مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
الأسرة المسلمة مكانتها ومسئوليتها والمقاصد الشرعية منها
بقلم الدكتور :خليل عبد الكريم كونج

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، وعلى وآله وصحابته أجمعين.
وبعد:
فإني أريد أن أبين أولاً معنى الأسرة المسلمة التي هي موضوع كلمتي. فأقول: إن كلمة الأسرة مشتقة من لفظ «الأسر» الذي يأتي إلى معان ثلاثة:
الأول؛ هو شدة الخلق وإحكامه، يقال: «شدّ الله أسره» بمعنى «أحكم خلقه وأتقنه».
الثاني؛ هو الحبس والقيد، يقال: «أسره» بمعنى «حبسه» ومنه جاءت كلمة «الأسير».
الثالث؛ هو ما يفيد معنى الجميع، يقال: «جاءوا بأسرهم» بمعنى «جميهم».
وتفيد هذه الكلمة «الأسرة» في عرف اللغة معنى الخلية الأولى من المجتمع المؤلفة من الأب والأم والأولاد. وتفيد أيضاً معنى أعم من هذا، وهو أهل الرجل وعشيرته.
ولا تخفى المناسبة بين المعنى اللغوي والعرفي.
ثم أريد أن أبين ثانياً معنى الإسلام الذي تتضمنه كلمة «المسلمة»، وهو أن تؤمن هذه الأسرة بالدين الذي جاء من السماء، وتمتثل بالأوامر التي كلف الله تعالى الامتثال بها، وتجتنب المناهي التي حرمها الله تعالى، بمعنى أن تسلم نفسها لله وتخضع له.
وقد اعتنى الإسلام بالأسرة اهتماماً كبيراً، وأمر بالحفاظ على أفرادها ولـمِّ شملها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6).
وكلف الأب الذي هو العمدة الأولى للأسرة بأن يقوم على أفرادها ويؤدي نفقتهـا وكسـوتهـا بالمعـروف، ويؤويهـا في مسكن يليق بها حسب العرف السائد في البيئة التي تعيش فيها، ويقـدم لها سـائر ما تحتاج إليه في حياتها. يقول الرسول - ﷺ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(1).
والأسرة أمانة في عنقه مسئول عنها يوم القيامة، ومكلف بأن تكون دائماً نصب عينيه فيقيها مما يؤذيها ويسلب راحتها. ويقول الرسول - ﷺ -: «أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ»(2).
والعمدة الثانية للأسرة هي الأم، فهي المعلمة الأولى للأولاد حيث إنها تقوم وتقعد معهم ليلاً ونهاراً لا تريد أن تفارقهم ولو ساعة واحدة، وتحرص كل الحرص على راحتهم، وتضحي في سبيلهم بكل ما تملكه، وأن أكثر ما يسعد الأم هي الحالة التي تستيقظ فيها ليلا ًعلى بكاء ولدها فتترك نومها وتضحي براحتها وتقوم إليه، وتضمه إلى صدرها وأحضانها، وترضعه بكل حنان وشوق.
وقد حرص الإسلام كل الحرص على بناء الأسرة وإنشائها على أسس إسلامية حتى تسعد في دنياها وعقباها، وذلك إنما يكون عن طريق الأب والأم في الدرجة الأولى؛ أب يربّي ولده حسب الخطة التي جاءت من السماء، يربيه تربية روحية بجانب التربية البدنية، وعن طريق أم مثقفة ديّنة تعرف الخير والشر، وتعرف الآداب التي جاء بها الإسلام حتى يمكن لها أن تزرع في قلب ولدها حب الخير والفضيلة، وتربيه تربية حسنة حتى يمكن أن يكون عضواً كاملاً يقوم بخدمة المجتمع الذي يعيش فيه. يقول الرسول - ﷺ -: «وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا»(3).
مكانة الأسرة المسلمة ومسئوليتها
إن الإنسان يشترك مع غيره من المخلوقات في كثير من المزايا، ويمتاز عنها بعقله وعلمه وعواطفه الإنسانية في كثير منها، يمتاز عنها ويسمو عليها حيث يعرف الخير من الشر والحق من الباطل، وهو دائماً يترقى في علومه ومعارفه والاستعدادات التي منحها الله تعالى له، ويحلق دائماً في سماء المعرفة.
أما الحيوان الذي يشاطر الإنسان في بعض المزايا فهو ثابت على حاله لا يتغير ولا يمكن له أن يتقدم إلى الأمام ولو بشوط واحد، فهو على نشأته الأولى التي خلقه الله تعالى عليها لم يتغير ولم يتبدل حاله. مثلاً الإبل هي الإبل والبقر هي البقر لم يتغير ولم يتبدل حالهما، وهما على نشأتهما الأولى؛ ومن هنا استحق الإنسان التكريم وأن يكون خليفة في هذه الأرض يعمرها ويبنيها ويفجر الطاقات الهائلة المخزونة في ثنايا الكون، ويكشف عظمة الله وقدرته التي تحير العقول وتسوق الإنسان إلى أن يقول: سبحانك ما أعظم شأنك.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...﴾ (الإسراء: 70). وقال أيضاً: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)﴾ (البقرة)
وتلفت هذه الآية الكريمة أنظار القراء والمستمعين إلى أن مبنى هذه الخلافة وأسّها هو العقل والعلم المتطور والعبودية الناشئة من العقل والعلم والفطرة.
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). وهذه العبودية هي صلة بين الإنسان وربه ترفعه إلى المستوى اللائق به، ويتضح من هذا أن الإنسان كما أنه أشرف من غيره -كما قلنا- فكذلك هذه الأمة هي أفضل الأمم حيث إنها تحافظ على الصلة بالله، وتؤدي حق العبودية، وتسعى في إنقاذ بني نوعها من المهالك. قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 110).
ومن أبرز صفات هذا الإنسان أنه مدني بطبعه لا يمكن أن يعيش وحده بل ينساق إلى أن يعيش في الدرجة الأولى ضمن أسرة مكونة من زوج وزوجة وأولاد، وبتعبير آخر ضمن أب وأم وأولاد.
يعيش مع أم حانية تعطف عليه في صباه وتنظم أموره وتربيه وتعلمه الحياة الاجتماعية وآدابها وكيفية سلوكه وقيامه وقعوده مع أقران يعيش معهم داخل المنزل وخارجه يحتاج إلى أن يقوم ويقعد مع الآخرين، وهو بفطرته لا يشبه الوحوش التي تعيش على وجه هذه الأرض وفي أعماق البحار.
والأم هي الأسرة والمعلمة الأولى في البيت الذي تعيش فيه. قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
ويقول الرسول - ﷺ -: «اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ»(1) وقد جاء أحد الصحابة يسأل الرسول - ﷺ - فيقول: من أحق الناس بحسن صحبتي؟. فقال: «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ قال: «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ قال: «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ فقال: «أَبُوكَ»(2).
وهكذا يبين الرسول - ﷺ - بأن حق الأم أكثر من حق الأب بمرات ومرات. نعم، إن الأم هي العمدة الأولى للإنسان المولود في حياته ونشأته الأولى تربيه بكل حب وحنان وتغذيه بالغذاء الذي هو جزء من بنيتها. فرحم الله أمهاتنا وجزاهن خير الجزاء عنا.
فإذا ما كانت أمّاً صالحة مثقفة حسنة الأخلاق يعلو البشر وجهها حينما تلتقي بولدها وفلذة كبدها، وتعرفه الإسلام والآداب التي جاء بها تكون بحق أسوة حسنة لولدها، وخير أنموذج له، وتكون سبباً لحياته في الدنيا والعقبى.
يقول الرسول - ﷺ -ٍ: »لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرِدِيَهُنَّ وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ«(1). ويقول أيضاً: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ؛ لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ»(2) وليس معنى هذا إهمال جانب الجمال والحسب بالكلية بل معناه أن المهم في المرأة هو الدين ليكون بناء الأسرة قوياً محكماً لا تزعزعه الأعاصير.
وبالعكس إذا كانت الأم بذيئة اللسان سيئة الخلق لا تعرف الخير من الشر والحق من الباطل فتكون أسوة سيئة لأولادها الذين تلدهم؛ فتكون كالهرة التي تلد ثم تأكل ولدها، كما يقول أحمد شوقي - رحمه الله - يخاطب الدنيا:
فيا لك هرة أكلت بنيها
ومن أجل ذلك حرم الإسلام الزواج بالمشركات والملحدات مهما كن بارعات في الجمال حتى إن الزواج بالكتابيات وإن كان جائزاً إلا أن الزواج بهن يمكن أن يفضي إلى مفاسد كثيرة؛ منها انحراف الأولاد عن الدين الإسلامي واتباع الأم الكتابية كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، فهناك كثير من أولاد آباء مسلمين صاروا ضحية أمهاتهم الكتابيات فانسلخوا عن دين آبائهم وأجدادهم.
ومـن هنـا كـان إصـرار الإمـام عمـر -  - على أن يطلق خالد بن الوليد -  - زوجته النصرانية التي تزوج بها في الشام.
وإن العضو الآخر للأسرة - وهو الأب - هو العمدة الثانية للمولود فهو يحتـاج أن يعيش في صبـاه تحت ظلـه حتى يربيه ويبني مستقبله ينفق عليه كما ينفق على نفسـه، ويلبسـه ما يلبس، ويعلمه ما يجب على المرء أن يعلمه، ويرسله إلى المدارس التعليمية فيربي روحه وعقله، وينقذه من الجهالة كما يربي بدنه؛ فيكون إنساناَ كاملاً. يقول الإمام علي -  -: علموا أولادكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
والأب الذي يلد الولد ويربيه كما يربي الحيوان ثم يتركه مسيباً يرتع في أحضان الجهالة والفقر يكون قد قتل روحه وأفسد ضميره، ويكون حاله أشد وأتعس من حال الآباء في الجاهلية الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء: 31).
وكما كانوا يئدون بناتهم خشية العار، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ (التكوير).
فأولئك الآباء الذين قتلوا أولادهم في الجاهلية إنما قضوا على حياتهم التي كان يمكن أن تكون زهاء ستين أو سبعين عاماً لولا قتلهم إياهم. أما الآباء والأمهات المعاصرون الذين لم يربوا أولادهم تربية إسلامية وتركوهم عرضة للكفر والشهوات العارمة فقد قضوا على حياتهم الأبدية.
ومن هنا نقول: إن مهمة الأب الأولى أن يربي مولوده الذي وصل إلى حد التمييز تربية إنسانية وإسلامية يربي روحه وعقله كما يربي بدنه منذ نعومة أظفاره، كما قال تعالى: ﴿يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا اَنْفُسَكُمْ وَاَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6). يربيه بالأخلاق الإسلامية التي جاء بها الإسلام، ويعلمه العلوم التي تحتاج البشرية إلى تعلمها والقيام بما يقتضيه واجبات العصر الذي يعيش فيه، فإن من لم يتسلح بأسلحة العلوم الكونية والدينية جنباً إلى جنب ولم يعد العدة التي يحتاج إليها الإنسان ولم يلحق بركب الحضارة فسيعيش عيشة خزي وعار.
وإنا لنرى حال المسلمين الذين تخلفوا عن ركب الحضارة في مختلف الأقطار الإسلامية الشاسعة كيف يعيشون تحت نير الاستعمار والظلم والقهر كيف يعيشون في القيود والسجون المظلمة التي لا يطاق معها العيش.
وإنا كمجتمع مؤلف من أسر إسلامية لمسئولون أمام الله وأمام التاريخ من هذا الوضع السيئ الذي يعيشه المسلمون منذ مئات السنين في مختلف الأوساط الإسلامية في فلسطين الجريحة وفي سورية والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها من الأقطار المنكوبة.
وإنا لنسمع الصيحات التي يطلقها أصحاب هذه الأقطار عبر الصحافة والإذاعات المرئية والمسموعة ويستغيثون بالمسلمين وغير المسلمين بأعلى أصواتهم لإنقاذهم من هذا الحجيم الذي هم فيه، ولكنه ليس لهم مجيب.
أيها المسلمون وأيها الحقوقيون الذين يدعون الديموقراطية ويلوكونها بألسنتهم ليلاً ونهاراً، ولا يكفينا الصوم والصلاة والعبادات التي نقيمها ولا المساجد التي نعمرها وحدها. فالإسلام كل لا يتجزأ.
وأريد أن أضيف شيئاً آخر إلى هذا؛ وهو أن هناك ناساً من أصحاب الغيرة يحاولون أن يتخلصوا من هذا الوضع المأسوي ويرفعوا رؤوسهم فيريدون أن يسلحوا أولادهم بالعلوم الكونية والعلوم التي هي سلم الوصول إلى الغاية المنشودة والالتحاق بركب الحضارة فيرسلون أولادهم الذين هم في عنفوان الشباب وهم غير محنكين لا يعرفون شيئاً من الإسلام ولا من الدسائس التي تحـاك لهم ولأمثالهم، يرسـلون أولادهم نحـو الشـرق أو الغـرب ليسـتيقظـوا كما استيقظ الناس ويؤدوا مهمتهم التي هم مكلفون بأدائها، ولكنهم مع الأسف لا يمضي عليهم إلا قليل من الزمن إلا ويرون أنفسهم في شبكة الشهوات العارمة يقومون ويقعدون مع أناس لا خلاق لهم عارية من العفة والمروءة ومن كل ما تتطلبه الإنسانية لا يراعون إلاًّ ولا ذمة، وليس لهم أي نصيب من العواطف الدينية ولا الإنسانية.
إن أسرنا الإسلامية ومجتمعاتنا إذا لم تراع حقوق الأولاد الذين هم ثمرة قلوبهم ولم تسلحهم بالعلوم والثقافة التي تؤمن سعادتهم فهي مسئولة أمام الله.
ومن هنا نقول: يجب على كل من يؤمن بالإسلام ورسالته أن يجدّ بحزم وقوة ليحكم بناء الأسرة التي هو عضو فيها ويضحي بكل طاقاته في سبيل إنشاء أعضائها وتقويتها حتى يمكن لها أن تتجنب من شرور الوحوش البشرية التي لا تألو جهداً في سبيل إيقاعها في شرك الشهوات العارمة.
وعلينا أن نعرف بأن لكل عضو من أعضاء الأسرة -الآباء والأمهات والأولاد- حقوقاً على الباقي منها. فمن حقوق الولد قبل أن يقدم إلى ساحة الوجود على والده أن يختار له أمّاً مثقفة تعلم الخير من الشر والحق من الباطل، وأن تزن كل شيء بالميزان الذي يليق به، دينة تعرف ربها الذي خلقها، وتعرف الغاية التي خلقت من أجلها، والعبودية التي هي مكلفة بالقيام بها. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56) متحلية بالأخلاق الحسنة والمزايا الفاضلة لأنها ستكون مرشحة للأمومة أي ستكون أمّاً لمولود سيأتي فيما بعد حسب الفطرة التي خلقت من أجلها حتى يمكن لها القيام بالمهمة التي ستوكل إليها. وهي إعداد ذلك المولود لمستقبل حياته، ومن هنا يقول الرسول: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ؛ لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»(1).
ومنها أنه يجب عليه -الوالد- أن يعلم ولده بعد ما ترعرع ووصل إلى حد التمييز العلوم التي يمكن أن يصل إلى مستواه اللائق به ويكون عضواً كاملاً في المجتمع.
ومنها أنه يجب عليه أن يحسن اسمه، وقد ورد أنه جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -  - يشكو إليه عقوق ابنه فأحضر عمر -  - الولد وأنّبه على عقوقه لأبيه ونسيانه لحقوقه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر -  -: أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه الكتاب. قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاَ من ذلك؛ أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعَلا، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيئ إليك.
ومنها أنه يجب على الوالد أن يؤدي نفقة ولده، ويؤمن كل ما يحتاج إليه من طعام وملبس ومشرب وتداو وتعليم، وأن يجاهد في بناء مستقبله لا سيما في عصرنا هذا، فإن الوالد لو ترك ولده مسيباً كما هو ولم يربه ويعلم العلوم التي يحتاج إليها المرء لدنياه وعقباه وتركه من غير راع يقوم ويقعد مع أناس لا خلاق لهم لتركه معرضاً للوقوع في الشهوة العارمة، ويكون قد قتل هو بنفسه ولده قتل إنسانيته وقتل ضميره. يقول الرسول - ﷺ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا»(1).
وكما أنه للولد الذكر حقوق على والده فكذلك للولد البنت أيضاً حقوق على والدها لا فرق بينهما في الحقوق والواجبات، ولكل من الزوج والزوجة حقوق على الآخر.
فمن حقوق الزوج على الزوجة أن تطيع زوجها بالمعروف حيث إنه هو القائم على الأسرة قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (النساء: 34).
وقد روى البزار: أن نسوة اجتمعن مرة في عهد النبي - ﷺ - وأرسلن إحداهن إلى الرسول - ﷺ - فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن أصيبوا أثيبوا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يـرزقـون. ونحن معشـر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك الأجر؟ فقال الرسول - ﷺ -: «أَبْلِغِي مَنْ لَقِيتِ مِنَ النِّسَاءِ أَنَّ طَاعَةً لِلزَّوْجِ وَاعْتِرَافاً بِحَقِّهِ يَعْدِلُ ذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِنْكُنَّ مَنْ يَفْعَلُهُ»(1).
وثانيها أن تحفظ للزوج ماله ونفسها، يقول الرسول - ﷺ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ بِمَالِهِ وَنَفْسِهَا»(2).
ومن حقوق الزوجة على زوجها أنه يجب عليه أن يقوم بأداء نفقتها وما تحتاج إليه من طعام وشراب وكسوة ومسكن وتداو وغير ذلك من الحاجات الضرورية، قال الرسول - ﷺ -: «اِتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(3).
ومنها أن يعاشر الزوج زوجته بالمعروف ويلاطفها فلا يؤذيها بقوله أو فعله أو حاله، قال الرسول - ﷺ -: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ»(4).
ومنهـا أن يسـاعـدهـا في الأعمـال التي تقوم بها في المنزل فلا يتخذ منها أجيراً تعمل كما يعمل الأجير، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سئلت ما ذا يصنع الرسول - ﷺ - في البيت؟ فقالت: يصنع ما يصنع أحدكم يشيل هذا ويحط هذا ويخدم في مهنة أهله. يقول الرسول - ﷺ - «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِى»(5).
ويجب على الزوج والزوجة أن يعيشا في وئام لا يفعل أحدهما شيئاً يؤذي الآخر، وأن يتحمل كل منهما ما يقوله أو يفعله مما لا يلائم مزاجه، حيث إنه كما تختلف الألوان تختلف الطبائع والعقول؛ فلا يمكن أن تكون عقولهما وطباعهما ملائمة من كل الجهات.
ومن الحقوق التي تجب للوالدين على ولدهما أن الولد بعد ما بلغ أشده ووصل إلى مستوى الرجولية يجب عليه أن يكون في خدمة الوالدين، ويحسن إليهما، ويطيعهما بالمعروف لا سيما بعد ما وصلا إلى سن الشيخوخة، وضفعت قواهما الطبيعية، واحتاجا في شئونهما إلى مد يد العون في الأعمال التي تواجههما، وأن لا ينفعل من الأقوال والأفعال التي تصدر منهما عن قصد أو غير قصد إذا لم توافق طبعه. يقول تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23).
وعلى الولد أن يعلم بأنه لا يمكن له أن يؤدي حق والديه كاملاً مهما اجتهد في ذلك.
وقد ورد أنه جاء رجل إلى النبي - ﷺ - وقال له: يا رسول الله إني حججت بأمي من اليمن على ظهري وطفت بها البيت وسعيت بها بين الصفا والمروة ووقفت بها في عرفات ودلفت بها إلى المزدلفة ورميت بها الجمار بمنى فعلت ذلك وهي عجوز لا حراك بها وأنا أحملها على ظهري فهل أديت حقها علي فقال: «لَا»، قال الرجل: لِمَ؟ قال: «لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِكَ فِي صِغَرِكَ وَهِيَ تَتَمَنَّى حَيَاتَكَ وَأَنْتَ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ لَهَا وَأَنْتَ تَتَمَنَّى مَوْتَهَا».
المقاصد الشرعية من الأسرة
إن الهدف من الاهتمام بالأسرة التي هي الخلية الأولى للمجتمع البشري -كما بينا سـابقاً- هـو أن يجتهـد المـرأ الذي هو عضو فيها في حمايتها، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6).
وكما قال الرسول - ﷺ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(1).
وأن يبنيَها على قواعد متينة تعرف ربها، وتؤمن بالقوانين التي سنها، وتسلك الطريق التي خطها حتى توصلها إلى السعادة المنشودة، وتحقق الخلافة لهذا الكائن البشري على وجه الأرض فيعمرها، ويجعل منها منطلقاً نحو الدرجات العلى، وذلك إنما يكون باختيار زوجة صالحة ومثقفة تساعد زوجها في إنشاء هذا البناء.
وقد حذّر النبي - ﷺ - من أن يكون هذا الاختيار مبنياً على الجمال الذي يردي والمال الذي يطغي والحسب، بل لابد وأن يكون مبنياً على الدين الذي هو صلة بين العبد والرب، حتى يكون سبباً للعيش بسلام، ولصلاح الثمرة التي تترتب على القران الذي يحصل بين الزوجين العضوين في الأسرة.
ولابد لتحقق هذا البناء من تعاون أفراد الأسرة فيما بينها وتلائمها، وأكمل عامل لإتمام هذا البناء هي أم الأولاد أو زوجة رب الأسرة، لأنها تقوم وتقعد مع الأولاد الذين أنتجتهم، وتقدم لهم الغذاء الذي وضعه الله في بنيتها، وتنساق بحسب الفطرة أن تنشئهم على الطريق الصالحة التي تسلكها حتى يتم صلاح الأولاد. وإن لم تكن صالحة مثقفة فلا يمكن صلاح هذا البناء، ولا تماسكه، وستتفكك الروابط فيما بينها في أقرب وقت.
نعم، إن الهدف من الاهتمام بشأن الأسرة هو تنظيمها، وربط أفراد المجتمع بعضها ببعض بخيوط الحب والعطف والاحترام المتبادل وتواصل الأرحام فيما بينهم؛ فإن من يصل رحمه يصله الله، ومن يقطعه يقطعه الله. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ (النساء: 1).
إن المقصود من الاهتمام بالأسرة هو أن تتحقق خلافة هذا الكائن الحي على وجه الأرض كما أراد الله سبحانه وتعالى، وتتحقق سعادة البشر وتظهر عظمة المولى جل وعلا، وليس لله أية حاجة فيما يأمر به وينهى عنه. ولا في العبادة التي يأمر بها، فهو الغني المطلق الذي لا يحتاج إلى أي شيء، وهو الغني ونحن الفقراء.
وأية حاجة لله تعالى للصلاة التي يؤديها العبد في اليوم والليلة خمس مرات يؤديها بتلاوة بعض الآيات القرآنية والحركات التي يأتي بها من قيام وقعود. وأية حاجة له في أداء الزكاة التي يبذلها الأغنياء للفقراء. وأية حاجة له للصوم الذي هو عبارة عن إمساك الصائم عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس. وأية حاجة له في الحج الذي هو عبارة عن الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة... لا فائدة له في ذلك، وإنما الهدف من ذلك هو تربية العبد وإصلاحه وإيجاد التعاون والتعارف فيما بين أفراد الأمة. هذا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أضافة تعليق
آخر مقالات