مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
حمدي شفيق
قال المفكر الإسلامي الكبير عباس محمود العقاد : ’’شرع الإسلام العتق، ولم يُشرِّع الرق’’(1). ومع تقديرنا الكامل لأستاذنا العقاد إلا أننا نرى أن الأدق أن نقول: ’’شرع الآخر الرق وشرع الإسلام العتق’’ . فكما رأينا انتشر الرق واستعباد الأقوياء للضعفاء في كل الأمم ، ثم جاء الإسلام ليوقف انتشار هذا السرطان في جسد البشرية بتجفيف ينابيعه ، ثم الإحسان إلى المماليك ، مع فتح أبواب الحرية أمامهم على أوسع نطاق ممكن ، في منظومة تشريعية متكاملة بالغة الدقة والإحكام أثمرت القضاء على الرق تماماً خلال بضعة أجيال في كل أرض طُبِّقَت عليها أحكام الإسلام ..
وتكفي نظرة إلى أحكام العتق في الإسلام ليدرك الجميع أن هذا ليس أبداً تشريعاً من عند البشر، وأن هذا القرآن العظيم هو كلام الرحمن الرحيم بعباده حقاً وصدقاً .
ونلاحظ أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ورد فيه تعبير الـ ’’تحرير’’ صراحة وبكل وضوح 5 مرات في 3 آيات ، وكما يقول الإمام النسفى فإن:’’كل تكرير ورد فى القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر فى النفوس وتقريره’’ . وسيأتي في الكلام عن الكفارات . كما يتضمن آية أخرى خالدة تحض على : ’’فك رقبة’’ سورة البلد الآية:13، كما تحدثت اّيتان اّخريان عن دفع الزكاة والصدقات لتحريرالرقاب . وهكذا فان الذكر الحكيم أمر بالعتق والتحرير فى 8 مواضع ، أى 8 مرات . ولم يعهد الناس طوال عمر البشرية كلاماً صريحاً قاطعاً وواضحاً عن التحرير وفك الرقاب المعذبة في الأرض قبل نزول القرآن على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك ورد لفظ ’’العتق’’ صراحة - والأمر به - في عشرات من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة . فهل يبقى بعد كل هذه النصوص – أدنى شك في كراهية الإسلام للرق وسعيه بكل السبل لتحرير العبيد في كل أرجاء الأرض ؟ .
ونكرر التنبيه هنا مرة أخرى على أن النصوص الأخرى التي تناولت كافة شئون العبيد ، والإحسان إليهم والأحكام الخاصة بهم كانت فقط لتنظيم ’’الفترة الانتقالية’’ بين العبودية والتحرير، ولم تكن أبداً لترسيخ أو تثبيت دعائم الرق . إذ أنه كما قلنا من قبل يستحيل التحرير بضربة واحدة هكذا في التو واللحظة ، ومنهج الإسلام هو التدرج في إحداث التغيير في المجتمع ،حفاظاً على الأمن والاستقرار ، وحقناً للدماء، لذلك لم يكن هناك مفر من تنظيم أحوال العبيد في الفترة التي لا مفر من اجتيازها ، إلى أن يأذن الله بتحريرهم على مراحل محسوبة بدقة وبوسائل شتى . ومن المسلم به في دنيا الناس أن كثيراً من القوانين التي تصدرها المجالس التشريعية تنص غالباً على ’’أحكام انتقالية’’ تنظم المعاملات- قبل بدء سريان القانون - خلال الفترة ما بين صدوره ودخوله مرحلة التطبيق الكامل . فهناك فترة انتقالية غالبا بين تطبيق التشريع القديم الملغي وبين بدء سريان التشريع الجديد .
ومن بين أهداف تلك الفترة الانتقالية بأحكامها ’’المؤقتة’’ تهيئة المناخ الضروري للتغيير ، وأن يعتاد الناس على الأحكام الجديدة ، لاسيما إذا كانت التغييرات جوهرية وشاملة . وهذا بالضبط هو ما تهدف إليه الأحكام المنظمة لشئون وأحوال الرقيق - ملك اليمين - في الإسلام ، فهى مجرد أحكام مؤقتة لفترة محدودة تنتهي حتماً بتحرير كل العبيد طبقاً لتلك المنظومة الإلهية العظيمة .
والآن نستعرض حالات التحرير وأسبابه الكثيرة . وسوف يلاحظ القارئ العزيز أنها في مجموعها تكفل فعلاً – بمرور الوقت – تحرير كل العبيد في المجتمع ، بشرط واحد بديهي هو أن تطبّق أحكام الإسلام كاملة على أرض الواقع . أما إذا امتنع البشر عن تطبيق المنهج الإلهي ، وعصوا أمر الله ، فما يكون العيب في الإسلام ، بل العيب كله في طبائع الناس وظلمهم وتمردهم على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم . و الخلل الذي يحدث بسبب عدم التطبيق، يُشَكِّل دليلاً آخر على صدق الرسالة وأنها من عند الله ، إذ أن الكوارث وقعت لأنهم عصوا أوامر ربهم . وهذا يثبت صواب المنهج الإلهي وإعجازه وأنه وحده الذي تستقيم معه أحوال البشر . ونلاحظ أيضاً أن حالات وأسباب التحرير منها ما هو وجوبي – وسوف نذكرها حالاً – أي لا خيار للسادة فيه، بل هو مفروض عليهم بحكم الإسلام . ومن حالات العتق ما هو سُنَّة وتقرب إلى الله تطوعاً من المالك طمعاً في عفو الله عنه ورحمته به وهرباً من عذاب الجحيم . وهذه حالات ’’اختيارية’’ للسيد أن يُعتق فيها أو يبقى على عبده ، وسوف نتناولها بعد حالات العتق الوجوبى.
1- كفّارة القتل الخطأ
قال تعالى ’’وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئا ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلّمة الى أهله وتحرير رقبة مؤمنة..’’ الآية 92 سورة النساء.. قال الإمام القرطبي :’’ أي فعليه تحرير رقبة ، وهذه الكفّارة هى التي أوجبها الله تعالى في كفّارة القتل’’ ، ونقل خلاف العلماء فيما يجزئ منها ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة غيرهم : الرقبة المؤمنة – التي يجزئ تحريرها في الكفّارة – هي التي صَلَّت وعَقَلت الإيمان، ولا تُجزئ في ذلك الصغيرة ، وقال القرطبي : هذا هو الصحيح في هذا الباب . وقال عطاء بن أبي رباح : يجزئ عتق الصغير المولود بين المسلمين، وقال مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بالصلاة عليه إن مات ودفنه في مقابر المسلمين ، ولا يجزئ من به عاهة تعجزه تماماً كالأعمى والمقعد ومقطوع اليدين والرجلين، ويجزئ الأعور والأعرج عند الأكثرين . ونلاحظ أن الآية ذكرت تحرير الرقبة قبل أن تذكر الدية ، مما يشير إلى أهمية التحرير في الإسلام . كما تكرر فيها ذكر تعبير ’’فتحرير رقبة’’ ثلاث مرات ، والتكرار – فى القراّن- للتمكين فى النفوس والتأكيد والتثبيت كما قال الإمام النسفى (فى بداية تفسيره لسورة البقرة) .
وللعلماء كلام عن أسباب فرض هذه الكفارة ، فقيل أوجبت على القاتل تطهيراً لذنبه لأنه أهمل ولم يتخذ الاحتياط والتحفظ فهلك على يديه إنسان محقون الدم . وقيل بل وجبت الكفّارة لأنه عَطَّل حق الله تعالى في نفس القتيل ، فإنه كان يعبد الله ، وكان ممكناً أن ينجب أولاداً يعبدون الله كذلك ، كما أن القاتل عطَّل على القتيل حقه في التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل الله له طوال عمره واكتساب الحسنات والخيرات . وقال الامام النسفي : ’’لمّا أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسًا مثلها فى جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قِبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر ، والكفر موت حكمًا’’ . انتهى ما ذكره الإمام العبقرى فى تفسير الاّية . ولا يوجد أروع ولا أوضح من هذا الكلام النفيس لبيان كراهية الإسلام للرق ، اذ هو كالموت تمامًا ، و أهمية العتق ، اذ الحرية للعبد كالحياة للميت . ويقول الإمام القرطبي عن هذه العلة- سواء فوات حق العبد في حياته أو حق الله في حياة عبده المؤمن- : ’’أي واحد من هذين المعنيين كان ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمداً مثله بل أولى بوجوب الكفَّارة منه’’ .
2- كفّارة القتل العمد
ولهذا أورد الإمام القرطبي في تفسير الآية التي بعدها : ’’ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً’’ النساء 93 ، ما ذهب اليه مالك والشافعي من أنه : علي قاتل العمد الكفارة – تحرير عبد أو جارية – كما في القتل الخطأ . وقال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فإن وجوبها في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل أن القاتل عمداً إنما تجب عليه الكفارة إذا عُفي عنه فلم يقتل ، فإذا قتل قيل تؤخذ الكفارة من ماله وقيل لا تؤخذ . ومن قتل نَفْسَه فعليه كفارة تحرير رقبة تؤخذ من ماله (2) . والواقع أننا نرجح أن على القاتل عمداً تحرير رقبة ، فهو أشد إجرامًا وأجدر بأن يجبر على تحرير نفس مؤمنة للتكفير عن ذنبه و لتعويض المجتمع عن المسلم الذي قتله . ويشهد لذلك ما حدث عندما جاء أقارب قاتل عمد إلى النبي ليسألوه كيف ينقذونه من النار ، فأرشدهم عليه السلام إلى أن يعتقوا عنه عبداً ، فيعتق الله بكل عضو منه عضواً من القاتل من النار’’ (سنن أبي داود 3964) .
3- كفّارة الاجهاض
أورد ابن قدامة في ’’المغني’’ رأياً سديداً مفاده : أنه إذا ضرب شخص بطن امرأة فأجهضها – قتل جنينها – فإن عليه – فضلاً عن دية الجنين – كفارة عتق رقبة .
ونحن نؤيد هذا الرأي لسببين : أولهما تشديد الحماية للنفس البشرية حتى ولو كان ما زال جنيناً في بطن أمه، فالإسلام جاء لحفظ وحماية الأرواح ، والسبب الثاني أن في هذا الحكم تحريراً لنفس أخرى تهفو الى الحرية ، ومنهج الإسلام هو التوسع لأقصى حد ممكن في تلمس أسباب التحرير، والتلهف على انقاذ المعذبين فى الارض و القضاء على الرق البغيض .
4- كفّارة الظِهَار
إذا قال الرجل لزوجته : أنت عليَّ كظهر أمي فإنه يأثم بذلك ويجب عليه تحرير رقبة قبل أن يعاود مجامعتها . قال تعالى : ’’والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا’’ المجادلة : 3 . وقد توسع العلماء في مفهوم الظهار وما يُشَبِّه الرجل به امرأته في تلك الحالات . قال الصنعاني – كتاب الطلاق ص 615 - أنه إذا شَبَّه الرجل زوجته بعضو من أمه غير الظهر فذهب الأكثرون إلى أنه يكون ظهاراً أيضاً . وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة أنه إذا شبَّه زوجته بغير الأم من المحارم – كالجدة والخالة والعمة – فإنه يكون ظهاراً ولو شبّهها بمحرم من الرضاع- ودليلهم القياس- فإن العلة هي التحريم المؤبد وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأم . وقال مالك وأحمد إنه ينعقد ولو لم يكن المشبّه به مؤبد التحريم كالمرأة الأجنبية . وفائدة التوسع فى مفهوم الظهار تكمن فى أنه يترتب عليها كثرة حالاته ، وبالتالى كثرة أعداد الرقاب التى تتحررتكفيرًا عنه . وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن سلمة بن صخر رضي الله عنه قال دخل رمضان، فخفت أن أصيب امرأتي – أجامعها – فظاهرت منها، فانكشف لي ليلة شيء منها فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’حَرِّر رقبة’’ ، فقلت: ما أملك إلا رقبتي ، قال : ’’فصم شهرين متتابعين’’ ، وصحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن الجارود (3) .
ويقول الصنعاني تعليقاً على الحديث : أنه دل على ما دلت عليه الآية من ترتيب خصال أنواع الكفّارات – والترتيب إجماع بين العلماء . وأطلقت الرقبة في الآية وفي الحديث أيضاً، ولم تقيّد بالإيمان كما قيّدت به في كفارة القتل الخطأ. وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والزمخشري إلى عدم صحة القياس هنا لعدم الاشتراك في العلة ، ففي القتل أخرج نفساً مؤمنة من الحياة إلى الموت ، فكانت كفارته إدخال رقبة مؤمنة في حياة الحرية ، وإخراجها من موت الرق، فإن الرق سلب التصرف من المملوك ، فأشبه الموت الذي يسلب التصرف من الميت ، فكان في إعتاقه إثبات التصرف ، فأشبه الإحياء الذي يقتضي التصرف للحى ، وليس الأمر كذلك فى الظهار، فلا يشترط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة .
ويستنبط الصنعاني وغيره من ترتيب الكفارات في الآية والحديث أنه لا ينتقل إلى التكفير بصيام شهرين متتابعين إلا عند العجز عن وجدان الرقبة ليعتقها – يحرّرها – حتى لو كان عنده رقبة واحدة – عبد أو جارية واحدة – لكنه يحتاجها لخدمته للعجز، فإنه لا يصح منه الصوم ، ويجب عليه تحرير تلك الرقبة الوحيدة التي يملكها . فهل رأى أحد حرصاً على ’’التحرير’’ كهذا الحرص الإسلامي ؟!!
5- كفّارة التحريم
إذا قال الرجل لأمته أو زوجته : أنت حرام عليَّ، فإنها لا تحرم عليه بمجرد هذا القول ، وله أن يجامعها بشرط تحرير رقبة أيضاً في هذه الحالة . وهذا مستمد من قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لجاريته السيدة مارية على نفسه ثم عودته إليها بعد نزول سورة التحريم ، وعتاب الله تعالى له بسبب تحريمه ما أحل الله له ، وقد أعتق عليه السلام رقبة قبل أن يعود إلى مباشرة السيدة مارية كما سيأتي في قصتها في الفصل الأخير من هذا الكتاب . وكذلك روي أن رجلاً قال لابن عباس قلت لامرأتي : أنت حرام عليَّ . فأجابه ابن عباس رضي الله عنهما : كذبت ليس عليك بحرام، وعليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة . وأورد الإمام القرطبي في تفسير الآيتين الأوليين من سورة التحريم 18 رأيًا للعلماء حول هذه المسألة – تحريم الرجل لزوجته أو جاريته – وما يهمنا هنا هو أن أكثر العلماء ذهبوا إلى وجوب الكفّارة عليه بتحرير رقبة .
6- كفّارة الحنث فى اليمين
إذا حنث الرجل في يمين حلفه ، وأراد التكفير عن هذا اليمين فإنه مُخَيَّر بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق – تحرير رقبة – وأساس ذلك قوله تعالى: ’’لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام’’ المائدة : 89 . وقال بهاء الدين المقدسي في ’’العُدّة شرح العمدة’’: الإجماع على تخيير الحانث في يمينه بين الإطعام أو الكسوة أو تحرير عبد أو جارية أي عتق رقبة . وهناك رأيان بالنسبة لمن يعتق النصف من عبدين بدلاً من العتق الكامل لعبد واحد (4) . ونرى أنه يجوز لأنه سوف يتسبب في تيسير عتق اثنين بدلاً من الواحد، فسيكون أيسر عليهما المكاتبة والسعي لدفع نصف القيمة لكل منهما بدلاً من القيمة كاملة. و من ناحية اخرى سوف يكون الأيسر على سيد كل منهما أن يعتق النصف بدلاً من الكل ، أو يوصي بعتقه ، كما يكون تدبيره للنصف أيسر من تدبير الكل .
7- كفّارة الضرب
إذا ضَرَبَ السيد عبده – أو جاريته – أو لَطَمَه أو صَفَعَه فإن كفارته أن يعتقه. وفي هذه الحالة يتحرر العبد فور وقوع هذا الاعتداء عليه بلا أي مقابل يحصل عليه المالك . فعتق العبد هنا بمثابة عقاب فوري للسيد على قسوته . لأن الله سبحانه وتعالى قد كرَّم بني آدم : ’’ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً’’ (الإسراء : 70) .
والضرب أو الصفع أو اللطم أو الركل هو إهانة للعبد المسكين يأباها الله ورسوله وصالح المؤمنين ، ولهذا فان أفضل عقاب للسيد القاسي القلب هو أن يُحْرَم فوراً من ملكيته للعبد المجني عليه ، فلم يعد جديراً بأمانة المسئولية عنه، وحق للإسلام أن يطلق سراح ذلك الرقيق المسكين حتى لا يظل عُرضة لغضب ذلك المالك الأهوج يضربه كما يحلو له . وأساس ذلك الحديث الشريف الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما : ’’من ضرب غلامه حدًّا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه’’ المحلي 9/209 ، وابن أبي شيبة 1/161 ب ، ورواه الإمام مسلم كذلك بلفظ مختلف .
وكذلك الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن الصحابي الجليل أبى مسعود رضي الله عنه، فقد كان يضرب غلاماً له يوماً فسمع صوتاً من خلفه : ’’اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه’’ ، فالتفت فإذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو مسعود: هو حُرٌّ يا رسول الله ، فأجابه النبي عليه السلام : ’’لو لم تفعل للفحتك – أو لمسّتك النار’’ .
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن عقوبة على عدم الفعل إلا إذا كان هذا الفعل فرضاً واجباً ، فيدل ذلك على وجوب تحرير العبد ككفارة عن ضربه، ولو كان العتق هنا مندوباً فقط لما استحق السيد الضارب أن تلفحه النار إن لم يفعل .
وروى ابن أبى حاتم – فى الجرح والتعديل 8/306 – أن حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه ضرب جارية على وجهها فقال له النبى عليه السلام : ’’اعتقها’’ . و عن سويد بن مقرن رضى الله عنه أن أحد إخوته لطم جارية لهم فأمرهم النبى أن يعتقوها . رواه أبو داود فى باب حق المملوك .
8- كفّارة الجُرْح أو قطع عضو أو التعذيب
إذا كان مجرد لطم العبد أو ضربه باليد أو صفعه يوجب عتقه فورا ً، فمن باب أولى إذا جرحه سيده أو قطع من جسده عضواً أو أحدث به عاهة . ومثال ذلك الجَبْ – قطع عضو الذكورة – أو الخصي – إزالة الخصيتين من الذكر- أو الجدع -قطع الأذن أو الأنف أو غير ذلك - ففي هذه الحالات وأمثالها يتحرر العبد أو الجارية – فوراً وبلا أي مقابل . وفي حديث زنباع الذي جبَّ غلامه قال النبي للغلام المجني عليه : ’’اذهب فأنت حُرّ’’، لأن سيده قطع منه عضو الذكورة (الحديث مذكور في سنن أبى داود تحت رقم 4519) . وروى الإمام مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعتق جارية أحرقها سيدها – كواها بالنار – وأدَّبه (الموطأ – كتاب العتاقة والولاء) ، وكذلك لو عذَّب السيد الرقيق بأية وسيلة أخرى فإنه يتحرر فورًا .
9- كفّارة اللعن أو الشتم
اللعن كالضرب في الحكم لأن في كل منهما إساءة للرقيق بغير حق . قال سالم بن عبد الله : ما لعن ابن عمر خادماً – عبداً – له قط إلا واحداً فأعتقه. رواه عبد الرزّاق( 10/)413 وكذا ورد فى موسوعة فقه عبد الله بن عمر (5) .
ويرى الإمام الزهري رضي الله عنه أن من قال لغلامه : أخزاك الله فهو حُرّ بذلك . ويمكننا أن نقيس على رأي هذين الإمامين الجليلين – ابن عمر والزهري – كل كلام يعتبر سباً أو شتماً أو قذفاً أو لعناً أو إهانة أو إساءة للعبد أو الجارية .
فقد كَرَّم الإسلام بني آدم ، أحراراً كانوا أم عبيداً – كما أسلفنا عند الكلام على الضرب – وأمر الله ورسوله بالإحسان إلى المماليك ، فأية إهانة لهم بالفعل أو بالقول توجب التكفير عن ذلك الذنب العظيم بتحريرهم فوراً بلا مقابل .
10- إكراه الجارية على الزنا
وكذلك يجب على الحاكم المسلم تحرير الجارية فوراً إذا أجبرها سيدها على ممارسة البغاء أى الدعارة . فقد حرص الإسلام على صيانة عرض الإماء – الجواري - فلا يعبث بهن كل من أراد كما يحدث لدى غير المسلمين . فلا يجوز لأحد أن يجامعها سوى سيدها- أو زوجها إن تزوجها غير السيد- ويكون أولادها أحراراً مثل السيد أو الزوج إن كان حراً .
فإذا حاول السيد التكسب بفرج الجارية بإكراهها على ممارسة الدعارة ، أو تقديمها لضيوفه كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وما زالوا يفعلون ببعض البلاد غير الإسلامية، فإن على الحاكم أن يرفع يد السيد عن تلك الجارية المسكينة فوراً ، وذلك لا يتم إلا بعتقها – تحريرها – رغم أنف المالك الفاسق . وهذا كله عملاً بقوله تعالى : ’’ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم’’ (النور : 33) . وذكرنا في نهاية الفصل الرابع ’’الاتجار بالبشر’’ أن سبب نزول هذه الآية الكريمة كان محاولة المنافق عبد الله بن أبي سلول إجبار جارية له على ممارسة الدعارة لجلب الأموال ، فشكته إلى النبي فنزلت الآية، و أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برفع يد المنافق عن الجارية وأعتقها. وتبدو أهمية هذا الموقف العظيم في عصرنا الحاضر، حيث ما تزال عصابات الإجرام – المافيا – الدولية تخطف ملايين الفتيات من الدول الفقيرة إلى الغرب لتشغيلهن إجبارياً في شبكات الدعارة . ولابد من تحرك عاجل للدول الإسلامية لإنقاذ رعاياها من أنياب تلك الوحوش المسعورة . (راجع الفصل الرابع من هذا الكتاب) .
11- الجماع في نهار رمضان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله، قال ’’وما أهلكك ؟’’ قال : وقعت على امرأتي في رمضان – نهار رمضان - قال : ’’هل تجد ما تعتق رقبة’’ ؟ قال : لا، قال : ’’فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟’’ قال : لا، قال ’’فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً’’ قال : لا ، ثم جلس . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر فقال: ’’تصدق بهذا’’ فقال الرجل : أعلى أفقر منَّا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال : ’’اذهب فأطعمه أهلك’’ رواه السبعة أصحاب السنن والصحيحين واللفظ لمسلم . (انظر مثلا البخاري 4/163 – مسلم في الصيام حديث رقم 1111) .
قال الصنعاني في ’’سبل السلام’’: الحديث دليل على وجوب الكَفَّارة على من جامع في نهار رمضان عامداً. وذكر النووي أنه إجماع سواء كان موسراً – غنياً – أم معسرا – فقيراً – فالمعسر تثبت ديناً في ذمته . والحديث ظاهر في أن الكفارة مرتّبة، أي يبدأ أولاً بعتق الرقبة ولا ينتقل إلى الصيام إلا إن لم يجد رقبة يعتقها . كما لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتاليين . و نقل الصنعاني الاختلاف في الرقبة التي تعتق هل لابد أن تكون مؤمنة أم لا . والرأي أنها مُطْلَقة هنا فيجزئه أن يحرر عبداً نصرانياً أو يهودياً طبقاً للرأي الذي لا يشترط الإيمان . ولكن الجمهور يذهب إلى ضرورة أن تكون الرقبة التي يعتقها مؤمنة حملاً للمُطلق هنا على المُقيد في كَفَّارة القتل، وقالوا : لأن كلام الله تعالى في حكم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد . وقال الأحناف : لا يحمل المطلق على المقيد مطلقاً فتجزئ عندهم الرقبة الكافرة . (سبل السلام ص 378 – 380) .
والمهم هنا أن على من يجامع في نهار رمضان أن يعتق رقبة ، وذهب الجمهور إلى أن على زوجته كَفَّارة أيضاً، فإذا أخذنا بهذا الرأي نجد أنهما – الزوج والزوجة - مكلّفان بتحرير رقبتين في هذه الحالة . وقال آخرون ليس على المرأة كفارة .
11- كفّارة جماع الحائض
إذا جامع الرجل زوجته أو جاريته وهى حائض فإن عليه كفّارة تحرير رقبة . فقد روى ابن حجر العسقلانى – فى تلخيص الحبير – والهيثمى فى مجمع الزوائد : أن الرسول عليه السلام أمر رجلاً جامع زوجته الحائض بأن يعتق رقبة تكفيرًا عن ذلك.
ونلاحظ عظمة نظام الكفَّارات في الإسلام . إذ أن السادة بشر، ولأن كل بني آدم خطَّاء – كثير الخطأ - فلابد أن يرتكبوا أفعالاً تستوجب التكفير بعتق الرقاب . ويؤدي هذا حتماً على مر الأيام إلى تحرير أعداد هائلة من الرقيق تكفيراً عن ذنوب السادة الكثيرة والمتكررة . وهو ما حدث بالفعل ، فقد تحررت أعداد لا حصر لها من العبيد في صدر الإسلام بموجب نظام الكفَّارات العظيم .
13- تحرير ذوي الأرحام
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ’’لا يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه’’ أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وآخرون . وقال عليه السلام في حديث آخر : ’’من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ’’ رواه أبو داود والترمذي . وبهذين الحديثين الشريفين استدل جمهور العلماء على أنه إذا تملك الرجل الأقارب فإنهم يعتقون عليه وجوبا ً، ولا عبرة بموافقته على ذلك أو امتناعه (6) . والعلة واضحة هنا ، إذ أنه لا يمكن تصور أن يكون المرء سيّداً على أبيه أو أمه ، ويستخدمهما في الأعمال ، أويبيعهما لآخرين في السوق، فهذا أبشع ألوان العقوق والإجرام في حق من ربّياه صغيراً .
واختلف العلماء بعد ذلك في تحديد الأقارب الذين يُعتقون على المالك في هذه الحالة . ويرى الإمام مالك أنه يُعْتَق على الرجل ثلاثة أنواع من الأقارب ، الأول أصوله ويشملون الأبوين والأجداد والجدات ، وكل من كان له على الإنسان ولادة أي أصلاً له . والنوع الثاني : فروعه وهم الأبناء والبنات وأولادهم وبناتهم أي الأحفاد وإن نزلوا ، وبالجملة كل من كان للمالك عليه ولادة بغير وسيط ذكراً كان أم أنثى . والنوع الثالث : كل من شارك المالك في أصله القريب كإخوته وأخواته الأشقاء أو لأب أو لأم . وأضاف الإمام أبو حنيفة إلى هؤلاء كل ذي رحم مُحَرَّم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وأبناء وبنات الأخ والأخت ، وبصفة عامة كل من يحرم على المالك الزواج منه على افتراض أن أحدهما ذكر والآخر أنثى (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) . وهذا هو الرأي الذي يتطابق مع نص وروح الحديث الشريف، فقد ذكر عليه السلام ’’ذا رحم محرّم’’ نصاً ، ولا يجوز تضييق نطاق ما وَسَع الله ورسوله . وفي رأينا أنه طبقاً لروح الإسلام فإنه يجب أيضاً أن يُعتق على الرجل أمه وأبوه وإخواته وخالاته وعماته وإخوته وأعمامه وأخواله من الرضاعة ، وكذلك أجداده وجداته وابنه وابنته من الرضاعة . لأن كل هؤلاء يَحْرُم عليه الزواج منهم ، وقد روى البخاري ومسلم حديثًا شريفا نصه : ’’يَحْرُم من الرضاعة ما يحرم من الولادة’’ . وقد ذكرنا من قبل أنه في غزوة حنين جاء المهزومون من هوازن وثقيف مسلمين تائبين بعد المعركة ، وكان ضمن ما قالوه للنبي طلبا للإفراج عن أسراهم : ’’إنما فيهم خالاتك وعماتك من الرضاعة وحواضنك’’ ، وعلى الفور قال لهم عليه السلام : ’’ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم’’ ، ثم قام فسأل الناس أن يردوا عليهم السبي- ستة اّلاف نفس- فاستجاب المسلمون، وتم تحرير كل أسرى هوازن وثقيف بذلك . والواقع أنه ليس من المروءة أبداً أن يسترق الإنسان من احتضونه وأرضعوه وتولوا تربيته ورعايته حتى شب عن الطوق ، ولا هو من خلق المسلم أنه إذا كبر وأغناه الله أن يستعبد من أحسنوا إليه في صغره ، فلا دين إلا بمروءة ونبل وحسن خلق .
14- اللقيط حر
يرى أكثر علماء السلف رضي الله عنهم أن اللقيط يكون حُرَّا ً، لأن الأصل في الإنسان هو الحرية . فالكل أولاد وبنات آدم وحواء وكلاهما كان حُرّاً، وبالتالي فالفروع كلها حُرَّة إلا من يثبت عليه العكس . ولا يوجد أي دليل على حالة الطفل اللقيط من الحرية أو الرق ، فوجب أن يُعطى له حكم الأصل وهو الحرية . ونعتقد أنه لا يوجد أي كلام أجمل ولا أقوى من هذا لإيضاح موقف الإسلام العظيم دين الحرية والكرامة والمساواة بين البشر .
15- إسلام العبد يحرّره
إذا اعتنق العبد الإسلام وكان سيده غير مسلم ، فإنه يتحرّر فوراً بمجرد النطق بالشهادتين ، لقوله تعالى : ’’ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً’’ الآية 141 سورة النساء. ويتحرر معه أولاده الصغار لأنهم يتبعونه في الإسلام وكذا أَمَتُه إن كان له أَمَةُ .
وكذلك أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم عبيداً كانوا مملوكين لمشركين، وهربوا إلى النبي عليه السلام أثناء حصار المسلمين للطائف ، وأعلنوا إسلامهم بين يديه . وأخبر عليه السلام أنهم : ’’عُتَقَاء الله ورسوله’’ ، ولم يردّ أحداً منهم إلى سيده الكافر، كما لم يدفع للسادة شيئاً مقابل تحرير هؤلاء العبيد الذين أسلموا.
وذات الأمر إذا أسلمت جارية وكان سيدها مشركاً ، بل تحريرها أولى ، حتى لا يتمكن الكافر من وطئها وإذلالها وهي مؤمنة بالله رب العالمين ، وكذلك ولدها يتحرر معها لأنه – يتبعها في الإسلام . ومن العلماء من يرى دفع القيمة للكافر أي ثمن العبد ، وحسناً فعل ابن حزم في ’’المحلى’’ حين فند آراء المخالفين في هذه القضية الحساسة ، ولمن أراد أن يطالع التفاصيل هناك . والواقع أنه يجب عتق العبد فور إسلامه لأن الرق أشد سبيل عليه للكافر ، ولن يجعل الله له ذلك على مسلم .


16- العتق بالنذر
إذا نذر المسلم أن يعتق عبداً لله فإن عليه الوفاء بهذا النذر وجوباً . وهكذا يتحرر عبد مسكين في هذه الحالة. ويقول بعض العلماء أن النذر يصح هنا ولو لم يكن الناذر مالكاً لأي من العبيد أو الجواري لحظة أن ينوي النذر، فيمكنه أن يشتري عبداً ثم يعتقه وفاءً للنذر . وأساس ذلك قوله تعالى : ’’يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً’’ سورة الإنسان 7 .
17- إلغاء الرق على الحر
إذا تبين أن الرقيق كان حُرّا وضرب عليه الرق ظلماً أو خطأ فيجب تحريره فوراً، لأن النبي لم يسترق حُرَّاً قط ، كما يحرم استعباد الحرّ للحديث الصحيح :’’ورجل باع حراً فأكل ثمنه’’ رواه البخاري ، وتقدم أن الله تعالى يكون خصما لمن يفعل ذلك يوم القيامة . وذكرنا أيضا أن عمر بن عبد العزيز حرّر جارية تبين له أنها كانت حرّة من بلاد المغرب ، واستعبدت بجناية ارتكبها أبوها , وهو أمر غير جائز، وردّها عمر إلى أهلها .
18- عتق الهازل صحيح
إذا قال السيد لعبده : أنت حُرّ أو أعتقتك ولو على سبيل المزاح والدعابة فقط فإن العبد يتحرر بذلك . وإلى هذا ذهب عدد كبير من العلماء كما ذكر الإمام السرخسي في كتابه ’’المبسوط’’ . وأساس هذا الرأي الحديث الشريف: ’’ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ ، النكاح والطلاق والعتاق’’ رواه ابن عدي ، والحديث عند الترمذي وابن ماجه وأبو داود . وروى في سبل السلام : ’’لا يجوز اللعب في ثلاث الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن’’ حديث ضعيف . والحديث الضعيف يجوز الاستدلال به فى فضائل الأعمال ، ولا فضيلة- فى رأينا – أعظم من تحرير أولئك المساكين.
ونرى أن أمورا خطيرة كهذه لا ينبغي التساهل فيها مع من يزعم الهزل . إذ أنه في العتق مثلاً يتعلق الأمر بمستقبل عبد ضعيف يتطلع بلهفة إلى الحرية . وليس من المقبول أن نسمح للسيد العابث بالتلاعب بمشاعر الرقيق المسكين . كما أن السماح بالهزل في هذه المواطن يفتح الباب أمام ضعاف النفوس للتهرب من العتق بادعاء أنهم لم يقصدوا التحرير، وإنما كانوا يمزحون!! لهذا قرر العلماء أنه حتى ولو كان السيد هازلاً – مازحاً – يقع العتق فوراً، ولا يلتفت إلى ما زعمه السيد – كما نرى - حرصاً على مستقبل الرقيق وتوسيعاً لدائرة الحرية . ثم أن هذا السيد العابث لا يؤتمن على مستقبل الرقيق المساكين ، فالجدية والرجولة مطلوبة في الراعي .
19- عتق المكره
يرى الإمام أبو حنيفة وأصحابه أنه إذا أُكْرَه السيد على عتق عبده فإن العبد يتحرر بذلك، رغم أن تصرفات المُكْرَه لا يعتد بها بصفة عامة (بداية المجتهد ص 443) .
ويبدو لنا أن حرص الإمام رضي الله عنه على الحرية، وتعظيمه لشأنها هو الذي دفعه وأصحابه إلى القول بعتق العبد حتى ولو كان سيده مجبراً عليه .
20- عتق السكران
وأما من يتناول شراباً مسكراً بإرادته فيغيب عقله ، فإن فريقاً كبيراً من العلماء يرى أن بعض تصرفاته تلزمه . ومن ذلك ما رآه الإمام مالك من أن العتق يقع من السكران ولو لم يقصده . بل يلزمه الإمام أبو حنيفة بكل تصرفاته ومنها العتق (بداية المجتهد ص 443) وطبقاً لرأي هذين الإمامين العظيمين يتحرر العبد إذا أعتقه سيده السكران، ولا يقبل قول السيد أنه كان غائبا عن الوعي عندما تلفظ بكلمة العتق أو التحرير لعبده ، لأنه هو الذي تسبب في هذا بشربه للمنكر . وجزء من العقاب له على تعاطي المنكر أن تنفذ عليه تصرفات كثيرة كالعتق ، خاصة وقد تعلقت بها مصلحة أكيدة للعبد المسكين في حياة حرة جديدة ، كما أن السيد السكران يكون فاسقاً ، ولا يؤتمن على تملك عبده والتحكم في حياته .
21- أولاد الحرَّة من عبد
ذكرنا من قبل في فصل الإحسان إلى المملوك أن الإسلام قد حث على الزواج من العبد الصالح والأمة الصالحة، بل فضَّلهما على الأحرار الكافرين أو الفاسقين . ولهذا الزواج المختلط حكمة كبرى في ميدان العتق . فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن أولاد الحرّة من زوجها العبد يكونوا أحراراً تبعاً للأم . وفضلا عن هذا يؤدي الزواج فعلياً إلى سعي الزوجة الحُرَّة وأولادها الأحرار إلى تحرير الزوج والأب ، ويحرص أهلها على عتق زوج ابنتهم بكل السبل ، الأمر الذي ترتب عليه فعلياً تحرير عدد كبير من العبيد بسبب تلك المصاهرة مع القبائل الحرة .. بعكس ما كان يحدث في أوروبا من حرق أو قتل العبد والحرّة التي تتزوجه ، أو أن يسترق الحُر أو الحُرّة إذا قبل أي منهما الزواج من الرقيق .
22- أولاد الحرّ من جارية
يرى بعض الفقهاء أن أولاد الحرّ من زوجته الجارية يكونوا أحراراً إذا اشترط الزوج على مالك زوجته ذلك قبل الزواج . ونحن نرى أن أولاد الحرّ من زوجته الأمة يكونوا أحراراً في كل الحالات حتى ولو لم يشترط أبوهم ذلك قبل العقد . فالأولاد والبنات هم جزء من الأب ، وحرية الأصل تتبع حتماً حرية الفروع ، لأن الحرية لا تتجزأ ، فكيف يكون الرجل حُرَّا وأجزاء منه – فلذات كبده – من العبيد ؟! لقد جاء الإسلام لتحرير العبيد وليس لاستعباد الأحرار ، ومنهجه هو توسيع دائرة الحرية ما أمكن ، والعتق يسري من الجزء إلى الكل ، ومن الأصل إلى الفرع .
ثم ما هو الفارق بين أولاد الحرّة من عبد ، وأولاد الحرّ من جارية ؟ !! . لا يوجد أي سند أو نص أو حتى منطق سليم للتفرقة بين الحالتين .
وطالما أنه لا يوجد نص صريح فى هذه المسألة فإنه يجب الرجوع إلى روح التشريع والمبادئ العامة ، وكلها يقطع بضرورة أن يكون أولاد الحرّ من زوجته الجارية أحرارًا كأبيهم . وكذلك كان الحُرُّ وأولاده يسعون إلى تحرير الزوجة الأمة، حتى لا يعايرهم أحد في بيئة كانت آثار الجاهلية والتفاخر بالأنساب ما زالت موجودة بها .
23 – التدبيـر
التدبير : هو عتق العبد بعد موت سيده . فإذا قال المالك لعبده أو جاريته أنت حرّ، أو أنت حرّة - بعد موتى، فأنهما يتحرران لحظة وفاة المالك حتى ولو لم يكن له مال غيرهما . والرأي الراجح أنه لا يجوز للسيد الرجوع في تدبيره . كما أن العبد يعتق ولو كان ثمنه أكثر من ثلث التركة ، لأنه يحرر من رأس المال وليس من الثلث الذي تنفذ فيه الوصية . وأولاد المُدَبَّرَة يتبعونها في التحرر حتى ولو كان منهم من ولدته قبل التدبير حسب الراجح ، فالعتق يسري منها إلى أولادها . ويجوز للمالك تدبير عبده أو جاريته ولو كان هذا المالك صبياً في العاشرة من عمره ، أو صبية في التاسعة من عمرها ، كما يصح تدبير السفيه والمحجور عليه و السكران والهازل طبقاً للرأي الذي نميل إليه ، فالتحرير مبني على التغليب – أي ترجيح مصلحة العبيد في نيل الحرية - والتوسع فيه بالسراية ، أي يسري من الأم إلى أولادها ، ومن جزء العبد إلى الكل ، ومن الأصل إلى الفرع . وإذا دَبَّر السيد جزءاً من عبده يسري التدبير إليه كله ، ولو كان مشتركاً في ملكيته مع سيد آخر ، يسري التدبير – حسب الراجح - ويضمن السيد المُدَبِّر أولاً نصيب شريكه . ولا يجوز للسيد أن يبيع العبد المُدَبَّر ولا أن يهبه ، وإذا كانت جارية فوطئها فحملت صارت بذلك أم ولد أيضاً وولدها منه حرّ ، كما أنه لو زَوَّجها لشخص آخر فأولادها من الآخر أحرار بموت السيد كأمهم ولو كان أبوهم عبداً . ولا يجوز للورثة تعطيل عتق العبد إذا مات السيد . وإذا أسلم العبد وسيده المُدَبِّر كافر ، يتحرر العبد فوراً دون انتظار لموت السيد ، ففي هذه الحالة يجب رفع يد الكافر عنه فوراً . والواقع أننا نستغرب الرأي الذي يذهب إلى جواز بيع العبد المدبّر، إذ هو في سبيله إلى الحرية بموت السيد، والتدبير عقد ، فكيف نسمح للسيد بفسخ العقد من جانب واحد ؟! والبيع لسيد آخر معناه إلغاء التدبير وضياع فرصة محققة لتحرير العبد المسكين بوفاة سيده الأول ، والله تعالى أمرنا بالوفاء فى قوله عز وجل : ’’أوفوا بالعقود’’ المائدة : 1 ..كما أنه لا يجوز للمسلم أن يخلف الوعد فتلك من صفات المنافقين.
و التدبير عتق لكنه مؤجل التنفيذ لما بعد موت السيد، فكيف يتراجع السيد عن تنفيذ ما أتفق عليه ووعد به ثم نجد بعض الفقهاء يجيزون ذلك ؟!!

تيسير إثبات التدبير
قال ابن قدامة المقدسي : ’’العتق مما يتشوف إليه ، وهو مبني على التغليب والسراية ، فينبغي تيسير إثباته’’ (المغني – كتاب التدبير- رقم 8679 مسألة من أنكر التدبير) . وهذا القول من عالم جليل يؤكد كل ما ذكرناه من أن الإسلام يحرص على التحرير كل الحرص ، ويلتمس الأسباب المؤدية إليه ، ويتوسع في العتق الى أقصى حد ممكن . ولذلك يؤيد ابن قدامة الرأي الذي يكتفي بشاهد واحد مع يمين يحلفها العبد لإثبات التدبير أو العتق إذا أنكره السيد . ونرى أنه يجب الأخذ بهذا الرأي في كل حالة يحدث فيها نزاع بين السيد والعبد على وقوع العتق أو سببه ، تسييرًا على هؤلاء المساكين ، ولأن الأصل هو الحرية فوجب تسهيل أسبابها، والعمل على إزالة عارض الرق الذي يبغضه الإسلام ويزيله بكل السُبُل .
24- العتق في الكسوف والخسوف
عند وقوع ظاهرة كونية مثل كسوف القمر أو خسوف الشمس كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعتق حتى تنجلي تلك الظاهرة عنهم بسلام . وكأن الإسلام يتلمس أي سبب ولو لم تكن للبشرية فيه يد للعتق وتحرير أولئك المُبْتَلين بالعبودية !!
روى الإمام البخاري تحت عنوان ’’ما يستحب من العتاقة في الكسوف أو الآيات’’ عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس . وروى عنها أيضاً أنها قالت : كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة ، أي عتق رقبة . وقال الدكتور موسى شاهين لاشين أستاذ الحديث بجامعة الأزهر تعليقاً على الحديث الأول - تعليلاً للأمر بالعتق هنا - : العبادات عند الشدائد ترفعها أو تلطف بصاحبها . انتهى (تيسير صحيح البخاري – الجزء الأول – شرح الحديث رقم 1054) .
ويمكن قياسًا على الكسوف والخسوف أن يكون العتق مندوبا اليه كذلك فى حالة الزلازل والبراكين والفيضانات المدمرة والعواصف ، فكلها كوارث طبيعية تتحد معها فى العلة .
ونحن نقول أن الأمر بالعتق في حال الكسوف أو الخسوف- وإن لم يكن للوجوب- فهو على الأقل سنّة مؤكدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . ونلاحظ هنا أنه أمرهم بالعتق خصيصاً ، وليست أية قربات أخرى ، مما يدل على الأهمية القصوى التي أولاها الإسلام للعتق وتحرير العبيد . فهل عهد الناس مثل هذا في أي دين آخر ؟
25 – المكاتبة
إن الباحث المنصف سوف يرى في عقد المكاتبة واحدًا من مفاخر الإسلام . فعن طريق هذا العقد يحصل العبد على حريته مقابل مبلغ من المال يؤديه إلى سيده على أقساط أو مقابل خدمة أو أعمال يؤديها له .
روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة حق على الله عونهم منهم ’’المكاتب يريد الأداء’’ . كما يثيب الله من أعان مكاتبًا على التحرر بأن يجعله فى ظله يوم القيامة .
ونلاحظ هنا أن عقد المكاتبة يحقق عدداً من الإيجابيات يرضى بها كل الأطراف . فالسيد حصل على تعويض أو مقابل يرضى به لعتق عبده ، فهو لن يكون خاسراً . والعبد نال حريته بناء على طلبه وفي الوقت الذي أصبح فيه مهيئاً فيه لبدء حياته المستقلة عن سيده . وإذا كان العبد قد تعلم الاعتماد على الذات واكتسب الثقة بالنفس ، فإن المجتمع يكسب بالمكاتبة عضواً نافعاً محترفاً ، يشكل إضافة إيجابية إلى القوى العاملة المدربة، فيزداد به الإنتاج ، وليس مزيداً من المتسولين الذين هم عالة وعبء ثقيل على أي مجتمع بشري . والمكاتبة عقد لازم لا يجوز للسيد أو العبد فسخه .
وقد ذهب العلماء حسب الرأي الراجح – إلى أن السيد لا يملك الرفض إذا طلب عبده المكاتبة، بل يجب عليه أن يكاتبه . ونحن نؤيد هذا الرأي الرشيد لأن صيغة الأمر صريحة في هذه الآية الكريمة ’’فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً’’ (النور:33) ، هذه الصيغة تدل على الوجوب ما لم توجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب والاستحباب فقط ، ولا قرينة هنا تفيد ذلك ، فيبقى الأمر بالمكاتبة على حاله ، وتصبح واجبةً على السيد إن علم في عبده خيراً - أي دين وخلق وقدرة على الكسب - حسبما قرر الفقهاء .
ومما يؤكد هذا الرأي أن سيرين كان عبدًا لأنس بن مالك ، وطلب منه أن يكاتبه لينال حريته ، لكن’’ أنس’’ تباطأ في إجابته ، وعلم عمر بن الخطاب بذلك فضرب أنسا بالدرة – عصا صغيرة – وأمره بأن يكاتب سيرين ليعتقه بعد ذلك . ولو كان قبول المكاتبة اختيارياً للمالك لما ضرب الخليفة أنسًا - وهو الفاروق العادل - وإنما ضربه لرفضه تنفيذ الأمر الإلهي بالمكاتبة إن طلبها العبد .
وتكون المكاتبة على أقساط تيسيراً على العبد . ويروى عن علي ابن أبي طالب أن العبد إذا أدى ثلاثة أرباع ما عليه بموجب عقد المكاتبة فإنه يتحرر، لأن الله تعالى أمر السادة بأن يضعوا عن العبيد الربع من المبلغ المتفق عليه نظير العتق. بل روي عن علي وشريح أن العبد يصبح حُرًّا إذا أدى قسطاً واحدا من مال المكاتبة ، فإن الحرية لا تتجزأ ، ورأى فريق من العلماء : أن المكاتب يتحرر إذا أدى نصف المتفق عليه . وقال ابن مسعود : إذا أدي الثلث فقط عُتق .
قال تعالى : ’’والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم’’ (النور:33) . وهذه الآية الكريمة كما قال المفسرون : تُلْزِم السادة بأن يضعوا عن العبيد المكاتبين جزءاً من القدر المتفق على دفعه في المكاتبة لتحريرهم . ويرى فريق من العلماء أن بيت مال المسلمين عليه أن يعين المكاتب بجزء من حصيلة أموال الزكاة لقوله تعالى في بيان مصارف الزكاة : ’’وفي الرقاب’’ سورة التوبة:60 ، والأية الأخرى 177 من سورة البقرة. وقد ذهب فريق من العلماء إلى أنها تلزم بإعانة المكاتبين بدفع ما يعجزون عنه من الأقساط . ولنا دليل آخر يؤيد هذا الرأي من قصة مكاتبة سلمان الفارسي رضي الله عنه لمالكه اليهودي ، فقد أعانه الرسول بنفسه الشريفة، وأمر أصحابه بمساعدته، ثم أعطاه قطعة ذهبية من بيت المال ليستكمل دفع ما عليه لمالكه اليهودى - وستأتي القصة في الفصل الأخير – وهذا يقطع بوجوب مساعدة المكاتب على نيل حريته من بيت المال وكذلك عموم المسلمين . وثواب هذا عظيم جزيل لمن يفعله ، كما ورد بالحديث الشريف عن الثلاثة الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة ، ومنهم من أعان مكاتباً في رقبته ، أي في الفداء للتحرر من الرق . والقصة أيضاً دليل على وجوب إعانة المكاتب إذا كان مقابل الكتابة هو عمل يؤديه للسيد .. فقد غرس النبي النخلات بيده الشريفة تنفيذاً للاتفاق بين سلمان ومالكه .. وقد يكون المقابل المطلوب لتحرير المكاتب عملاً آخر، مثل تحرير بعض أسرى بدر مقابل قيامهم بتعليم عدد من المسلمين القراءة والكتابة . أو أن يشترط السيد على عبيده خدمته بعض الوقت مقابل تحريرهم ، وقد فعل هذا عمر رضي الله عنه في خلافته ، إذ حرر غلمان دار الأمارة ، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده بضع سنين . كما حررت السيدة أم سلمة غلامها ’’سفينة’’ ، واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته عليه السلام، ووافق سفينة رضي الله عنه على ذلك، وأكد لها أنه سيخدم الحبيب المصطفى طيلة عمره ولو لم تشترط هى عليه ذلك.
وتحفل كتب الفقه بالكثير من الآراء الرائعة التي تظهر عبقرية السلف الصالح ، ومنها رأي يقول أن المكاتب قد أصبح حرّاً منذ لحظة الاتفاق على المكاتبة مع سيده ، ولو مكث يؤدي أقساط المكاتبة ’’سنين’’ ، ويجوز للعبد المكاتب أن يدفع ما عليه جملة واحدة ويتحرر فوراً كذلك. ولا يجوز للسيد أن يرفض الدفع الفوري . ويسمى الفقهاء دفع مقابل المكاتبة فورًا بالقطاعة ، ويتصور الدفع الفورى من العبد كما لو أعانه آخرون تبرعوا له بكل المبلغ المطلوب دفعة واحدة وحدث هذا فى قصة سلمان رضى الله عنه . وأولاد المكاتب أحرار ، وما يتبقى من ماله يكون له ، ولا يجوز للسيد استثناء الجنين الذي في بطن أمه المكاتبة، فهو جزء منها يتحرر معها كما ذكر ابن قدامة في المغني نقلاً عن عدد من الفقهاء . بل ان أولادها الآخرين يتحررون معها طبقاً للرأي الراجح . وللمزيد من التفاصيل والآراء يمكن الإطلاع على المراجع المشار إليها في نهاية هذا الفصل .
26- أم الولـد
كثرت أكاذيب الخصوم وصياحهم بسبب السماح بالتمتع بالجواري في الإسلام. وتناسى هؤلاء أن معظم الأنبياء والرسل المعروفين قبل الإسلام تمتعوا بملك اليمين ، وعلى رأسهم ’’إبراهيم’’ الذي أنجب من جاريته ’’هاجر’’ ولده ’’إسماعيل’’ جد العرب عليهم جميعاً السلام . وستأتي تفاصيل أكثر عند الكلام عن بركات السيدة مارية القبطية في الفصل الأخير . وكذلك تناسى الحاقدون ما يفعله غير المسلمين بالأسيرات في الحروب من اغتصاب جماعي وهتك للأعراض وإهدار للآدمية وإجبار ملايين الضحايا المختطفات من بلدان فقيرة على ممارسة الدعارة في أوربا وأمريكا على النحو الذي أوضحناه في فصول سابقة . وفي مقابل هذا الامتهان لآدمية الإماء لدى الغير، جاء الإسلام فصان كرامتهن وحفظ أعراضهن، فلا يجوز لغير سيدها أن يعاشرها جنسياً- بعد استبراء رحمها بحيضة - حتى لا تختلط الأنساب وتهدر كرامة الإماء . فإذا زَوَّجها سيدها لآخر فلا يحق للسيد أن يقربها ، وإنما تصبح زوجة كأية حرّة ، فلا يقربها سوى زوجها . وفي حالة عدم تزويجها يكون للسيد أن يجامعها ، وفي ذلك رحمة بها ، إذ هي في حاجة أيضاً لقضاء شهوتها بطريق مشروع ، كما يطعمها سيدها ويكسوها تماما كزوجته، ويحسن معاملتها رحمة بها وتخفيفًا عليها .
ولأن القوم لم يكن عندهم وسائل شيطانية للقضاء على النسل – كهذه الأيام النحسات - فقد كان الغالب الأعم أن تحمل الجواري من سادتهن . وهنا تتجلى عظمة وحكمة التشريع الإلهي . إذ أن هذه المعاشرة تثمر ليس فقط أطفالاً أحراراً مثل آبائهم طبعاً ، وإنما يأتي هؤلاء بالفرج والتحرير لأمهاتهم أيضا . فقد روى عن النبي عليه السلام عندما ولدت ’’مارية’’ إبراهيم أنه قال : ’’أعتقها ولدها’’ ، أورده ابن سعد في الطبقات مع حديث آخر: ’’أيما أَمَة ولدت من سيدها فأنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته’’ (أخرجه ابن ماجه في كتاب العتق والدارمي في البيوع وأحمد في مسنده) . وهكذا تتحرر الجارية التي تنجب من سيدها ولو نزل الجنين ميتاً . بل أكد الفقهاء أنها تصبح أم ولد ولو كان ما في بطنها سقطاً أو نزل منها ’’مضغة’’ أو حتى مجرد ’’علقة’’ . وهذا يثبت إلى أي مدى كان العلماء يتوسعون فى تحرير الجواري . ولا يجوز بيع أم الولد مطلقاً ولا هبتها ولا رهنها ، وتعتق فور موت سيدها، ولا سبيل للورثة ولا لدائني السيد عليها إن لم يجدوا في التركة ما يكفي لسداد ديونهم. فهي تتحرر لحظة موت والد ابنها بلا حاجة لأي إجراء أو إجازة من أحد . وكثيراً ما كان السادة يحررون أمهات أولادهم فور الولادة تكريماً لأولادهم منهن ، وحتى لا يعاير أحد الجَهَلة أولادهم بأن أمهاتهم لسن من الأحرار . ولمن شاء أن يرجع إلى تفاصيل أحكام أمهات الأولاد في كتب فقهاء السلف الصالح التي لا تخلو من باب كبير عنوانه ’’أمهات الأولاد’’ يتناول كافة التفاصيل .


27- الزكاة للتحرير
حدد الله تعالى المصارف الثمانية التي تنفق فيها أموال الزكاة في الآية 60 من سورة التوبة بقوله سبحانه : ’’إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم’’ . وقد ذهب فريق من العلماء ومنهم الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والزهري والنخعي إلى أن المقصود بقوله تعالى : ’’وفي الرقاب’’ أي إعانة المكاتبين على دفع ما عليهم للسادة نظير عتقهم بالمكاتبة . لكن الرأي الراجح وهو المروي عن ابن عباس ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق ورواية عن الحسن أنه : لا بأس أن تعتق الرقبة- بالكامل - من الزكاة (7)، ويعقب ابن كثير رضي الله عنه- في تفسيره للآية – بقوله : أي أن الرقاب أعم فتشمل أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . انتهى . والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلمان طبّق تلك الآية عندما أعان سلمان الفارسي رضي الله عنه بنفسه الشريفة ، ومن بيت المال كذلك، وأعانه الصحابة أيضاً في مكاتبة سيده اليهودي حتى دفع المتفق عليه ونال حريته . وقام بيت مال المسلمين كذلك بشراء رقاب ابتداء - غير مكاتبين - وتحريرها في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، عندما كثرت حصيلة أموال الزكاة، وازدهر الاقتصاد في عهده ، فلم يجد الولاة فقراء ليعطوهم من الزكاة ، وكان المصرف الوحيد المتاح لها هو شراء عشرات الألوف من العبيد وتحريرهم . قال يحي بن سعيد : ’’بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقيا فجمعتها، ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا – فقد أغنى عمر الناس - فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم’’ (8) . وهكذا نجد أن دور بيت مال المسلمين– خزينة الدولة - يتسع لإعانة المكاتبين بالفعل، وكذلك شراء عبيد لا يستطيعون المكاتبة – لصغرهم أو عجزهم عن العمل كالعجائز والنساء – بل يرى الأمام ابن سيرين رضي الله عنه أنه في حالة قيام أحد الشركاء بعتق نصيبه في العبد، وعجزه عن دفع قيمة حصص باقي الشركاء فيه ، فإنه يجب دفع قيمة حصص هؤلاء من بند ’’وفي الرقاب’’ من بيت المال ، وبذلك يتحرر العبد كله . وهو رأي وجيه للغاية, ويفيد خصوصاً في حالة إعسار المعتق، وعجز العبد عن العمل لسداد ثمن حصص باقي السادة المالكين له كالصغار والعَجَزَة والنساء كما أشرنا . وكذلك تتضح أهمية دور بيت المال فى دفع فداء أسرى المسلمين لدى الأعداء في حالات الحروب، أو احتلال بعض الدول والأراضي الإسلامية بواسطة قوى البشر والاستكبار العالمي بزعامة أمريكا وإسرائيل . فيمكن استخدام هذا البند من موارد الميزانية العامة في الدول الإسلامية لدفع كافة تكاليف الإفراج عن الأسرى العراقيين والفلسطينيين والأفغان وغيرهم، وكذلك إعادة تأهيلهم للحياة الاجتماعية من جديد وكفالة سبل العيش الكريم لهم، إذ أن أغلبهم عادة ما يكون قد فقد كل شيء بسبب سنوات الاعتقال الطويلة المريرة.
وهناك كذلك دور بالغ الأهمية يجب أن تلعبه الخزانة العامة في الدول الإسلامية في وقتنا الحاضر لتحرير الرقيق الموجود حتى الآن . ولا داعي للعجب، فكما عرضنا في الفصل الرابع ’’الاتجار بالبشر’’ ، مازال الملايين من البشر يعانون من رق حقيقي في القرن الحادي والعشرين ، ونعني بهم الملايين من الفتيات -الأطفال- الذين اختطفتهن - وما زالت تفعل - عصابات الماﭭيا الدولية ، وقامت بترحيلهن إلى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأمريكا الجنوبية لتسخيرهن إجبارياً في الدعارة والشذوذ الجنسي . وبكل أسف فإن مئات الألوف من هؤلاء السبايا هن مسلمات من عائلات فقيرة جرى خطفهن وترحيلهن تماماً كما حدث للأفارقة المساكين من قبل !! .
ونطالب كل الحكومات والهيئات الإسلامية بالتحرك فوراً على كل المستويات وبكل السبل والوسائل المتاحة لتحرير ’’سبايانا’’ المسكينات من قبضة المجرمين في الغرب، وإعادتهن إلى بلادهن الأصلية مهما تكلف الأمر من جهود ونفقات ، فتلك مسئولية بيت المال - الخزانة العامة - وهي من صميم اختصاص الحكام طبقاً لهذه الآية ’’وفي الرقاب’’ وغيرها .. وإذا لم تقم الحكومات بحماية رعاياها، وإنقاذ مئات الألوف ممن سقطن فرائس بين مخالب وحوش الغرب المسعورة ، فما جدوى وجود الحكومات إذن ؟ !!
ونذكر الجميع أخيراً بمقولة الفاروق الخالدة : والله لو أن بغلة في العراق عثرت – تعثرت - لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة ، يقول هذا عن بغلة ، فما بالك بملايين الأنفس المُعذَّبة فى الأرض ؟!! .

المراجع
للمزيد من التفاصيل والأحكام والآراء حول مسائل هذا الفصل أنظر المراجع الآتية :
1- عباس محمود العقاد –حقائق الإسلام وأباطيل خصومه – طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب – فصل الرق .
2- تفسير الآية 92 من سورة النساء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأحكام القراّن للجصّاص ، وتفسير ابن كثير ، والبغوى ، والشوكانى ، و النسفي ، وابن جرير الطبري، وكذلك تفسير الآية 93 من سورة النساء، والآية 3 من سورة المجادلة، والآيتين الأوليين من سورة التحريم، والآية 89 من سورة المائدة ،والآية 33 من سورة النور ،والآية 177 من سورة البقرة، والآية 60 من سورة التوبة بالتفاسير المذكورة .
3- الأحاديث الواردة فى هذا الفصل نقلاً عن المراجع الآتية : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ،وتيسير صحيح البخاري للدكتور موسى شاهين لاشين ، و صحيح مسلم بشرح النووي ،و سنن أبي داود ، والأم للشافعى ، ومصنف ابن أبى شيبة ، والترمذي ، وابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وابن خزيمة ، وتنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك لجلال الدين السيوطي .
4- المغني لابن قدامة المقدسي ، والمبسوط للسرخسي وسبل السلام للصنعاني، والمحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي ، والعدة في شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي ، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد الأندلسي . وتراجع في كل منها أبواب أو كتب ’’العتق’’ و ’’وأمهات الأولاد’’ و ’’والتدبير’’ و ’’والمكاتبة’’ أو ’’الكتابة’’ أو ’’المكاتب’’ وكذلك كتب ’’الكفارات’’ وكتاب ’’اللقيط’’ بذات المراجع ، ففيها تفاصيل وأحكام وآراء أخرى لم يتيسر إثباتها هنا حرصاً على عدم الإطالة أو لأنها آراء مرجوحة لا نعتد بها.
5- موسوعة فقه عبد الله بن عمر - الدكتور محمد رواس قلعجي - دار النفائس - بيروت سنة 1986 م - ص 379 – 380 .
6- موسوعة فقه سفيان الثوري - الدكتور محمد رواس قلعجي - دار النفائس - بيروت - الطبعة الثانية 1997 م .
7- موسوعة فقه عبد الله بن عباس - دار النفائس - بيروت .
8- مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزى ، وسيرة عمر بن عبد العزيز فى البداية والنهاية ، وحلية الأولياء لأبى نعيم ، وسير أعلام النبلاء للذهبى ، وصفة الصفوة ، وتاريخ الأمم والممالك للطبرى .
*المسلم


أضافة تعليق
آخر مقالات