء من نقد السلطات ومضغ أعراض الناس؛كان إذن يترقب بعض الحيوانات حتى تنطق، ليخرج مسجلته ويقوم بحفظ أصواتها من نهيق للحمير،ونقيق للضفادع ونعيق للغربان ونبيب للتيوس، ونباح للكلاب وصياح للديك وأصوات الدجاج، وزقزقات للعصافير فقط’’لأنها تعبر وبكلمة واحدة عن كل الحالات والتناقضات،هي هذا النقيق الرتيب...بلا معالم،بلا حدود،لغة زئبقية تعني كل شيء ولا تعني أي شيء تصلح للخديعة والنفاق’’(20)ولمّا فرغ من تسجيلها بدت له لعبة فنية ورمزية من شأنها أن تعبر عن ثورته وتضفي لمسات جمالية للنسق السياسي المرير، وأن تمرّر مختلف الخطابات الموحية إلى التعقل الذي يقلق الدولة ويربك من هدوءها وهي-اللعبة-خير دليل على تجذّر اغترابه السياسي، ومجازية جنونه الذي لم ولن يفهموه لأنه’’سلوك مجازي يخالف مألوف الناس ومعايير العقل الجمعي في شكله التاريخي،أو هو لغة مجازية رمزية،لا يفهمها إلا عندا يقع ما يترجمها إلى لغتهم من أحداث ووقائع’’(21) .
وبأصوات رامزة برع في إيهام الناس الواعين الحالمين بحقيقة المغزى السياسي، الذي فجّرته حماقته المشاغبة لسياسة الوطن، والرافضة لمبدأ سحب الظلام على الناس للبقاء في بقعة الضوء، فاحتمى بهذا التّحدي(الشريط) الذي أودى به مغلولا بين سلاسل السّجن فقط لأن هذا التحدي’’يحدثنا عن القهر والحرية والوجود والتشيؤ، والحياة والموت،والطموح والنكسة،إنه يتدفق حركة وانطلاقا’’(22) ذلك أن عجز البطل عن التعبير والإفصاح عن مكامن وحقيقة ثورته الداخلية أراد أن يفجّر بهذا التسجيل ثورة من طراز خاص لا يفهمه إلا المثقفون مثله، رغم إلحاح البعض على استفسار مدلولاته منه إلا أنه أبى أن يستشفر الأصوات المسجلة بأنغام مسلية في الظاهر معلنة وبحق عن باطن عليل...
وقد رمز إلى الحمقى بنهيق الحمير، الذين لا يفهمون شيئا سوى عدم التفاعل لأنهم مغتربون عن الحياة شكلا مضمونا، أما صياح الديك’’فهو نداء النخبة الثورية طليعة المجتمع إلى التغيير الواعية بشروط الفعل الثوري،التي ترفض الرداءة والنمطية،أما صوت التيوس فهو رمز للبرجوازية المتعفنة المنتفخة بالأوضاع،أما العصافير فأصواتها رمز للمستقبل...أما النباح فرمز للثورة المضادة...أما النعيق فيرمز للموت والخراب’’(23)فجعل كل طبقة سياسية رأسا للحيوان الذي يليق بأوطارها ومطامعها النبيلة أو الخسيسة، فعكس هذا الشريط الإيقاعات المتناقضة التي تضطرب فيها البلاد سياسيا،وأيديولوجيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا كلها تنطوي تحت لواء الاضطهاد المحسوب للدين ، ولأن بعض الإسلاميين لا يجدون بأسا من ممارسة السياسة مادامت ستمكنهم من المازوشية السياسية على حد تعبير الراوي.
وقد اتفق الأغلبية من سكان القرية بعد اجتماعهم الطارئ في المقهى على أن العصافير رمز للمستقبل(الشباب)،والحمير للفشل الأيديولوجي(القائد الإمعة)،والنعيق للإرهاب والموت(أصحاب الجبل)،والنقيق للمجتمع النمطي(أصحاب السهل)،والدجاجة للجبن والوهن والاستسلام(الرجولة المخنثة)،والديك للحق والحرية(فدائيو الوطن)،والنباح للثورة المضادة(الذات الضديدة)،والنبيب للبرجوازيين(المصلحيون)...

. 3- الثورة والعولمة:
أشار منصور بفضل ثقافته الواسعة إلى مفهوم آخر قد تسبب في تشيؤ الإنسان، فأكد لعمي الصالح وبنبرة اقتصادية خالصة بأن الهوية قد وجدت حرّة جميلة،إلا أن القرية الصغيرة قد أفقدت لهذه الذات سحرها وجمالها الوجودي الذي آل إلى قرف وفراغ،ولما كان للأحادية القطبية(العولمة) الأثر في التأسيس لتمزّقات البشر على إثر الإيجابيات أدّت إلى ظهور حالة الاغتراب لإغراقها في تكديس قيم الإنسان الروحية وإحالته إلى آلة تنتج دون توقف، كيف لا والهوية قد مسخت بحجة السياقات العولماتية كإشكالية ذات وجوه متقاربة والعولمة على حد تعبير منصور’’قائمة على مسخ الهويات،خاصة في ظل النيوبيرالية المتطرفة،التي تعتبر الإنسان شيئا بين قوسين من مستلزمات الآلة ولواحقها،وكلمة شيء هنا تفهم في سياق التشيؤ حسب ما حدده جورج لوكاتش’’ (24) فمنصور يبرهن على قضية التشيؤ الماركسية بوجهة نظر لوكاتشية مفادها أن زمن العولمة هو زمن لتسليع القيم والمبادئ وحشرها في خانة اللاّمستحقات لتطور أي مجتمع والنهوض بحضارته.
وهذه البرهنة أكدت على فكرة أن العولمة قد فرضت نفسها على جلّ الأوساط الثقافية منها والفكرية لأنها قد تغذّت من مختلف الأنظمة وأباحت كل التجاوزات التي قد تنفي حياة الهوية المخرومة والمتحولة إلى وجه بلا ملامح وجودية،فتجزم على اغترابها الذي لن يقهر لدى منصور إلا بتقوية الهوية وذلك’’في عولمتها الثقافية وممارستها لإمبرياليتها بمجاوزة مآزقها وإنتاجها لخوارقها من صناعات ومواهب أو رموز ومكاسب تعمل على تعميمها ونشرها’’(25)إلا أن منصورا قد فشل في قهر اغترابه هو وغيره من الذين تشيؤوا وأبوا إلاّ أن ينغمسوا في زمن العولمة الذي قارب بين الأقطار الذي فعّل من اختراق التناهي الوجودي وتحقيق الكينونة اللتين يطمح كل موجود بشري أن يبلغهما بأي ثمن كان.
4-التّماهي السيري (تطابق الثورة):
بما أن الثورة قد هيمنت بفعل المفارقات المتباينة(الأزمات،القتل،العنف،الزيف،الاضطهاد..) على أغلب الأنسجة الثقافية والاجتماعية وغيرهما سلب بدوره مقومات الإنسانية، وجعلت تجربة هذه الأخيرة مأساوية تفتقر إلى أدنى السبل المؤدية للسمو بالذات إلى ما تستحقه من طوباوية ورغد. ولأن الرواية حلّ للخروج بالدّفقات الشعورية إلى سياقات جدّ معقدة(كالسيكولوجية مثلا) غدت الوعاء المبرهن على الواقع التراجيدي الذي يعيشه الفرد/المثقف الجزائري، لأن الأزمة وبمخلفاتها قد ترسّخت في وعي المثقفين، وتجاوزت ذلك إلى سلخ هذا الوعي وتقزيمه وقهره واغترابه، إمّا بفعل الأيديولوجيا الحاكمة أو بفعل الذّوات المضادة الرافضة للمجريات السياسية منها أو الاجتماعية.
والرواية كما يعتبرها غولدمان ’’تجسيد آلي لوعي الكاتب فنلفي ذاته حاضرة إلا أن هذا الحضور يختلف من رواية لأخرى،كل حسب تماهيه في البطل أو في شخصية منتقاة لغرض التقنع بغية نقد المجتمع وتأسيس رؤية خاصة قائمة على أصول النظر والتمعن القويم’’فتأخذ الرواية طابع كاتبها بكل تكويناته وخصائصه،كما تأخذ من المتلقي خصائص أخرى’’(26) وقد تحدت رواية التسعينات في الجزائر الواقع بسلاحه لمّا مرّرت عن طريق الأزمة خطابات متباينة لتباين كتابها،فكتب المثقف الصحفي بنمط العنف الإعلامي،والمثقف العسكري بلغة العنف المسلح أو بالاستناد إلى العمليات الإحصائية المعاينة لعواقب الأزمة الفعلية.
أما الأستاذ عموما والجامعي خصوصا فقد استند إلى حيثيات ذات طابع أكاديمي فعال فامتهن الحرفة وابتعد عن تهمة الاستهلاك كما يرجعها بعض النقاد،وإن كانوا محقين في ذلك إذ أن بعض الروائيين قد استقصدوا ولوج الساحة الأدبية/الروائية بتقنية الاستغلال وذلك بغرض تغليب المصلحة الفردية المنافية لمبدأ النزاهة الأدبية الذي يتطلب الغاية الفنية ومن ثم التقويمية من هذه المغامرة الكتابية.
أما الكاتب عبد الله عيسى لحيلح فقد كتب بدافع الثورة الحقيقية التي عاشها ولم يسلم هو الآخر من أنياب وبراثن الأزمة بجل أوضاعها، وبصفته مثقفا مزج ذاته بقلمه وسمح للمروي بأن يفصح عن صرخات أناه المغتربة هي الأخرى،فالروائي الكاتب والجامعي يتقاطع والبطل منصور الجامعي كذلكالمتيّم بترجمة سمفونية الصّراع والجدل القائم بين الفرد والمجتمع في مخطوطاته التي تسردها خواطره الليلية؛فقد عاش الروائي فترة التسعينات وبرع في تحسيس القارئ بقفر الواقع المأساوي كونها قضية تعني كل الجزائريين وإن كان يضاهيه-البطل-على المستوى الفيزيقي كاللحية واحمرارها’’مثل كل الغرباء واللاّمنتمين...شعره منفوش،شعر ذقنه الأشقر صار يبدو وكأنه لحية،أما فحْصته فقد مال لونها إلى السواد’’(27)ويتقاربان في السن والفارق بين الجزأين الأول والثاني هو عشر سنوات أي أن الحاصل هو سن الأربعينيات،ولا يغيب عنا أن لحيلح من مواليد 1963م،ويتقاطعان في الهواية والمتمثلة في المطالعة والتأليف وهذا التّضاهي ليس من باب الصدفة.
إلا أن ما يهمنا هو درجة التّماهي الفكري بين البطل والكاتب ولما ألفينا بأن هذا الأخير قد جسّد شخصيته المثقلة بالهم الثقافي ثم السياسي،كان للأزمة والظروف التي مر بها الفضل الكبير في تشكيل منظومته الفكرية والثقافية وتوجيهها أيضا، مما ساعد على رسم شخصية البطل بجماليات معرفية وأيديولوجية معمّقة بينت مدى التأثر والتأثير الحاصل في المتلقي الذي وجد ذاته وأناه في هذا المروي لا لشيء سوى لجزائريته.
وباطّلاعنا على بعض المحاورات التي أقيمت مع الكاتب لحيلح استطعنا أن نؤكد فكرة التطابق أو التّماهي التي عكستها ظلال الرواية،فقد أقر الكاتب بأن هنالك تقاطع مباشر بينه وبين البطل في توحد الرؤية وتحديد الأفق، وتفضيل العزلة والهروب من الواقع لأسباب قد تتعلق بقضية نقض وخنق للحريات أو لدوافع ذاتية نابعة من غيرة المثقف على المشروع الأعظم الذي يأمله الكاتب على غرار الكتاب-المثقفين-القوميين،ألا وهو مصير النهضة في المجتمع الجزائري وهذا ما يؤكد على أن لاغتراب المثقف-عموما-بواعث عديدة لعل أهمّها كحوصلة لما سبق:
1-يتعلق السبب الأول بقضية الحرية وما يتعلق بها من مداخلات السلطة السياسية والاجتماعية.
2- أما السّبب الثاني فيتعلق بصدمة المثقف بفعل تعثر المشروع النّهضوي القومي.
فلرهافة حسّ الكاتب وحساسيته نجده أشدّ الناس تأثرا بالمجريات السياسية والاجتماعية والأوضاع الثقافية ولا يقف مكبّل الأيدي بل يسعى دائما إلى تأطيرها وصياغتها وفق’’الإطار العام للإنسان الذي يفكر،ويتأمل ذاته،ويغوص داخلها بغرض جعل الدّنيا موضع سؤال’’(28)وإذا أردنا التعرف على المثقف المتقنع وراء البطل المثقف نجده قد تقاطع كثيرا إلى حدّ التطابق مع منصور الثائر فعبد الله عيسى لحيلح من مواليد 31 ديسمبر 1963م ببلدية جيملة ولاية جيجل تلقى تعليمه الأول بجامع القرية حيث حفظ قسطا من القرآن الكريم ثم دخل المدرسة الابتدائية ببلدية الولوج بولاية سكيكدة وتابع دراسة التعليم المتوسط بمتوسطة ابن الهيثم بدائرة الشفقة ولاية جيجل بعدها تحصل على شهادة البكالوريا وانتقل إلى معهد الآداب واللغة بجامعة قسنطينة ،وبعد نيله شهادة الليسانس انتقل إلى جامعة عين شمس بالقاهرة وتحصل على شهادة الماجستير والتحق بجامعة الأمير عبد القادر ليعمل أستاذا ثم سجل في شهادة دكتوراه الدولة بالخرطوم وقد كان موضوعها : الجدلية التاريخية في القرآن الكريم. مؤلفاته: كراف الخطايا، الجدلية التاريخية في القرآن الكريم ، العنترية. أما عن الجوائز فقد نال جائزة أحسن نص مسرحي في الجزائر عام 1990م وجائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر التي تنظمها الجمعية الثقافية الجاحظية.
كما يقرّ لحيلح للروائي الكبير-رحمه الله-الطاهر وطار بأن سنوات الأزمة قد مرت عليه قرونا لأنه تجاوز فكرة الفرد الجبان المغترب أمنيا،إلى الفرد الثائر سياسيا إذ أنه لا يفرق بين السياسي والساحر يرى الحياة في الجزائر عبثا ولهوا إبان الأزمة، وقد قاتل وحمل السلاح ضد الآخر على حد تعبيره فيتجنب الإفصاح عنه،لأن القمع قد استنطق فيه رمزيات العنف المبطنة لثورة أيديولوجية يسعى من خلال لواء الدين توجيه رسالة نقدية تحتكم إلى معايير الإسلام السياسي،وحلّ الجبل خارج عن إرادة الكاتب المغترب ’’فقد أجبر على هجر مدرج الدراسة بجامعة قسنطينة، ترك طلبته وطالباته والقلم والقرطاس وجاء يعظ ويرشد ويقتل...يمتلئ شعرا يمتلئ وجدا،يمتلئ حبا يمتلئ كراهية..’’(29) كلها أمارات دالة على تمرد الروائي وإنكاره الكلي للعالم الذي يتخبط فيه والهجر ملمح من ملامح الثورة لأن حلّ الفرار والتمرد تجسيد فعلي للفجوة الكبيرة بين البنية الداخلية للأنا المثقفة وبين البنية الاجتماعية الخارجية.
كما يتقاطع الروائي والبطل كذلك في قضية العجز عن الإمساك بالواقع رغم وجود حافز الوعي الناضج فقد يلجأ بعض المثقفين الشاهدين على تمزّقات مجتمعاتهم إلى الفرار من المجابهة أو تضمين نقدهم للمجتمع في أنفسهم’’ومعنى هذا أن صدق الوعي قد أصبح مرادفا لعدم القدرة على الإمساك بالواقع كله فضلا عن تفسيره’’(30) ولحظة الصعود إلى الجبل من قبل لحيلح، والفرار المجهول للبطل منصور لعشر سنوات من الغربة والاغتراب هي ملمح من ملامح فقد الأمل في إمكانية الانسجام أو التوافق مع حتمية النّموذج الواقعي اللاّمعياري واللاّقيمي إبّان التسعينات.
فقد أثبتت ذاكرة الكاتب الثقافية والأيديولوجية حضورها ومشاركتها في جدلية أنا البطل المثقف الواعي مع الواقع المرير إذ صار لكل منهما الشجن الذاتي الممزوج بوعي دفع إلى طمسه المنشور الخارجي/الثقافي خاصة وبالتالي توحد الشعور بالرفض عند كليهما.وكختام لمقارنتنا قد نبيح لأنفسنا فكرة الاعتقاد بأن الغربة والثورة المجهولة لمنصور قد قضاها في الجبل وأن رحلة العودة في الجزء الثاني تمت بعد الوئام المدني حتى يأوي إلى عزلته ،أما الكاتب كمثقف وبعد أن تقنع بالبطل لنقد المجتمع،عاد والعود أحمد إلى التأليف والانسجام مع الأنام...
خاتمة:
و قد تجرّد نزعة التغيير بعض الأشخاص من زمنهم الخارجي حتى يتجاوزوه، ويصير لهم زمنا ذاتيا يصوغونه ويستسيغونه وفقا لمقتضياتهم الذاتية على حساب المطالب الحياتية فيقتلونه بالرغم من أنه’’ومن المستحيل أن يفلت كائن ما، أو شيء ما أو فعل ما أو تفكير ما أو حركة ما من تسلط الزمنية’’(31) وقد عاش الزمن في الإنسان مثلما عاش الإنسان فيه،يسكنه مع ضرورة الاضطلاع إلى زمن مجهول متخيل يشجعه على الاستبشار بالمستقبل أو التخوف منه.
صراع المبادئ والقيم أمر مفروض حتمته الدواعي الداخلية والخارجية فالأولى تعلقت بقناعات المثقف الثائر ورؤاه المتباينة للعالم في حين كانت الثانية وليدة الراهن المساير في اغلب أحواله للقيم العامة من قوة وعلم ...إلا أن الحوافز التي بداخلنا قد نهيئ لها الأرض الخصبة في يوم من الأيام ولفترة طويلة الأمد لكن بعيدا عن المغالبة والصراع السلبي ’’فالتراكم الثقافي ينحدر من الأصول الدينية والحضارية للمجتمعات’’ (32)وحتى التاريخي لأن المجتمع يصنع الثقافة فهل للثقافة أن تدمر صانعها؟ ...
ونختم بالتأكيد على فكرة التماهي الحاصلة في الرواية، بعد استكشاف التطابق الواضح بين ثورة البطل والرّوائي عبد الله عيسى لحيلح، كمثقف عايش ملابسات الأزمة وغير في التاريخ وتقاطع هو الآخر مع هذه الشخصية، بالنزوع إلى مثل هذه الحلول لمعالجة محنة الوجود كحل الهروب إلى الجبل مثلا. فعبر الكاتب عن فدحْ صدمة الوجود في مجتمع متعفن بسبب تقويض الأنساق، واندثار القيم وسوء التسيير، أتاح فرصة الاستشراف بوصف فني ولغة ثرية شاعرية الظّلال لتطلعات البطل الثوري.

الإحالات والهوامش:
1) عبد الفتاح أحمد يوسف، قراءة النص وسؤال الثقافة-استبداد الثقافة ووعي القارئ بتحولات المعنى جدار للكتاب العالمي عمان الأردن ، ط1، 2009، ص161.
2) محمد عابد الجابري : المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، لبنان، ط2 2000 ، ص23 .
3) أبي الفضل جمال الدين محمد بن كرم ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، مج 9،( د ط ت )،مادة ثقف ،ص 19 .
4) محمد عابد الجابري : المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، لبنان، ط2
5) المرجع نفسه ، ص61.
6) فلاديمير ماكسيمنكو: الأنتلجانسيا المغاربية المثقفون أفكار ونزاعات، ترجمة، عبد العزيز بوباكير، دار الحكمة، الجزائر، ط1، 1984، ص 8.

7) بلقاسم سلاطنية، سامية حميدي، العنف والفقر في المجتمع الجزائري، دار النشر والتوزيع ، القاهرة، ط1، 2008م، ص182.
8) عبد الله شطاح، قراءة في الرواية الجزائرية، متن العشرية السوداء بين السطوة الواقع وهشاشة المتخيل، مؤسسة كنوز للنشر والتوزيع، مجلة الحكمة، العدد 3جويلية ص151.
9) أحمد أبو مطر،الرواية في الأدب الفلسطيني،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1،1980م،ص104
10) أحمد بن الداية،الفلسفة السياسية عند العرب،تحقيق:عمر المالكي،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،الجزائر،1980م،ص19.
11) نور الدين مسعودان،مالك بن نبي بقلم معاصريه، دار النون للطباعة والنشر والتوزيع، ص 21.
12) المرجع نفسه،ص47
13) نادية عيشور،الصراع الاجتماعي،بين الممارسة والتطبيق،دار بهاء الدين للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1 ، 2008م، ص76
14) حليم بركات،الاغتراب في الثقافة العربية،متاهات الإنسان بين الحلم والواقع،مركز دراسات الوحدة العربية،لبنان،ط1 2006م،ص98
15) عبد الله عيسى لحيلح، كراف الخطايا ، ج2،دار الوسام العربي للنشر والتوزيع، عنابة ، الجزائر، 2010 ، ص30.
16) حسنين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،لبنان،ط2،1999م،ص49.
17) المرجع نفسه ،ص53
18) محمد الرّحموني،الدين والأيديولوجيا،جدلية الديني والسياسي في الإسلام وفي الماركسية،تقديم:رضوان السيد،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،ط1،2005م،ص29.
19) عبد الله العروي،مفهوم الأيديولوجيا،المركز الثقافي العربي،ط7،2003م،الدار البيضاء،ص46.
20) الرواية،كراف الخطايا،ج1،مطبعة المعارف ،عنابة، الجزائر،ص113
21) المصدر نفسه، ص133
22) المصدر نفسه ص176
23) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
24) المصدر نفسه ص153.
25) محمد شوقي الزين،إزاحات فكرية،مقاربات في الحداثة والمثقف،منشورات الاختلاف،الجزائر،2008م،ص69
26) الشريف حبيلة، الرواية والعنف،دراسة سوسيو نصية في الرواية الجزائرية المعاصرة، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1 ، 2010، ص3
27) الرواية،ج1، ص76
28) عمر منيب ادلبي،سرد الذات، فن السيرة الذاتية، دائرة الثقافة والإعلام، الإمارات، ط1، 2008، ص65
29) الطاهر وطار،الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزّكي،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء،المغرب،مارس 2000م،ص121.
30) رزان محمود إبراهيم،خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة،دار الشروق،عمان،الأردن،ط1،2003م،ص201
31) عمر منيب ادلبي،سرد الذات، مرجع سابق، ص192.
32) نادية عيشور،الصراع الاجتماعي، ص76.
أضافة تعليق
آخر مقالات