محمد السقا عيد
الثلاثاء 28 صفر 1435 الموافق 31 ديسمبر 2013
على هامش الرؤية النورسية لاعجاز القرآن من خلال كتابه
”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“
دكتور محمد السقا عيد
استشارى طب وجراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصرية
للعالم الرباني بديع الزمان سعيد النورسي، من المصنّفات والأعمال، ما يشهد له بالألمعية والتبصّر بأسئلة زمانه وقضايا أمته، فكانت له آراء سديدة ونظرات ثاقبة، استنبطها بغوصه العميق في معارف الوحي، مما يدل على أنّ هذا الرجل من نوع فريد قل أمثاله في هذه الأمة، وقد أقامه الله حجة في عصر انحطاط وتردي المسلمين، فاستعمله الله في حفظ نضارة هذا الدين وحيويته، وأفاض الله به على هذه الأمة بقوة دعوته وصدق رسالته، ما جعله قدوة بل مدرسة خرجت الآلاف بل الملايين، وهي اليوم شامخة، تتقدم بخطى حثيثة، وتتبوء مكانة سامقة بين أخواتها من العاملين في ساحة العمل للإسلام.
وكان المنطلق الأكبر له هو القرآن الكريم الذي عاش أجواءه وظلاله مدى حياته، ولعل في كتابه ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“ قواعد وضوابط لتفسير كتاب الله، أحببنا أن نقف علي بعضها، وأن نبرزها للقراء والباحثين، لتكون لنا إحدى الشعاعات التي كان يطلقها لتنير الدرب لفهم كتاب الله، ضمن دعوة الرجوع إلى هذا المصدر الذي قد أهمل ومالت الناس عنه مع أهميته، فأعرضت عن توجيهاته، وذهبت تتلمّس حلولا لفهم نفشها وأوضاعها من خارجه.
(انظر: قواعد وضوابط في تفسير القرآن عند النورسي من خلال كتابه إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز أ. د. مشعان سعود عبد.)
كتاب ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“:
ينصب هذا الكتاب كما هو بيّن من عنوانه على إظهار الإعجاز في القرآن الكريم، والذي تبنى فيه الأستاذ بديع الزمان النورسي نظرية النظم المعروفة، وطبّقها تطبيقا حرفيا على ما تناوله في هذا الكتاب من تفسيره للآيات التي صب فيها جهده وأفرغ فيها وسعه، وكانت على قلتها خير شاهد ودليل إثبات على ما كان يومئ به ويذهب إليه، بقوله: ”إن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن، لأن الإعجاز يتجلى من نظمه، وما الإعجاز الزاهر إلا نقش النظم“.(انظر: الإشارات: 29).
وقد كان يريد أن يؤلف تفسيرا كاملا في هذا الاتجاه، ولو استمر في عمله لبلغ عشرات المجلدات في ضوء ما قدمه في هذا الجزء من التفسير.(انظر:مقدمة الكتاب للدكتور محسن عبد الحميد: 6).
وإذا كان هذا الكتاب الوحيد من حيث عنوانه خاصا بتفسير القرآن من وجهة إعجاز القرآن الكريم، فإن سائر رسائل النور لا تقل أهمية عن هذا الكتاب، فهي بالفعل تفسير حقيقي للقرآن الكريم، تفسير بمسلك خاص وبمقاصد محددة سلفا، لخصها في تثبيت وإثبات الحقائق الإيمانية في ظل وضع أراد المسيطرون عليه تجفيف منابع الدين من الصدور ومن السطور.
كان الأستاذ معتزا بكتاب ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“، ويراه ”تحفة رائعة من تحف سعيد القديم بالرغم من أخطائه وذنوبه“، وعدّه ”كفارة لذنوبه“ ويدعو ربه أن يبعث رجالا يستطيعون فهمه حق الفهم. (انظر: الإشارات: 21 – 22).
وقد كانت نيته تتجه إلى أن يكون هذا الجزء لتوضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، بينما تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفا على سائر أوجه الإعجاز، كما كان يرى أن رسائله قد تضمنت كثيرا من حقائق التفسير، لو ضمت لأصبح تفسيرا بديعا جامعا للقرآن المعجز البيان.
(انظر: الإشارات: 22).
نظرا لأهمية كتاب الله من حيث كونه جاء تشريعا عاما للناس كافة، يخاطب فيه الجميع بمختلف طبقاتهم، وفي كل العصور، فإنّه يرى أن الفهم الفردي لا يسعه ويعجز عن بلوغ غاياته، ولا يعطي تصورا كاملا شاملا لحقائقه؛ لذا يرى أن تجتمع جماعة كبيرة تشبه الإجماع، لتقوم بتفسير القرآن، ليكون ذلك أكثر حجية، وإن وجود علماء محققين يقومون بتفسير كتاب الله، يكون كفالة ضامنة للأمة، حتى يكون بذلك مصدر طمأنتها، وليكون أبعد عن الانحراف والزلل، ومثله مثل كثير من الأحكام التي تنظم من قبل جماعة لكي تكون مطردة، وترفع الفوضى الناشئة من فوضى الفكر التي تسمّت حرية، ولذا فهو يردد عبارة ”للكل حكم ليس لكل“ ويكون ذلك بمثابة شخص معنوي متولّد من امتزاج الأرواح وتساندها وتلاحق الأفكار، وتضافر القلوب وإخلاصها.
ولولا تخوّفه من بعض غيبيات القدر وتقلّب الأحوال وبخاصة ما كان يمر به في زمنه من تخاذل المسلمين في ظل الأوضاع المزرية التي عرفتها بلاد المسلمين وظهور علامات حرب عالمية، لما كان قيّد هذا التفسير، ولذا مع تقييده لهذا التفسير فهو لا يصرحه بعدّه تفسيرا كاملا للقرآن، وإنما ”نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير“.(انظر: الإشارات: 26).
إن هذا الاحتياط في التفسير له ما يبرره ويسوغه، حيث إن التفسير هو بيان مراد الله سبحانه، وهو أمر صعب المنال، ولولا تعين بيانه على العلماء لما أقدموا عليه، ولذا كان جلّة من السلف لا يفسّرون القرآن خوفا من أن يخطئوا مراد الله، أو أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وهي قضية تناولها العلماء قديما وحديثا، وأبدى بعضهم تخوفه من الزلل في كلام الله.
لذلك تراهم يضيفون في تعريف مصطلح التفسير عبارة: ”بيان مراد الله حسب الطاقة البشرية“ احتياطا وعذرا لهم في ذلك. (انظر في ذلك: الموافقات للشاطبي: 3/ 257، والبرهان: 1/ 29).
من هنا كان الاهتمام بالتفسير الجماعي للقرآن الكريم، ذلك أنّ التفسير المستفاد بطريق الإجماع أبعد عن الخطأ، وأقرب إلى الصواب.
أما قول الأستاذ النورسي بأنّ ما كتبه ليس تفسيرا للقرآن، فيقصد من الناحية الفنية، ولهذا انتهى إلى أنّه نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير، فهذا صحيح؛ لأنه ليس للقرآن وفهمه حد ينتهى إليه، كما قال سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ): ”لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه؛ لأنّه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنّه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه“.( انظرالبرهان: 1/ 29 – 30).
عرض النورسي رحمه الله تعريف القرآن الكريم من خلال سؤال وجواب، ولم يقصد بجوابه التعريف العلمي أو التعريف بالحد، فمال عن التعريف وفق الصيغ الفنية المشهورة، وعدل عنه إلى تعريف ضمّنه أوصاف القرآن الكريم وأهدافه وغاياته ومحتوياته وعلومه ومواقف الناس منه. ) انظر: الإشارات: 28) .
وكل ذلك من باب الرسوم وليس الحدود، ابتعد عن التعريف المشهور عن القرآن بأنه: كلام الله المتعبد بتلاوته المبدوء بالفاتحة المختتم بالناس، أو ما هو شبيه منه. ) انظر بعض التعريفات: إرشاد الفحول للشوكاني: 62) .
وأورد ما ركّز به على هداياته وهي الأمور العملية التي تحتاجها البشرية، ولا تقف عند الحد المعروف له المجرد من الروح والحركة والعمل والتفاعل.
يرى النورسي رحمه الله أنّ هذه الاختلافات قد يكون الكل حقا بالنسبة إلى سامع فسامع، إذ القرآن ما نزل لأهل عصر فقط، بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة واحدة، بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط، بل لجميع أصناف البشر، ولكلّ فيه حصة ونصيب من الفهم.
ثم قال: فكم من أشياء تستحسنها فقط طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل إليها طبقة، فلأجل هذا السر والحكمة أكثر القرآن من حذف الخاص للتعميم ليقدّر كل مقتض ذوقه واستحسانه.
ثم قال: فإذاً يجوز أن تكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها العلوم العربية، ويشرط أن تستحسنها البلاغة، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة. (الإشارات: 62 – 63، وينظر أيضا: 69) .
ولهذا أورد سؤالا عن هذه الاختلافات ومدى شرعيتها، فقال: إن قلت إن القرآن من الضروريات، وقد اختلف في معانيه؟ قيل لك: إنّ في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا: إحداها: ”هذا كلام الله“، والثانية: ”معناه المراد حق“، وإنكار كل من هاتين كفر! والثالثة: معناه المراد هذا، فإنْ كان محكما أو مفسرا فالإيمان به واجب بعد الاطلاع والإنكار كفر، وإنْ كان ظاهرا أو نصا يحتمل معنى آخر، فالإنكار بناء على التأويل دون التشهد ليس يكفر. (انظر: الإشارات: 92 .(
إذن فهو يرى جواز اختلاف المفسرين، ويرى مبدئيا قبول هذه الأقوال باعتبارها تلبي حاجة كل إنسان، أو كل عصر، وفي جميع الأحوال.
وهذا ما يفسر الأقوال المتعددة الواردة عن السلف في تفسير بعض الآيات، وهوما أطلق عليه ابن تيمية رحمه الله: ”أنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد“، .(انظر: مقدمة في التفسير: 48).
وأما ما وصفه من شروط لقبول هذه الاختلافات فهي شروط ضرورية ومهمة تمنع خروج الاختلافات عن الضوابط الأصولية حتى لا يدخل في كتاب الله الزيغ والانحراف، كما حصل لكثير ممن خرجوا على هذه القواعد، فكان تفسيرهم مصادما للقرآن وهدايته.
ماهية إعجاز القرآن عند النورسي
جاء القرآن الكريم لمقاصد كثيرة، منها إثبات نبوة محمد ) صلى الله عليه وسلم ) بأكمل معجزاته الذي هو التحدي بإعجاز القرآن الكريم، أي أن دلائل نبوته كثيرة في القرآن، وأهمّها إعجاز القرآن، المعجزة المتحدى بها، وقد أقام دلائل كثيرة على ذلك، استغرقت صفحات عديدة من خلال النصوص العامة، ومن إيحاءات الخطابات والقصص ومن واقع النبي ) صلى الله عليه وسلم ) وتأثيره في أمة أمية فقلبها إلى أمة حضارة وعلم وفكر...( انظر: الإشارات: 207 – 214).
كذلك بيّن أنّ الشريعة الإسلامية مبنية ومؤسسة على البرهان العقلي، ملخصه من علوم وفنون تضمنت جميع أنواع العلوم الأساسية التي تحتاجها البشرية، من فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وفن سياسية المدنية، والحقوق علم المعاملات والآداب.
وكلّ هذه العلوم أو بعضها بقيت بالرغم من تلاحق الأفكار وتوسّع نتائجها، فإنّها تدفعنا إلى الاعتقاد بأن حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما، لاسيما في ذلك الزمان. (انظر: الإشارات: 215 – 216).
وخاصة إذا تصورنا أنها ولدت في صحراء شاسعة مترامية الأطراف، لا معين فيها لهذا الإنسان، كما لم تكن له سلطة يبارز الدنيا بها، ثم إنّ الله قد أَيِّد نبيّه r بمعجزات كثيرة منها إرهاصات من حين ولادته، ومنها بعدها، وقد تكون خوارق غيبية كبيرة، أو خوارق حسية كانشقاق القمر وغيره.
(انظر: الإشارات: 223 – 225).
انتقل بعدها إلى دراسة بعض وجوه إعجازه، فتوقف عند الآية: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ...﴾ فقال بعد إثبات التوحيد تثبت نبوة محمد عليه السلام، الذي هو من أظهر دلائل التوحيد، ثم إن إثبات النبوة بالمعجزات وأعظم المعجزات هو القرآن الكريم، وأدق وجوه إعجاز القرآن ما في ”بلاغة نظمه“.
ثم بيّن أنّ المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لا تزاحم بين تلك الطرق، بل كل اختار جهة من جهاته، فعند بعض إعجازه إخباره بالغيوب، وعند بعض جمعه للحقائق والعلوم، وعند بعض سلامته من التخالف والتناقض، وعند بعض غرابة أسلوبه وبديعيته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور، وعند بعض ظهوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب، وعند بعض بلوغ بلاغة نظمه إلى درجة خارجة عن طوق البشر... إلخ. (انظر: الإشارات: 226، وينظر: تفسير القرطبي: 1/ 73، والبرهان: 2/ 106 – 107، والإتقان: 4/ 15).
ولذا، فإن ملخص الإعجاز هو ما جاء في معنى الآية السابقة ”إن كنتم في ريب’’ أنه كلام الله يجب عليكم أن تتعلموا إعجازه، فإن المعجز لا يكون كلام البشر، ومحمد ) صلى الله عليه وسلم ) بشر، وإن أردتم ظهور إعجازه فجربوا أنفسكم ليظهر عجزكم فيجب عليكم التشبث بإتيان سورة من مثله“ ثم قال: ”فلله در التنزيل ما أوجزه وما أعجزه“. (انظر: لإشارات: 230).
ولذا قال الأستاذ: إن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلا إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير أي تفسير ”إشارات الإيجاز“.
ثم قال: إما إجمالا فيعرف بثلاث طرق كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة، والزمخشري والسكاكي والجاحظ، وهذه الطرق نلخصها فيما يأتي:
1- إن العرب كان ديوانهم الشعر وعلمهم البلاغة ومفاخرتهم بالفصاحة، فلما طلع عليهم القرآن ببلاغة بهرتهم، وما عارضوه، مع شدّة تحدّي النبي ) صلى الله عليه وسلم ) وتسفيه أحلامهم، فلولا أنهم أرادوا وجربوا أنفسهم فأحسوا بالعجز فسكتوا عن المعارضة، فعجزهم دليل إعجاز القرآن.
2- إنّ الذين يعرفون خواص الكلام ومزاياه لما تأملوا في سوره سورة سورة، وآية آية، شهدوا أنه جامع لمزايا لا تجتمع لبشر، فهؤلاء كثر، كما أنّ القرآن أحدث تحوّلا عظيما وديانة واسعة.
3- إنّ الفصحاء والبلغاء مع شدّة احتياجهم إلى إبطال دعوى النبي ) صلى الله عليه وسلم ) تركوا المعارضة وهو الطريق الأقرب والأسلم، ولجأوا إلى المقارعة بالسيوف وهو طريق صعب، فلولا أنّهم قد أحسُّوا بالعجز ما سلكوا الطريق الثاني وتركوا الطريق الأول. (انظر: الإشارات: 226 – 228، والإتقان: 4/ 5، وإعجاز القرآن للباقلاني:37).
ثم بيّن أنّه على مرّ التاريخ لم يظهر من عارضه، ولو وجد لتناقل الناس ذلك، وما نقل عن مسيلمة الكذاب فهو مسخرة وأضحوكة.
ولذا يرى النورسي رحمه الله أن الإعجاز إنما هو ”نظم المعاني دون نظم الألفاظ“ وهو عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات، أي إذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش، ونظم المعاني هو الذي يشيد بقوانين المنطق، وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر إلى الحقائق، والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها، ثم يربط بينه وبين الكائنات في انتظامها، ويقول: إن الكائنات قد أنشأها وأنشرها صانعها فصيحة بليغة، فكل صورة وكل نوع منها بالنظام المندمج فيه معجزة من معجزات القدرة، فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها، وإلا فإن توجه إلى نظم اللفظ وقع في التصنع والرياء، كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع. (انظر: الإشارات: 149، دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني: 282).
خاتمة
بعد هذه الكلمات السريعة توضحت لنا حقائق عدة، عن مكانة هذا الرجل، وقدمه الراسخة في علم التفسير، وأهم هذه المعالم:
أولا: أنه كان عالما بكتاب الله تعالى، مطلعا على معانيه، هاضما لحقائقه، يصح أن يكون في زمرة المفسرين الأوائل، وممن له إسهامات وإبداعات في تجلية مراد الله سبحانه، لم يكن ناقلا فحسب، بل هو غائر على صدفه وجواهره.
ثانيا: إن نظراته في التفسير لم تكن تقليدية، وإنما كانت من صميم الواقع حاضرة مع الزمن وتطوره، ولم يكن بعيدا عن علوم عصره وثقافة الوقت.
ثالثا: نظرا لسعة أفقه وانفتاحه على العلوم الأخرى، فقد وضع قواعد وأصول هذا العلم في هذا الكتيب الصغير، وجعلها مرجعا لمن أراد الخوض في علم التفسير.
رابعا: كانت نظرية النظم التي نادى بها كبار علماء البلاغة والبيان هي الأساس والمنطلق لإعجاز القرآن الكريم، وأخذ بتطبيقها في سورة الفاتحة وجزء من سورة البقرة، ليثبت صحة دعواه، ولذلك طال نفسه في كثير من المواطن التي أظهر فيها ترابط أجزاء القرآن بآياته وجمله وكلماته.
المصادر
1- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز: بديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، مطبعة الخلود، بغداد، ط1، 1409هـ 1989م.
2- قراءات في فكر سعيد النورسي –السنة النبوية: أديب إبراهيم الدباغ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، مطبعة الشعب، بغداد، ط1، 1405هـ 1985م.
الثلاثاء 28 صفر 1435 الموافق 31 ديسمبر 2013
على هامش الرؤية النورسية لاعجاز القرآن من خلال كتابه
”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“
دكتور محمد السقا عيد
استشارى طب وجراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصرية
للعالم الرباني بديع الزمان سعيد النورسي، من المصنّفات والأعمال، ما يشهد له بالألمعية والتبصّر بأسئلة زمانه وقضايا أمته، فكانت له آراء سديدة ونظرات ثاقبة، استنبطها بغوصه العميق في معارف الوحي، مما يدل على أنّ هذا الرجل من نوع فريد قل أمثاله في هذه الأمة، وقد أقامه الله حجة في عصر انحطاط وتردي المسلمين، فاستعمله الله في حفظ نضارة هذا الدين وحيويته، وأفاض الله به على هذه الأمة بقوة دعوته وصدق رسالته، ما جعله قدوة بل مدرسة خرجت الآلاف بل الملايين، وهي اليوم شامخة، تتقدم بخطى حثيثة، وتتبوء مكانة سامقة بين أخواتها من العاملين في ساحة العمل للإسلام.
وكان المنطلق الأكبر له هو القرآن الكريم الذي عاش أجواءه وظلاله مدى حياته، ولعل في كتابه ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“ قواعد وضوابط لتفسير كتاب الله، أحببنا أن نقف علي بعضها، وأن نبرزها للقراء والباحثين، لتكون لنا إحدى الشعاعات التي كان يطلقها لتنير الدرب لفهم كتاب الله، ضمن دعوة الرجوع إلى هذا المصدر الذي قد أهمل ومالت الناس عنه مع أهميته، فأعرضت عن توجيهاته، وذهبت تتلمّس حلولا لفهم نفشها وأوضاعها من خارجه.
(انظر: قواعد وضوابط في تفسير القرآن عند النورسي من خلال كتابه إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز أ. د. مشعان سعود عبد.)
كتاب ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“:
ينصب هذا الكتاب كما هو بيّن من عنوانه على إظهار الإعجاز في القرآن الكريم، والذي تبنى فيه الأستاذ بديع الزمان النورسي نظرية النظم المعروفة، وطبّقها تطبيقا حرفيا على ما تناوله في هذا الكتاب من تفسيره للآيات التي صب فيها جهده وأفرغ فيها وسعه، وكانت على قلتها خير شاهد ودليل إثبات على ما كان يومئ به ويذهب إليه، بقوله: ”إن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن، لأن الإعجاز يتجلى من نظمه، وما الإعجاز الزاهر إلا نقش النظم“.(انظر: الإشارات: 29).
وقد كان يريد أن يؤلف تفسيرا كاملا في هذا الاتجاه، ولو استمر في عمله لبلغ عشرات المجلدات في ضوء ما قدمه في هذا الجزء من التفسير.(انظر:مقدمة الكتاب للدكتور محسن عبد الحميد: 6).
وإذا كان هذا الكتاب الوحيد من حيث عنوانه خاصا بتفسير القرآن من وجهة إعجاز القرآن الكريم، فإن سائر رسائل النور لا تقل أهمية عن هذا الكتاب، فهي بالفعل تفسير حقيقي للقرآن الكريم، تفسير بمسلك خاص وبمقاصد محددة سلفا، لخصها في تثبيت وإثبات الحقائق الإيمانية في ظل وضع أراد المسيطرون عليه تجفيف منابع الدين من الصدور ومن السطور.
كان الأستاذ معتزا بكتاب ”إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز“، ويراه ”تحفة رائعة من تحف سعيد القديم بالرغم من أخطائه وذنوبه“، وعدّه ”كفارة لذنوبه“ ويدعو ربه أن يبعث رجالا يستطيعون فهمه حق الفهم. (انظر: الإشارات: 21 – 22).
وقد كانت نيته تتجه إلى أن يكون هذا الجزء لتوضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، بينما تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفا على سائر أوجه الإعجاز، كما كان يرى أن رسائله قد تضمنت كثيرا من حقائق التفسير، لو ضمت لأصبح تفسيرا بديعا جامعا للقرآن المعجز البيان.
(انظر: الإشارات: 22).
نظرا لأهمية كتاب الله من حيث كونه جاء تشريعا عاما للناس كافة، يخاطب فيه الجميع بمختلف طبقاتهم، وفي كل العصور، فإنّه يرى أن الفهم الفردي لا يسعه ويعجز عن بلوغ غاياته، ولا يعطي تصورا كاملا شاملا لحقائقه؛ لذا يرى أن تجتمع جماعة كبيرة تشبه الإجماع، لتقوم بتفسير القرآن، ليكون ذلك أكثر حجية، وإن وجود علماء محققين يقومون بتفسير كتاب الله، يكون كفالة ضامنة للأمة، حتى يكون بذلك مصدر طمأنتها، وليكون أبعد عن الانحراف والزلل، ومثله مثل كثير من الأحكام التي تنظم من قبل جماعة لكي تكون مطردة، وترفع الفوضى الناشئة من فوضى الفكر التي تسمّت حرية، ولذا فهو يردد عبارة ”للكل حكم ليس لكل“ ويكون ذلك بمثابة شخص معنوي متولّد من امتزاج الأرواح وتساندها وتلاحق الأفكار، وتضافر القلوب وإخلاصها.
ولولا تخوّفه من بعض غيبيات القدر وتقلّب الأحوال وبخاصة ما كان يمر به في زمنه من تخاذل المسلمين في ظل الأوضاع المزرية التي عرفتها بلاد المسلمين وظهور علامات حرب عالمية، لما كان قيّد هذا التفسير، ولذا مع تقييده لهذا التفسير فهو لا يصرحه بعدّه تفسيرا كاملا للقرآن، وإنما ”نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير“.(انظر: الإشارات: 26).
إن هذا الاحتياط في التفسير له ما يبرره ويسوغه، حيث إن التفسير هو بيان مراد الله سبحانه، وهو أمر صعب المنال، ولولا تعين بيانه على العلماء لما أقدموا عليه، ولذا كان جلّة من السلف لا يفسّرون القرآن خوفا من أن يخطئوا مراد الله، أو أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وهي قضية تناولها العلماء قديما وحديثا، وأبدى بعضهم تخوفه من الزلل في كلام الله.
لذلك تراهم يضيفون في تعريف مصطلح التفسير عبارة: ”بيان مراد الله حسب الطاقة البشرية“ احتياطا وعذرا لهم في ذلك. (انظر في ذلك: الموافقات للشاطبي: 3/ 257، والبرهان: 1/ 29).
من هنا كان الاهتمام بالتفسير الجماعي للقرآن الكريم، ذلك أنّ التفسير المستفاد بطريق الإجماع أبعد عن الخطأ، وأقرب إلى الصواب.
أما قول الأستاذ النورسي بأنّ ما كتبه ليس تفسيرا للقرآن، فيقصد من الناحية الفنية، ولهذا انتهى إلى أنّه نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير، فهذا صحيح؛ لأنه ليس للقرآن وفهمه حد ينتهى إليه، كما قال سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ): ”لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه؛ لأنّه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنّه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه“.( انظرالبرهان: 1/ 29 – 30).
عرض النورسي رحمه الله تعريف القرآن الكريم من خلال سؤال وجواب، ولم يقصد بجوابه التعريف العلمي أو التعريف بالحد، فمال عن التعريف وفق الصيغ الفنية المشهورة، وعدل عنه إلى تعريف ضمّنه أوصاف القرآن الكريم وأهدافه وغاياته ومحتوياته وعلومه ومواقف الناس منه. ) انظر: الإشارات: 28) .
وكل ذلك من باب الرسوم وليس الحدود، ابتعد عن التعريف المشهور عن القرآن بأنه: كلام الله المتعبد بتلاوته المبدوء بالفاتحة المختتم بالناس، أو ما هو شبيه منه. ) انظر بعض التعريفات: إرشاد الفحول للشوكاني: 62) .
وأورد ما ركّز به على هداياته وهي الأمور العملية التي تحتاجها البشرية، ولا تقف عند الحد المعروف له المجرد من الروح والحركة والعمل والتفاعل.
يرى النورسي رحمه الله أنّ هذه الاختلافات قد يكون الكل حقا بالنسبة إلى سامع فسامع، إذ القرآن ما نزل لأهل عصر فقط، بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة واحدة، بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط، بل لجميع أصناف البشر، ولكلّ فيه حصة ونصيب من الفهم.
ثم قال: فكم من أشياء تستحسنها فقط طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل إليها طبقة، فلأجل هذا السر والحكمة أكثر القرآن من حذف الخاص للتعميم ليقدّر كل مقتض ذوقه واستحسانه.
ثم قال: فإذاً يجوز أن تكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها العلوم العربية، ويشرط أن تستحسنها البلاغة، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة. (الإشارات: 62 – 63، وينظر أيضا: 69) .
ولهذا أورد سؤالا عن هذه الاختلافات ومدى شرعيتها، فقال: إن قلت إن القرآن من الضروريات، وقد اختلف في معانيه؟ قيل لك: إنّ في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا: إحداها: ”هذا كلام الله“، والثانية: ”معناه المراد حق“، وإنكار كل من هاتين كفر! والثالثة: معناه المراد هذا، فإنْ كان محكما أو مفسرا فالإيمان به واجب بعد الاطلاع والإنكار كفر، وإنْ كان ظاهرا أو نصا يحتمل معنى آخر، فالإنكار بناء على التأويل دون التشهد ليس يكفر. (انظر: الإشارات: 92 .(
إذن فهو يرى جواز اختلاف المفسرين، ويرى مبدئيا قبول هذه الأقوال باعتبارها تلبي حاجة كل إنسان، أو كل عصر، وفي جميع الأحوال.
وهذا ما يفسر الأقوال المتعددة الواردة عن السلف في تفسير بعض الآيات، وهوما أطلق عليه ابن تيمية رحمه الله: ”أنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد“، .(انظر: مقدمة في التفسير: 48).
وأما ما وصفه من شروط لقبول هذه الاختلافات فهي شروط ضرورية ومهمة تمنع خروج الاختلافات عن الضوابط الأصولية حتى لا يدخل في كتاب الله الزيغ والانحراف، كما حصل لكثير ممن خرجوا على هذه القواعد، فكان تفسيرهم مصادما للقرآن وهدايته.
ماهية إعجاز القرآن عند النورسي
جاء القرآن الكريم لمقاصد كثيرة، منها إثبات نبوة محمد ) صلى الله عليه وسلم ) بأكمل معجزاته الذي هو التحدي بإعجاز القرآن الكريم، أي أن دلائل نبوته كثيرة في القرآن، وأهمّها إعجاز القرآن، المعجزة المتحدى بها، وقد أقام دلائل كثيرة على ذلك، استغرقت صفحات عديدة من خلال النصوص العامة، ومن إيحاءات الخطابات والقصص ومن واقع النبي ) صلى الله عليه وسلم ) وتأثيره في أمة أمية فقلبها إلى أمة حضارة وعلم وفكر...( انظر: الإشارات: 207 – 214).
كذلك بيّن أنّ الشريعة الإسلامية مبنية ومؤسسة على البرهان العقلي، ملخصه من علوم وفنون تضمنت جميع أنواع العلوم الأساسية التي تحتاجها البشرية، من فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وفن سياسية المدنية، والحقوق علم المعاملات والآداب.
وكلّ هذه العلوم أو بعضها بقيت بالرغم من تلاحق الأفكار وتوسّع نتائجها، فإنّها تدفعنا إلى الاعتقاد بأن حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما، لاسيما في ذلك الزمان. (انظر: الإشارات: 215 – 216).
وخاصة إذا تصورنا أنها ولدت في صحراء شاسعة مترامية الأطراف، لا معين فيها لهذا الإنسان، كما لم تكن له سلطة يبارز الدنيا بها، ثم إنّ الله قد أَيِّد نبيّه r بمعجزات كثيرة منها إرهاصات من حين ولادته، ومنها بعدها، وقد تكون خوارق غيبية كبيرة، أو خوارق حسية كانشقاق القمر وغيره.
(انظر: الإشارات: 223 – 225).
انتقل بعدها إلى دراسة بعض وجوه إعجازه، فتوقف عند الآية: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ...﴾ فقال بعد إثبات التوحيد تثبت نبوة محمد عليه السلام، الذي هو من أظهر دلائل التوحيد، ثم إن إثبات النبوة بالمعجزات وأعظم المعجزات هو القرآن الكريم، وأدق وجوه إعجاز القرآن ما في ”بلاغة نظمه“.
ثم بيّن أنّ المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لا تزاحم بين تلك الطرق، بل كل اختار جهة من جهاته، فعند بعض إعجازه إخباره بالغيوب، وعند بعض جمعه للحقائق والعلوم، وعند بعض سلامته من التخالف والتناقض، وعند بعض غرابة أسلوبه وبديعيته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور، وعند بعض ظهوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب، وعند بعض بلوغ بلاغة نظمه إلى درجة خارجة عن طوق البشر... إلخ. (انظر: الإشارات: 226، وينظر: تفسير القرطبي: 1/ 73، والبرهان: 2/ 106 – 107، والإتقان: 4/ 15).
ولذا، فإن ملخص الإعجاز هو ما جاء في معنى الآية السابقة ”إن كنتم في ريب’’ أنه كلام الله يجب عليكم أن تتعلموا إعجازه، فإن المعجز لا يكون كلام البشر، ومحمد ) صلى الله عليه وسلم ) بشر، وإن أردتم ظهور إعجازه فجربوا أنفسكم ليظهر عجزكم فيجب عليكم التشبث بإتيان سورة من مثله“ ثم قال: ”فلله در التنزيل ما أوجزه وما أعجزه“. (انظر: لإشارات: 230).
ولذا قال الأستاذ: إن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلا إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير أي تفسير ”إشارات الإيجاز“.
ثم قال: إما إجمالا فيعرف بثلاث طرق كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة، والزمخشري والسكاكي والجاحظ، وهذه الطرق نلخصها فيما يأتي:
1- إن العرب كان ديوانهم الشعر وعلمهم البلاغة ومفاخرتهم بالفصاحة، فلما طلع عليهم القرآن ببلاغة بهرتهم، وما عارضوه، مع شدّة تحدّي النبي ) صلى الله عليه وسلم ) وتسفيه أحلامهم، فلولا أنهم أرادوا وجربوا أنفسهم فأحسوا بالعجز فسكتوا عن المعارضة، فعجزهم دليل إعجاز القرآن.
2- إنّ الذين يعرفون خواص الكلام ومزاياه لما تأملوا في سوره سورة سورة، وآية آية، شهدوا أنه جامع لمزايا لا تجتمع لبشر، فهؤلاء كثر، كما أنّ القرآن أحدث تحوّلا عظيما وديانة واسعة.
3- إنّ الفصحاء والبلغاء مع شدّة احتياجهم إلى إبطال دعوى النبي ) صلى الله عليه وسلم ) تركوا المعارضة وهو الطريق الأقرب والأسلم، ولجأوا إلى المقارعة بالسيوف وهو طريق صعب، فلولا أنّهم قد أحسُّوا بالعجز ما سلكوا الطريق الثاني وتركوا الطريق الأول. (انظر: الإشارات: 226 – 228، والإتقان: 4/ 5، وإعجاز القرآن للباقلاني:37).
ثم بيّن أنّه على مرّ التاريخ لم يظهر من عارضه، ولو وجد لتناقل الناس ذلك، وما نقل عن مسيلمة الكذاب فهو مسخرة وأضحوكة.
ولذا يرى النورسي رحمه الله أن الإعجاز إنما هو ”نظم المعاني دون نظم الألفاظ“ وهو عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات، أي إذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش، ونظم المعاني هو الذي يشيد بقوانين المنطق، وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر إلى الحقائق، والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها، ثم يربط بينه وبين الكائنات في انتظامها، ويقول: إن الكائنات قد أنشأها وأنشرها صانعها فصيحة بليغة، فكل صورة وكل نوع منها بالنظام المندمج فيه معجزة من معجزات القدرة، فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها، وإلا فإن توجه إلى نظم اللفظ وقع في التصنع والرياء، كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع. (انظر: الإشارات: 149، دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني: 282).
خاتمة
بعد هذه الكلمات السريعة توضحت لنا حقائق عدة، عن مكانة هذا الرجل، وقدمه الراسخة في علم التفسير، وأهم هذه المعالم:
أولا: أنه كان عالما بكتاب الله تعالى، مطلعا على معانيه، هاضما لحقائقه، يصح أن يكون في زمرة المفسرين الأوائل، وممن له إسهامات وإبداعات في تجلية مراد الله سبحانه، لم يكن ناقلا فحسب، بل هو غائر على صدفه وجواهره.
ثانيا: إن نظراته في التفسير لم تكن تقليدية، وإنما كانت من صميم الواقع حاضرة مع الزمن وتطوره، ولم يكن بعيدا عن علوم عصره وثقافة الوقت.
ثالثا: نظرا لسعة أفقه وانفتاحه على العلوم الأخرى، فقد وضع قواعد وأصول هذا العلم في هذا الكتيب الصغير، وجعلها مرجعا لمن أراد الخوض في علم التفسير.
رابعا: كانت نظرية النظم التي نادى بها كبار علماء البلاغة والبيان هي الأساس والمنطلق لإعجاز القرآن الكريم، وأخذ بتطبيقها في سورة الفاتحة وجزء من سورة البقرة، ليثبت صحة دعواه، ولذلك طال نفسه في كثير من المواطن التي أظهر فيها ترابط أجزاء القرآن بآياته وجمله وكلماته.
المصادر
1- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز: بديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، مطبعة الخلود، بغداد، ط1، 1409هـ 1989م.
2- قراءات في فكر سعيد النورسي –السنة النبوية: أديب إبراهيم الدباغ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، مطبعة الشعب، بغداد، ط1، 1405هـ 1985م.