د. زهير الخويلدي
ترجمة زهير الخويلدي
’’من أنا؟ من نحن؟ يبدو أن كل تفكر فردي أو جماعي في هذا السؤال محكوم عليه بأن ينتج نقيضة ما. من جهة تبدو الهوية الشخصية (الأنا العزيز) أو الجماعية (الأمة مثلا) منتقشة فينا بعمق بحيث لا يظهر أنها تحتمل أي نقاش.
لكن ما الذي يحصل مذ نحاول أن نعطيها مضمونا؟ انه الردب، فكل تعريف يبدو اختزاليا وتحريفيا وإقصائيا: يصبح الأنا العزيز أنانيا أو سوء النية؛ ويصبح الانتماء الى أمة نزعة قومية لا بل شوفينية. باختصار، الهوية إما أن تقع خيانتها أو تعد نحسا كلما حاولنا تحديدها. عن ذلك ينتج موقف ثان ممكن هو: الريبية. فهذا الأنا العميق مع أنه بديهي وحميمي بالتمام فإنه يظل معتما ومجهولا في واقع الأمر. أليس هو وهم؟ لكن كيف لي التخلي عنه؟
ان هذه المواجهة بين دغمائية الأنا، دغمائية شديدة الفظاظة، وبين ريبية كاملة يعسر جدا أن تكون ركينة، قد اخترقت تاريخا كاملا للفكر. لقد كان هراقليطس رأي في ذلك عين مهمة الفلسفة: ’’أنا استكشفت نفسي بنفسي’’ قبل القولة السقراطية الشهيرة ’’اعرف نفسك بنفسك’’ وقبل الاستفهام الحائر للقديس أوغسطين في ’’اعترافاته’’: ’’الهي من أكون؟’’. يجد هذا الاستفهام في أيامنا هذه اقتضاء أكبر ولعه أكثر حسما: اذ بالفعل في مجتمعاتنا الفردانية، اقتضاء أن يكون المرء هو ذاته قد أشد لزوما أكثر من أي وقت مضى. كن أنت ذاتك! لا ريب، ومع ذلك يظل لنا أن نعرف ماهو هذا الأنا الذي يجب أن نكونه. ان مفهوم الهوية القصصية[1] الذي يتخذه بول ريكور موضوع بحث يمثل حلا أنيقا وعميقا حقيقة لهذه الحيرة المقضة. يمكن أن نلخصها في صيغة: ’’أكون ما أقصه لذاتي’’. فماذا يحمله القصص لهذا المشكل؟
في الحقيقة هو يحمل اليه الكثير. بادىء ذي بدء هو يخرجنا من تصور ثبوتي أو جامد للهوية: هذه الهوية ليست تماما للاكتشاف (مثل شيء معطى سلفا) ولا للابتداع وحسب (مثل شيء مصنوع)، انها تقيم في خليط من التحديد والصدفة والاختيار ومن الذاكرة واللقاءات والمشاريع.
وللسرد هذه الفضيلة التي تعيد وضع كل هذه العناصر في حركة وفي علاقة بهدف أن تجعل منها نسيجا واحدا. بعد ذلك، لا يرضى القص في الحقيقة برواية الأحداث بل هو يؤولها ويحاججها ويعيد بنائها. فهو ينتقي اللحظات ويشتغل عليها حتى يصنع منها تاريخا يمتلك معنى ونجاعة.
هكذا كان الانشغال الأول - أو يكاد- للجمهوريين الفرنسيين هو انتاج ميثولوجيا قومية تقبل المصالحة في ذات التاريخ بين المعسكريين المتعارضين للنظام القديم و للثورة؛ وهو ما سيعطي القولة الشهيرة ’’أجدادنا هم الغاليون’’ واللافيس. ان الهوية تنتج التاريخ وهي نتاج له. وباختصار، عندما أحكي ذاتي أكتشف ذاتي في نفس الوقت بوصفها ذاتي وآخر (’’عين الذات غيرا’’ 1990). ويمكن لهذا الأمر أن يقودنا الى أن نعيش الحياة كقصص (حكاية خيالية حقيقية)، لا بل هي ذاتها سرد (أن يجعل المرء من حياته رواية).
الكل متفقون على أن مفهوم الهوية القصصية هذا هو واحد من الأفكار الجيدة للفلاسفة والتي تمكنهم من فهم وتوضيح الكثير من التجارب المعيشة. عندما نتعب من أن نكون ذواتنا كما يقول عالم الاجتماع ألان اهرنبارج نلجأ الى هذا المنقذ الذي هو ’’الاشتغال على الذات’’، وغالبا ما يكون قص الذات هو الذي يوفر النفس الأول من الأكسجين؛ فعندما نكون في وضعية انتقال مهني ونتساءل عن نزوعنا الحقيقي فإن القص مرة أخرى هو الذي يعيد تسجيلنا في مسار متناسق للوجود.[2] وما الذي نبحث عن استبقائه حينما يرتسم لنا اختفاء أعزاء ومسنين أن لم يكن أثر من ذكراهم بهدف الابقاء على الرابط العائلي؟
وحتى عندما يتعلق الأمر بإيجاد لحمة في روح المؤسسة ألا نحاول أن نجمع شهادات العمال حتى نماهي بين القيم التأسيسية للبيت؟
إن قصص الحياة يشهد اليوم نجاحا منقطع النظير. ففي عصر لم تعد فيه الهوية موروثة من انتماء لغوي ولا هي معطاة مباشرة من طرف نظام مؤسساتي، فإن كل فرد ينتابه الشعور بأنه المؤتمن الهش والمسؤول الحائر عنها. ويقدم لنا بول ريكور هنا مقولة أساسية كليا لكي نفكر أيضا في ما يمكن أن يخلق رابطة في مجتمع من الأفراد. مقولة هنا أيضا، من أجل جعل الحوار يفكر’’.[3]
*********
الهوامش والمراجع:
[1] فضلنا ترجمة هذا المفهوم بالهوية القصصية عوض عن الهوية السردية لما يلعبه القصص في تاريخنا العربي في تكوين الذاكرة الجماعية وترسيخ القيم الأصيلة في النفوس ولوجود العديد من مؤلفات التراث تحمل هذا العنوان مثل: قصص الأنبياء/ قصص القرآن/ قصص النساء في القرآن
[2] يمكن أن نميز بين القصص والقص، القص هو القيام بفعل القصص نفسه وهو الحكي والسرد أما القصص فهي مضمون الأحداث المقصوصة في حد ذاتها.
[3] Un entretien avec Paul Ricœur par Yvanka B. Raynova/ labyrinthe vol. 2، Winter2000.
http://labyrinth. iaf. ac. at/2000/ricoeur. html
ترجمة زهير الخويلدي
’’من أنا؟ من نحن؟ يبدو أن كل تفكر فردي أو جماعي في هذا السؤال محكوم عليه بأن ينتج نقيضة ما. من جهة تبدو الهوية الشخصية (الأنا العزيز) أو الجماعية (الأمة مثلا) منتقشة فينا بعمق بحيث لا يظهر أنها تحتمل أي نقاش.
لكن ما الذي يحصل مذ نحاول أن نعطيها مضمونا؟ انه الردب، فكل تعريف يبدو اختزاليا وتحريفيا وإقصائيا: يصبح الأنا العزيز أنانيا أو سوء النية؛ ويصبح الانتماء الى أمة نزعة قومية لا بل شوفينية. باختصار، الهوية إما أن تقع خيانتها أو تعد نحسا كلما حاولنا تحديدها. عن ذلك ينتج موقف ثان ممكن هو: الريبية. فهذا الأنا العميق مع أنه بديهي وحميمي بالتمام فإنه يظل معتما ومجهولا في واقع الأمر. أليس هو وهم؟ لكن كيف لي التخلي عنه؟
ان هذه المواجهة بين دغمائية الأنا، دغمائية شديدة الفظاظة، وبين ريبية كاملة يعسر جدا أن تكون ركينة، قد اخترقت تاريخا كاملا للفكر. لقد كان هراقليطس رأي في ذلك عين مهمة الفلسفة: ’’أنا استكشفت نفسي بنفسي’’ قبل القولة السقراطية الشهيرة ’’اعرف نفسك بنفسك’’ وقبل الاستفهام الحائر للقديس أوغسطين في ’’اعترافاته’’: ’’الهي من أكون؟’’. يجد هذا الاستفهام في أيامنا هذه اقتضاء أكبر ولعه أكثر حسما: اذ بالفعل في مجتمعاتنا الفردانية، اقتضاء أن يكون المرء هو ذاته قد أشد لزوما أكثر من أي وقت مضى. كن أنت ذاتك! لا ريب، ومع ذلك يظل لنا أن نعرف ماهو هذا الأنا الذي يجب أن نكونه. ان مفهوم الهوية القصصية[1] الذي يتخذه بول ريكور موضوع بحث يمثل حلا أنيقا وعميقا حقيقة لهذه الحيرة المقضة. يمكن أن نلخصها في صيغة: ’’أكون ما أقصه لذاتي’’. فماذا يحمله القصص لهذا المشكل؟
في الحقيقة هو يحمل اليه الكثير. بادىء ذي بدء هو يخرجنا من تصور ثبوتي أو جامد للهوية: هذه الهوية ليست تماما للاكتشاف (مثل شيء معطى سلفا) ولا للابتداع وحسب (مثل شيء مصنوع)، انها تقيم في خليط من التحديد والصدفة والاختيار ومن الذاكرة واللقاءات والمشاريع.
وللسرد هذه الفضيلة التي تعيد وضع كل هذه العناصر في حركة وفي علاقة بهدف أن تجعل منها نسيجا واحدا. بعد ذلك، لا يرضى القص في الحقيقة برواية الأحداث بل هو يؤولها ويحاججها ويعيد بنائها. فهو ينتقي اللحظات ويشتغل عليها حتى يصنع منها تاريخا يمتلك معنى ونجاعة.
هكذا كان الانشغال الأول - أو يكاد- للجمهوريين الفرنسيين هو انتاج ميثولوجيا قومية تقبل المصالحة في ذات التاريخ بين المعسكريين المتعارضين للنظام القديم و للثورة؛ وهو ما سيعطي القولة الشهيرة ’’أجدادنا هم الغاليون’’ واللافيس. ان الهوية تنتج التاريخ وهي نتاج له. وباختصار، عندما أحكي ذاتي أكتشف ذاتي في نفس الوقت بوصفها ذاتي وآخر (’’عين الذات غيرا’’ 1990). ويمكن لهذا الأمر أن يقودنا الى أن نعيش الحياة كقصص (حكاية خيالية حقيقية)، لا بل هي ذاتها سرد (أن يجعل المرء من حياته رواية).
الكل متفقون على أن مفهوم الهوية القصصية هذا هو واحد من الأفكار الجيدة للفلاسفة والتي تمكنهم من فهم وتوضيح الكثير من التجارب المعيشة. عندما نتعب من أن نكون ذواتنا كما يقول عالم الاجتماع ألان اهرنبارج نلجأ الى هذا المنقذ الذي هو ’’الاشتغال على الذات’’، وغالبا ما يكون قص الذات هو الذي يوفر النفس الأول من الأكسجين؛ فعندما نكون في وضعية انتقال مهني ونتساءل عن نزوعنا الحقيقي فإن القص مرة أخرى هو الذي يعيد تسجيلنا في مسار متناسق للوجود.[2] وما الذي نبحث عن استبقائه حينما يرتسم لنا اختفاء أعزاء ومسنين أن لم يكن أثر من ذكراهم بهدف الابقاء على الرابط العائلي؟
وحتى عندما يتعلق الأمر بإيجاد لحمة في روح المؤسسة ألا نحاول أن نجمع شهادات العمال حتى نماهي بين القيم التأسيسية للبيت؟
إن قصص الحياة يشهد اليوم نجاحا منقطع النظير. ففي عصر لم تعد فيه الهوية موروثة من انتماء لغوي ولا هي معطاة مباشرة من طرف نظام مؤسساتي، فإن كل فرد ينتابه الشعور بأنه المؤتمن الهش والمسؤول الحائر عنها. ويقدم لنا بول ريكور هنا مقولة أساسية كليا لكي نفكر أيضا في ما يمكن أن يخلق رابطة في مجتمع من الأفراد. مقولة هنا أيضا، من أجل جعل الحوار يفكر’’.[3]
*********
الهوامش والمراجع:
[1] فضلنا ترجمة هذا المفهوم بالهوية القصصية عوض عن الهوية السردية لما يلعبه القصص في تاريخنا العربي في تكوين الذاكرة الجماعية وترسيخ القيم الأصيلة في النفوس ولوجود العديد من مؤلفات التراث تحمل هذا العنوان مثل: قصص الأنبياء/ قصص القرآن/ قصص النساء في القرآن
[2] يمكن أن نميز بين القصص والقص، القص هو القيام بفعل القصص نفسه وهو الحكي والسرد أما القصص فهي مضمون الأحداث المقصوصة في حد ذاتها.
[3] Un entretien avec Paul Ricœur par Yvanka B. Raynova/ labyrinthe vol. 2، Winter2000.
http://labyrinth. iaf. ac. at/2000/ricoeur. html