د. زهير الخويلدي
السبت, 29 مارس 2014
توطئة:
’’أنا يا تونس الجميلة في لج الهوى قد سـبحت أي ســـباحه
شــرعتي حبــك الجميـــــــل وأنــي قد تذوقت مره وقراحه’’[1]
لماذا الحديث عن بلادنا الجميلة؟ وما هي الدوافع التي جعلت الفكر يطالب الحلم الجميل بالقدوم؟
يقع الفكر فريسة سهلة للايديولوجيا حينما يسعى الى تحقيق أغراضه الخاصة على حساب المقولات الكلية ولما ينظر الى أحكام الواقع من زاوية اعتبارات المصلحة والآراء المتداولة.
لقد آن الأوان بالنسبة للكتاب والشعراء والنقاد لكي يتركوا الجدران السميكة للايديولوجيا ويغادروا الأرض الصلبة للديماغوجيا ويكفوا عن تدوير الزوايا وتربيع الدوائر الفارغة ويقلعوا عن السير في المتاهات الوعرة ويعتبروا من دروس التاريخ ويتعظوا من عناد السائد ونهشة الواقع ويسقطوا من حسابهم واجبات تلبية نداء الأقاصي وتجسيم الأحلام الوردية الآن وهنا.
من هذا المنطلق حري بالفكر الحاذق أن يطرح المزاعم والدعاوي وعناصر القيمة جانبا وأن يتنحى عن التقييم الذاتي والتأملات الفارغة ويفتح الباب على التو نحو عالم الحياة وينخرط في أفعال قصدية ويباشر التفريق بين الجيد والرديء وبين الضار والنافع وبين المؤجل والعاجل.
ما يراهن عليه الفيلسوف ههنا هو اخراج العقل من أبنيته المعرفية المجردة الى الميدان العام والزج به في التاريخ الحي للشعوب وجعله منظومة معيارية وفضاء تقويمي للحياة البيذاتية التواصلية والاحتكام اليه في فض النزاعات وامتصاص العنف وايجاد مخرج للقضايا المستعصية.
في هذا السياق لا يتحرك العقل النقدي لدينا ضمن حيز ما يملك بل يدارك ما ينقصه ولا يقتصر الفكر الباحث عن الاقامة في بيته على الحكم الفني ويقوم بالتمييز بين الجميل والقبيح بخصوص الوطن وبدل الحديث عن تونس الخضراء وعن تونس الشهيدة كما فعل المصلح الكبير عبد العزيز الثعالبي وعوض استعادة عنوان تونس الثائرة للزعيم الوطني علي بلهوان فإنه يجدر به التقاط ما جادت به القريحة الشعرية لأبي القاسم الشابي عن تونس الجميلة.
والحق أن الأمر يتعلق بالوجود المنشود وصناعة المستقبل والحلم بالآتي بالنسبة الى هذه البلاد أكثر من الواقع الموجود وقراءة للحاضر أو استعادة للماضي والحنين الى الموروث أو الذكرى.
لعل ما يشرع ذلك هو ارتباط الجمال بالشباب والإرادة والحياة والجود والكرم والإقبال على فضائل المحبة والصداقة والعمل والمودة والسماحة والتعاون الاجتماعي وتمتين تجارب الحوار والتواصل. لكن عن أي جمال يمكن الحديث في ظل التبعية الثقافية وتزايد المديونية وتعثر تجارب التنمية؟ وكيف يتخطى الفكر لدينا ورطة التبعية الثقافية ويحقق الاستقلال الحضاري؟ ألا يجب أن نجعل من مسألة توطين مفهوم السيادة على المعمورة قاعدة ذهبية وعنوانا كبيرا للمرحلة القادمة؟
ما نراهن عليه في هذا المقام هو احداث قراءات للبنية الفكرية المنتجة للخطاب السياسي والإعلامي والمطالبة بإعادة بناء هذه الآليات المتحكمة في الأقوال ضمن أرضية سيادية.
1- التبعية الثقافية:
’’فالمثقف، وعلى النقيض من الخبير العلمي والطبيب المعالج، حيث يضع كل منهما نصائحه بتصرف وكالات تابعة للدولة أو لأفراد خواص، يتوجه مباشرة الى المجال الليبرالي أو العمومي الموجود فيه مؤثرا ومتأثرا’’[2]
الفيلسوف هو الأقدر على الخوض في المسائل الخلافية المعقدة وتشريح الأحكام المسبقة وتفكيك النظرات العنصرية ومعالجة الجروح الخفية للذاكرة الجماعية ومساءلة منكوبية الإقصاء الاجتماعي والتهميش الثقافي والتحلي بالتجرد والحياد وتحليل المشاكل المتعلقة بالعدالة السياسية والالتزام بثقافة الحقيقة والنزاهة وتقديم فهم أفضل لأوضاع المجتمعات وممارسة نقد صارم تجاه الأزمات الهيكلية التي تحدث داخل الدول وتخفيف المعاناة الناتجة عن فظاظة التفاوت ووقاحة الاستغلال وقساوة الازدراء والرد على جنون الاستهلاك ومعالجة أمراض البيروقراطية وانسداد الآفاق والاعتراض على تفشي مشاعر القنوط والعدم من جديد في دنيا السياسة والاجتماع.
لا يشمل التحليل دوائر السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن وإنما يركز على تشخيص التبعية في مجالات الفكر والثقافة والعلم وعلى وسائل الاتصال الحديثة ومنظومة الاعلام والتكنولوجيا الرقمية.
نحن نتحرك ضمن ثقافة تابعة ومتواطئة مع السلطة الامبريالية ينتجها فكر ضعيف يغلب عليه التقليد والاجترار وتداول على مخلفاتها نخب مرتهنة وموالية للثقافات المهيمنة تارة ومحافظة على نظام الخطاب وأبنية المعرفة طورا. ومن سمات هذه الثقافة التابعة هو ميلها الى العنف عند اصطدامها بسوء تفاهم مع الثقافات المغايرة وتعثر مشاريع الاصلاح وتتالي الاخفاقات والكبوات وضياع محاولات التثوير الاجتماعي وتأجيل عملية التغيير الاجتماعي للأطر المنتجة للحقيقة.
لعل السبب الحقيقي لهذه التبعية الثقافية هو الاغتراب عن الذات والقطيعة مع الجوانب النيرة من التراث وعدم المراهنة على التعويل على النفس في مستوى بناء حداثة على غير المعيار الغربي. علاوة على ذلك وقوع النخب الثقافية في شراك الاستشراق وتبني النظرة القاصرة والمتحاملة التي يحملها الآخر الغربي عن الذات الشرقية وتكريس القصور النظري عند الوعي وآليات التحليل والتفسير وتأبيد الوصاية العلمية والتقنية للدول الاستعمارية على البلدان المستعمرة.
’’هذا الماضي المجيد هو التبرير الرسمي للعنصرية الاستعمارية التي أقرها جيل فيري Jules Ferry في الجمعية الوطنية يوم 28 من يوليو عام 1885 حين قال: يجب أن نقولها بصراحة وبدون مواراة: في الواقع إن الأجناس الأرقى لها حقوق على الأجناس الأدنى...وستظل فرنسا هذه للأبد جندي الله أو جندي القانون وذلك بحسب المقام’’.[3]
غير أن كشف الألغام التي تخفيها النظرة الاستعلائية وتحويل المبادئ الكونية للثورة الفرنسية الى تبرير الاستيلاء على البلدان المجاورة باسم نشر ثقافة العقلانية والتنوير وغرس قيم التمدن والتطور تحت راية منافع الاجبار القسري على الانضمام الى ركب التاريخ الكوني هي المهمة قام بها علم نقد الاستشراق عند المبدع ادوارد سعيد حينما أماط اللثام عن الخدمة الايديولوجية التي يؤديها علم الاستشراق للنزعة الاستعمارية التي استوطنت في ذهنية الفرد الغربي الباحث عن السيطرة على العالم ومراكمة الثروة منذ غزوه العالم الحر الجديد وسعيه الدؤوب على جعل الراسيو اللاتيني هو النموذج الثقافي للنظام والرقي والتحضر لدى الشعوب والثقافات الأخرى.
’’ وهكذا فإن الشرق سوف يبدو مجالا مغلقا أو خشبة مسرح ملتصقة بأوروبا، لا امتداد غير محدود خارج العالم الأوروبي المألوف. والمستشرق لا يزيد عن متخصص في معرفة خاصة، وتعتبر أوروبا بأسرها مسؤولة عنها’’.[4] لكن كيف يتم الرد على دعاوي الاستشراق ويمكن بناء رؤية متسامحة ومنصفة للذات الحضارية؟
2– شروط الاستقلال الحضاري:
’’وحدها الثقافة الحية، الوفية لجذورها، وفي الآن نفسه تكون في حالة ابداعية على صعيد الفن والأدب والفلسفة والروحانية، هي القادرة على تحمل اللقاء بالثقافات الأخرى’’.[5]
ماهي شروط اللقاء المثمر بين الثقافات؟ وكيف يتم ضمان شروط الاستقلال الحضاري؟
اذا كان الزمن الراهن يتميز بعبور الخصوصيات نحو العالمية وتطاير الشرر من هذه العولمة المتوحشة ذات النهج الاختراقي الاستقطابي فإن نتيجة ذلك هو ذوبان الهويات في العولمة وهلاك الكوني القابع داخلها أو فقدان الخصوصيات قيمتها وتمركزها على نفسها وتجمدها وضياع الفرصة التاريخية لردم الفجوة الرقمية مع الفاعلين الكونيين واللّحاق بركب التطور.
على هذا النحو يمكن أن نذكر من شروط الاستقلال indépendance الحضاري ما يلي:
- فك الارتباط مع دول المركز والكف عن النظر الى الذات بوصفها مجرد صفحة من صفحات ثقافات الهامش ومن تخوم الهوية الإنسانية.
- التوجه على الفور نحو المشاركة في صناعة الكونية عن طريق المثاقفة مع الأغيار والتعامل بندية معهم.
- ترجيح كفة الجهات التي تدعم كونية الادماج والتعارف والتصافي على الدوائر التي تغذي عولمة التفكك والتدافع والتشابك.
- الانضمام الى جبهة عالمية للمجتمع المدني والانحياز الى عولمة مضادة أكثر إنسانية وعدالة.
- الاستئناف الحضاري الثاني بالنسبة الى أمة اقرأ وإحداث تقاطع حقيقي بين أخلاق المروءة والقصص الديني بالنسبة للناطقين بلغة الضاد.
- المساهمة في بلورة مشروع انسي يتضمن جملة من المبادئ الإتيقية المنفتحة على مستقبل الحياة على الكوكب ويحمل رسالة سلم وتعاون وصفح للبشرية.
- اكتساب وسائل القوة والمنعة الحضارية وإعادة تفعيل المشروع الديمقراطية الدستورية لبناء الدولة الأمة ضمن تقالب مفهومي المواطنة والسيادة وجدلية الوطني والقومي وتكامل المحلي مع العالمي.
- لا مناص من الاحتكام الى معقولية قيمية مضيافية تعبد الطريق نحو مؤازرة لقوى العدل والخير في العالم وترافع حضوريا على ابرام ميثاق علاج للبشرية من الشر السياسي.
- التقويمات السديدة للحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة تقتضي الالتزام الشخصي بصيانة الاستقلالية الفكرية للذات الجماعية وتثمين العمل المنتج وإعادة بناء القيم والإيمان بدينامية التغير وتقريظ الاختلاف وجدوى الانفتاح.
غاية المراد أن ’’ان الرابطة الإنسانية الوحيدة حقا لجماعة إنسانية حقا تتمثل في اشتراك هذه الجماعة في مشروع عام وتعاونها على تحقيق هذا المشروع بوصفه مشروعا مشتركا للإنسانية كلها كوحدة كلية وهكذا يساهم كل شعب من خلال ثقافته الأصيلة في أنسنة الإنسان ونموه وتقدمه الحقيقي في الإنسانية’’.[6] لكن كيف يساهم توجه النحن نحو صناعة المستقل في استكمال شروط الانعتاق من التبعية وانجاز مسيرة التحرير الكامل وبناء الاستقلال الحضاري؟
3- توطين مفهوم السيادة:
’’من جهة نحمي مناطق حرية المبادرة ونرتبط بالجماعة، ومن جهة أخرى نحتج ضد اللاّنظام واللاّعدالة والبؤس، وهكذا نعيش في نظامين أخلاقيين: أخلاق خاصة وأخلاق الجماعة’’.[7]
من المعلوم أن السيد Souverain هو الذي الشخص الفردي أو الجماعي الذي تنتمي اليه السلطة من جهة الحق في حين أن السيادة Souveraineté هي الواجب الذي لا يمكن مقارنته مع معقوليات الفعل الأخرى ولذلك تعتبر سيادة السلطة القانونية هي المصدر الأصلي لكل السلطات الأخرى ومبدأ المشروعية لكل الممارسات السياسية والتنفيذية.
لقد كان الحاكم بوصفه السيد المطلق هو الناطق باسم السيادة ثم أصبح الوطن هو مبدأ السيادة ولكن فلاسفة العقد الاجتماعي قد جعلوا من الشعب وليس الفرد هو الذي يؤسس السيادة التامة غير قابلة للتقسيم والاغتراب.
كما تطرح السيادة في مستويين:
المستوى الأول هو السيادة الداخلية:
علاقة الدولة بالأفراد حيث تمارس نفوذا تاما في اطار احترام الحقوق والواجبات على الأفراد وتعاملهم كمواطنين. ولذلك يتم مجابهة كل أشكال التمرد والعصيان والانفصال والخروج بالردع.
المستوى الثاني هو السيادة الخارجية:
علاقة الدولة بالدول الأخرى حيث تتمتع الدولة بالاستقلال التام والكامل والسلطة العليا والنفوذ المطلق في مستوى اتخاذ القرار ولا تسمح للدول الخارجية بالتدخل في شؤونها الداخلية والتحكم في قرارها واستغلال ثرواتها والتحكم في مصائر مواطنيها والتصرف بدلا عنها في مقدراتها.
اذا كانت السيادة عند جان جاك روسو هي ممارسة الارادة العامة[8] فإن كونستون يشترط ضمان السيادة المشتركة لاستقلالية الفرد لكي يتم الحديث عن دولة الحريات والحقوق[9] ويسانده كوسترياديس في التأسيس الذاتي للمجتمع عند ترك الأفراد أحرار وسيادتهم على آثارهم.[10]
لا يمكن الحديث عن ديمقراطية دستورية دون الانطلاق من المزج بين المصارحة بالحقيقة وسياسة الانصاف وبلا تذكير بأهمية اتيقا النقاش العمومي في مقابل الهوية العنيفة وسياسة المصلحة. كما الرغبة الشديدة في توطين مفهوم السيادة في المعمورة لا يجب أن تتحول الى عامل جدب للحريات ومنظومة المواطنة وقيم الفردانية وثقافة حقوق الإنسان ومبادئ التحررية.
علاوة على أن السيادة لا تقتصر على ما هو قانوني وضعي وما يتم الاتفاق عليه بمقتضى النصوص الدستورية بل تتعدى ذلك الى السيادة السياسية التي تحتكم الى الارادة الشعبية وتحترمها وما يفضي ذلك من استقلالية القرار السياسي الوطني وتحصين حرية الاختيار في مستوى السياسات الحيوية وإتقان فن التحالفات الاستراتيجية وحسن التموقع الجيو- سياسي في لعبة الأمم المتحكمة في مصائر الدول وثروات الشعوب ومستقبل الحياة الجيدة في الكوكب.
لا يمكن الانتقال من السيادة المنقوصة للدولة الرخوة إلا بتوفير مقومات الدولة القوية التي تعبر عن العقل في قدرته التشريعية على تخطي العنف السياسي والأزمة الروحية والانبتات الوجودي.
فكيف تقوم الديمقراطية الدستورية بتثبيت مفهوم السيادة في القاموس السياسي الراهن؟
خاتمة:
’’ان الفلسفة والديمقراطية لا يشتركان فحسب في أصلهما المشترك، ولكن وجودهما ذاته وجود مشترك’’[11]
في الختام يحتاج الفكر اليقظ الى رجة معرفية لكي يستفيق من غفوته وينتقل من التبعية الثقافية الى الاستقلال الحضاري ويتطلب الانعتاق ممارسة التفكيك والقيام بالتحطيم والخلخلة للبديهيات.
والحق أن مطلب الحرية يتناقض مع واقع العبودية وأن الأمل في الاستقلال يَجُبُّ ما قبله من التبعية الثقافية وعندئذ يشترط تحقيق السيادة اكتمال الاستقلالية الذاتية للهوية الحضارية للجماعة السياسية. بيد أن مفهوم السيادة الوطنية ليست مجرد افتكاك حقوق الملكية من العولمة المتوحشة ووكلاء الاستعمار بل قداسة ملكية الذات الوطنية لذاتها واستعادة تراثها بوصفه رأسمالها الرمزي والمصالحة مع الذاكرة والتغلب على شقاء التاريخ وتصحيح الأوضاع التي أفرزت التفاوت المادي بين المركز والأطراف وبين بلدان الشمال المتقدمة وبلدان الجنوب النامية والاعتذار الحضاري عن الجرائم والتعديات وتحميل الفاعلين مسؤولية اختياراتهم وجبر الأضرار لدى الضحايا وتحقيق مبادئ العدالة الانتقالية في دوائر الحرية والمساواة والإنصاف والاستحقاق والصفح والاعتراف والوعد والأمل. والحق أن توطين مفهوم السيادة بصفة مستقرة على أرضنا يتطلب تحرير الفاعليين الاجتماعيين من ثقافة السلطة وتوسيع أنظمة الشرعنة والبحث في الهوية الوطنية من زاوية تعددية تشاركية.
لكن كيف يمكن القضاء على الظروف والملابسات والوضعيات القصوى المولدة للفقر والجهل والمرض والمفرخة للغلو والعنف والإرهاب والمنتجة للتطاحن والتحارب والتدمير والتهميش؟
هل ساعدت دول الرّفاه من جهة التنظير والتنفيذ دول الرعاية الاجتماعية على التخلص من أوضاعها السيئة وتبعيتها وعلى القضاء على المديونية ومنوال التنمية المتخلف والفاشل؟
الى أي مدى ينتشر الفقر نتيجة تفاوت الحظوظ وسوء الطالع ويزداد التخلف بحكم الظروف غير المنصفة وقلة المشاركة في الحياة الاقتصادية؟ هل تملك دولة الرعاية الاجتماعية القدرة على معالجة الأضرار ومقاومة الآفات التي سببت التبعية وتحقق المساواة في الظروف بين الناس؟[12]
******
الهوامش والاحلات:
[1] (الشابي) أبو القاسم، الأعمال الكاملة، الدار التونسية للنشر، دون تاريخ.
[2] هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، الديمقراطية الدستورية، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2010. ص. 65.
[3] غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة 2002. ص179.
[4] سعيد (ادوارد)، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2006.ص.129.
[5] Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. Paris,1955- 1964.p.298
[6] غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، مرجع مذكور، ص182.
[7] Ricœur (Paul), Histoire et vérité, op.cit, p.304.
[8] Rousseau J.J , Du contrat social , livre 2, édition GF- Flammarion, Paris, 1992, pp.51.56
[9] Constant, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes, in De l’esprit de conquête et de l’usurpation, édition GF- Flammarion, Paris, 1986, p.265.
[10] Castoriadis, Domaines de l’homme, les carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil, Paris, 1986, pp.318.323.
[11] هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، مرجع مذكور، ص.66.
[12] كيملشكا (ويل)، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010. ص.212.
*******
المراجع:
Castoriadis , Domaines de l’homme, les carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil, Paris, 1986,
Constant, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes, in De l’esprit de conquête et de l’usurpation, édition GF- Flammarion, Paris, 1986, p.265.
Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. Paris,1955- 1964. Rousseau J.J , Du contrat social , livre 2, édition GF- Flammarion, Paris, 1992,
كيملشكا (ويل)، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010.
هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، الديمقراطية الدستورية، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى،2010.
(الشابي) أبو القاسم، الأعمال الكاملة، الدار التونسية للنشر، دون تاريخ.
سعيد (ادوارد)، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2006.
غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002.
السبت, 29 مارس 2014
توطئة:
’’أنا يا تونس الجميلة في لج الهوى قد سـبحت أي ســـباحه
شــرعتي حبــك الجميـــــــل وأنــي قد تذوقت مره وقراحه’’[1]
لماذا الحديث عن بلادنا الجميلة؟ وما هي الدوافع التي جعلت الفكر يطالب الحلم الجميل بالقدوم؟
يقع الفكر فريسة سهلة للايديولوجيا حينما يسعى الى تحقيق أغراضه الخاصة على حساب المقولات الكلية ولما ينظر الى أحكام الواقع من زاوية اعتبارات المصلحة والآراء المتداولة.
لقد آن الأوان بالنسبة للكتاب والشعراء والنقاد لكي يتركوا الجدران السميكة للايديولوجيا ويغادروا الأرض الصلبة للديماغوجيا ويكفوا عن تدوير الزوايا وتربيع الدوائر الفارغة ويقلعوا عن السير في المتاهات الوعرة ويعتبروا من دروس التاريخ ويتعظوا من عناد السائد ونهشة الواقع ويسقطوا من حسابهم واجبات تلبية نداء الأقاصي وتجسيم الأحلام الوردية الآن وهنا.
من هذا المنطلق حري بالفكر الحاذق أن يطرح المزاعم والدعاوي وعناصر القيمة جانبا وأن يتنحى عن التقييم الذاتي والتأملات الفارغة ويفتح الباب على التو نحو عالم الحياة وينخرط في أفعال قصدية ويباشر التفريق بين الجيد والرديء وبين الضار والنافع وبين المؤجل والعاجل.
ما يراهن عليه الفيلسوف ههنا هو اخراج العقل من أبنيته المعرفية المجردة الى الميدان العام والزج به في التاريخ الحي للشعوب وجعله منظومة معيارية وفضاء تقويمي للحياة البيذاتية التواصلية والاحتكام اليه في فض النزاعات وامتصاص العنف وايجاد مخرج للقضايا المستعصية.
في هذا السياق لا يتحرك العقل النقدي لدينا ضمن حيز ما يملك بل يدارك ما ينقصه ولا يقتصر الفكر الباحث عن الاقامة في بيته على الحكم الفني ويقوم بالتمييز بين الجميل والقبيح بخصوص الوطن وبدل الحديث عن تونس الخضراء وعن تونس الشهيدة كما فعل المصلح الكبير عبد العزيز الثعالبي وعوض استعادة عنوان تونس الثائرة للزعيم الوطني علي بلهوان فإنه يجدر به التقاط ما جادت به القريحة الشعرية لأبي القاسم الشابي عن تونس الجميلة.
والحق أن الأمر يتعلق بالوجود المنشود وصناعة المستقبل والحلم بالآتي بالنسبة الى هذه البلاد أكثر من الواقع الموجود وقراءة للحاضر أو استعادة للماضي والحنين الى الموروث أو الذكرى.
لعل ما يشرع ذلك هو ارتباط الجمال بالشباب والإرادة والحياة والجود والكرم والإقبال على فضائل المحبة والصداقة والعمل والمودة والسماحة والتعاون الاجتماعي وتمتين تجارب الحوار والتواصل. لكن عن أي جمال يمكن الحديث في ظل التبعية الثقافية وتزايد المديونية وتعثر تجارب التنمية؟ وكيف يتخطى الفكر لدينا ورطة التبعية الثقافية ويحقق الاستقلال الحضاري؟ ألا يجب أن نجعل من مسألة توطين مفهوم السيادة على المعمورة قاعدة ذهبية وعنوانا كبيرا للمرحلة القادمة؟
ما نراهن عليه في هذا المقام هو احداث قراءات للبنية الفكرية المنتجة للخطاب السياسي والإعلامي والمطالبة بإعادة بناء هذه الآليات المتحكمة في الأقوال ضمن أرضية سيادية.
1- التبعية الثقافية:
’’فالمثقف، وعلى النقيض من الخبير العلمي والطبيب المعالج، حيث يضع كل منهما نصائحه بتصرف وكالات تابعة للدولة أو لأفراد خواص، يتوجه مباشرة الى المجال الليبرالي أو العمومي الموجود فيه مؤثرا ومتأثرا’’[2]
الفيلسوف هو الأقدر على الخوض في المسائل الخلافية المعقدة وتشريح الأحكام المسبقة وتفكيك النظرات العنصرية ومعالجة الجروح الخفية للذاكرة الجماعية ومساءلة منكوبية الإقصاء الاجتماعي والتهميش الثقافي والتحلي بالتجرد والحياد وتحليل المشاكل المتعلقة بالعدالة السياسية والالتزام بثقافة الحقيقة والنزاهة وتقديم فهم أفضل لأوضاع المجتمعات وممارسة نقد صارم تجاه الأزمات الهيكلية التي تحدث داخل الدول وتخفيف المعاناة الناتجة عن فظاظة التفاوت ووقاحة الاستغلال وقساوة الازدراء والرد على جنون الاستهلاك ومعالجة أمراض البيروقراطية وانسداد الآفاق والاعتراض على تفشي مشاعر القنوط والعدم من جديد في دنيا السياسة والاجتماع.
لا يشمل التحليل دوائر السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن وإنما يركز على تشخيص التبعية في مجالات الفكر والثقافة والعلم وعلى وسائل الاتصال الحديثة ومنظومة الاعلام والتكنولوجيا الرقمية.
نحن نتحرك ضمن ثقافة تابعة ومتواطئة مع السلطة الامبريالية ينتجها فكر ضعيف يغلب عليه التقليد والاجترار وتداول على مخلفاتها نخب مرتهنة وموالية للثقافات المهيمنة تارة ومحافظة على نظام الخطاب وأبنية المعرفة طورا. ومن سمات هذه الثقافة التابعة هو ميلها الى العنف عند اصطدامها بسوء تفاهم مع الثقافات المغايرة وتعثر مشاريع الاصلاح وتتالي الاخفاقات والكبوات وضياع محاولات التثوير الاجتماعي وتأجيل عملية التغيير الاجتماعي للأطر المنتجة للحقيقة.
لعل السبب الحقيقي لهذه التبعية الثقافية هو الاغتراب عن الذات والقطيعة مع الجوانب النيرة من التراث وعدم المراهنة على التعويل على النفس في مستوى بناء حداثة على غير المعيار الغربي. علاوة على ذلك وقوع النخب الثقافية في شراك الاستشراق وتبني النظرة القاصرة والمتحاملة التي يحملها الآخر الغربي عن الذات الشرقية وتكريس القصور النظري عند الوعي وآليات التحليل والتفسير وتأبيد الوصاية العلمية والتقنية للدول الاستعمارية على البلدان المستعمرة.
’’هذا الماضي المجيد هو التبرير الرسمي للعنصرية الاستعمارية التي أقرها جيل فيري Jules Ferry في الجمعية الوطنية يوم 28 من يوليو عام 1885 حين قال: يجب أن نقولها بصراحة وبدون مواراة: في الواقع إن الأجناس الأرقى لها حقوق على الأجناس الأدنى...وستظل فرنسا هذه للأبد جندي الله أو جندي القانون وذلك بحسب المقام’’.[3]
غير أن كشف الألغام التي تخفيها النظرة الاستعلائية وتحويل المبادئ الكونية للثورة الفرنسية الى تبرير الاستيلاء على البلدان المجاورة باسم نشر ثقافة العقلانية والتنوير وغرس قيم التمدن والتطور تحت راية منافع الاجبار القسري على الانضمام الى ركب التاريخ الكوني هي المهمة قام بها علم نقد الاستشراق عند المبدع ادوارد سعيد حينما أماط اللثام عن الخدمة الايديولوجية التي يؤديها علم الاستشراق للنزعة الاستعمارية التي استوطنت في ذهنية الفرد الغربي الباحث عن السيطرة على العالم ومراكمة الثروة منذ غزوه العالم الحر الجديد وسعيه الدؤوب على جعل الراسيو اللاتيني هو النموذج الثقافي للنظام والرقي والتحضر لدى الشعوب والثقافات الأخرى.
’’ وهكذا فإن الشرق سوف يبدو مجالا مغلقا أو خشبة مسرح ملتصقة بأوروبا، لا امتداد غير محدود خارج العالم الأوروبي المألوف. والمستشرق لا يزيد عن متخصص في معرفة خاصة، وتعتبر أوروبا بأسرها مسؤولة عنها’’.[4] لكن كيف يتم الرد على دعاوي الاستشراق ويمكن بناء رؤية متسامحة ومنصفة للذات الحضارية؟
2– شروط الاستقلال الحضاري:
’’وحدها الثقافة الحية، الوفية لجذورها، وفي الآن نفسه تكون في حالة ابداعية على صعيد الفن والأدب والفلسفة والروحانية، هي القادرة على تحمل اللقاء بالثقافات الأخرى’’.[5]
ماهي شروط اللقاء المثمر بين الثقافات؟ وكيف يتم ضمان شروط الاستقلال الحضاري؟
اذا كان الزمن الراهن يتميز بعبور الخصوصيات نحو العالمية وتطاير الشرر من هذه العولمة المتوحشة ذات النهج الاختراقي الاستقطابي فإن نتيجة ذلك هو ذوبان الهويات في العولمة وهلاك الكوني القابع داخلها أو فقدان الخصوصيات قيمتها وتمركزها على نفسها وتجمدها وضياع الفرصة التاريخية لردم الفجوة الرقمية مع الفاعلين الكونيين واللّحاق بركب التطور.
على هذا النحو يمكن أن نذكر من شروط الاستقلال indépendance الحضاري ما يلي:
- فك الارتباط مع دول المركز والكف عن النظر الى الذات بوصفها مجرد صفحة من صفحات ثقافات الهامش ومن تخوم الهوية الإنسانية.
- التوجه على الفور نحو المشاركة في صناعة الكونية عن طريق المثاقفة مع الأغيار والتعامل بندية معهم.
- ترجيح كفة الجهات التي تدعم كونية الادماج والتعارف والتصافي على الدوائر التي تغذي عولمة التفكك والتدافع والتشابك.
- الانضمام الى جبهة عالمية للمجتمع المدني والانحياز الى عولمة مضادة أكثر إنسانية وعدالة.
- الاستئناف الحضاري الثاني بالنسبة الى أمة اقرأ وإحداث تقاطع حقيقي بين أخلاق المروءة والقصص الديني بالنسبة للناطقين بلغة الضاد.
- المساهمة في بلورة مشروع انسي يتضمن جملة من المبادئ الإتيقية المنفتحة على مستقبل الحياة على الكوكب ويحمل رسالة سلم وتعاون وصفح للبشرية.
- اكتساب وسائل القوة والمنعة الحضارية وإعادة تفعيل المشروع الديمقراطية الدستورية لبناء الدولة الأمة ضمن تقالب مفهومي المواطنة والسيادة وجدلية الوطني والقومي وتكامل المحلي مع العالمي.
- لا مناص من الاحتكام الى معقولية قيمية مضيافية تعبد الطريق نحو مؤازرة لقوى العدل والخير في العالم وترافع حضوريا على ابرام ميثاق علاج للبشرية من الشر السياسي.
- التقويمات السديدة للحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة تقتضي الالتزام الشخصي بصيانة الاستقلالية الفكرية للذات الجماعية وتثمين العمل المنتج وإعادة بناء القيم والإيمان بدينامية التغير وتقريظ الاختلاف وجدوى الانفتاح.
غاية المراد أن ’’ان الرابطة الإنسانية الوحيدة حقا لجماعة إنسانية حقا تتمثل في اشتراك هذه الجماعة في مشروع عام وتعاونها على تحقيق هذا المشروع بوصفه مشروعا مشتركا للإنسانية كلها كوحدة كلية وهكذا يساهم كل شعب من خلال ثقافته الأصيلة في أنسنة الإنسان ونموه وتقدمه الحقيقي في الإنسانية’’.[6] لكن كيف يساهم توجه النحن نحو صناعة المستقل في استكمال شروط الانعتاق من التبعية وانجاز مسيرة التحرير الكامل وبناء الاستقلال الحضاري؟
3- توطين مفهوم السيادة:
’’من جهة نحمي مناطق حرية المبادرة ونرتبط بالجماعة، ومن جهة أخرى نحتج ضد اللاّنظام واللاّعدالة والبؤس، وهكذا نعيش في نظامين أخلاقيين: أخلاق خاصة وأخلاق الجماعة’’.[7]
من المعلوم أن السيد Souverain هو الذي الشخص الفردي أو الجماعي الذي تنتمي اليه السلطة من جهة الحق في حين أن السيادة Souveraineté هي الواجب الذي لا يمكن مقارنته مع معقوليات الفعل الأخرى ولذلك تعتبر سيادة السلطة القانونية هي المصدر الأصلي لكل السلطات الأخرى ومبدأ المشروعية لكل الممارسات السياسية والتنفيذية.
لقد كان الحاكم بوصفه السيد المطلق هو الناطق باسم السيادة ثم أصبح الوطن هو مبدأ السيادة ولكن فلاسفة العقد الاجتماعي قد جعلوا من الشعب وليس الفرد هو الذي يؤسس السيادة التامة غير قابلة للتقسيم والاغتراب.
كما تطرح السيادة في مستويين:
المستوى الأول هو السيادة الداخلية:
علاقة الدولة بالأفراد حيث تمارس نفوذا تاما في اطار احترام الحقوق والواجبات على الأفراد وتعاملهم كمواطنين. ولذلك يتم مجابهة كل أشكال التمرد والعصيان والانفصال والخروج بالردع.
المستوى الثاني هو السيادة الخارجية:
علاقة الدولة بالدول الأخرى حيث تتمتع الدولة بالاستقلال التام والكامل والسلطة العليا والنفوذ المطلق في مستوى اتخاذ القرار ولا تسمح للدول الخارجية بالتدخل في شؤونها الداخلية والتحكم في قرارها واستغلال ثرواتها والتحكم في مصائر مواطنيها والتصرف بدلا عنها في مقدراتها.
اذا كانت السيادة عند جان جاك روسو هي ممارسة الارادة العامة[8] فإن كونستون يشترط ضمان السيادة المشتركة لاستقلالية الفرد لكي يتم الحديث عن دولة الحريات والحقوق[9] ويسانده كوسترياديس في التأسيس الذاتي للمجتمع عند ترك الأفراد أحرار وسيادتهم على آثارهم.[10]
لا يمكن الحديث عن ديمقراطية دستورية دون الانطلاق من المزج بين المصارحة بالحقيقة وسياسة الانصاف وبلا تذكير بأهمية اتيقا النقاش العمومي في مقابل الهوية العنيفة وسياسة المصلحة. كما الرغبة الشديدة في توطين مفهوم السيادة في المعمورة لا يجب أن تتحول الى عامل جدب للحريات ومنظومة المواطنة وقيم الفردانية وثقافة حقوق الإنسان ومبادئ التحررية.
علاوة على أن السيادة لا تقتصر على ما هو قانوني وضعي وما يتم الاتفاق عليه بمقتضى النصوص الدستورية بل تتعدى ذلك الى السيادة السياسية التي تحتكم الى الارادة الشعبية وتحترمها وما يفضي ذلك من استقلالية القرار السياسي الوطني وتحصين حرية الاختيار في مستوى السياسات الحيوية وإتقان فن التحالفات الاستراتيجية وحسن التموقع الجيو- سياسي في لعبة الأمم المتحكمة في مصائر الدول وثروات الشعوب ومستقبل الحياة الجيدة في الكوكب.
لا يمكن الانتقال من السيادة المنقوصة للدولة الرخوة إلا بتوفير مقومات الدولة القوية التي تعبر عن العقل في قدرته التشريعية على تخطي العنف السياسي والأزمة الروحية والانبتات الوجودي.
فكيف تقوم الديمقراطية الدستورية بتثبيت مفهوم السيادة في القاموس السياسي الراهن؟
خاتمة:
’’ان الفلسفة والديمقراطية لا يشتركان فحسب في أصلهما المشترك، ولكن وجودهما ذاته وجود مشترك’’[11]
في الختام يحتاج الفكر اليقظ الى رجة معرفية لكي يستفيق من غفوته وينتقل من التبعية الثقافية الى الاستقلال الحضاري ويتطلب الانعتاق ممارسة التفكيك والقيام بالتحطيم والخلخلة للبديهيات.
والحق أن مطلب الحرية يتناقض مع واقع العبودية وأن الأمل في الاستقلال يَجُبُّ ما قبله من التبعية الثقافية وعندئذ يشترط تحقيق السيادة اكتمال الاستقلالية الذاتية للهوية الحضارية للجماعة السياسية. بيد أن مفهوم السيادة الوطنية ليست مجرد افتكاك حقوق الملكية من العولمة المتوحشة ووكلاء الاستعمار بل قداسة ملكية الذات الوطنية لذاتها واستعادة تراثها بوصفه رأسمالها الرمزي والمصالحة مع الذاكرة والتغلب على شقاء التاريخ وتصحيح الأوضاع التي أفرزت التفاوت المادي بين المركز والأطراف وبين بلدان الشمال المتقدمة وبلدان الجنوب النامية والاعتذار الحضاري عن الجرائم والتعديات وتحميل الفاعلين مسؤولية اختياراتهم وجبر الأضرار لدى الضحايا وتحقيق مبادئ العدالة الانتقالية في دوائر الحرية والمساواة والإنصاف والاستحقاق والصفح والاعتراف والوعد والأمل. والحق أن توطين مفهوم السيادة بصفة مستقرة على أرضنا يتطلب تحرير الفاعليين الاجتماعيين من ثقافة السلطة وتوسيع أنظمة الشرعنة والبحث في الهوية الوطنية من زاوية تعددية تشاركية.
لكن كيف يمكن القضاء على الظروف والملابسات والوضعيات القصوى المولدة للفقر والجهل والمرض والمفرخة للغلو والعنف والإرهاب والمنتجة للتطاحن والتحارب والتدمير والتهميش؟
هل ساعدت دول الرّفاه من جهة التنظير والتنفيذ دول الرعاية الاجتماعية على التخلص من أوضاعها السيئة وتبعيتها وعلى القضاء على المديونية ومنوال التنمية المتخلف والفاشل؟
الى أي مدى ينتشر الفقر نتيجة تفاوت الحظوظ وسوء الطالع ويزداد التخلف بحكم الظروف غير المنصفة وقلة المشاركة في الحياة الاقتصادية؟ هل تملك دولة الرعاية الاجتماعية القدرة على معالجة الأضرار ومقاومة الآفات التي سببت التبعية وتحقق المساواة في الظروف بين الناس؟[12]
******
الهوامش والاحلات:
[1] (الشابي) أبو القاسم، الأعمال الكاملة، الدار التونسية للنشر، دون تاريخ.
[2] هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، الديمقراطية الدستورية، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2010. ص. 65.
[3] غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة 2002. ص179.
[4] سعيد (ادوارد)، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2006.ص.129.
[5] Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. Paris,1955- 1964.p.298
[6] غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، مرجع مذكور، ص182.
[7] Ricœur (Paul), Histoire et vérité, op.cit, p.304.
[8] Rousseau J.J , Du contrat social , livre 2, édition GF- Flammarion, Paris, 1992, pp.51.56
[9] Constant, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes, in De l’esprit de conquête et de l’usurpation, édition GF- Flammarion, Paris, 1986, p.265.
[10] Castoriadis, Domaines de l’homme, les carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil, Paris, 1986, pp.318.323.
[11] هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، مرجع مذكور، ص.66.
[12] كيملشكا (ويل)، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010. ص.212.
*******
المراجع:
Castoriadis , Domaines de l’homme, les carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil, Paris, 1986,
Constant, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes, in De l’esprit de conquête et de l’usurpation, édition GF- Flammarion, Paris, 1986, p.265.
Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. Paris,1955- 1964. Rousseau J.J , Du contrat social , livre 2, édition GF- Flammarion, Paris, 1992,
كيملشكا (ويل)، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010.
هابرماس (يورغن)، اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، الديمقراطية الدستورية، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى،2010.
(الشابي) أبو القاسم، الأعمال الكاملة، الدار التونسية للنشر، دون تاريخ.
سعيد (ادوارد)، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2006.
غارودي (رجاء)، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002.