حميدة صبّار الأعرجي
توطئــــة: الخُلُق الإنساني مثار خلاف بين باحثي علم الأخلاق، منذ أن ولدت الفلسفة الإغريقية وإلى يومنا هذا؛ لأنه يقوم على مفهومات تثير الجدل والنزاع، حتى قيل أنه «ليس بين العلوم الفلسفية علمٌ كالأخلاق في كثرة مذاهبه وتعدد وجهات النظر في مشاكله... ومرد الخلاف - فيما يظن التجريبيون - هو اختلاف النَّاس في كل زمان ومكان في فهمهم للمثل الأخلاقي الأعلى...»(1).
ومن ذلك موقفهم من ماهيّة الحسن والقبح العقليين أو الشَّرعيين، والباعث على الفعل الإرادي لها.. هل هو عقلي ضروري أولي، أو أنه اعتباري تواضعت عليه المجتمعات لتصفو معيشتها وتنتظم حياتها، أو أنه لا هذا ولا ذاك، وإنما الوازع الديني هو الذي يضطرهم إليه؟ وإذا ما عُرفت الأخلاق، فما الغاية التي تهدف إلى تحقيقها، هل هي سعادة الفرد أو المجتمع؟ هل هي سعادة مادية دنيوية؟ أو أنَّ هدفها أسمى من ذلك؛ كونها ترنو إلى سعادة الخلود الذي لا انقطاع له؟.. إلى غير ذلك من الاختلافات.
يختلف التشريع السماوي للأخلاق عن التشريع العقلي لها. فمهما كانت درجة الإلزام العقلي للأخلاق لا تتعدى أكثر من التحسين والتقبيح للأفعال، دون أنْ تُلزم المكلَّف بآثار تلك الصفات من حيث الثواب أو العقاب. على عكس الإلزام الأخلاقي في التشريع السماوي، فهو مبتني على مبدأي الثواب والعقاب، فمَن امتثل له، تفضّل الله ع عليه بالثواب، ومَن عصى استحق منه - تعالى - العقاب. إضافة إلى أنَّ أثر هذا التشريع لا يظهر على سلوك المكلّف إلّا إذا تحلّى بعقيدة راسخة، تكون هي الباعثة على فعل الحسن والزاجرة عن فعل القبيح، وبمعنى آخر تكون بمثابة الرقيب الداخلي، وبه فليس هناك حاجة إلى رقيب من خارج، وهذا ما لا وجود له في التشريع غير السماوي.
ولأجل الوقوف على أثر التشريع السماوي في خُلُق المكلّف، ومعرفة ما إذا كان بمقدروه ترسيخ أوامره ونواهييه في نفس المكلّف، وإمكانية صيرورتها طباعًا له، أم لا.. سيتم تناول الموضوع في ثلاثة مباحث، هي:
- الأول: أحكام الأخلاق بين التأكيد والتأسيس.
- الثاني: العقيدة وأثرها في الأخلاق.
- الثالث: أثر التشريع السَّماوي في تغيير الخُلُق.
أحكام الأخلاق بين التأكيــد والتأسيـــس
لما ترجَّح عند متكلمي العدلية –الإمامية والمعتزلة- استقلالية العقل بدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، وحكمه بإتيان ما ينبغي والانتهاء عمّا لا ينبغي، ظهرت على السطح مسألة ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشَّرع، وعدم ثبوتها.. إذ بالأولى تكون الأحكام الشَّرعية خبرية تأكيدية، وبالثانية تكون إنشائية تأسيسية. بمعنى: لو أنَّ العقل استقل بحسن فعل ما، فهل بإمكانه أيضًا البعث على فعله وتأسيس الحكم له دون الحاجة إلى الحكم من الشارع المقدس؟ وإذا ما صدر الحكم من الشارع المقدس، فهل يحكم بنفس ما حكم به العقل؟ أي يكون لمجرد تأكيد الحكم العقلي في البعث. أو لا.. ليس للعقل - وإن استقل بحسن فعل ما – القدرة على البعث، وإنما الشارع هو الذي يحكم بذلك ويؤسس له؛ لإحاطته تعالى بملاكات الأحكام وحيثياتها من المصالح والمفاسد؟
هذه المسألة بُحثت في الفكر الإسلامي أول ما بُحثت في علم الكلام، وبها تعددت الفرق الكلامية، إلّا أنَّ الأصوليين هم الذين وسّعوا البحث فيها وأثرَوْا تفرّعاتها.. ومن هنا فلابد من الوقوف على آراء الأصوليين في هذه المسألة، ومعرفة القول الراجح من بينها.
انقسم الفقهاء والأصوليون في مسألة الملازمات العقلية - بين حكم العقل وحكم الشارع على وفقه - ثلاثة أقسام، وتبع أغلبهم في ذلك مدارسهم الكلامية، فقال أصوليو المعتزلة بأن الأحكام الشَّرعية كلها أحكام تأكيدية لحكم العقل فيها، وتبعهم على ذلك فقهاء المذهب الحنفي، أما الأشاعرة، وفقهاء الإمامية من الإخباريين، فقالوا أن الأحكام كلها تأسيسية؛ لأنهم أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وأنكروا الملازمة العقلية بين حكم العقل وحكم الشارع، ووقف أصوليو الإمامية موقف التفصيل في الأحكام بين التأكيد والتأسيس.
وفيما يأتي طرح لآراء بعض أعلام الفقهاء والأصوليين من هذه المدارس في المطالب الآتية.
القائلون بأنها أحكام تأكيدية
أولًا: المعتزلـة
ذهب المعتزلة إلى أن أحكام الله تعالى في الواجبات والمحرمات أحكام تأكيدية؛ لأن العقل يحكم فيها بالوجوب والحرمة، فما كان حسنًا يحكم بوجوبه وما كان قبيحًا يحكم بحرمته، والشارع كاشف ومبيِّن لا مُثبِت، وليس له تعكيسها، أي لا تتعلق قدرته بجعل الحسن قبيحًا أو جعل القبيح حسنًا؛ لأنها صفات ذاتية في الأفعال. فالصِّدق في نفسه حسن، والكذب في نفسه قبيح، وفعل الصَّلاة في نفسه حسن، والزنا في نفسه قبيح، ولولا ذلك لما أمر بالأول ونهى عن الثاني.
يرى القاضي عبد الجبار، أنه لما وجَبَ على المكلَّف النظر في معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وجَبَ عليه معرفة ما يتفرّع على ذلك من أحكام فقهية، كوجوب الصلاة على الجملة، ووجوب الزكاة والحج والجهاد في سبيل الله تعالى، وما يجري هذا المجرى(2). وغالى بعضهم بقوله: أنَّ «العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشَّرع، وعليه يعلم أنه إن قصَّر ولم يعرفه ولم يشكره عاقبه عقوبة دائمة، فأثبتنا التخليد واجبًا بالعقل»(3).
ونُقل إجماعهم على أنَّ النَّاس محجوجون بعقولهم، مَن بلغه خبر الرسول ومَن لم يبلغه(4) وأنَّ العقول تعمل بمجردها من السمع، إلّا أنَّ المعتزلة البغداديين يوجبون الرسالة في أول التكليف(5). ومنه قول الزمخشري: أن الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر، وتبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعليم الشَّرائع، فكان الغرض من إرسالهم هو إزاحة للعلَّة، وتتميمًا لإلزام الحجّة، لئلَّا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولًا فيوقظنا من سِنة الغفلة وينبّهنا لما وجب الانتباه له(6). وإلاّ فالعقل وحده كافٍ لمعرفة الله تعالى وما أوجبه وحرّمه من الأفعال، والدليل على ذلك أمر الله تعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بقوله:)قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((7) فقوله (نُهيت) أي «صُرِفتُ وزُجِرتُ بما رُكِّب فِيَّ من أدلة العقل(8).. أما البيّنات التي جاء بها الرسول فهي مقوية لأدلة العقل ومؤكِّدة لها ومضمِّنة ذكرها، نحو قوله تعالى:)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ((9) وأشباه ذلك، إذ ذكر أدلة السمع كي تناصر أدلة العقل، ولعل أدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية(10).
قسَّم المعتزلة أحكام الأفعال الخارجة عن الاضطرار - وإنْ لم يرد بها شرع - ثلاثة أقسام(11):
الأول: ما حسَّنه العقل، وهو الواجب(12)والمندوب، فالواجب ما لحق الذم بتركه، سواء كان مقصودًا لنفسه، كالإيمان، أو لغيره، كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى، والمندوب ما ترجَّح فعله على تركه، وإنْ لم يلحق الذم بتركه.
الثاني: ما قبَّحه العقل، وهو الحرام والمكروه، فما التحق الذم بفعله فهو الحرام، وإلا فمكروه.
الثالث: المباح، وهو ما استوى فعله وتركه في النفع والضرر.
وعلى الرغم من تقسيمهم الأحكام وفق التقسيم العقلي، إلا أنهم قالوا أن هناك أفعالًا لايستقل العقل بمعرفتها «كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده؛ فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك، لكن الشَّرع لما ورد بتشريعها، عُلِم اختصاص كل واحد منهما بما لأجله من حسن وقبح، وإلا لامتنع ورود الشَّرع به»(13).
ثانيًا: فقهاء المذهب الحنفي
ويذهب إلى نفس المذهب الفقه الحنفي، إذ قال فقهاؤه بقدرة العقل على إدراك الحسن والقبح في الأشياء قبل ورود السمع، ومِنهم مَنْ أعطى العقل قوّة التشريع وإمكانية إدراكه لملاكات الأحكام ومصالحها ومفاسدها. إذ ذهب الجصَّاص (ت: 370هـ) إلى أنَّ حكم الأشياء - في العقل - قبل مجيء السمع ثلاثة أنحاء(14):
الأول: واجب، وهو لا يجوز فيه التغيير و(التبديل)، كالإيمان بالله وشكر المنعم، ووجوب الإنصاف.
الثاني: محظور، وهو قبيح لنفسه، لا يتبدل ولا يتغير عن حاله، كالكفر والظلم، فلا يختلف حكمه على المكلَّفين.
والثالث: مباح، وهو كل ما لم يكن من القسمين الأولين، ويكون ذو جواز في العقل، يجوز إباحته تارة، وحظره أخرى، وإيجابه أخرى، على حسب ما يتعلق بفعله من منافع المكلَّفين ومضارهم.
واستدل على إباحة القسم الثالث من الأشياء، بأنها مخلوقة لمنافع المكلَّفين؛ لأن «خَلْقها لا يخلو من أحد أربعة معان. إما: أنْ يكون الله تعالى خلقها لا لينفع أحدًا، وهذا عبث وسفه والله تعالى منزّه عنه، أو يكون خلقها ليضرَّ بها من غير نفع، وهذا أشنع وأقبح، ولا يجوز فعله على الله تعالى، أو أنْ يكون خلقها لمنافع نفسه، وذلك محال لأنه لا يلحقه المنافع والمضار. فثبت أنه خلقها لمنافع المكلَّفين»(15). وقال: هذا حكم العقل، أما حكم السمع فقد أكّدته الآيات في قوله تعالى:)وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ...((16) فأخبر أنَّ ما لم يدل على تحريمه فلا تبعة على فاعله. فقد جاء السمع بتأكيد ما كان في العقل إباحته(17)، ومنه أيضًا، قوله تعالى:)وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ...((18)، وقوله تعالى:)قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...((19) و)قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ...((20).. وغيرها كثير.
وذهاب الحنفية إلى حُجّية القياس - المبتني على القول بالرأي – يُفضي إلى إعطاء العقل قوّة التشريع حتى بعد ورود الشرع. يقول السرخسي (ت: 490هـ): «مذهب الصحابة ومَن بعدهم... جواز القياس بالرأي على الأصول التي تثبت أحكامها بالنص لتعدية حكم النص إلى الفروع، جائز مستقيم يُدان الله به، وهو مدرك من مدارك أحكام الشرع»(21) ثم استدل على قوله بالكتاب وسنّة الصحابة والدليل العقلي للردّ على مَن أبطل العمل بالقياس؛ كونه تشريع في ما لا نصّ فيه(22). على أنَّ ابن عابدين - من متأخري الحنفية – يرى أنَّ العقل مدركًا لا حاكمًا، أي ليس له الحكم بالحرمة أو الحِلّية، وإنما ذلك لله تعالى. يقول: «العقل مُدرك لحُسن بعض المأمورات وقُبح بعض المنهيَّات فيأتي الشرع حاكمًا بوفق ذلك، فيأمر بالحسن وينهى عن القبح»(23).
القائلون بأنها أحكام تأسيسية
أولًا: الأشـاعرة
ذهب الأشاعرة إلى عدم قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح في الأفعال وإنما الطريق إليه هو الشَّرع، ولذا أنكروا الملازمات العقلية، واعتبروا كل الأحكام الواردة من الشارع إنما هي إنشائية وتأسيسية لقوانين الشَّريعة. فما أوجبته الشَّريعة فهو حسن وما نهت عنه فهو قبيح. وكل القواعد العقلية التي قال بها المعتزلة إنما هي سمعية لا عقلية، فشكر المنعم مثلًا، لا يُستدرك وجوبه بالعقل؛ لأنه لا بد من تخيل غرضٍ لذلك وهو ما لا وجود له.
واستدل على ذلك الغزَّالي، بقوله: إنْ كان في ذلك فائدة فلا بد أن تعود إما إلى المشكور أو إلى الشاكر، والأول محال لأنه تعالى منزَّه عن الأغراض، أما الثاني - الشاكر- فلا يلذ به في الحال بل يُتعب نفسه وحسب، وإذا قيل أنه سيثاب على شكره في الآخرة ويعاقب على كفره(24)، فهذا «خيال فاسد مستنده تخيل غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز... وقد يخطر للعبد أنه إن نظر وشكر ربما يعاقب، فإنه عبد مرفَّه أمدّه الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفَّه فإتعابه نفسه تصرف منه في مملكته من غير إذنه»(25). وعضّد قوله بالتمثيل بمَنْ تصدَّق عليه السلطان بكسرة من رغيف في غير مخمصة، فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الأشهاد يشكره، لا شك كان ذلك خزيًا وافتضاحًا للسلطان، وجملة إنعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان(26).
ثم أجزم بأن لا حكم قبل ورود الشَّرع، والقول بحظر بعض الأشياء قبل ورود الشَّرع فهو «تحكَّم لا يُدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ لا يرتبط بالانزجار غرض، ولا يمكن تقديره في الإقدام»(27)، ولذا فكل شيء مباح قبل ورود الشَّرع، بمعنى تساوي الإحجام والإقدام، لا بمعنى أنها حكم من أحكام الله، لأن حكم الله خطابه، فمن المبلِّغ ولا رسول؟(28).
وفي المحصول للرازي، أنّ حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلاّ بالشَّرع، ومنه شكر المنعم، فهو غير واجب عقلًا.. واستدل على ذلك بالنقل والعقل(29) أما الأول، فقوله تعالى:)...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا((30) وقوله تعالى:)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ...((31).
وأما الثاني - العقلي- فهو نفس استدلال الغزّالي الذي سبق ذكره، إلا أنه أضاف إليه قوله: لعل الشاكر «لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب، و... لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بإيجاب الشكر لا عقلًا ولا شرعًا، وقد ثبت لنا ذلك، بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعًا، قلنا: لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تُعَلل بالأغراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلًا، وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال»(32). وردَّ على من يقول أن وجوبه معلوم بالضرورة مطلقًا، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، بقوله: «أحلف بالله تعالى وبالأيمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعًا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر، بل ولا ظانًا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجًا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضًا»(33).
أما حكم الأشياء قبل الشَّرع عند الرازي، ففيها وجهان(34):
الأول: إذا كان انتفاع المكلَّف فيها اضطراريًا كالتنفس في الهواء وغيره، فهو غير ممنوع عنه قطعًا.
الثاني: أن لا يكون اضطراريًا كأكل الفواكه وغيرها، فموقوف؛ لأن «قبل الشَّرع ما ورد خطاب الشَّرع، فوجب أن لا يثبت شيء من الأحكام، لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشَّرع»(35).
تجدر الإشارة إلى أنَّ الآمدي قد تابَعَ الغزّالي والرازي في استدلالهما النقلي بالآيتين الكريمتين الآنفتي الذكر في استلزام انتفاء الوجوب والحرمة قبل بعثة الأنبياء، وإلاّ لما أمِن من العذاب بتقدير ترك الواجب، وفعل المحرم، إذ هو لازم لهما. واستدل عقليًا، بأن ثبوت الحكم إما بالشَّرع أو بالعقل بالإجماع، ولا شرع قبل ورود الشَّرع، والعقل غير موجِب ولا محرِّم، إذن فلا حكم(36).
ووافق الآمدي القائلين بالإباحة إن فسَّروها بنفي الحرج عن الفعل والترك، إلا أنه اختلف معهم في صحة إطلاق لفظ الإباحة بإزائه. لامتناع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها. «وإن فسَّروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك، فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره: فإن كان الأول، فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة، لتحقق ذلك في حقه، وهو ممتنع بالإجماع. وإن كان الثاني، فالمخير إما الشَّرع وإما العقل بالإجماع، ولا شرع قبل ورود الشَّرع»(37) وإن كان تخيير العقل عندهم فرع الحسن والقبح العقلي، فهو باطل(38).
وإذا كان الأشاعرة يؤكَّدون على إنشائية الأحكام في التحسين والتقبيح، وأنها كلها من تأسيس الشَّرع، فقولهم في أحكام العبادات أوكد.
ثانيًا: الفقهاء الإخباريون من الإماميـة
ظهر الإخباريون في القرن الحادي عشر للهجرة، وتأسست مدرستهم العلمية على يد الميرزا محمد أمين الاسترآبادي (ت: 1033هـ)(39)، الذي صرَّح في كتابه (الفوائد المدنية) بعدم استقلالية العقل بالحسن والقبح، وحمل حملة شعواء على من استعمل العقل في استنباط الأحكام الشَّرعية، وبذل جهده في الحد من تدخل العقل، كما وجه حملته على المناطقة والفلاسفة الطبيعيين والإشراقيين بقوله: «أنه لو كان المنطق عاصمًا عن الخطأ من جهة المادة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف، ولم يقع غلط في الحكمة الإلهية وفي الحكمة الطبيعية وفي علم الكلام وعلم أصول الفقه كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة»(40) .
وبيَّن أنَّ مذهبه لا يصيبه الخطأ؛ لتمسكه بكلام المعصومين (عليهم السلام)، فقال: «إنْ تمسّكْنا بكلامهم عليهم السلام فقد عُصِمنا من الخطأ وإنْ تمسّكْنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنَّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه»(41). والإخباريون يدّعون «أنَّ خطّهم الفكري في استنباط الحكم الشَّرعي يعود إلى عصر الفقهاء الأوائل، ويقولون بأن رأيهم في طريقة فهم الحكم الشَّرعي مثل ما رآه الشيخ الصدوق وكبار المحدثين»(42).. وهذا ما يفسِّر اختلافهم مع الأصوليين الذين محَّصوا الكتب الحديثية في استنباطهم للأحكام الشَّرعية.
وقد استقرأ البعضُ أهم المسائل التي اختلفت فيها المدرسة الأخبارية مع المدرسة الأصولية، فمنها قولهم بقطعية صدور كل ما ورد في الكتب الحديثيَّة الأربعة(*) من الروايات، بحجة أن أصحابها قد اهتموا بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها، وعليه يصح للفقيه التمسك بما ورد فيها من أحكام، وأيضًا ذهابهم إلى عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية لأنها تستند إلى العقل، كما نفوا حجية الإجماع، وحجية حكم العقل، والملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشَّرعي، ونفي الاحتجاج بالكتاب العزيز لطرو مخصصات من السنَّة ومقيِّدات على عمومه ومطلقاته(43). ولا يمكن أن تُستنبط الأحكام الشَّرعية منه إلا من خلال المعصوم ع الذي خوطب به؛ لقوله تعالى:)...وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((44).
ويرى الاسترآبادي من خلال استقرائه لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، أنها تواترت على أن الأرض لا تخلو من معصوم في كل زمان منصوب من قبل الله تعالى يوصل الحكم الإلهي إلى البشر ليكون حجة على النَّاس أجمعين من لدن آدم ع إلى انقراض الدنيا(45) أما في زمن الفترة وغياب المعصوم ع عن النَّاس وعدم تمكنهم أخذ كل الأحكام منه ع، فيُعدّون من القِسم الذي «لم تبلغه الدعوة و...لم يتعلق به تكليف أصلًا، أما بالمعارف؛ فلأنها من الله تعالى مطلقًا، وأما بغيرها؛ فلأنه يستفاد مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كما مر تحقيقه»(46).
وأكّد الاسترابادي على أن كل الأشياء قبل ورود الشَّريعة على الإباحة ولا يوجد شيء قبيح ولا يستلزم منه الحرمة، واستدل على ذلك بصريح الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في أن «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(47) وأن «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(48)، أما بعد ورود الشَّريعة فهي التي تُحِلّ وتحرِّم، فما كان من الحلال والحرام بيِّنًا يجب العمل به، وإلاّ فالروايات صريحة في وجوب التوقف في كل واقعة لم يكن حكمها بيِّنًا(49). أما في زمن الغيبة الكبرى للإمام المنتظر ع، فيرى أن الله تعالى يوفق «بعض الرعيَّة بفهم الأحاديث المسطورة في الأصول الممهدة في زمن حضور الأئمة (عليهم السلام) ليعمل الشيعة بها إلى قيام القائم ع ويمهِّد له أسباب تحصيل العلم بجميع ما يحتاج إليه الشيعة في أعمالهم ولو بحديث وارد من باب التقية أو دال على رعاية الاحتياط على كيفية مخصوصة»(50).
القائلون بالتفصيــل
أصوليو الإماميـة
قالت الإمامية بثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي والحكم الشَّرعي، فإذا حكم العقل - بما هو عقل - بحسن شيء أو قبحه فلا بد للشارع أن يحكم بمثله لأنه سيد العقلاء، وإنْ صدرت أوامره في هذا الباب فجميعها أوامر إرشادية لا مولوية. وهو قول أغلب أصوليي الإمامية (51).
إذ ذهب متقدموهم إلى أنَّ العقل إذا استقل بحسن فعل أو قبحه فهو كذلك عند الله تعالى، ومنه قول الشيخ المفيد (ت:413هـ): «أنَّ الله تبارك وتعالى لا يحسِّن قبيحًا ولا يقبِّح حسنًا، إذ تقبيح الحسن وتحسين القبيح باطل، لا يقع إلا من جاهل بحقيقتهما، أو متعمد للكذب في وصفهما بغير صفتهما. والله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا»(52).
وأكّد الشيخ المفيد على أنَّ ما نهى الله تعالى عنه من القبائح لم تزل كذلك في كل الشَّرائع، مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والقتل والربا والزنا.. وردَّ على الشبهة التي توهم بأن الله تعالى حسَّن قبيحًا وقبَّح حسنًا، وحظر ما كان مباحًا وأباحَ ما كان محظورًا.. بأن ذلك في صفات الأفعال التي لا يستقل العقل بحسنها أو قبحها، وهي واقعة في باب المتزاحمات وملاكات المصالح والمفاسد التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى. فقال: «وإنما تقبح الأفعال التي لا دليل في العقل على قبحها ولا حسنها، للعلم بالفساد بإباحتها، ويقبح حظرها للعلم بالاستفساد بتحريمها، وأحوال المكلَّف تتغير، فلتغيرها يحسن إباحتهم حينما كان نوعه محظورًا عليهم حينًا، ويحسن منعهم حينما كان نوعه لهم مطلقًا حينًا، وهذا باب لا يخفى معناه على متأمل له، ومفكِّر من أهل العقل»(53).
واتفقت الإمامية على أنَّ العقل وحده غير قادر على استنباط الأحكام الشَّرعية في غير المستقلات لعدم إحاطته بملاكات الأحكام؛ لذا فهو «غير منفك عن سمع ينبِّه العاقل على كيفية الاستدلال»(54). وأنَّ هناك من الأحكام ما يعجز العقل عن درك وجوبها أو حرمتها، ولا سبيل إليها إلاّ الشَّرع، وهي عند الشيخ الطوسي كل ما «لا يمكن معرفته بالعقل كالعبادات الشَّرعية من الصَّلاة والزَّكاة والصوم والحجّ وغير ذلك، وكقبح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، فإنه لا مجال للعقل في العلم بذلك»(55).. وقال: «وأما الواجبات الشَّرعية فإنها فرع على معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، فهي متأخرة لا محالة»(56).
وذهب المحقق الداماد (ت: 1041هـ) إلى أنَّ العقل يستقل بالحسن والقبح في الأفعال، وفيه جهة مرجِّحة لأحدهما، أما الحكم السمعي الشَّرعي فهو كاشف عن الجهة العقلية، وحكم العقل بالنسبة إلى الفعل وجوب، وبالنسبة إلى الله تعالى إيجاب كونه هو الحاكم والشارع، فقال: «إن الحكم السمعي الشَّرعي الكاشف عن الجهة العقلية المرجِّحة المحسِّنة أو المقبِّحة في نفس ذات الفعل بالقياس إلى الفعل وجوب، وبالقياس إلى الله الحاكم الشارع جل سلطانه إيجاب، أو بالنسبة إلى الفعل حرمة، وبالنسبة إليه سبحانه تحريم»(57). وقوله هذا مستقى من نزعته الفلسفية في أنَّ «مقولتي أنْ يفعل وهي التحريك، وأنْ ينفعل وهي التحرّك، اعتباران مختلفان في مقولة الحركة، وهما والحركة متحدة بالذات مختلفة بالاعتبار»(58). أي لها ثلاثة اعتبارات، الأول: نفس الحركة وهي التصرّم والتجدد في المادة، والثاني: التحريك أو (أنْ يفعل) نسبة إلى السبب الفاعل المباشر، والثالث: التحرّك نسبة إلى الموضوع القابل أو (أنْ ينفعل) وهو الأثر الحاصل في الخارج .. فالحكم بالنسبة إليه سبحانه الذي شأنه الإفاضة والصنع والإيجاد (إيجاب وتوكيد)؛ لأنه سبحانه هو المحرِّك والجاعل الموجِب بالاقتضاء، أما بالنسبة للذات القابلة للفيض فهو تأكّد ووثاقة(59).
أما الإمامية المتأخرون والمعاصرون، فقد ذهب الشيخ الأصفهاني (ت:1361هـ) إلى أنَّ ما حكم به العقلاء(60) من التحسين والتقبيح العقليين كونهما من القضايا المشهورة التي توافقت آراؤهم عليها للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة، لا محالة يكون حكم الشارع على وفقه؛ لأن هذه الأحكام لا يختص به عاقل دون عاقل وأنه بادي رأي الجميع لعموم مصلحته، والشارع من العقلاء بل رئيس العقلاء(61).
وفرّق الأصفهاني بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري، فالأول غير مستتبع للحكم الشَّرعي المولوي، إذ إدراكه وحده كاف للبعث والمحركيَّة، وأما حكم الشارع فيه فإنما هو تأكيد للبعث، واستدل على ذلك بأن المدح والذم عند العقلاء ما يعم الثواب والعقاب، أو بعبارة أخرى المُجازاة بالخير والمُجازاة بالشَّر.. ومن هنا أيّد مَنْ جزم بأن المراد من مدح الشارع هو ثوابه، وذمَّه عقابه(62)، لأن «موافقة التكليف الواصل عدل في العبودية فيستحق المدح والثواب، ومخالفته خروج عن زي الرِقيَّة فيكون ظلمًا على المولى فيستحق الذم والعقاب»(63) وهذا هو ملاك صحة البعث، لوجود الداعي العقلي بإمكان الانقياد، وحينئذ لا يُعقل جعل داعٍ بالإمكان بعد وجود داع آخر من قبله بالإمكان، ولا يعقل أن يحكم الشارع مولويًا على وفائه أيضًا، بل يحكم بحسنه أو قبحه على حد سائر العقلاء(64).
أما حكم العقل النظري فيستتبع الحكم الشَّرعي المولوي الإنشائي؛ لأن «مصالح الأحكام الشَّرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع، وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها»(65).. وحتى وإنْ افترض أنَّ العقل أدرك مصلحة خاصة لبعض الأحكام بحيث كانت في نظره تامة الاقتضاء، فلا يستطيع الحكم به وفق الحكم المولوي للشارع؛ لأن الغرض من الواجب غير الغرض من الإيجاب(66). فالإيجاب «إنما يتحقق بتحقق علته التامة من المقتضي الموجود في الواجب الباعث على إيجابه ومن عدم المانع من إيجابه، فمجرد إحراز المقتضي لا يكفي في إحراز مقتضاه فعلًا»(67)؛ كون الإنشاء المولوي في البعث والزجر تابع للأغراض المولوية المنحصرة في المصالح والمفاسد بما فيها من متعلقات في عالم التزاحم(68).
وتابعه تلميذه الشيخ محمد رضا المظفر (ت: 1381هـ) في أنَّ الملازمة ثابتة عقلًا، فإذا تطابقت آراء العقلاء جميعًا - بما هم عقلاء - على تحسين شيء أو تقبيحه لما فيه حفظ النظام وبقاء النوع، لابد أن يحكم الشارع بما يحكمون، لأنه كسائر العقلاء بل رئيسهم(69).
وكل ما يَرِد في لسان الشَّرع من الأوامر في موارد المستقلات العقلية، إنما هو للإرشاد وتأكيد الحكم العقلي لا تأسيسًا له «حيث يفرض أن حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلف إلى الفعل الحسن وانقداح إرادته للقيام به، فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانيًا، بل يكون عبثًا ولغوًا، بل هو مستحيل، لأنه يكون من باب تحصيل الحاصل»(70).
وبيَّن أنَّ الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليين هو نفس الالتزام بتحسين الشارع وتقبيحه، لا أنهما شيئان أحدهما يلزم الآخر؛ ولذا فإن أكثر الأصوليين والكلاميين لم يجعلوهما مسألتين بعنوانين، وعليه فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسين والتقبيح(71).. وأضاف: «أما نحن فإنما جعلنا الملازمة مسألة مستقلة فللخلاف الذي وقع فيها بتوهم التفكيك»(72). وذهب أيضًا إلى أنَّ ملاكات الأحكام الشَّرعية المولوية - المصالح والمفاسد - لا تندرج تحت ضابط درك العقول، ولذا فلا يجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام العام وإبقاء النوع، كما في مناطات الأحكام في التحسين والتقبيح العقليين(73). وعلى هذا، «فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشَّرعية... لا سبيل له إلى الحكم بأن هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يحتمل أن هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أن هناك مانعًا... ولأجل هذا... ليس كل ما حكم به الشَّرع يجب أن يحكم به العقل»(74) .. واستشهد لذلك بقول الإمام الصادق ع: «إنَّ دين الله لا يُصاب بالعقول»(75) ومنه عدم اعتبار القياس والاستحسان من الأدلة الشَّرعية على الأحكام عند الإمامية.
تبقى الإشارة إلى أنَّ الشهيد محمد باقر الصدر عدَّ الأدلة السابقة غير تامة، ويرى، أنه لا ملازمة بين الحكم العقلي وحكم الشارع على طبقه، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه، وردَّ ذلك بوجهين:
الأول: لا يوجد شك في أن الشارع يُدرك ما يُدركه العقلاء - بما هم عقلاء - من الحسن والقبح، ولكن الكلام في أنه هل يجعل حكمًا تشريعيًا على طبقهما أم لا؟ .. والحق أنه لا مبرِّر لذلك، إذ لا برهان على لزوم صدور جعلٍ من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.
الآخر: أن حسن الأمانة وقبح الخيانة - مثلًا - وإن كانا يستبطنان درجة من المسؤولية والمحرّكية، إلا أن حكم الشارع على طبقهما يؤدي إلى نشوء مِلاك آخر للحسن والقبح غير الذي يستكشفه العقل والداعوية المحرّكية لهما، لأن حكم الشارع يكون على نحو طاعة المولى ومعصيته، وبذلك تتأكد المسؤولية والمحرّكية، فإن رأى فيها حفظ لواجبات العقل العملي حَكَمَ على طبقها، وإلاّ فلا(76).
أما في مجال حكم العقل النظري، فيتفق مع باقي الأصوليين من أن الأحكام الشَّرعية تابعة للمصالح والمفاسد. ولو افتُرض أن العقل النظري قادر - نظريًا - على إدراك الملاك لهذه المصالح والمفاسد بكل خصوصياته وشؤونه، فلا محالة أنه سيكتشف الحكم الشَّرعي بطريقٍ لمِّيٍ (بانتقاله من العلة إلى المعلول).. ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية في كثير من الأحيان، لضيق دائرة العقل، فقد يُدرك المصلحة في فعل ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهميتها ولذا لا يتم الاستكشاف(77).
العقيدة وأثرها في الأخلاق
العمل بالأحكام الشَّرعية هو فرع العلم بالأحكام العقدية، فما لم يقف المكلَّف على عقيدة ما، لا يمكنه الامتثال لأوامر ونواهي شارعها. كما أنَّ عمل المكلَّف نفسه مهما كانت درجة صلاحه وكماله لا يكون مرضيًا عند الله تعالى ما لم يكن نابعًا من عقيدة حقّة.
ولتوضيح هذا الأمر، سيتم تناول المبحث من خلال المطالب الآتية:
الأول: التوحيد الإلهي.
الثاني: التكليف والعبادة.
الثالث: النبوَّة (الطريق الموصل إلى العبادة).
المطلب الأول: التوحيد الإلهي
أصل المعرفة هو معرفة الله تعالى وتوحيده، وكل المعارف الأُخر إنما هي متفرعة عن التوحيد، فإذا عرف الإنسان أنه ليس للعالم إلا إلهًا واحدًا، أزليًا سرمديًا، عالمًا حكيمًا محيطًا قادرًا... خلق الأشياء فأحسن تقديرها وبث فيها قوانينها التكوينية والتشريعية، وأمر عباده بإتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، وضمن لهم سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأطمعهم بجنته وأخافهم بناره، فمن أطاع وأحسن وعده بالنعيم المقيم، ومن عصى وأساء توعّده بالعذاب الأليم، فلا محالة سيكون ذلك باعثًا له «إلى كل خير ويصرفه عن كل شر، ويحقق مجتمعه على أساس التصالح في البقاء، بعيدًا عن التنازع على البقاء»(78).
ولا يخفى أنَّ الأخلاق إذا «اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكانت التقوى رادعًا داخليًا له عن ارتكاب الجرم؛ ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة - عقيدة التوحيد - لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية»(79)، أما إذا كان مبنيًا على التوحيد فسيكون رادعًا للإنسان عن المعصية، ونقض القوانين، سيّما إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس، لذا لا ترى القانون يسعد «إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة، لا تتم إلا بالتوحيد، فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية وتتفرع بالأخلاق الكريمة»(80).
من هنا جعل العلماء عملية النظر واجبة على كل مكلف ولا يجوز له التقليد فيها، ومنه قول الشيخ المفيد في مقدمة مقنعته: «أفتتحه (كتاب المقنعة) بما يجب على كافة المكلَّفين: من الاعتقاد الذي لا يسع إهماله البالغين، إذ هو أصل الإيمان والأساس الذي عليه بناء جميع أهل الأديان، وبه يكون قبول الأعمال ويتميز الهدى من الضلال»(81).
على أنَّ الذي يلزم المكلف معرفته، هو التوحيد الحقيقي الذي «لا يتكامل إلّا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها، معرفة ما يُتوصل به إلى معرفة الله تعالى، والثاني، معرفة الله على جميع صفاته، والثالث، معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات، والرابع، معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، والخامس، معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم»(82).
ويرى المتكلمون أنَّ للتوحيد ثلاث مراتب على مستوى الإثبات، هي: التوحيد الذاتي والتوحيد الصفاتي والتوحيد الأفعالي. ويؤيد ذلك ما نُقل عن أبي عبد الله ع قوله: قال جبرئيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «طوبى لمن قال من أمتك: لا إله إلا الله وحده وحده وحده»(83). إذ جاء تكرير الوحدة - حسب المتكلمين - للمبالغة والتأكيد، أي منفردًا في الذات والصفات والأفعال، لا نظير له ولا مثل، وكان لم يزل ولم يكن معه شيء(84).
غير أنَّ الوحدة في نظر البحث الفلسفي لها أقسام متعددة، فالواحد قد يكون واحدًا حقيقيًا وقد لا يكون، والواحد الحقيقي قد تكون وحدته حقّة، وقد لا تكون كذلك، وهي ما يُطلقون عليها بالوحدة الظلِّية. وفيها يقول صدر المتألهين: «اعلم أنَّ الوحدة قد تكون ذات الواحد بما هو واحد وهي الوحدة الحقّة، وقد تكون غيرها. وهذه على ضربين: حقيقية وغير حقيقية»(85)؛ لذا يرى وحدة الممكنات وحدة ضعيفة في البساطة، وهي ظل من الوحدة الصِرفة الإلهية التي أفاضت سائر الوحدات على الترتيب النزولي، فكلما كان أشد وحدة كان أقرب إلى الوحدة الحقّة(86). والأحق بالوحدة الحقيقية بل الوحدة الحقّة التي هي ذات الواحد بما هو واحد، هو ما لا ينقسم أصلًا لا في الكم ولا في الحد ولا بالقوة ولا بالفعل ولا ينفصل وجوده عن ماهيته(87). ولعل هذه المرتبة من التوحيد لا يتكامل بها إلاّ الأوحدي من النَّاس، وأن قوله تعالى:)وَمَا يُؤمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاّ وَهُم مُشْرِكُونَ((88)إشارة إلى ذلك.
فإنْ كان ذلك، وجب على المسلم معرفة ما يتفرع على التوحيد الحقيقي، وإدراك أنَّ الخالق إنْ كان بتلك الصفات فهو لا محالة عدل مطلق؛ لأنه كمال مطلق «وأنه ليس في أفعاله قبيح ولا إخلال بواجب. ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمسة أشياء: أحدها، معرفة حُسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني، معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث، معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما، والرابع، معرفة الإمامة وشروطها، والخامس، معرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(89).
منازل معرفة الإنسان
من المعروف أنَّ النَّاس متفاوتون في مداركهم وقدراتهم العقلية، وعليه فهل يجب على الإنسان الإلمام بكل هذه المعارف التوحيدية على تفصيلاتها أو لا؟
يرى البعض أنه يكفي في التوحيد معرفة وحدانية الله تعالى في الربوبية وأنه لا شريك له في المعبودية، ويتبعها النظر في الصفات من الثبوتيات والسلبيات(90)، وهذا يكفي لأهل الله تعالى، إذ الدليل عليه والوسيلة إلى معرفته هو سبحانه)أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد((91) الذي (دل على ذاته بذاته)(*)، أو كما يقول الإمام السجاد ع: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك)(**).
وأما لغيره فبالأدلة العقلية بمعرفة الآيات الآفاقية والأنفسية من حيث «إمعان النظر في الآثار واختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وجري الأنهار وركود البحار حركة السَّماء واضطراب الهواء وتغير الأشياء... وكفى بصنع الإنسان فضلًا عن ساير أنواع الحيوان دليلًا قاطعًا وبرهانًا ساطعًا خلقه من تراب ثم أودعه الأصلاب، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم كسا العظام لحمًا ثم أخرجه خلقًا سويًا وخلق له لبنًا صافيًا...»(92) وجميعها تدل على أنَّ هناك صانعًا مبدعًا جديرًا بأن يُعبد ويُشكر.
ووجوب النظر – على حد تعبير الشيخ الطوسي - لا يراد منه «المناظرة والمحاجَّة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون وتجري بينهم، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وإنْ لم تكن واجبة، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به»(93). فمن النَّاس مَنْ يلزمه الفهم على التفصيل، أمثال المتكلمين الذين أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة، فإنْ خطرت لهم شبهات ووردت عليهم خواطر لزمهم حلها والتفتيش عنها، وكذا كل مَنْ يجري مجراهم. ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فإنه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة. ومَنْ لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فإنه لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات أوحلها(94).
أما مَنْ لم يكن لديه لا علم بالجملة ولا علم بالتفصيل، فهو في حضيض التقليد المنهي عنه، إلّا مَنْ تعذّر عليه التعبير وخانه اللفظ في ذلك وهو عادة لعامة النَّاس، وعندئذٍ «لا يمتنع أن يكون عارفًا على الجملة وإنْ تعذّرت عليه العبارة عمّا يعتقده، فتعذّر العبارة عمّا في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا إرتفاعه»(95).
ماذا بعد المعرفة التوحيدية؟
إذا عرف الإنسان أنَّ هناك خالقًا عالمًا حكيمًا هو الذي خلقه واسكنه هذه الأرض وأنعم عليه بهذه النعم وجب عليه أنْ يعرف الهدف الذي خلقه من أجله، وهل أنَّ فعله – تعالى - مغيًّا أو بغير غاية؟
اختلف الكلاميون في أنَّفعله - سبحانه - مغيًّا أم لا.. إلى فريقين، ولا يسع المقام للدخول في آرائهم وأدلتهم بتفاصيلها، ولكن يمكن الإشارة إليها باختصار. إذ ذهبت العدلية إلى القول بأنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض؛ لأنها صادرة من حكيم وعليم، وعن طريق كمال علمه يختار أفضل الوسائل وأرجحها للوصول إلى الهدف من أفعاله(96). في حين نقل الإيجي رأي الأشاعرة ومَن وافقهم في قوله: «إنَّ أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض - إليه ذهبت الأشاعرة - وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائية ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين»(97) لأنهم يرون فعله ع عين الحكمة لا ما هو حكيم فإنه يفعله(98).
والمرجّح هو ما ذهبت إليه العدلية (المعتزلة والإمامية) لأنَّ الله - سبحانه- لم يخلق النَّاس سدًى ولم يتركهم هملًا ولم يكن لاعبًا، وهذا ما صرحت به كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى:)وَمَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ((99) وقوله تعالى:)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ((100) وقوله تعالى:)أَيَحسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى((101)..
وهذا ما وصل إليه البعض بعقولهم المجردة، وإن لم يصلهم التكليف السمعي، ومنه ما نُقل عن أرسطو طاليس، قوله: أن النَّاس اختلفوا فيما ينبغي على المخلوقين تجاه خالقهم، فبعضهم رأى أن يقوموا بالصَّلاة والصِّيام، وخدمة الهياكل والمصليات.. وبعضهم رأى أن يتقرب إليه، بأن يُحسِن إلى نفسه بتزكيتها وحسن سياستها والإحسان إلى أبناء جنسه بالمواساة والحكمة والموعظة.. وبعضهم رأى النهج بالفكر في الإلهيات، والاستزادة في معرفة ربه عز وجل حتى تتكامل معرفته به، وبحقيقة وحدانيته.. وبعضهم رأى أن الواجب على المخلوقين ليس واحدًا، ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزامًا واحدًا، وعلى مثال واحد، وإنما يختلف بحسب طبقات النَّاس، ومراتبهم من العلم(102)
أما الفلاسفة فقالوا: إنَّ عبادة الله عز وجل على ثلاثة أنواع:
«أحدها: فيما يجب له على الأبدان، كالصَّلاة والصِّيام، والسعي إلى المواقف الشَّريفة؛ لمناجاة الله عز وجل.
والثاني: فيما يجب له على النفوس، كالاعتقادات الصحيحة، وكالعلم بتوحيد الله عز اسمه، وما يستحقه من الثناء والتمجيد، وكالفكر فيما أفاضه على العالم من وجوده وحكمته، ثم الاتساع في هذه المعارف.
والثالث: فيما يجب له عند مشاركات النَّاس في المدن، وهي في المعاملات، والمزارعات، والمناكح، وفي تأدية الأمانات، مع نصيحة البعض للبعض، بضروب المعاونات، وعند جهاد الأعداء، والذب عن الحريم»(103) .
ولا يخفى أنَّ هذه الأنواع من العبادات وإن كانت محصورة ومعدودة، إلّا أنَّ العقل المجرد قادر على إدراكها قبل ورود الشَّرع على الجملة. ويمكن القول بأنَّ جميع العبادات أفعال أخلاقية عقلية قبل أن تكون أوامر وإلزامات شرعية، لأنها لا تخلو من أنْ يكون فيها الأغراض الآتية:
1- شكر للمنعم، وشكر المنعم واجب عقلي وأخلاقي.
2- طاعة للمولى، وطاعة المولى واجب عقلي وأخلاقي.
3- طلب، وطلب الفقير من الغني واجب عقلي وأخلاقي، إذ من القبيح عقلًا أن يطلب الفقير من الفقير.
وإذن فالأغراض الثلاثة من العبادة جميعها أفعال أخلاقية يستقل العقل بها على نحو الموجبة الجزئية. أما تفاصيل هذه العبادات فلا يمكن للعقل إدراكها؛ لقصوره ولعدم إحاطته بملاكات الأحكام.. أللّهم إلّا لعقل سيد الخلق (صلوات الله عليه وعلى آله) فمن الممكن أنْ يُحيط بها على نحو الفقر والحاجة إلى الإحاطة الإلهية التي تكون بالذات والغِنى.
التكليف والعبادة
الإنسان موجود مركب من بدن وروح، وعقل وهوى، وبسبب هذا التركيب يجعله يفحص - بفطرته - عن سعادته المادية والمعنوية، ويسعى للوصول إلى الكمال المقصود من وجوده. فحياة كل إنسان لها بعدان: فردي واجتماعي، ولأجل هذا احتاج الإنسان إلى نظام وقوانين تحقق له الحياة الطيبة، الفردية والاجتماعية، وتحقق له السعادة المادية والمعنوية(104). ومن هنا قال العدلية بحسن التكليف ووجوبه على(*) الله تعالى؛ لأن على المكلِّف «أن يكون حكيمًا مأمونًا منه فعل القبيح والإخلال بالواجب ليُعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف... ويجب أن يكون قادرًا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالمًا بمبلغه... ويجب أن يكون منعمًا بما يجب له به العبادة،... ويجب أيضًا أن يكون عالمًا بتكامل شرائط التكليف في المكلف من أقداره وسائر ضروب التمكين»(105). مستندين في ذلك إلى الأدلة العقلية والبراهين الصحيحة؛ لأنهم يرون أنَّ البشر محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم، والوصول إلى السعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. ومن لطف الله تعالى أنْ يكلَّفهم؛ وإنْ لم يفعل «فإما أنْ يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف، وهذا جهل يتنزه عنه الحق تعالى، وإما لأن الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق، وإذن فلا بد من تكليف البشر»(106) ليكونوا عند قوله تعالى:)...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ...((107).
ولم يجوّز العدلية التكليف بما لا يطاق لأنه ظلم، وقبح الظلم من البديهيات الأولية عند العقل العملي، كالطيران إلى السَّماء بلا وسيلة مثلًا. والآيات القرآنية أيضًا صريحة في أنه سبحانه لا يكلِّف الإنسان إلا وسعه، وقدر طاقته ولا يظلمه مطلقًا(108)، كما في قوله تعالى:)لَا يُكَلِفُ اللهُ نَفْسًَا إلا وسْعَهَا...((109).
على أنَّ الأشاعرة اختلفوا مع العدلية في تجويزه، إذ يقول الإيجي: «التكليف بما لا يطاق عادة نجوّزه نحن وإنْ لم يقع بالاستقراء»(110) أي أنه لم يقع خارجًا وإنما العقل يحكم بذلك - حسب مبانيهم-.
فلسفة العبـادة
يعالج نظام العبادات حاجة ثابتة في حياة الإنسان خُلقت معه؛ لأنها تساهم في تهذيب خُلُقه والتزامه العملي، فالشَّريعة لم تعطِ الصَّلاة والصِّيام والحجّ والزَّكاة وغير ذلك من عبادات الإسلام كوصفة مؤقتة وصيغة تشريعية محدودة بالظروف التي عاشتها في مستهل تاريخها؛ بل فرضت تلك العبادات على الإنسان وهو يزاول عملية تحريك الآلة بالقوى الذرّية والنووية كما فرضتها على الإنسان الذي كان يحرث الأرض بمحراثه اليدوي.
ولعل البعض يرى أنَّ هذه العبادات - كالوضوء والغسل والصَّلاة والصِّيام - كانت مفيدة في مرحلة ما من حياة الإنسان البدوي، لمساهمتها في تنظيف بدنه وصيانته من الإفراط في الطعام والشَّراب، فلا حاجة لها اليوم؛ لأن هذه الأهداف تحققها للإنسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية وأسلوب معيشته الاجتماعية.. والحق أنَّ هذه النظرة على خطأ(111)؛ بلحاظ أنَّ التطور الاجتماعي في الوسائل والأدوات، وتحول المحراث، في يد الإنسان إلى آلة يحركها البخار أو يديرها التيار الكهربائي، إنما يفرض التغير في علاقة الإنسان بالطبيعة وما تتخذه من أشكال مادية، تتطور شكلًا ومضمونًا من الناحية المادية تبعًا لذلك. وأما العبادات فهي ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة لتتأثر بعوامل هذا التطور، وإنما هي علاقة بين الإنسان وربه، ولهذه العلاقة دور روحي في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان(112).
من هنا، يُعَد نظام العبادات في الإسلام علاجًا ثابتًا لحاجات ثابتة من هذا النوع ولمشاكل ليست ذات طبيعة مرحلية؛ لأن العبادة فيها تزكية للبدن وصفاء للنفس ومعراجًا للروح ووصولها إلى كمالها، فقد قال تعالى:)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدون((113) إذ قرن تعالى العبادة بـ (لام) الغرض «وكان المقصود منها هو الوصول إلى جانب عزته في حظائر قدسه بأجنحة الكمال، كأن ذلك هو الغاية لخلق الإنسان والمطلوب منه، والمأمور بالتوجه والسير إليها بوجهه الحقيقي، فإن سعى لها سعيها ولم يحصل له فتور وكلال أدركها وفاز بحلول جنات النعيم، وإن قصَّر في طلبها وانحرف عن الصراط المستقيم كان من الهالكين»(114).
والمستقرئ لشواهد الشَّرع وبصائر العقل، يرى أن مقصود الشَّرائع كلها سياقة الخلق إلى جوار الحق وسعادة لقائه، والارتقاء من حضيض النفس إلى ذروة الكمال، ومن هبوط الأجسام الدنية إلى شرف الأرواح العلية، وذلك لا يتيسر إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته والاعتقاد بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر. فما لم يعرف العبد نفسه بالعبودية، لم يعرف نفسه ولا ربَّه، فسُلّم معرفة النفس بالذلَّة والعبودية هو سبيل الصعود إلى ربه، لكون النفس ناقصة بالقوة والارتقاء من حال نقص إلى حال تمام لا يكون إلا بحركة وزمان ومادة قابلة، ووجود هذه الأشياء من خصائص هذه النشأة الحسية وهو المعنى من القول: الدنيا مزرعة الآخرة. فصار حفظ الدنيا التي هي النشأة الحسية للإنسان أيضًا مقصودًا ضروريًا تابعًا للدين لأنه وسيلة إليه. ومن هاهنا يُعرف مراتب الطاعات والمعاصي، وأي الطاعات أفضل الفضائل وأعظم الوسائل المقربة لديه وأيها أدون، وأي المعاصي أكبر الكبائر المبعدة عنه وأيها أدون ذلك(115).
إنَّ هذه العبادات المخصوصة - الواجبة أو المندوبة - ولا سيما الصَّلاة (عمود الدين) في عرف العرفاء لها مبدأ تكويني ووجود حقيقي في عالم الملكوت، وبنزولها إلى عالم المُلك تظهر «بصورة مجموع حركات الجوارح والجوانح وسكناتها وأقوالها وأفعالها، مثلما أن للقرآن ظاهرًا اعتباريًا كمجموع الحروف والحركات وباطنًا حقيقيًا نظير (أم الكتاب)»(116). فهم يعدّون الصَّلاة عصارة الأسفار العقلية الأربعة(*)؛ لأن أركانها وأفعالها وأذكارها وتحليلها وتحريمها، تقود حينًا من الكثرة إلى الوحدة في النية لله تعالى والتدبر في أوصافه، وحينًا تجعل الانشغال بالوحدة، وحينًا ترجع من الوحدة إلى الكثرة بالشهادة برسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخيرًا تُسرع في الكثرة بعين الوحدة بالتوجه نحو العباد الصالحين كافة والسلام عليهم. ولكل مرتبة من الصَّلاة آثار تناسب تلك المرحلة؛ فهي في نشأة الاعتبار نهي عن الفحشاء والمنكر الجعليين، وصورتها الملكوتية في البرزخ تكون مانعة لضرر الصورة البرزخية للفحشاء والمنكر، وفي دائرة العقل التام تدفع توغل الصورة المثالية للمعاصي إلى الأعلى(117).
فعن أبي جعفر الباقر ع، لما اُسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال الله تعالى له: «...ما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته»(118). ويُنقل عن المحقق الطوسي تعليقه على الحديث قائلًا: العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات. وكل علم مستغرقًا في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأتى عنها شيء من الممكنات، بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه؛ فصار الحق حينئذ بصره الذي به يبصر وسمعه الذي به يسمع وقدرته التي بها يفعل وعلمه الذي به يعلم ووجوده الذي به يوجد، فصار العارف حينئذ متخلقًا بأخلاق الله تعالى في الحقيقة(119).
فغاية العبادة إذن، هي التخلق بأخلاق الله وليس مجرد حركات تؤدّى، وإنْ كانت مجزية حسب الاصطلاح الفقهي إن أُدّيتْ بشروطها(120). وعليه فلابد للإنسان أن يعرف ما يُصلحه وما يُفسده، وما هو الطريق الموصل إلى ذلك.
النبـوَّة .. الطريق الموصل إلى الأحكام التكليفية
لما ثبت وجود الخالق ووحدته وحكمته، تثبت بالضرورة وجود السفارة الإلهية إلى عباده، وضرورة الهداية والتعليم والتربية عن طريقها(121)؛ لأن الذي يضمن إصلاح هؤلاء العباد، إنما هو الهداية الإلهية التي تحقق لهم الاعتدال الفكري بالعقائد الحقّة، والإعتدال الروحي بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة (122)، وتؤمِّن لهم الحقوق الفردية والاجتماعية.
وهذه الأهداف لا تتيسر إلّا عن طريق الوحي والنبوة؛ لأن فكر الإنسان مهما كان قويًا، ليس بإمكانه أن يضيء النقاط المبهمة والمجهولة في فطرته، ويستغني في مسيرة حياته عن الأنبياء وهدايتهم (عليهم السلام)، على أنَّ السفير لا بدّ أن يكون مُصطفى من قبل الله تعالى، الذي طهَّره من الرجس، واستخلصه لنفسه، وأدّبه بحكمته. ولا بدّ أن يكون في صورة الإنسان وصفاته، ليتعامل مع النَّاس(123). وأن يكون معصومًا فيما يؤديه من المصالح والمفاسد؛ لوقوف الامتثال له على علم المكلّف كون ما أمر به صلاحًا وما نهى عنه فسادًا، ولهذا الاعتبار أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في الأداء، لعلمهم بأن تجويز الخطأ فيه يسقط فرض الشَّرائع فعلًا وتركًا(124).فجعلهم الله تعالى مبشرين للنَّاس برحمته، ومنذرين من عقابه، ومذكِّرين بمنسي نعمته، كما في قوله تعالى:)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...((125)
وفي خطابه لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله):)...فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ((126)وقوله تعالى:)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ((127). وإلى ذلك أشار أمير المؤمنينع بقوله: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكَّروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول... ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة»(128).
ولما كان الأنبياء والرسل هم السفراء الإلٰهيين الذين يوصلون أحكام الله تعالى إلى خلقه، فلا ريب أنَّ هذه السفارة «من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون... ويختلط المضل بالهادي. وإذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدًا واضحًا يدل على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أنْ يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية»(129) ويكون مُعجِزًا لغيره ويضطره إلى التصديق به، فيكون حجة عليه ولا عذر له بمخالفته.
وإنْ كان ذلك لسائر الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وقد آمن بهم أقوامهم وكانوا حجة عليهم .. فعلى المسلم الاعتقاد بسائر من سلف من أنبياء الله تعالى ورسله ممن سبق النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)والإيمان بأنَّ «شريعته ناسخة لما تقدمها من الشَّرائع المخالفة لها، وأنه لا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته، وكل من ادعى النبوة بعده فهو كاذب على الله تعالى، ومن يغير شريعته فهو ضال، كافر من أهل النار، إلا أن يتوب ويرجع إلى الحق بالإسلام»(130).
أما معاجزه صلوات الله عليه وآله، فقد استفاضت كتب التاريخ بذكرها(131)، فضلًا عن معجزته الخالدة إلى يوم يطوي الله تعالى السَّماء)...كَطَيِ السِجِلِ لِلْكُتُبِ...((132) ألَا وهي القرآن الكريم، كتاب الله العزيز ودستور هذه الأمة.
أخلاق الأنبيـاء
ثبت بالتجربة، أنَّ مَنْ أراد أن يأخذ على عاتقه إصلاح النَّاس، وينهض بتعليمهم وتزكية أنفسهم، لابد له من التلبس بالعمل الصالح، والإيمان بما يريد أن يعلِّمه لغيره، قاصدًا إلى تطبيقه تطبيقًا عمليًا، أكثر منه تعليمًا نظريًا، كون التطبيق العملي أكثر وقعًا وتصديقًا في النفوس. يقول العلامة الطباطبائي: «الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والإيمان بصحتها»(133).
وإذا كان تجسّد الخُلُق الحسن من لوازم المصلحين، فهو في الأنبياء أوكد، لذا فإن الله عز وجل «لم يبعث رسله وأنبياءه إلى النَّاس إلا بعد أنْ حلاّهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم»(134)، ويتضح ذلك جليًا من وصف القرآن الكريم لكرائم أخلاق الأنبياء (عليهم السلام) في أنهم (هم المهتدون)، وأنهم أول من يعمل الصالحات ثم يوصون النَّاس بفعلها، وأنهم مؤدبون بالأدب الإلهي المتجلي في أعمالهم (عليهم السلام) سواء في عباداتهم وأدعيتهم وتوجههم إلى الله تعالى، أو في معاشراتهم ومخاطباتهم مع النَّاس، وبه صاروا موضع مدح رب العزّة والجلال سبحانه. قال تعالى في إبراهيم ع:)وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا((135) وفي يعقوب ع:)...وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ((136) وفي يوسف ع:)...إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ((137) وفي حق عيسى ع:)...وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ((138)... إلى غيرها من الصفات الحميدة والأخلاق الشَّريفة التي كانت مفرَّقة بينهم (عليهم السلام) بأجمعهم، فآدم ع كان من المصطفين، الذي اختصه الله تعالى بعلم الأسماء(139)، ونوح ع من الشاكرين(140)، وإسماعيلع كان صاحب الصِّدق(141)، وموسى ع كليم الله وصاحب الشَّريعة والمعجزات البيّنات(142)، وداود وسليمان (عليهما السلام) كانا من أصحاب الشكر على النعمة(143)، وأيوب ع كان من أصحاب الصبر على البلاء(144)، ويونسع صاحب التضرع(145)... «فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشَّرف»(146). وعن أبي عبد الله عقوله: «إنَّ الصَّبرَ والبِرَّ والحِلم وحُسن الخُلُق من أخلاق الأنبياء»(147) ، وقال ع: «أربعة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام: البِرُّ والسَّخاء والصَّبر على النَّائبة والقيام بحق المؤمن»(148).
ولمّا أراد الله تعالى تمييز خاتم رسله وخيرته من خلقه (صلى الله عليه وآله) عن باقي الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، جمع ذكرهم في سورة الأنعام، وبيَّن إخلاصهم في التوحيد وتكريمهم بالهداية، وطلب من نبيه الكريم أن يقتدي بهداهم، ويجمع صفاتهم، فقال تعالى:)وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ...((149).. قيل: إنَّ المراد من اقتدائه (صلى الله عليه وآله) بالأنبياء، هو في محاسن أخلاقهم، وإلاّ فلا يجوز اقتداءه بهم في أصول الدين، لأن التقليد فيها باطل، ولا في الأحكام الشَّرعية، لأن شريعته صلوات الله عليه وآله خاتمة للشرائع السَّماوية وناسخة لما قبلها(150).
قال الرازي: «فكأنه سبحانه قال: إنا أطلعناك على أحوالهم وسيَّرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتديًا بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقًا فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم»(151). ولمّا جمع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) هذه الخصال الحميدة كلها وصفه العلي - سبحانه - بأنه على خُلُق عظيم، فقال:)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ((152).. «بعدما أدّبه وأكمل له محامده وبلَّغه إلى غاية كماله، خاطبه بذلك القول، مؤكدًا بأنَّ واللاّم واسمية الجملة، والتنكير المفيد للتعظيم»(153)، فكانت أخلاقه لا نظير لها، وتحار العقول في سموّها وعظمتها، فقد جسّد مبادئ الخير في نفسه أولًا، ثم دعا النَّاس إلى العمل والالتزام بها، فعندما دعا النَّاس للعبادة، كان أعبد النَّاس جميعًا، وعندما نهاهم عن سوء أو منكر، فإنه الممتنع عنه قبل الجميع، يقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرع إلى الله بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنه الطاهر رميًا بالحجّارة، نعم.. لقد كان مركزًا للحب ومنبعًا للعطف ومنهلًا للرحمة(154)، فكان ذا خُلُق ولم يكن ذا تخلّق(155). ولذا حثّ القرآن الكريم على وجوب اتّباع هذا النبي العظيم، بقوله تعالى:)قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...((156) وأمر باتخاذه اُسوة وقُدوة)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...((157)؛ لأنه كان قرآنًا(158) يمشي على الأرض ويعيش بين النَّاس بكل ما فيه من أوامر ونواهٍ وقربات. وفيه قال أمير المؤمنين علي ع: «فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله)، فإن فيه أسوة لمن تأسَّى، وعزاء لمن تعزَّى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضمًا، ولم يعرها طرفًا، أهضم أهل الدنيا كشحًا، وأخمصهم من الدنيا بطنًا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها...»(159). ومن هنا توجب على المصلح أن يكون مبتدءًا بنفسه أولًا ومن ثم يتعدى إصلاحه إلى غيره، وإلا فتنظيره لا يُجدي نفعًا دون عمله به؛ فالعمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له. فمن منّا يُقدم على التقرب إلى الله تعالى بتقديم ولده وفلذة كبده إلى الموت أمامه ويأنس به دونما تردد، إلاّ إذا تجسد ذلك أمامه، وعرف وصدّق أن النبي إبراهيم ع أقدم على ذبح ابنه بيده امتثالًا لأمر ربّه، ويهون عليه الأمر أكثر عندما يعلم ويصدِّق بأن الإمام الحسين ع قدِّم ولده وخيرة شباب عصره وأشبه مخلوق برسول الله (صلى الله عليه وآله) خَلقًا وخُلقًا إلى أفواه السيوف لتقطعه إرَبًا، وعرض طفله الرضيع إلى نبال أهل الجاهلية الأجلاد فذبحوه بين يديه عطشانًا، وأخرج حرائر بيت الوحي لتكون سبايا بين أيدي الأدعياء.. إرضاءً لربه وحفظًا لدين جدِّه. فكانوا عليهم السلام أول الناس تضحية وأسبقهم إقدامًا. فالذي يريد الاحتذاء بخطوهم لا بد له من التأسّي بهم، ولا يكون من الذين قرّعهم القرآن الكريم بقوله:)أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ...((160) وما ورد في الخبر من ذم للمؤدِّبين الذين يعلِّمون الخير ولا يعملون به، قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: «يا أبا ذر يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله»(161).
وفي مثل هؤلاء، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتي مِثْلَه عَارٌ عَليكَ إذا فَعَلْتَ عَظيـمُ(162)
ابدأ بنفسك وانهها عن غيِّها فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حكيـمُ
فهناك يُقبل ما وعَظْتَ ويُقتدى بالعِلْمِ مِنـكَ وينفـعُ التعليـــمُ
وإذن فلابدّ للمصلح أن يجعل قول شعيب ع)...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ...((163) دستوره ومنطلقه الذي ينطلق منه.
توطئــــة: الخُلُق الإنساني مثار خلاف بين باحثي علم الأخلاق، منذ أن ولدت الفلسفة الإغريقية وإلى يومنا هذا؛ لأنه يقوم على مفهومات تثير الجدل والنزاع، حتى قيل أنه «ليس بين العلوم الفلسفية علمٌ كالأخلاق في كثرة مذاهبه وتعدد وجهات النظر في مشاكله... ومرد الخلاف - فيما يظن التجريبيون - هو اختلاف النَّاس في كل زمان ومكان في فهمهم للمثل الأخلاقي الأعلى...»(1).
ومن ذلك موقفهم من ماهيّة الحسن والقبح العقليين أو الشَّرعيين، والباعث على الفعل الإرادي لها.. هل هو عقلي ضروري أولي، أو أنه اعتباري تواضعت عليه المجتمعات لتصفو معيشتها وتنتظم حياتها، أو أنه لا هذا ولا ذاك، وإنما الوازع الديني هو الذي يضطرهم إليه؟ وإذا ما عُرفت الأخلاق، فما الغاية التي تهدف إلى تحقيقها، هل هي سعادة الفرد أو المجتمع؟ هل هي سعادة مادية دنيوية؟ أو أنَّ هدفها أسمى من ذلك؛ كونها ترنو إلى سعادة الخلود الذي لا انقطاع له؟.. إلى غير ذلك من الاختلافات.
يختلف التشريع السماوي للأخلاق عن التشريع العقلي لها. فمهما كانت درجة الإلزام العقلي للأخلاق لا تتعدى أكثر من التحسين والتقبيح للأفعال، دون أنْ تُلزم المكلَّف بآثار تلك الصفات من حيث الثواب أو العقاب. على عكس الإلزام الأخلاقي في التشريع السماوي، فهو مبتني على مبدأي الثواب والعقاب، فمَن امتثل له، تفضّل الله ع عليه بالثواب، ومَن عصى استحق منه - تعالى - العقاب. إضافة إلى أنَّ أثر هذا التشريع لا يظهر على سلوك المكلّف إلّا إذا تحلّى بعقيدة راسخة، تكون هي الباعثة على فعل الحسن والزاجرة عن فعل القبيح، وبمعنى آخر تكون بمثابة الرقيب الداخلي، وبه فليس هناك حاجة إلى رقيب من خارج، وهذا ما لا وجود له في التشريع غير السماوي.
ولأجل الوقوف على أثر التشريع السماوي في خُلُق المكلّف، ومعرفة ما إذا كان بمقدروه ترسيخ أوامره ونواهييه في نفس المكلّف، وإمكانية صيرورتها طباعًا له، أم لا.. سيتم تناول الموضوع في ثلاثة مباحث، هي:
- الأول: أحكام الأخلاق بين التأكيد والتأسيس.
- الثاني: العقيدة وأثرها في الأخلاق.
- الثالث: أثر التشريع السَّماوي في تغيير الخُلُق.
أحكام الأخلاق بين التأكيــد والتأسيـــس
لما ترجَّح عند متكلمي العدلية –الإمامية والمعتزلة- استقلالية العقل بدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، وحكمه بإتيان ما ينبغي والانتهاء عمّا لا ينبغي، ظهرت على السطح مسألة ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشَّرع، وعدم ثبوتها.. إذ بالأولى تكون الأحكام الشَّرعية خبرية تأكيدية، وبالثانية تكون إنشائية تأسيسية. بمعنى: لو أنَّ العقل استقل بحسن فعل ما، فهل بإمكانه أيضًا البعث على فعله وتأسيس الحكم له دون الحاجة إلى الحكم من الشارع المقدس؟ وإذا ما صدر الحكم من الشارع المقدس، فهل يحكم بنفس ما حكم به العقل؟ أي يكون لمجرد تأكيد الحكم العقلي في البعث. أو لا.. ليس للعقل - وإن استقل بحسن فعل ما – القدرة على البعث، وإنما الشارع هو الذي يحكم بذلك ويؤسس له؛ لإحاطته تعالى بملاكات الأحكام وحيثياتها من المصالح والمفاسد؟
هذه المسألة بُحثت في الفكر الإسلامي أول ما بُحثت في علم الكلام، وبها تعددت الفرق الكلامية، إلّا أنَّ الأصوليين هم الذين وسّعوا البحث فيها وأثرَوْا تفرّعاتها.. ومن هنا فلابد من الوقوف على آراء الأصوليين في هذه المسألة، ومعرفة القول الراجح من بينها.
انقسم الفقهاء والأصوليون في مسألة الملازمات العقلية - بين حكم العقل وحكم الشارع على وفقه - ثلاثة أقسام، وتبع أغلبهم في ذلك مدارسهم الكلامية، فقال أصوليو المعتزلة بأن الأحكام الشَّرعية كلها أحكام تأكيدية لحكم العقل فيها، وتبعهم على ذلك فقهاء المذهب الحنفي، أما الأشاعرة، وفقهاء الإمامية من الإخباريين، فقالوا أن الأحكام كلها تأسيسية؛ لأنهم أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وأنكروا الملازمة العقلية بين حكم العقل وحكم الشارع، ووقف أصوليو الإمامية موقف التفصيل في الأحكام بين التأكيد والتأسيس.
وفيما يأتي طرح لآراء بعض أعلام الفقهاء والأصوليين من هذه المدارس في المطالب الآتية.
القائلون بأنها أحكام تأكيدية
أولًا: المعتزلـة
ذهب المعتزلة إلى أن أحكام الله تعالى في الواجبات والمحرمات أحكام تأكيدية؛ لأن العقل يحكم فيها بالوجوب والحرمة، فما كان حسنًا يحكم بوجوبه وما كان قبيحًا يحكم بحرمته، والشارع كاشف ومبيِّن لا مُثبِت، وليس له تعكيسها، أي لا تتعلق قدرته بجعل الحسن قبيحًا أو جعل القبيح حسنًا؛ لأنها صفات ذاتية في الأفعال. فالصِّدق في نفسه حسن، والكذب في نفسه قبيح، وفعل الصَّلاة في نفسه حسن، والزنا في نفسه قبيح، ولولا ذلك لما أمر بالأول ونهى عن الثاني.
يرى القاضي عبد الجبار، أنه لما وجَبَ على المكلَّف النظر في معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وجَبَ عليه معرفة ما يتفرّع على ذلك من أحكام فقهية، كوجوب الصلاة على الجملة، ووجوب الزكاة والحج والجهاد في سبيل الله تعالى، وما يجري هذا المجرى(2). وغالى بعضهم بقوله: أنَّ «العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشَّرع، وعليه يعلم أنه إن قصَّر ولم يعرفه ولم يشكره عاقبه عقوبة دائمة، فأثبتنا التخليد واجبًا بالعقل»(3).
ونُقل إجماعهم على أنَّ النَّاس محجوجون بعقولهم، مَن بلغه خبر الرسول ومَن لم يبلغه(4) وأنَّ العقول تعمل بمجردها من السمع، إلّا أنَّ المعتزلة البغداديين يوجبون الرسالة في أول التكليف(5). ومنه قول الزمخشري: أن الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر، وتبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعليم الشَّرائع، فكان الغرض من إرسالهم هو إزاحة للعلَّة، وتتميمًا لإلزام الحجّة، لئلَّا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولًا فيوقظنا من سِنة الغفلة وينبّهنا لما وجب الانتباه له(6). وإلاّ فالعقل وحده كافٍ لمعرفة الله تعالى وما أوجبه وحرّمه من الأفعال، والدليل على ذلك أمر الله تعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بقوله:)قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((7) فقوله (نُهيت) أي «صُرِفتُ وزُجِرتُ بما رُكِّب فِيَّ من أدلة العقل(8).. أما البيّنات التي جاء بها الرسول فهي مقوية لأدلة العقل ومؤكِّدة لها ومضمِّنة ذكرها، نحو قوله تعالى:)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ((9) وأشباه ذلك، إذ ذكر أدلة السمع كي تناصر أدلة العقل، ولعل أدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية(10).
قسَّم المعتزلة أحكام الأفعال الخارجة عن الاضطرار - وإنْ لم يرد بها شرع - ثلاثة أقسام(11):
الأول: ما حسَّنه العقل، وهو الواجب(12)والمندوب، فالواجب ما لحق الذم بتركه، سواء كان مقصودًا لنفسه، كالإيمان، أو لغيره، كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى، والمندوب ما ترجَّح فعله على تركه، وإنْ لم يلحق الذم بتركه.
الثاني: ما قبَّحه العقل، وهو الحرام والمكروه، فما التحق الذم بفعله فهو الحرام، وإلا فمكروه.
الثالث: المباح، وهو ما استوى فعله وتركه في النفع والضرر.
وعلى الرغم من تقسيمهم الأحكام وفق التقسيم العقلي، إلا أنهم قالوا أن هناك أفعالًا لايستقل العقل بمعرفتها «كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده؛ فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك، لكن الشَّرع لما ورد بتشريعها، عُلِم اختصاص كل واحد منهما بما لأجله من حسن وقبح، وإلا لامتنع ورود الشَّرع به»(13).
ثانيًا: فقهاء المذهب الحنفي
ويذهب إلى نفس المذهب الفقه الحنفي، إذ قال فقهاؤه بقدرة العقل على إدراك الحسن والقبح في الأشياء قبل ورود السمع، ومِنهم مَنْ أعطى العقل قوّة التشريع وإمكانية إدراكه لملاكات الأحكام ومصالحها ومفاسدها. إذ ذهب الجصَّاص (ت: 370هـ) إلى أنَّ حكم الأشياء - في العقل - قبل مجيء السمع ثلاثة أنحاء(14):
الأول: واجب، وهو لا يجوز فيه التغيير و(التبديل)، كالإيمان بالله وشكر المنعم، ووجوب الإنصاف.
الثاني: محظور، وهو قبيح لنفسه، لا يتبدل ولا يتغير عن حاله، كالكفر والظلم، فلا يختلف حكمه على المكلَّفين.
والثالث: مباح، وهو كل ما لم يكن من القسمين الأولين، ويكون ذو جواز في العقل، يجوز إباحته تارة، وحظره أخرى، وإيجابه أخرى، على حسب ما يتعلق بفعله من منافع المكلَّفين ومضارهم.
واستدل على إباحة القسم الثالث من الأشياء، بأنها مخلوقة لمنافع المكلَّفين؛ لأن «خَلْقها لا يخلو من أحد أربعة معان. إما: أنْ يكون الله تعالى خلقها لا لينفع أحدًا، وهذا عبث وسفه والله تعالى منزّه عنه، أو يكون خلقها ليضرَّ بها من غير نفع، وهذا أشنع وأقبح، ولا يجوز فعله على الله تعالى، أو أنْ يكون خلقها لمنافع نفسه، وذلك محال لأنه لا يلحقه المنافع والمضار. فثبت أنه خلقها لمنافع المكلَّفين»(15). وقال: هذا حكم العقل، أما حكم السمع فقد أكّدته الآيات في قوله تعالى:)وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ...((16) فأخبر أنَّ ما لم يدل على تحريمه فلا تبعة على فاعله. فقد جاء السمع بتأكيد ما كان في العقل إباحته(17)، ومنه أيضًا، قوله تعالى:)وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ...((18)، وقوله تعالى:)قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...((19) و)قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ...((20).. وغيرها كثير.
وذهاب الحنفية إلى حُجّية القياس - المبتني على القول بالرأي – يُفضي إلى إعطاء العقل قوّة التشريع حتى بعد ورود الشرع. يقول السرخسي (ت: 490هـ): «مذهب الصحابة ومَن بعدهم... جواز القياس بالرأي على الأصول التي تثبت أحكامها بالنص لتعدية حكم النص إلى الفروع، جائز مستقيم يُدان الله به، وهو مدرك من مدارك أحكام الشرع»(21) ثم استدل على قوله بالكتاب وسنّة الصحابة والدليل العقلي للردّ على مَن أبطل العمل بالقياس؛ كونه تشريع في ما لا نصّ فيه(22). على أنَّ ابن عابدين - من متأخري الحنفية – يرى أنَّ العقل مدركًا لا حاكمًا، أي ليس له الحكم بالحرمة أو الحِلّية، وإنما ذلك لله تعالى. يقول: «العقل مُدرك لحُسن بعض المأمورات وقُبح بعض المنهيَّات فيأتي الشرع حاكمًا بوفق ذلك، فيأمر بالحسن وينهى عن القبح»(23).
القائلون بأنها أحكام تأسيسية
أولًا: الأشـاعرة
ذهب الأشاعرة إلى عدم قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح في الأفعال وإنما الطريق إليه هو الشَّرع، ولذا أنكروا الملازمات العقلية، واعتبروا كل الأحكام الواردة من الشارع إنما هي إنشائية وتأسيسية لقوانين الشَّريعة. فما أوجبته الشَّريعة فهو حسن وما نهت عنه فهو قبيح. وكل القواعد العقلية التي قال بها المعتزلة إنما هي سمعية لا عقلية، فشكر المنعم مثلًا، لا يُستدرك وجوبه بالعقل؛ لأنه لا بد من تخيل غرضٍ لذلك وهو ما لا وجود له.
واستدل على ذلك الغزَّالي، بقوله: إنْ كان في ذلك فائدة فلا بد أن تعود إما إلى المشكور أو إلى الشاكر، والأول محال لأنه تعالى منزَّه عن الأغراض، أما الثاني - الشاكر- فلا يلذ به في الحال بل يُتعب نفسه وحسب، وإذا قيل أنه سيثاب على شكره في الآخرة ويعاقب على كفره(24)، فهذا «خيال فاسد مستنده تخيل غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز... وقد يخطر للعبد أنه إن نظر وشكر ربما يعاقب، فإنه عبد مرفَّه أمدّه الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفَّه فإتعابه نفسه تصرف منه في مملكته من غير إذنه»(25). وعضّد قوله بالتمثيل بمَنْ تصدَّق عليه السلطان بكسرة من رغيف في غير مخمصة، فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الأشهاد يشكره، لا شك كان ذلك خزيًا وافتضاحًا للسلطان، وجملة إنعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان(26).
ثم أجزم بأن لا حكم قبل ورود الشَّرع، والقول بحظر بعض الأشياء قبل ورود الشَّرع فهو «تحكَّم لا يُدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ لا يرتبط بالانزجار غرض، ولا يمكن تقديره في الإقدام»(27)، ولذا فكل شيء مباح قبل ورود الشَّرع، بمعنى تساوي الإحجام والإقدام، لا بمعنى أنها حكم من أحكام الله، لأن حكم الله خطابه، فمن المبلِّغ ولا رسول؟(28).
وفي المحصول للرازي، أنّ حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلاّ بالشَّرع، ومنه شكر المنعم، فهو غير واجب عقلًا.. واستدل على ذلك بالنقل والعقل(29) أما الأول، فقوله تعالى:)...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا((30) وقوله تعالى:)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ...((31).
وأما الثاني - العقلي- فهو نفس استدلال الغزّالي الذي سبق ذكره، إلا أنه أضاف إليه قوله: لعل الشاكر «لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب، و... لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بإيجاب الشكر لا عقلًا ولا شرعًا، وقد ثبت لنا ذلك، بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعًا، قلنا: لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تُعَلل بالأغراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلًا، وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال»(32). وردَّ على من يقول أن وجوبه معلوم بالضرورة مطلقًا، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، بقوله: «أحلف بالله تعالى وبالأيمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعًا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر، بل ولا ظانًا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجًا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضًا»(33).
أما حكم الأشياء قبل الشَّرع عند الرازي، ففيها وجهان(34):
الأول: إذا كان انتفاع المكلَّف فيها اضطراريًا كالتنفس في الهواء وغيره، فهو غير ممنوع عنه قطعًا.
الثاني: أن لا يكون اضطراريًا كأكل الفواكه وغيرها، فموقوف؛ لأن «قبل الشَّرع ما ورد خطاب الشَّرع، فوجب أن لا يثبت شيء من الأحكام، لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشَّرع»(35).
تجدر الإشارة إلى أنَّ الآمدي قد تابَعَ الغزّالي والرازي في استدلالهما النقلي بالآيتين الكريمتين الآنفتي الذكر في استلزام انتفاء الوجوب والحرمة قبل بعثة الأنبياء، وإلاّ لما أمِن من العذاب بتقدير ترك الواجب، وفعل المحرم، إذ هو لازم لهما. واستدل عقليًا، بأن ثبوت الحكم إما بالشَّرع أو بالعقل بالإجماع، ولا شرع قبل ورود الشَّرع، والعقل غير موجِب ولا محرِّم، إذن فلا حكم(36).
ووافق الآمدي القائلين بالإباحة إن فسَّروها بنفي الحرج عن الفعل والترك، إلا أنه اختلف معهم في صحة إطلاق لفظ الإباحة بإزائه. لامتناع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها. «وإن فسَّروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك، فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره: فإن كان الأول، فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة، لتحقق ذلك في حقه، وهو ممتنع بالإجماع. وإن كان الثاني، فالمخير إما الشَّرع وإما العقل بالإجماع، ولا شرع قبل ورود الشَّرع»(37) وإن كان تخيير العقل عندهم فرع الحسن والقبح العقلي، فهو باطل(38).
وإذا كان الأشاعرة يؤكَّدون على إنشائية الأحكام في التحسين والتقبيح، وأنها كلها من تأسيس الشَّرع، فقولهم في أحكام العبادات أوكد.
ثانيًا: الفقهاء الإخباريون من الإماميـة
ظهر الإخباريون في القرن الحادي عشر للهجرة، وتأسست مدرستهم العلمية على يد الميرزا محمد أمين الاسترآبادي (ت: 1033هـ)(39)، الذي صرَّح في كتابه (الفوائد المدنية) بعدم استقلالية العقل بالحسن والقبح، وحمل حملة شعواء على من استعمل العقل في استنباط الأحكام الشَّرعية، وبذل جهده في الحد من تدخل العقل، كما وجه حملته على المناطقة والفلاسفة الطبيعيين والإشراقيين بقوله: «أنه لو كان المنطق عاصمًا عن الخطأ من جهة المادة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف، ولم يقع غلط في الحكمة الإلهية وفي الحكمة الطبيعية وفي علم الكلام وعلم أصول الفقه كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة»(40) .
وبيَّن أنَّ مذهبه لا يصيبه الخطأ؛ لتمسكه بكلام المعصومين (عليهم السلام)، فقال: «إنْ تمسّكْنا بكلامهم عليهم السلام فقد عُصِمنا من الخطأ وإنْ تمسّكْنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنَّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه»(41). والإخباريون يدّعون «أنَّ خطّهم الفكري في استنباط الحكم الشَّرعي يعود إلى عصر الفقهاء الأوائل، ويقولون بأن رأيهم في طريقة فهم الحكم الشَّرعي مثل ما رآه الشيخ الصدوق وكبار المحدثين»(42).. وهذا ما يفسِّر اختلافهم مع الأصوليين الذين محَّصوا الكتب الحديثية في استنباطهم للأحكام الشَّرعية.
وقد استقرأ البعضُ أهم المسائل التي اختلفت فيها المدرسة الأخبارية مع المدرسة الأصولية، فمنها قولهم بقطعية صدور كل ما ورد في الكتب الحديثيَّة الأربعة(*) من الروايات، بحجة أن أصحابها قد اهتموا بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها، وعليه يصح للفقيه التمسك بما ورد فيها من أحكام، وأيضًا ذهابهم إلى عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية لأنها تستند إلى العقل، كما نفوا حجية الإجماع، وحجية حكم العقل، والملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشَّرعي، ونفي الاحتجاج بالكتاب العزيز لطرو مخصصات من السنَّة ومقيِّدات على عمومه ومطلقاته(43). ولا يمكن أن تُستنبط الأحكام الشَّرعية منه إلا من خلال المعصوم ع الذي خوطب به؛ لقوله تعالى:)...وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((44).
ويرى الاسترآبادي من خلال استقرائه لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، أنها تواترت على أن الأرض لا تخلو من معصوم في كل زمان منصوب من قبل الله تعالى يوصل الحكم الإلهي إلى البشر ليكون حجة على النَّاس أجمعين من لدن آدم ع إلى انقراض الدنيا(45) أما في زمن الفترة وغياب المعصوم ع عن النَّاس وعدم تمكنهم أخذ كل الأحكام منه ع، فيُعدّون من القِسم الذي «لم تبلغه الدعوة و...لم يتعلق به تكليف أصلًا، أما بالمعارف؛ فلأنها من الله تعالى مطلقًا، وأما بغيرها؛ فلأنه يستفاد مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كما مر تحقيقه»(46).
وأكّد الاسترابادي على أن كل الأشياء قبل ورود الشَّريعة على الإباحة ولا يوجد شيء قبيح ولا يستلزم منه الحرمة، واستدل على ذلك بصريح الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في أن «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(47) وأن «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(48)، أما بعد ورود الشَّريعة فهي التي تُحِلّ وتحرِّم، فما كان من الحلال والحرام بيِّنًا يجب العمل به، وإلاّ فالروايات صريحة في وجوب التوقف في كل واقعة لم يكن حكمها بيِّنًا(49). أما في زمن الغيبة الكبرى للإمام المنتظر ع، فيرى أن الله تعالى يوفق «بعض الرعيَّة بفهم الأحاديث المسطورة في الأصول الممهدة في زمن حضور الأئمة (عليهم السلام) ليعمل الشيعة بها إلى قيام القائم ع ويمهِّد له أسباب تحصيل العلم بجميع ما يحتاج إليه الشيعة في أعمالهم ولو بحديث وارد من باب التقية أو دال على رعاية الاحتياط على كيفية مخصوصة»(50).
القائلون بالتفصيــل
أصوليو الإماميـة
قالت الإمامية بثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي والحكم الشَّرعي، فإذا حكم العقل - بما هو عقل - بحسن شيء أو قبحه فلا بد للشارع أن يحكم بمثله لأنه سيد العقلاء، وإنْ صدرت أوامره في هذا الباب فجميعها أوامر إرشادية لا مولوية. وهو قول أغلب أصوليي الإمامية (51).
إذ ذهب متقدموهم إلى أنَّ العقل إذا استقل بحسن فعل أو قبحه فهو كذلك عند الله تعالى، ومنه قول الشيخ المفيد (ت:413هـ): «أنَّ الله تبارك وتعالى لا يحسِّن قبيحًا ولا يقبِّح حسنًا، إذ تقبيح الحسن وتحسين القبيح باطل، لا يقع إلا من جاهل بحقيقتهما، أو متعمد للكذب في وصفهما بغير صفتهما. والله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا»(52).
وأكّد الشيخ المفيد على أنَّ ما نهى الله تعالى عنه من القبائح لم تزل كذلك في كل الشَّرائع، مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والقتل والربا والزنا.. وردَّ على الشبهة التي توهم بأن الله تعالى حسَّن قبيحًا وقبَّح حسنًا، وحظر ما كان مباحًا وأباحَ ما كان محظورًا.. بأن ذلك في صفات الأفعال التي لا يستقل العقل بحسنها أو قبحها، وهي واقعة في باب المتزاحمات وملاكات المصالح والمفاسد التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى. فقال: «وإنما تقبح الأفعال التي لا دليل في العقل على قبحها ولا حسنها، للعلم بالفساد بإباحتها، ويقبح حظرها للعلم بالاستفساد بتحريمها، وأحوال المكلَّف تتغير، فلتغيرها يحسن إباحتهم حينما كان نوعه محظورًا عليهم حينًا، ويحسن منعهم حينما كان نوعه لهم مطلقًا حينًا، وهذا باب لا يخفى معناه على متأمل له، ومفكِّر من أهل العقل»(53).
واتفقت الإمامية على أنَّ العقل وحده غير قادر على استنباط الأحكام الشَّرعية في غير المستقلات لعدم إحاطته بملاكات الأحكام؛ لذا فهو «غير منفك عن سمع ينبِّه العاقل على كيفية الاستدلال»(54). وأنَّ هناك من الأحكام ما يعجز العقل عن درك وجوبها أو حرمتها، ولا سبيل إليها إلاّ الشَّرع، وهي عند الشيخ الطوسي كل ما «لا يمكن معرفته بالعقل كالعبادات الشَّرعية من الصَّلاة والزَّكاة والصوم والحجّ وغير ذلك، وكقبح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، فإنه لا مجال للعقل في العلم بذلك»(55).. وقال: «وأما الواجبات الشَّرعية فإنها فرع على معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، فهي متأخرة لا محالة»(56).
وذهب المحقق الداماد (ت: 1041هـ) إلى أنَّ العقل يستقل بالحسن والقبح في الأفعال، وفيه جهة مرجِّحة لأحدهما، أما الحكم السمعي الشَّرعي فهو كاشف عن الجهة العقلية، وحكم العقل بالنسبة إلى الفعل وجوب، وبالنسبة إلى الله تعالى إيجاب كونه هو الحاكم والشارع، فقال: «إن الحكم السمعي الشَّرعي الكاشف عن الجهة العقلية المرجِّحة المحسِّنة أو المقبِّحة في نفس ذات الفعل بالقياس إلى الفعل وجوب، وبالقياس إلى الله الحاكم الشارع جل سلطانه إيجاب، أو بالنسبة إلى الفعل حرمة، وبالنسبة إليه سبحانه تحريم»(57). وقوله هذا مستقى من نزعته الفلسفية في أنَّ «مقولتي أنْ يفعل وهي التحريك، وأنْ ينفعل وهي التحرّك، اعتباران مختلفان في مقولة الحركة، وهما والحركة متحدة بالذات مختلفة بالاعتبار»(58). أي لها ثلاثة اعتبارات، الأول: نفس الحركة وهي التصرّم والتجدد في المادة، والثاني: التحريك أو (أنْ يفعل) نسبة إلى السبب الفاعل المباشر، والثالث: التحرّك نسبة إلى الموضوع القابل أو (أنْ ينفعل) وهو الأثر الحاصل في الخارج .. فالحكم بالنسبة إليه سبحانه الذي شأنه الإفاضة والصنع والإيجاد (إيجاب وتوكيد)؛ لأنه سبحانه هو المحرِّك والجاعل الموجِب بالاقتضاء، أما بالنسبة للذات القابلة للفيض فهو تأكّد ووثاقة(59).
أما الإمامية المتأخرون والمعاصرون، فقد ذهب الشيخ الأصفهاني (ت:1361هـ) إلى أنَّ ما حكم به العقلاء(60) من التحسين والتقبيح العقليين كونهما من القضايا المشهورة التي توافقت آراؤهم عليها للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة، لا محالة يكون حكم الشارع على وفقه؛ لأن هذه الأحكام لا يختص به عاقل دون عاقل وأنه بادي رأي الجميع لعموم مصلحته، والشارع من العقلاء بل رئيس العقلاء(61).
وفرّق الأصفهاني بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري، فالأول غير مستتبع للحكم الشَّرعي المولوي، إذ إدراكه وحده كاف للبعث والمحركيَّة، وأما حكم الشارع فيه فإنما هو تأكيد للبعث، واستدل على ذلك بأن المدح والذم عند العقلاء ما يعم الثواب والعقاب، أو بعبارة أخرى المُجازاة بالخير والمُجازاة بالشَّر.. ومن هنا أيّد مَنْ جزم بأن المراد من مدح الشارع هو ثوابه، وذمَّه عقابه(62)، لأن «موافقة التكليف الواصل عدل في العبودية فيستحق المدح والثواب، ومخالفته خروج عن زي الرِقيَّة فيكون ظلمًا على المولى فيستحق الذم والعقاب»(63) وهذا هو ملاك صحة البعث، لوجود الداعي العقلي بإمكان الانقياد، وحينئذ لا يُعقل جعل داعٍ بالإمكان بعد وجود داع آخر من قبله بالإمكان، ولا يعقل أن يحكم الشارع مولويًا على وفائه أيضًا، بل يحكم بحسنه أو قبحه على حد سائر العقلاء(64).
أما حكم العقل النظري فيستتبع الحكم الشَّرعي المولوي الإنشائي؛ لأن «مصالح الأحكام الشَّرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع، وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها»(65).. وحتى وإنْ افترض أنَّ العقل أدرك مصلحة خاصة لبعض الأحكام بحيث كانت في نظره تامة الاقتضاء، فلا يستطيع الحكم به وفق الحكم المولوي للشارع؛ لأن الغرض من الواجب غير الغرض من الإيجاب(66). فالإيجاب «إنما يتحقق بتحقق علته التامة من المقتضي الموجود في الواجب الباعث على إيجابه ومن عدم المانع من إيجابه، فمجرد إحراز المقتضي لا يكفي في إحراز مقتضاه فعلًا»(67)؛ كون الإنشاء المولوي في البعث والزجر تابع للأغراض المولوية المنحصرة في المصالح والمفاسد بما فيها من متعلقات في عالم التزاحم(68).
وتابعه تلميذه الشيخ محمد رضا المظفر (ت: 1381هـ) في أنَّ الملازمة ثابتة عقلًا، فإذا تطابقت آراء العقلاء جميعًا - بما هم عقلاء - على تحسين شيء أو تقبيحه لما فيه حفظ النظام وبقاء النوع، لابد أن يحكم الشارع بما يحكمون، لأنه كسائر العقلاء بل رئيسهم(69).
وكل ما يَرِد في لسان الشَّرع من الأوامر في موارد المستقلات العقلية، إنما هو للإرشاد وتأكيد الحكم العقلي لا تأسيسًا له «حيث يفرض أن حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلف إلى الفعل الحسن وانقداح إرادته للقيام به، فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانيًا، بل يكون عبثًا ولغوًا، بل هو مستحيل، لأنه يكون من باب تحصيل الحاصل»(70).
وبيَّن أنَّ الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليين هو نفس الالتزام بتحسين الشارع وتقبيحه، لا أنهما شيئان أحدهما يلزم الآخر؛ ولذا فإن أكثر الأصوليين والكلاميين لم يجعلوهما مسألتين بعنوانين، وعليه فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسين والتقبيح(71).. وأضاف: «أما نحن فإنما جعلنا الملازمة مسألة مستقلة فللخلاف الذي وقع فيها بتوهم التفكيك»(72). وذهب أيضًا إلى أنَّ ملاكات الأحكام الشَّرعية المولوية - المصالح والمفاسد - لا تندرج تحت ضابط درك العقول، ولذا فلا يجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام العام وإبقاء النوع، كما في مناطات الأحكام في التحسين والتقبيح العقليين(73). وعلى هذا، «فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشَّرعية... لا سبيل له إلى الحكم بأن هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يحتمل أن هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أن هناك مانعًا... ولأجل هذا... ليس كل ما حكم به الشَّرع يجب أن يحكم به العقل»(74) .. واستشهد لذلك بقول الإمام الصادق ع: «إنَّ دين الله لا يُصاب بالعقول»(75) ومنه عدم اعتبار القياس والاستحسان من الأدلة الشَّرعية على الأحكام عند الإمامية.
تبقى الإشارة إلى أنَّ الشهيد محمد باقر الصدر عدَّ الأدلة السابقة غير تامة، ويرى، أنه لا ملازمة بين الحكم العقلي وحكم الشارع على طبقه، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه، وردَّ ذلك بوجهين:
الأول: لا يوجد شك في أن الشارع يُدرك ما يُدركه العقلاء - بما هم عقلاء - من الحسن والقبح، ولكن الكلام في أنه هل يجعل حكمًا تشريعيًا على طبقهما أم لا؟ .. والحق أنه لا مبرِّر لذلك، إذ لا برهان على لزوم صدور جعلٍ من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.
الآخر: أن حسن الأمانة وقبح الخيانة - مثلًا - وإن كانا يستبطنان درجة من المسؤولية والمحرّكية، إلا أن حكم الشارع على طبقهما يؤدي إلى نشوء مِلاك آخر للحسن والقبح غير الذي يستكشفه العقل والداعوية المحرّكية لهما، لأن حكم الشارع يكون على نحو طاعة المولى ومعصيته، وبذلك تتأكد المسؤولية والمحرّكية، فإن رأى فيها حفظ لواجبات العقل العملي حَكَمَ على طبقها، وإلاّ فلا(76).
أما في مجال حكم العقل النظري، فيتفق مع باقي الأصوليين من أن الأحكام الشَّرعية تابعة للمصالح والمفاسد. ولو افتُرض أن العقل النظري قادر - نظريًا - على إدراك الملاك لهذه المصالح والمفاسد بكل خصوصياته وشؤونه، فلا محالة أنه سيكتشف الحكم الشَّرعي بطريقٍ لمِّيٍ (بانتقاله من العلة إلى المعلول).. ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية في كثير من الأحيان، لضيق دائرة العقل، فقد يُدرك المصلحة في فعل ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهميتها ولذا لا يتم الاستكشاف(77).
العقيدة وأثرها في الأخلاق
العمل بالأحكام الشَّرعية هو فرع العلم بالأحكام العقدية، فما لم يقف المكلَّف على عقيدة ما، لا يمكنه الامتثال لأوامر ونواهي شارعها. كما أنَّ عمل المكلَّف نفسه مهما كانت درجة صلاحه وكماله لا يكون مرضيًا عند الله تعالى ما لم يكن نابعًا من عقيدة حقّة.
ولتوضيح هذا الأمر، سيتم تناول المبحث من خلال المطالب الآتية:
الأول: التوحيد الإلهي.
الثاني: التكليف والعبادة.
الثالث: النبوَّة (الطريق الموصل إلى العبادة).
المطلب الأول: التوحيد الإلهي
أصل المعرفة هو معرفة الله تعالى وتوحيده، وكل المعارف الأُخر إنما هي متفرعة عن التوحيد، فإذا عرف الإنسان أنه ليس للعالم إلا إلهًا واحدًا، أزليًا سرمديًا، عالمًا حكيمًا محيطًا قادرًا... خلق الأشياء فأحسن تقديرها وبث فيها قوانينها التكوينية والتشريعية، وأمر عباده بإتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، وضمن لهم سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأطمعهم بجنته وأخافهم بناره، فمن أطاع وأحسن وعده بالنعيم المقيم، ومن عصى وأساء توعّده بالعذاب الأليم، فلا محالة سيكون ذلك باعثًا له «إلى كل خير ويصرفه عن كل شر، ويحقق مجتمعه على أساس التصالح في البقاء، بعيدًا عن التنازع على البقاء»(78).
ولا يخفى أنَّ الأخلاق إذا «اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكانت التقوى رادعًا داخليًا له عن ارتكاب الجرم؛ ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة - عقيدة التوحيد - لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية»(79)، أما إذا كان مبنيًا على التوحيد فسيكون رادعًا للإنسان عن المعصية، ونقض القوانين، سيّما إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس، لذا لا ترى القانون يسعد «إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة، لا تتم إلا بالتوحيد، فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية وتتفرع بالأخلاق الكريمة»(80).
من هنا جعل العلماء عملية النظر واجبة على كل مكلف ولا يجوز له التقليد فيها، ومنه قول الشيخ المفيد في مقدمة مقنعته: «أفتتحه (كتاب المقنعة) بما يجب على كافة المكلَّفين: من الاعتقاد الذي لا يسع إهماله البالغين، إذ هو أصل الإيمان والأساس الذي عليه بناء جميع أهل الأديان، وبه يكون قبول الأعمال ويتميز الهدى من الضلال»(81).
على أنَّ الذي يلزم المكلف معرفته، هو التوحيد الحقيقي الذي «لا يتكامل إلّا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها، معرفة ما يُتوصل به إلى معرفة الله تعالى، والثاني، معرفة الله على جميع صفاته، والثالث، معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات، والرابع، معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، والخامس، معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم»(82).
ويرى المتكلمون أنَّ للتوحيد ثلاث مراتب على مستوى الإثبات، هي: التوحيد الذاتي والتوحيد الصفاتي والتوحيد الأفعالي. ويؤيد ذلك ما نُقل عن أبي عبد الله ع قوله: قال جبرئيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «طوبى لمن قال من أمتك: لا إله إلا الله وحده وحده وحده»(83). إذ جاء تكرير الوحدة - حسب المتكلمين - للمبالغة والتأكيد، أي منفردًا في الذات والصفات والأفعال، لا نظير له ولا مثل، وكان لم يزل ولم يكن معه شيء(84).
غير أنَّ الوحدة في نظر البحث الفلسفي لها أقسام متعددة، فالواحد قد يكون واحدًا حقيقيًا وقد لا يكون، والواحد الحقيقي قد تكون وحدته حقّة، وقد لا تكون كذلك، وهي ما يُطلقون عليها بالوحدة الظلِّية. وفيها يقول صدر المتألهين: «اعلم أنَّ الوحدة قد تكون ذات الواحد بما هو واحد وهي الوحدة الحقّة، وقد تكون غيرها. وهذه على ضربين: حقيقية وغير حقيقية»(85)؛ لذا يرى وحدة الممكنات وحدة ضعيفة في البساطة، وهي ظل من الوحدة الصِرفة الإلهية التي أفاضت سائر الوحدات على الترتيب النزولي، فكلما كان أشد وحدة كان أقرب إلى الوحدة الحقّة(86). والأحق بالوحدة الحقيقية بل الوحدة الحقّة التي هي ذات الواحد بما هو واحد، هو ما لا ينقسم أصلًا لا في الكم ولا في الحد ولا بالقوة ولا بالفعل ولا ينفصل وجوده عن ماهيته(87). ولعل هذه المرتبة من التوحيد لا يتكامل بها إلاّ الأوحدي من النَّاس، وأن قوله تعالى:)وَمَا يُؤمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاّ وَهُم مُشْرِكُونَ((88)إشارة إلى ذلك.
فإنْ كان ذلك، وجب على المسلم معرفة ما يتفرع على التوحيد الحقيقي، وإدراك أنَّ الخالق إنْ كان بتلك الصفات فهو لا محالة عدل مطلق؛ لأنه كمال مطلق «وأنه ليس في أفعاله قبيح ولا إخلال بواجب. ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمسة أشياء: أحدها، معرفة حُسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني، معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث، معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما، والرابع، معرفة الإمامة وشروطها، والخامس، معرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(89).
منازل معرفة الإنسان
من المعروف أنَّ النَّاس متفاوتون في مداركهم وقدراتهم العقلية، وعليه فهل يجب على الإنسان الإلمام بكل هذه المعارف التوحيدية على تفصيلاتها أو لا؟
يرى البعض أنه يكفي في التوحيد معرفة وحدانية الله تعالى في الربوبية وأنه لا شريك له في المعبودية، ويتبعها النظر في الصفات من الثبوتيات والسلبيات(90)، وهذا يكفي لأهل الله تعالى، إذ الدليل عليه والوسيلة إلى معرفته هو سبحانه)أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد((91) الذي (دل على ذاته بذاته)(*)، أو كما يقول الإمام السجاد ع: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك)(**).
وأما لغيره فبالأدلة العقلية بمعرفة الآيات الآفاقية والأنفسية من حيث «إمعان النظر في الآثار واختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وجري الأنهار وركود البحار حركة السَّماء واضطراب الهواء وتغير الأشياء... وكفى بصنع الإنسان فضلًا عن ساير أنواع الحيوان دليلًا قاطعًا وبرهانًا ساطعًا خلقه من تراب ثم أودعه الأصلاب، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم كسا العظام لحمًا ثم أخرجه خلقًا سويًا وخلق له لبنًا صافيًا...»(92) وجميعها تدل على أنَّ هناك صانعًا مبدعًا جديرًا بأن يُعبد ويُشكر.
ووجوب النظر – على حد تعبير الشيخ الطوسي - لا يراد منه «المناظرة والمحاجَّة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون وتجري بينهم، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وإنْ لم تكن واجبة، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به»(93). فمن النَّاس مَنْ يلزمه الفهم على التفصيل، أمثال المتكلمين الذين أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة، فإنْ خطرت لهم شبهات ووردت عليهم خواطر لزمهم حلها والتفتيش عنها، وكذا كل مَنْ يجري مجراهم. ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فإنه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة. ومَنْ لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فإنه لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات أوحلها(94).
أما مَنْ لم يكن لديه لا علم بالجملة ولا علم بالتفصيل، فهو في حضيض التقليد المنهي عنه، إلّا مَنْ تعذّر عليه التعبير وخانه اللفظ في ذلك وهو عادة لعامة النَّاس، وعندئذٍ «لا يمتنع أن يكون عارفًا على الجملة وإنْ تعذّرت عليه العبارة عمّا يعتقده، فتعذّر العبارة عمّا في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا إرتفاعه»(95).
ماذا بعد المعرفة التوحيدية؟
إذا عرف الإنسان أنَّ هناك خالقًا عالمًا حكيمًا هو الذي خلقه واسكنه هذه الأرض وأنعم عليه بهذه النعم وجب عليه أنْ يعرف الهدف الذي خلقه من أجله، وهل أنَّ فعله – تعالى - مغيًّا أو بغير غاية؟
اختلف الكلاميون في أنَّفعله - سبحانه - مغيًّا أم لا.. إلى فريقين، ولا يسع المقام للدخول في آرائهم وأدلتهم بتفاصيلها، ولكن يمكن الإشارة إليها باختصار. إذ ذهبت العدلية إلى القول بأنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض؛ لأنها صادرة من حكيم وعليم، وعن طريق كمال علمه يختار أفضل الوسائل وأرجحها للوصول إلى الهدف من أفعاله(96). في حين نقل الإيجي رأي الأشاعرة ومَن وافقهم في قوله: «إنَّ أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض - إليه ذهبت الأشاعرة - وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائية ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين»(97) لأنهم يرون فعله ع عين الحكمة لا ما هو حكيم فإنه يفعله(98).
والمرجّح هو ما ذهبت إليه العدلية (المعتزلة والإمامية) لأنَّ الله - سبحانه- لم يخلق النَّاس سدًى ولم يتركهم هملًا ولم يكن لاعبًا، وهذا ما صرحت به كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى:)وَمَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ((99) وقوله تعالى:)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ((100) وقوله تعالى:)أَيَحسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى((101)..
وهذا ما وصل إليه البعض بعقولهم المجردة، وإن لم يصلهم التكليف السمعي، ومنه ما نُقل عن أرسطو طاليس، قوله: أن النَّاس اختلفوا فيما ينبغي على المخلوقين تجاه خالقهم، فبعضهم رأى أن يقوموا بالصَّلاة والصِّيام، وخدمة الهياكل والمصليات.. وبعضهم رأى أن يتقرب إليه، بأن يُحسِن إلى نفسه بتزكيتها وحسن سياستها والإحسان إلى أبناء جنسه بالمواساة والحكمة والموعظة.. وبعضهم رأى النهج بالفكر في الإلهيات، والاستزادة في معرفة ربه عز وجل حتى تتكامل معرفته به، وبحقيقة وحدانيته.. وبعضهم رأى أن الواجب على المخلوقين ليس واحدًا، ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزامًا واحدًا، وعلى مثال واحد، وإنما يختلف بحسب طبقات النَّاس، ومراتبهم من العلم(102)
أما الفلاسفة فقالوا: إنَّ عبادة الله عز وجل على ثلاثة أنواع:
«أحدها: فيما يجب له على الأبدان، كالصَّلاة والصِّيام، والسعي إلى المواقف الشَّريفة؛ لمناجاة الله عز وجل.
والثاني: فيما يجب له على النفوس، كالاعتقادات الصحيحة، وكالعلم بتوحيد الله عز اسمه، وما يستحقه من الثناء والتمجيد، وكالفكر فيما أفاضه على العالم من وجوده وحكمته، ثم الاتساع في هذه المعارف.
والثالث: فيما يجب له عند مشاركات النَّاس في المدن، وهي في المعاملات، والمزارعات، والمناكح، وفي تأدية الأمانات، مع نصيحة البعض للبعض، بضروب المعاونات، وعند جهاد الأعداء، والذب عن الحريم»(103) .
ولا يخفى أنَّ هذه الأنواع من العبادات وإن كانت محصورة ومعدودة، إلّا أنَّ العقل المجرد قادر على إدراكها قبل ورود الشَّرع على الجملة. ويمكن القول بأنَّ جميع العبادات أفعال أخلاقية عقلية قبل أن تكون أوامر وإلزامات شرعية، لأنها لا تخلو من أنْ يكون فيها الأغراض الآتية:
1- شكر للمنعم، وشكر المنعم واجب عقلي وأخلاقي.
2- طاعة للمولى، وطاعة المولى واجب عقلي وأخلاقي.
3- طلب، وطلب الفقير من الغني واجب عقلي وأخلاقي، إذ من القبيح عقلًا أن يطلب الفقير من الفقير.
وإذن فالأغراض الثلاثة من العبادة جميعها أفعال أخلاقية يستقل العقل بها على نحو الموجبة الجزئية. أما تفاصيل هذه العبادات فلا يمكن للعقل إدراكها؛ لقصوره ولعدم إحاطته بملاكات الأحكام.. أللّهم إلّا لعقل سيد الخلق (صلوات الله عليه وعلى آله) فمن الممكن أنْ يُحيط بها على نحو الفقر والحاجة إلى الإحاطة الإلهية التي تكون بالذات والغِنى.
التكليف والعبادة
الإنسان موجود مركب من بدن وروح، وعقل وهوى، وبسبب هذا التركيب يجعله يفحص - بفطرته - عن سعادته المادية والمعنوية، ويسعى للوصول إلى الكمال المقصود من وجوده. فحياة كل إنسان لها بعدان: فردي واجتماعي، ولأجل هذا احتاج الإنسان إلى نظام وقوانين تحقق له الحياة الطيبة، الفردية والاجتماعية، وتحقق له السعادة المادية والمعنوية(104). ومن هنا قال العدلية بحسن التكليف ووجوبه على(*) الله تعالى؛ لأن على المكلِّف «أن يكون حكيمًا مأمونًا منه فعل القبيح والإخلال بالواجب ليُعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف... ويجب أن يكون قادرًا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالمًا بمبلغه... ويجب أن يكون منعمًا بما يجب له به العبادة،... ويجب أيضًا أن يكون عالمًا بتكامل شرائط التكليف في المكلف من أقداره وسائر ضروب التمكين»(105). مستندين في ذلك إلى الأدلة العقلية والبراهين الصحيحة؛ لأنهم يرون أنَّ البشر محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم، والوصول إلى السعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. ومن لطف الله تعالى أنْ يكلَّفهم؛ وإنْ لم يفعل «فإما أنْ يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف، وهذا جهل يتنزه عنه الحق تعالى، وإما لأن الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق، وإذن فلا بد من تكليف البشر»(106) ليكونوا عند قوله تعالى:)...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ...((107).
ولم يجوّز العدلية التكليف بما لا يطاق لأنه ظلم، وقبح الظلم من البديهيات الأولية عند العقل العملي، كالطيران إلى السَّماء بلا وسيلة مثلًا. والآيات القرآنية أيضًا صريحة في أنه سبحانه لا يكلِّف الإنسان إلا وسعه، وقدر طاقته ولا يظلمه مطلقًا(108)، كما في قوله تعالى:)لَا يُكَلِفُ اللهُ نَفْسًَا إلا وسْعَهَا...((109).
على أنَّ الأشاعرة اختلفوا مع العدلية في تجويزه، إذ يقول الإيجي: «التكليف بما لا يطاق عادة نجوّزه نحن وإنْ لم يقع بالاستقراء»(110) أي أنه لم يقع خارجًا وإنما العقل يحكم بذلك - حسب مبانيهم-.
فلسفة العبـادة
يعالج نظام العبادات حاجة ثابتة في حياة الإنسان خُلقت معه؛ لأنها تساهم في تهذيب خُلُقه والتزامه العملي، فالشَّريعة لم تعطِ الصَّلاة والصِّيام والحجّ والزَّكاة وغير ذلك من عبادات الإسلام كوصفة مؤقتة وصيغة تشريعية محدودة بالظروف التي عاشتها في مستهل تاريخها؛ بل فرضت تلك العبادات على الإنسان وهو يزاول عملية تحريك الآلة بالقوى الذرّية والنووية كما فرضتها على الإنسان الذي كان يحرث الأرض بمحراثه اليدوي.
ولعل البعض يرى أنَّ هذه العبادات - كالوضوء والغسل والصَّلاة والصِّيام - كانت مفيدة في مرحلة ما من حياة الإنسان البدوي، لمساهمتها في تنظيف بدنه وصيانته من الإفراط في الطعام والشَّراب، فلا حاجة لها اليوم؛ لأن هذه الأهداف تحققها للإنسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية وأسلوب معيشته الاجتماعية.. والحق أنَّ هذه النظرة على خطأ(111)؛ بلحاظ أنَّ التطور الاجتماعي في الوسائل والأدوات، وتحول المحراث، في يد الإنسان إلى آلة يحركها البخار أو يديرها التيار الكهربائي، إنما يفرض التغير في علاقة الإنسان بالطبيعة وما تتخذه من أشكال مادية، تتطور شكلًا ومضمونًا من الناحية المادية تبعًا لذلك. وأما العبادات فهي ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة لتتأثر بعوامل هذا التطور، وإنما هي علاقة بين الإنسان وربه، ولهذه العلاقة دور روحي في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان(112).
من هنا، يُعَد نظام العبادات في الإسلام علاجًا ثابتًا لحاجات ثابتة من هذا النوع ولمشاكل ليست ذات طبيعة مرحلية؛ لأن العبادة فيها تزكية للبدن وصفاء للنفس ومعراجًا للروح ووصولها إلى كمالها، فقد قال تعالى:)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدون((113) إذ قرن تعالى العبادة بـ (لام) الغرض «وكان المقصود منها هو الوصول إلى جانب عزته في حظائر قدسه بأجنحة الكمال، كأن ذلك هو الغاية لخلق الإنسان والمطلوب منه، والمأمور بالتوجه والسير إليها بوجهه الحقيقي، فإن سعى لها سعيها ولم يحصل له فتور وكلال أدركها وفاز بحلول جنات النعيم، وإن قصَّر في طلبها وانحرف عن الصراط المستقيم كان من الهالكين»(114).
والمستقرئ لشواهد الشَّرع وبصائر العقل، يرى أن مقصود الشَّرائع كلها سياقة الخلق إلى جوار الحق وسعادة لقائه، والارتقاء من حضيض النفس إلى ذروة الكمال، ومن هبوط الأجسام الدنية إلى شرف الأرواح العلية، وذلك لا يتيسر إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته والاعتقاد بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر. فما لم يعرف العبد نفسه بالعبودية، لم يعرف نفسه ولا ربَّه، فسُلّم معرفة النفس بالذلَّة والعبودية هو سبيل الصعود إلى ربه، لكون النفس ناقصة بالقوة والارتقاء من حال نقص إلى حال تمام لا يكون إلا بحركة وزمان ومادة قابلة، ووجود هذه الأشياء من خصائص هذه النشأة الحسية وهو المعنى من القول: الدنيا مزرعة الآخرة. فصار حفظ الدنيا التي هي النشأة الحسية للإنسان أيضًا مقصودًا ضروريًا تابعًا للدين لأنه وسيلة إليه. ومن هاهنا يُعرف مراتب الطاعات والمعاصي، وأي الطاعات أفضل الفضائل وأعظم الوسائل المقربة لديه وأيها أدون، وأي المعاصي أكبر الكبائر المبعدة عنه وأيها أدون ذلك(115).
إنَّ هذه العبادات المخصوصة - الواجبة أو المندوبة - ولا سيما الصَّلاة (عمود الدين) في عرف العرفاء لها مبدأ تكويني ووجود حقيقي في عالم الملكوت، وبنزولها إلى عالم المُلك تظهر «بصورة مجموع حركات الجوارح والجوانح وسكناتها وأقوالها وأفعالها، مثلما أن للقرآن ظاهرًا اعتباريًا كمجموع الحروف والحركات وباطنًا حقيقيًا نظير (أم الكتاب)»(116). فهم يعدّون الصَّلاة عصارة الأسفار العقلية الأربعة(*)؛ لأن أركانها وأفعالها وأذكارها وتحليلها وتحريمها، تقود حينًا من الكثرة إلى الوحدة في النية لله تعالى والتدبر في أوصافه، وحينًا تجعل الانشغال بالوحدة، وحينًا ترجع من الوحدة إلى الكثرة بالشهادة برسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخيرًا تُسرع في الكثرة بعين الوحدة بالتوجه نحو العباد الصالحين كافة والسلام عليهم. ولكل مرتبة من الصَّلاة آثار تناسب تلك المرحلة؛ فهي في نشأة الاعتبار نهي عن الفحشاء والمنكر الجعليين، وصورتها الملكوتية في البرزخ تكون مانعة لضرر الصورة البرزخية للفحشاء والمنكر، وفي دائرة العقل التام تدفع توغل الصورة المثالية للمعاصي إلى الأعلى(117).
فعن أبي جعفر الباقر ع، لما اُسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال الله تعالى له: «...ما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته»(118). ويُنقل عن المحقق الطوسي تعليقه على الحديث قائلًا: العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات. وكل علم مستغرقًا في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأتى عنها شيء من الممكنات، بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه؛ فصار الحق حينئذ بصره الذي به يبصر وسمعه الذي به يسمع وقدرته التي بها يفعل وعلمه الذي به يعلم ووجوده الذي به يوجد، فصار العارف حينئذ متخلقًا بأخلاق الله تعالى في الحقيقة(119).
فغاية العبادة إذن، هي التخلق بأخلاق الله وليس مجرد حركات تؤدّى، وإنْ كانت مجزية حسب الاصطلاح الفقهي إن أُدّيتْ بشروطها(120). وعليه فلابد للإنسان أن يعرف ما يُصلحه وما يُفسده، وما هو الطريق الموصل إلى ذلك.
النبـوَّة .. الطريق الموصل إلى الأحكام التكليفية
لما ثبت وجود الخالق ووحدته وحكمته، تثبت بالضرورة وجود السفارة الإلهية إلى عباده، وضرورة الهداية والتعليم والتربية عن طريقها(121)؛ لأن الذي يضمن إصلاح هؤلاء العباد، إنما هو الهداية الإلهية التي تحقق لهم الاعتدال الفكري بالعقائد الحقّة، والإعتدال الروحي بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة (122)، وتؤمِّن لهم الحقوق الفردية والاجتماعية.
وهذه الأهداف لا تتيسر إلّا عن طريق الوحي والنبوة؛ لأن فكر الإنسان مهما كان قويًا، ليس بإمكانه أن يضيء النقاط المبهمة والمجهولة في فطرته، ويستغني في مسيرة حياته عن الأنبياء وهدايتهم (عليهم السلام)، على أنَّ السفير لا بدّ أن يكون مُصطفى من قبل الله تعالى، الذي طهَّره من الرجس، واستخلصه لنفسه، وأدّبه بحكمته. ولا بدّ أن يكون في صورة الإنسان وصفاته، ليتعامل مع النَّاس(123). وأن يكون معصومًا فيما يؤديه من المصالح والمفاسد؛ لوقوف الامتثال له على علم المكلّف كون ما أمر به صلاحًا وما نهى عنه فسادًا، ولهذا الاعتبار أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في الأداء، لعلمهم بأن تجويز الخطأ فيه يسقط فرض الشَّرائع فعلًا وتركًا(124).فجعلهم الله تعالى مبشرين للنَّاس برحمته، ومنذرين من عقابه، ومذكِّرين بمنسي نعمته، كما في قوله تعالى:)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...((125)
وفي خطابه لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله):)...فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ((126)وقوله تعالى:)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ((127). وإلى ذلك أشار أمير المؤمنينع بقوله: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكَّروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول... ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة»(128).
ولما كان الأنبياء والرسل هم السفراء الإلٰهيين الذين يوصلون أحكام الله تعالى إلى خلقه، فلا ريب أنَّ هذه السفارة «من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون... ويختلط المضل بالهادي. وإذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدًا واضحًا يدل على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أنْ يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية»(129) ويكون مُعجِزًا لغيره ويضطره إلى التصديق به، فيكون حجة عليه ولا عذر له بمخالفته.
وإنْ كان ذلك لسائر الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وقد آمن بهم أقوامهم وكانوا حجة عليهم .. فعلى المسلم الاعتقاد بسائر من سلف من أنبياء الله تعالى ورسله ممن سبق النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)والإيمان بأنَّ «شريعته ناسخة لما تقدمها من الشَّرائع المخالفة لها، وأنه لا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته، وكل من ادعى النبوة بعده فهو كاذب على الله تعالى، ومن يغير شريعته فهو ضال، كافر من أهل النار، إلا أن يتوب ويرجع إلى الحق بالإسلام»(130).
أما معاجزه صلوات الله عليه وآله، فقد استفاضت كتب التاريخ بذكرها(131)، فضلًا عن معجزته الخالدة إلى يوم يطوي الله تعالى السَّماء)...كَطَيِ السِجِلِ لِلْكُتُبِ...((132) ألَا وهي القرآن الكريم، كتاب الله العزيز ودستور هذه الأمة.
أخلاق الأنبيـاء
ثبت بالتجربة، أنَّ مَنْ أراد أن يأخذ على عاتقه إصلاح النَّاس، وينهض بتعليمهم وتزكية أنفسهم، لابد له من التلبس بالعمل الصالح، والإيمان بما يريد أن يعلِّمه لغيره، قاصدًا إلى تطبيقه تطبيقًا عمليًا، أكثر منه تعليمًا نظريًا، كون التطبيق العملي أكثر وقعًا وتصديقًا في النفوس. يقول العلامة الطباطبائي: «الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والإيمان بصحتها»(133).
وإذا كان تجسّد الخُلُق الحسن من لوازم المصلحين، فهو في الأنبياء أوكد، لذا فإن الله عز وجل «لم يبعث رسله وأنبياءه إلى النَّاس إلا بعد أنْ حلاّهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم»(134)، ويتضح ذلك جليًا من وصف القرآن الكريم لكرائم أخلاق الأنبياء (عليهم السلام) في أنهم (هم المهتدون)، وأنهم أول من يعمل الصالحات ثم يوصون النَّاس بفعلها، وأنهم مؤدبون بالأدب الإلهي المتجلي في أعمالهم (عليهم السلام) سواء في عباداتهم وأدعيتهم وتوجههم إلى الله تعالى، أو في معاشراتهم ومخاطباتهم مع النَّاس، وبه صاروا موضع مدح رب العزّة والجلال سبحانه. قال تعالى في إبراهيم ع:)وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا((135) وفي يعقوب ع:)...وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ((136) وفي يوسف ع:)...إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ((137) وفي حق عيسى ع:)...وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ((138)... إلى غيرها من الصفات الحميدة والأخلاق الشَّريفة التي كانت مفرَّقة بينهم (عليهم السلام) بأجمعهم، فآدم ع كان من المصطفين، الذي اختصه الله تعالى بعلم الأسماء(139)، ونوح ع من الشاكرين(140)، وإسماعيلع كان صاحب الصِّدق(141)، وموسى ع كليم الله وصاحب الشَّريعة والمعجزات البيّنات(142)، وداود وسليمان (عليهما السلام) كانا من أصحاب الشكر على النعمة(143)، وأيوب ع كان من أصحاب الصبر على البلاء(144)، ويونسع صاحب التضرع(145)... «فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشَّرف»(146). وعن أبي عبد الله عقوله: «إنَّ الصَّبرَ والبِرَّ والحِلم وحُسن الخُلُق من أخلاق الأنبياء»(147) ، وقال ع: «أربعة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام: البِرُّ والسَّخاء والصَّبر على النَّائبة والقيام بحق المؤمن»(148).
ولمّا أراد الله تعالى تمييز خاتم رسله وخيرته من خلقه (صلى الله عليه وآله) عن باقي الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، جمع ذكرهم في سورة الأنعام، وبيَّن إخلاصهم في التوحيد وتكريمهم بالهداية، وطلب من نبيه الكريم أن يقتدي بهداهم، ويجمع صفاتهم، فقال تعالى:)وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ...((149).. قيل: إنَّ المراد من اقتدائه (صلى الله عليه وآله) بالأنبياء، هو في محاسن أخلاقهم، وإلاّ فلا يجوز اقتداءه بهم في أصول الدين، لأن التقليد فيها باطل، ولا في الأحكام الشَّرعية، لأن شريعته صلوات الله عليه وآله خاتمة للشرائع السَّماوية وناسخة لما قبلها(150).
قال الرازي: «فكأنه سبحانه قال: إنا أطلعناك على أحوالهم وسيَّرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتديًا بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقًا فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم»(151). ولمّا جمع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) هذه الخصال الحميدة كلها وصفه العلي - سبحانه - بأنه على خُلُق عظيم، فقال:)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ((152).. «بعدما أدّبه وأكمل له محامده وبلَّغه إلى غاية كماله، خاطبه بذلك القول، مؤكدًا بأنَّ واللاّم واسمية الجملة، والتنكير المفيد للتعظيم»(153)، فكانت أخلاقه لا نظير لها، وتحار العقول في سموّها وعظمتها، فقد جسّد مبادئ الخير في نفسه أولًا، ثم دعا النَّاس إلى العمل والالتزام بها، فعندما دعا النَّاس للعبادة، كان أعبد النَّاس جميعًا، وعندما نهاهم عن سوء أو منكر، فإنه الممتنع عنه قبل الجميع، يقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرع إلى الله بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنه الطاهر رميًا بالحجّارة، نعم.. لقد كان مركزًا للحب ومنبعًا للعطف ومنهلًا للرحمة(154)، فكان ذا خُلُق ولم يكن ذا تخلّق(155). ولذا حثّ القرآن الكريم على وجوب اتّباع هذا النبي العظيم، بقوله تعالى:)قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...((156) وأمر باتخاذه اُسوة وقُدوة)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...((157)؛ لأنه كان قرآنًا(158) يمشي على الأرض ويعيش بين النَّاس بكل ما فيه من أوامر ونواهٍ وقربات. وفيه قال أمير المؤمنين علي ع: «فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله)، فإن فيه أسوة لمن تأسَّى، وعزاء لمن تعزَّى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضمًا، ولم يعرها طرفًا، أهضم أهل الدنيا كشحًا، وأخمصهم من الدنيا بطنًا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها...»(159). ومن هنا توجب على المصلح أن يكون مبتدءًا بنفسه أولًا ومن ثم يتعدى إصلاحه إلى غيره، وإلا فتنظيره لا يُجدي نفعًا دون عمله به؛ فالعمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له. فمن منّا يُقدم على التقرب إلى الله تعالى بتقديم ولده وفلذة كبده إلى الموت أمامه ويأنس به دونما تردد، إلاّ إذا تجسد ذلك أمامه، وعرف وصدّق أن النبي إبراهيم ع أقدم على ذبح ابنه بيده امتثالًا لأمر ربّه، ويهون عليه الأمر أكثر عندما يعلم ويصدِّق بأن الإمام الحسين ع قدِّم ولده وخيرة شباب عصره وأشبه مخلوق برسول الله (صلى الله عليه وآله) خَلقًا وخُلقًا إلى أفواه السيوف لتقطعه إرَبًا، وعرض طفله الرضيع إلى نبال أهل الجاهلية الأجلاد فذبحوه بين يديه عطشانًا، وأخرج حرائر بيت الوحي لتكون سبايا بين أيدي الأدعياء.. إرضاءً لربه وحفظًا لدين جدِّه. فكانوا عليهم السلام أول الناس تضحية وأسبقهم إقدامًا. فالذي يريد الاحتذاء بخطوهم لا بد له من التأسّي بهم، ولا يكون من الذين قرّعهم القرآن الكريم بقوله:)أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ...((160) وما ورد في الخبر من ذم للمؤدِّبين الذين يعلِّمون الخير ولا يعملون به، قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: «يا أبا ذر يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله»(161).
وفي مثل هؤلاء، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتي مِثْلَه عَارٌ عَليكَ إذا فَعَلْتَ عَظيـمُ(162)
ابدأ بنفسك وانهها عن غيِّها فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حكيـمُ
فهناك يُقبل ما وعَظْتَ ويُقتدى بالعِلْمِ مِنـكَ وينفـعُ التعليـــمُ
وإذن فلابدّ للمصلح أن يجعل قول شعيب ع)...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ...((163) دستوره ومنطلقه الذي ينطلق منه.