مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
عرض: حليمة بو كروشة
المؤلف: زكي الميلاد.
الناشر: دار الصفوة، بيروت، لبنان.
الطبعة الأولى: 1994م، (485).

تقديم عام
من القناعات المشتركة بين رجالات الفكر الإسلامي المعاصر أن الإصلاح الفكري هو العنصر الجوهري لنهضة الأمة، وأنه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كل تصور للخروج من الأزمة. من هنا استقطب موضوع تجديد الفكر الإسلامي الكثير من المفكرين الذين أرادوا أن يسهموا في مد الفكر الإسلامي برؤى متجددة تمنحه القدرة على البقاء والثبات في وجه التحديات المعاصرة. ومن هؤلاء المفكرين زكي الميلاد، في كتابه الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد الذي يُعدّ أحد هذه الإسهامات في هذا المضمار.
والإشكالية التي تناولها المؤلف في هذا الكتاب هي صياغة منهج إسلامي للتأصيل والتجديد. فقد تتبع اتجاهات الفكر الإسلامي ومدارسه لاستلهام منهج التجديد، كما عالج إشكالية العقل والنقل بوصفهما ركيزتي التأصيل والتجديد، وبحث منهج أسلمة العلوم الاجتماعية بوصفها الحقل الذي ينبغي أن تركز عليه عملية التأصيل والتجديد.
ويتألف الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول:
الفصل الأول: منهج التجديد في الفكر الإسلامي.
الفصل الثاني: العقل والوحي في الفكر الإسلامي.
الفصل الثالث: نحو منهجية علمية إسلامية في أسلمة العلوم الاجتماعية.
عرض وتفصيل
الفصل الأول: لقد أثار الكاتب في الفصل الأول عدة قضايا يمكن إدراجها في سبعة محاور:
- الإسلام والتجديد: بيّن الكاتب في هذا المحور أن الإسلام أعظم حركة تجديدية في حياة الإنسان والتاريخ لأنه يقدم منهجاً متكاملاً يوازن بين القيم الآتية: الشهادة والغيب، والمادة والروح، والفرد والمجتمع… إلخ.
- الفكر والتجديد: للفكر -في نظر الكاتب- دورتان، دورة داخلية يجدد فيها نفسه مما علق به من شوائب ليستعيد حيويته، ودورة خارجية يجدد فيها الواقع إصلاحاً وتطويراً، (ص21)، وقد وضَّح في هذا الإطار أن التجديد الذي يبحثه هو التجديد في الفكر الإسلامي وليس في الدين لأن الدين لا تجوز فيه الزيادة والنقص أو التبديل والتعطيل. (ص 37).
- معنى التجديد: انتقد الكاتب تعريفات المفكرين المسلمين لمفهوم تجديد الفكر الإسلامي لعدم دقتها، والسبب في ذلك أن تعريفاتهم في الغالب أتت عرضية لا يُقصَد بها التحديد الاصطلاحي (ص 46)، مما أكّد أن التجديد مصطلح إسلامي أصيل لوروده في السنة النبوية، وأن شيوع هذا المصطلح عند الاتجاهات العلمانية ليس سبباً منطقياً لرفضه. (ص 52).
وبغية تحديد دقيق لمعنى التجديد بيّن الكاتب الفرق -المعنوي والمعرفي- بينه وبين بعض المصطلحات التي تستعمل على أنها مترادفات له مثل الإحياء والتجدد.
فالإحياء بعث للروح والتجديد بناء وتطوير، والتكامل بينهما أن الإحياء يسبق التجديد ويكون مقدمة له. ( 58) أما التجدد فهو ما يطرأ على الفكر من تحولات نتيجة تفاعلات بين الفكر والمجتمع دون منهج أو تخطيط، في حين أن التجديد منهجية واضحة في إصلاح الفكر الإسلامي. (ص62) كما بيّن الكاتب -في إطار تحديده لمفهوم التجديد- علاقة هذا المصطلح بمصطلحات أخرى مثل المعاصرة والاجتهاد. فالمعاصرة من مكونات التجديد الحيوية لكن ليس التجديد كله معاصرة، لأن منهج المعاصرة يقوم على إبراز عناصر التشابه والتقارب بين المبادئ الإسلامية والقيم المعاصرة، أما التجديد فمنهجه صياغة النظريات الإسلامية بعيداً عن الانفعال أو الدفاع عن الذات. أما الاجتهاد فهو -في نظر الكاتب- أكثر دقة وأصالة من التجديد لارتباطه بالتشريع الإسلامي وعليه فاستعمال مصطلح التجديد في حقل الفكر والثقافة أنسب بعد أن ارتبط مصطلح الاجتهاد بقضايا الفقه وأصوله. (ص 78).
وحرصاً على ضبط مفهوم تجديد الفكر الإسلامي أكّد الكاتب قضيتين:
الأولى: أن التجديد المراد في الفكر الإسلامي ليس تجدياً دينياً منقطعاً عن الجانب المدني ولا مدنيا ًمفصولاً عن الجانب الديني.
الثانية: أن التجديد في الفكر الإسلامي يشمل الفروع والأصول، موضحاً أن تجديد الأصول لا يعني تجاوزها بل معناه توسعة أصول الفقه الاجتهادية لتستوعب تطورات الحياة.
اتجاهات التجديد في الفكر الإسلامي
حاول الكاتب في هذا المحور استطلاع ساحة الفكر الإسلامي المعاصر بهدف فرز الاتجاهات المختلفة في قضية التجديد وهي ثلاثة:
1- اتجاه علمنة الإسلام. 2- اتجاه التأويل والتعطيل. 3- الاتجاه الإسلامي وهو الاتجاه الصحيح -في نظر الكاتب- في تجديد الفكر الإسلامي لأنه يتفق ومقاصد الإسلام وأصوله.
مناهج التجديد في الفكر الإسلامي
يرى الكاتب أن حركات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي نوعان: حركات فكرية دعوية منها حركة رشيد رضا، وحركات فكرية منهجية منها حركة الإمام الشاطبي. ولفارق بينهما أن المنهج في النوع الثاني هو محور الحركة، أما في الأول فإن الدعوة والإصلاح هما محور الحركة. ثم بيّن أن كتابه هذا مرتبط أساساً بالتجديد الفكري المنهجي. وقبل عرضه لمناهج التجديد في الفكر الإسلامي أعلن ابتداءً إقصاءه لمنهجين في التجديد هما المنهج الفلسفي لأنه مقتبس من الفكر اليوناني، والمنهج السلفي لأنه منهج ينتصر لفرقة إسلامية واحدة لأن هدفه الأساس تطهير العقيدة من البدع فهو ليس منهجاً تجديدياً حضارياً. (ص122).
قسّم الكاتب بعد هذا مناهج التجديد في سياقها التاريخي إلى مرحلتين:
المرحلة القديمة واختار منها منهجين هما: منهج إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ومنهج مقاصد الشريعة الإسلامية لأبي إسحاق الشاطبي.
المرحلة الحديثة والمعاصرة واختار منها منهجين أيضاً تمثلا في كتابين هما: تجديد الفكر الديني في الإسلام لمحمد إقبال، وتجديد الفكر الإسلامي لحسن الترابي.
التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي
أكد الكاتب أن الفكر الشيعي في كل دوراته التاريخية كانت له إبداعات وتجديدات في مختلف مجالات الثقافة والعلوم، لكنه في ذات الوقت أثار بعض الإشكالات التاريخية والمنهجية والسياسية التي اعترضت هذا الفكر، أهمها اختزال الفكر الإسلامي في مدرسة واحدة هي المدرسة السنية، ومحاولة إقصاء الفكر الشيعي عن واقع الحياة الاجتماعية والفكرية عن طريق دراسات تحوي مغالطات تاريخية أو عقائدية. (ص 175-176). ومنها أيضاً جمود هذا الفكر بانغلاقه على علوم الفقه والأصول في دائرته الفردية لا الاجتماعية وذلك لسببين: أحدهما خارجي والآخر داخلي.
أما السبب الخارجي فهو: ما تعرضت له حركة الاجتهاد عند الشيعة من عزل سياسي عن المجالات الاجتماعية نتيجة لارتباط الحكم في العصور الإسلامية المختلفة وفي أكثر البقاع بحركة الاجتهاد عند السنة. (ص180).
أما السبب الداخلي فهو: مرور نظرية الاجتهاد في الفكر الشيعي بمراحل مخاض إذ عَدّ الاجتهاد إعمالاً للرأي الممنوع في الشرع من طرف الحركة الإخبارية الشيعية. وعلى الرغم من هذه الإشكالات وغيرها يؤكد الكاتب أن التجديد في الفكر الشيعي لم يتوقف خاصة في الفقه والأصول، وأن التجربة الإسلامية في إيران جعلت الفكر الشيعي يمر بمرحلة تحول نوعي عميق نحو التجديد والإبداع بعد أن توافرت الأرضية لتنـزيل هذا الفكر على الواقع وفي مساحة شاملة. _193).
ضوابط التجديد في الفكر الإسلامي
حصر الكاتب الضوابط اللازمة لتجديد المشروع والضامنة لسلامة المنهج في خمسة ضوابط:
1- عدم تجاوز النص بالتأويل أو التعطيل.
2- عدم الإخلال بالقواعد المنهجية للتجديد.
3- التزام المنهج الإسلامي.
4- التزام المصطلح الإسلامي.
5- مراعاة الثوابت والمتغيرات.
منهج تجديد الفكر الإسلامي وأبعادُه
تتوزع منهجية تجديد الفكر الإسلامي في نظر الكاتب على محورين:
المحور الأول: هدم كل ما علق بالفكر الإسلامي من رواسب الجهل والهوى وإزالة كل ما وفد عليه من ثقافات دخيلة. (ص211).
وقد حصر الكاتب مشكلات الفكر الإسلامي الداخلية التي تحتاج إلى هدم في نوعين: مشكلات فكرية ناشئة عن التنظير الإسلامي، ومشكلات فكرية ناشئة عن التطبيق الإسلامي. وحدد المشكلات الوافدة على الفكر الإسلامي بقسمين: مشكلات الفكر القديم كالفلسفة والمنطق اليوناني، ومشكلات الفكر الحديث كالرأسمالية والشيوعية.
المحور الثاني: استكشاف كنوز الفكر الإسلامي وإبرازها على صعيد الفرد والمجتمع بأبعاده الأربعة: العائلة، والجماعة، والأمة، والإنسانية. (ص214).
أما عن مصادر التجديد في الفكر الإسلامي فقد بين الكاتب مصادر التشريع عند الشيعة، وهي: الكتاب والسنة، والإجماع، والعقل.
أما عن المداخل المهمة والمناسبة لعملية التجديد فقد رشح الكاتب أصول الفقه الإسلامي، فضلاً عن العلوم الاجتماعية الحديثة بشرط أن تعاد صياغتها وفق المنظور الإسلامي بوصفهما مدخليْ التجديد الإسلامي في العصر الحديث. (ص216).
أما عن أبعاد تجديد الفكر الإسلامي فقد لخصها الكاتب في تسعة مجالات هي: الإلهيات - والفقه - وأصول الفقه - والاجتماع - والسياسة - والثقافة - والتربية - والإعلام - والاقتصاد.
مشكلات منهجيّة في الفكر الإسلامي
لقد نبه الكاتب على أن الفكر الإسلامي لن ينتقل إلى طور جديد من الإبداع إلا إذا تجاوز بعض المشكلات المنهجية التي تعيق العملية التجديدية مثل: الاشتغال بالنقد دون تقديم بديل، الاجترار الفكري لإشكالات خرجت من تاريخ الفكر الإسلامي، والانفعال والدفاع عن مشكلات لم يفرزها تاريخ الأمة الإسلامية ولا حاضرها، والاهتمام بقضايا الماضي على حساب القضايا المستقبلية.

الفصل الثاني: عالج فيه الكاتب قضية العقل والوحي في الفكر الإسلام، وذلك من خلال بيان علاقتهما ببعض الثنائيات مثل: التأصيل والتجديد، والثوابت والمتغيرات، وعالم الغيب وعالم الشهادة، فالوحي، -في نظر الكاتب- هو ركيزة التأصيل لأن الإسلام لا يفهم إلاّ بمنهجه، والعقل هو ركيزة التجديد لأنه هو الذي يرسم منهج تنـزيل الوحي على الواقع. والوحي هو ركيزة الثوابت لأن مجالها الأهداف والغايات، والعقل ركيزة المتغيرات لأن مجالها الوسائل والأساليب. وعالم الغيب من اختصاص الوحي وعالم الشهادة من اختصاص العقل. (ص239، 245، 261).
كما حاول الكاتب بيان علاقة العقل والوحي ببعض العلوم. فعَدَّ الوحي ركيزة العلوم الاجتماعية لأنها تمثل الثقافة والقيم، وعدَّ العقل ركيزة العلوم الطبيعية لأنها اكتشاف لقوانين الحياة. أما أصول الفقه فهو العلم الذي قنن أثر العقل في التشريع الإسلامي، هذا العقل الذي تؤهله مكانته في نظرية الاجتهاد لإحداث أثر فعال في تجديد حركة الاجتهاد، أما علم الكلام فهو العلم الذي جمع عند نشأته بين العقل والنقل لكن سرعان ما انفرط هذا العقد وأحدث خللاً كبيراً في منهج الإسلام العام في النظر والاستدلال.
وقد أفرزت ثنائية العقل والنقل اتجاهين أساسيين في الفكر الإسلامي: اتجاه يرفض أثر العقل تمثله المدرسة الإخبارية الشيعية، واتجاه ضَخَّمَ أثر العقل تمثله المعتزلة ومدرسة أهل الرأي والفلاسفة العقليين. والموقف السليم في نظر الكاتب هو الوسط والتوازن فلا نفي ولا تضخيم لأهمية العقل. (ص 331).
العقل والوحي: تكامل لا تعارض
لا يتحقق هذا التكامل -في نظر الكاتب- إلا من خلال معرفة ثلاث مسائل: (ص279).
1- أثر الوحي في العقل وهو: إيقاظ العقل، وتزكيته، وتنميته، وحمايته، وتحريره وتقنينه، (ص279)، وأثر العقل في الوحي هو: تصديق الوحي، ووفقه الشرائع، وصياغة المناهج التطبيقية والتشريع. (ص257).
2- معرفة ما يستقل به الوحي عن العقل وما يستقل به العقل عن الوحي.
3- معرفة متى يجتمع دليل العقل والنقل.

الفصل الثالث: خصصه الكاتب للحديث عن منهج أسلمة العلوم الاجتماعية، مؤكداً أن أسلمة هذه العلوم من أهم أولويات التجديد في نظام المعرفة الإسلامية، لأنها تمثل منطقة الفراغ في الفكر الإسلامي. وانتقد في هذا الإطار المحاولات التي تمت في سبيل أسلمة العلوم الاجتماعية لأنها ما زالت تبحث في العموم وأيضاً لافتقادها العمق العلمي والنقد المعرفي وضعف انفتاحها المعرفي والنقدي على العلوم الاجتماعية السائدة، فضلاً عن فرديتها وعدم انتظامها في إطار نظامي مؤسسي. (ص372-374).
نقد الإطار المعرفي الغربي والعربي للعلوم الاجتماعية
لقد انتقد الكاتب خصائص الإطار المعرفي الغربي للعلوم الاجتماعية المتمثلة في: الدنيوية، والعقلانية المفرطة، والبراغماتية المطلقة، والمركزية الغربية، كما سلط الضوء على جوانب أخرى أساسية في نقد النظريات الاجتماعية الغربية كتوظيفها غير الأخلاقي للعلوم الاجتماعية واستحداثها نظريات لأغراض استعمارية، وتطبيقها لمناهج العلوم الطبيعية على الدراسات الاجتماعية… إلخ. (ص 379).
كما انتقد الإطار المعرفي العربي في العلوم الاجتماعية، موضحاً أن نشأة هذه العلوم في العالم العربي لم تكن نتيجة تطور ذاتـي للفكر العربي بل ظهرت في ظل الوضعية الاستعمارية المهيمنة على العالم العربي، ولذا جاءت محاولات الفكر العربي في مجال العلوم الاجتماعية مقطوعة الصلة بالمجتمع العربي، تهيمن عليه النـزعة التجريدية والاجترار المستمر للنظريات الغربية، وغياب المنهج الواضح في الإنتاج، فضلاً عن اعتراضها على مبدأ أسلمة العلوم الاجتماعية. (ص 399،416).
المنهجية المعرفيّة الإسلاميّة
إن أسلمة العلوم الاجتماعية ستعالج أزمة الهوية الفلسفية والمعرفية في هذه العلوم، كما ستكون خطوة ضرورية للاستقلال الحضاري للأمة. من هذا المنطلق يرى الكاتب ضرورة التحول النوعي في حركة الاجتهاد الإسلامي باتجاه العلوم الاجتماعية لتأصيل الفقه والتشريع في قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد… إلخ، حيث أكد أن الفقه الإسلامي بمفاهيمه ونظرياته والقرآن الكريم بفلسفته ومبادئه الاجتماعية والتراث بكنوزه المعرفية كل هذه تعدّ ركائز أساسية في أسلمة العلوم الاجتماعية. منّبهاً في الأخير أن ابن خلدون يعدّ حلقة من حلقات الفكر الاجتماعي الحضاري الإسلامي، لذا ينبغي أن يتمم ويكمّل بحلقات أخرى. (ص 419، 429، 437).
وختم الباحث كتابه باقتراح تقنيات عملية تساعد على أسلمة العلوم الاجتماعية منها: تخصيص مجلة فكرية تعنى بإرساء هذه الأفكار ونشرها وتوضيحها، وإنشاء مركز يهتم بالبحث في هذا الحقل، أو إنشاء أكاديمية علمية لأسلمة العلوم الاجتماعية، فضلاً عن عقد الندوات والمؤتمرات لبلورة مناهج العمل.
ملاحظات وتعليقات
إن المميز لهذا الكتاب تركيزه على قضية المنهج في تجديد الفكر الإسلامي، وهي قضية جوهرية ذلك أن التجديد بلا منهج يورث الفوضى الفكرية والتجديد بمنهج خاطئ يورث الانزلاق الفكري، من هنا كان العمدة في أمر التجديد هو المنهج. ومن ميزاته أيضاً عقده فضلاً كاملاً لأسلمة العلوم الاجتماعية، بوصفها الحقل الذي ينبغي أن تركز عليه عملية التأصيل والتجديد. ومن مزاياه أيضاً ما يقدمه للقارئ من آراء متنوعة ومراجع مختلفة من المدرستين: السنية والشيعية والمواضيع المدروسة.
وهذه المزايا لا تمنع من تسجيل بعض الملاحظات في المنهج وكذا المضمون.
في المنهج
إن أهم ما يمكن تسجيله في هذا الشأن ما يأتي:
- من مميزات البحث العلمي ضبط المصطلحات المحورية في البحث. والكاتب بذل جهداً كبيراً في ضبط مصطلح التجديد لكنه لم يبذل نفس الجهد في ضبط مصطلح التأصيل الأمر الذي أفضى إلى نوع من التداخل بين المصطلحين عند الكاتب. كما أنه لم يبين دلالة مصطلح ’’الفكر الإسلامي’’ مع أن هذا الأخير ليس محل اتفاق بين المشتغلين بالفكر الإسلامي. فمفهومه عند البعض هو: التعبير عن الإسلام بكل شموله وعموميته، ولا يمكن بحال الفصل بين الإسلام والفكر، وعليه فالفكر الصوفي والشيعي والمعتزلي عند هؤلاء ليس فكراً إسلامياً بل مجرد تصور. بينما مفهوم الفكر الإسلامي عند البعض الآخر هو: ما أنتجه فكر المسلمين من المعارف الكونية العامة المتصلة بالله والعالم والإنسان في إطار المبادئ الإسلامية، وعليه ففكر الفرق الإسلامية كلها هو فكر إسلامي ما دام يستند إلى الكتاب والسنة. من هنا يتبيّن أن ضبط مصطلح الفكر الإسلامي يجنب الباحث والقارئ الكثير من الاختلافات المنهجية.
- عدم مراعاة التسلسل المنطقي في ترتيب الفصول. فالفصل الأول خصص لمنهج التجديد في الفكر الإسلامي وهدفه صياغة منهج إسلامي في التأصيل والتجديد، والفصل الثاني خصص لدراسة ثنائية العقل والوحي بوصفهما ركيزتيْ التأصيل والتجديد، والسؤال المعروض: كيف يمكن صياغة منهج إسلامي قبل الفصل في قضية العقل والنقل بعدهما نقطة البداية في تحرك الأزمة الفكرية في واقع الإسلام التاريخي؟
- الإفراط في الاقتباس حتى لم يعد للكاتب -في كثير من صفحات الكتاب- جُهْدٌ يذكر، إذ نجده يقتبس نص الإشكال والأطروحات المثارة عنها بل وحتى الموقف الذي يستحسنه [مثلاً الصفحات 377-381] مما يوحي أن الكاتب جعل ظاهرة الاقتباس منهجاً في التأليف.
- كثرة التفريعات مع غياب التسلسل المنطقي في بعض مباحث الكتاب. ففي الفصل الثاني مثلاً تكلم الكاتب على العلاقة التكاملية بين العقل والنقل تحت عنوان: العقل والوحي تكامل لا تعارض (ص 275)، ولم يوضح صورة هذا التكامل بنحو دقيق، بل انتقل إلى الكلام عن العقل والوحي في أصول الفقه وعلم الكلام ليعود بعد ذلك للحديث عن أثر الوحي في العقل (ص345) وأثر العقل في الوحي. (ص357).
- غياب الخاتمة التي تبرز إسهامات الكتاب في حقل تجديد الفكر الإسلامي وآفاق البحث في إشكالية التجديد ذاتها.
في المضمون
إن دراسة قضية تجديد الفكر الإسلامي من خلال الحركة الفكرية المنهجية فقط يعرقل مسار التجديد ذاته، والأوْلى -في نظري- تناول الموضوع من زاويتين: زاوية الحركة الفكرية المنهجية، وزاوية الحركة الفكرية الدعوية. ذلك أن الفكر الإسلامي شقان: نظري وتطبيقي، فالأول يرشد الثاني ويزوده بالمنهج والثاني يمد الأول بآفاق وأبعاد جديدة، كما يعدُّ مجالاً خصباً لاختبار أطروحات التجديد النظرية.
- إن إقصاء المنهج السلفي من دائرة مناهج التجديد ومبدأ الانفتاح والتقارب والتعايش السلمي الذي رفع شعاره الكاتب من جهة، وينافي مقتضيات الموضوعية العلمية من جهة أخرى. فالكاتب لم يفرق بين السلفية مضموناً، فالأولى هي عبارة عن اتجاه أصولي يقيم منهجاً على أصولية فهم القرون الثلاثة الأولى للكتاب والسنة ومنهج استدلالهم. أما الثانية فهي ما أنتجه هذا المنهج الأصولي من فكر. والملاحظ أن الكاتب انطلق من المعنى الثاني لإقصاء المعنى الأول مستشهداً في ذلك بحركة محمد بن عبد الوهاب التي نـزعت في نظره إلى الإحياء الديني وليس الحضاري العام، ناسياً في الوقت نفسه على سبيل المثال حركة ابن تيمية التجديدية التي شملت كل نواحي الحياة: الفكرية، والتشريعية، والاجتماعية والسياسية، بغض النظر عن التقويم الموضوعي لها.
- إن اختيار المؤلف لكتب بعض العلماء والمفكرين وعرضها مناهج للتجديد في الفكر الإسلامي هو اختزال لمنهجهم التجديدي. ذلك أن الأمر يصدق على البعض مثل الشاطبي، فإن كتابه الموافقات يمثل بالفعل منهجه التجديدي؛ لكنه لا يَصْدُق على البعض الآخر مثل الغزالي، لأن الإحياء لا يمثل إلا بعض زوايا منهجه التجديدي. فالدارس لحياة الغزالي والأطوار التي مر بها والمجالات التي أسهم في تجديدها يجدها لا تنحصر في مضمون الإحياء بل تتعداه.
- لقد اتسم نقد المؤلف لاتجاه علمنة الإسلام واتجاه التأويل والتعطيل بالسطحية والعموم. وهذه -في نظري- سمة بعض الأدبيات الإسلامية التي صرفت طاقتها في مناقشة الشكل دون المضمون والقضايا الجزئية الفرعية دون الأساسية الكلية، في حين أن النقد المعرفي العميق يقوم -في نظري- على أساس اكتشاف القواعد التي قامت عليها الأفكار ثم نقدها. فنقد الأسس المنهجية يغني عن نقد الأفكار الجزئية.
- لقد عرض الكاتب أربعة مناهج تجديدية في الفكر الإسلامي لكنه لم يقدم دراسة نقدية لها تبيّن أثرها في التفاعل مع قضايا عصرها وتبرز الجوانب التي بالإمكان استثمارها في صياغة منهج تجديدي معاصر. وغياب القراءة النقدية يقتضي سؤالاً ويثير فرضية. أما التأصيل والتجديد. أما الفرضية فهي أن ذكره لتلك المناهج يبدو وكأنه جاء لتأكيد مسلمة انطلق منها وهي أن: ’’حركات التجديد والإصلاح في الحياة الإسلامية والفكر الإسلامي لم تنقطع… في تاريخ المسلمين القديم والحديث والمعاصر’’. (ص 119).
- إن إقصاء الكاتب للمنهج الفلسفي منهجاً جديداً جعله لا يَعُدُّ الفلسفة من أبعاد تجديد الفكر الإسلامي. والحقيقة أن عجز التراث الفلسفي اليوناني من جهة والفلسفة الغربية الحديثة من جهة أخرى عن المساهمة في بناء فلسفة تتماشى والنسق الفكري الإسلامي، يجعل النهضة الفلسفية جزءاً من النهضة الفكرية. فمن أبعاد التجديد الفكري بلورة فلسفة إسلامية معاصرة لا تحبس نفسها داخل أسوار مدرسة فلسفية معينة، بل ترجع إلى الأصول لاستلهام الأيديولوجية التي ينظر من خلالها العقل المسلم للكون ويفسر بها الواقع ويواجه بها التحديات الأيديولوجية المعاصرة.
- اتسمت منهجية الكاتب في معالجة قضية العقل والنقل -في نظري- بالقصور والتقصير. أما القصور فلأنه اختار تقسيم الأدوار بين العقل والنقل، فجعل مجال الأول: المتغيرات وعالم الشهادة، والعلوم الاجتماعية،… إلخ وجعل مجال الثاني: الثوابت وعالم الغيب، والعلوم الطبيعية… إلخ. وهذا التصور يوحي أن العقل لا دخل له في المجالات المحددة للوحي، وأن الوحي لا تأثير له في المجالات المحددة للعقل وهذا تصور قاصر. أما التقصير فلأنه صور التكامل بين العقل والوحي من خلال ثلاثة عناصر، شرح الأول وترك العنصرين الآخرين مبهمين. (ص279).
- دعا الكاتب إلى ضرورة التقارب بين مدرستي السنة والشيعة، والسؤال المثار هو: ما المقصود بالتقارب؟ وما مجالاته؟ وما الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها؟ والدافع إلى هذه التساؤلات موقفان اثنان للكاتب.
الموقف الأول: حصره مصادر التجديد في مصادر التشريع عند الشيعة. وما كان الكاتب ليؤاخذ على هذا الموقف لو أن موضوع كتابه كان عن تجديد الفكر الشيعي، لكن الكتاب عن التجديد في الفكر الإسلامي الذي يرفض -هو نفسه- أن يرمز له بمدرسة واحدة. فلماذا تخلى الكاتب عن مقدماته الأساسية عند تحديده لمصادر التجديد في الفكر الإسلامي؟
الموقف الثاني: عَدَّ الكاتب ’’مدرسة أهل الرأي’’ ضمن الاتجاه المضخم لأثر العقل لأخذها بالقياس الذي لا تعُدُّهُ الشيعة الأمامية مصدراً للتشريع (ص320-324)، والسؤال المثار: ما المقاييس العلمية في تحديد الاتجاه المضخم للعقل؟ وما هو مبرر الكاتب في تصنيف القائل بالقياس ضمن هذا الاتجاه المضخم للعقل، وبالمقابل إعفاء القائل بمصدرية العقل للتشريع عن مثل هذا التصنيف؟
- لقد أضحت قضية أسلمة العلوم الاجتماعية من المسائل المتفق عليها، لكن الإشكال المركزي بعد هذا الاتفاق: ما هو المنهج المتبع في أسلمة هذه العلوم؟ لقد صرف الكاتب جهده في بيان مصادر منهج أسلمة العلوم الاجتماعية والتقنيات الميدانية المساعدة على ذلك لكنه لم يثر مشكلة المنهج. وكان ينتظر منه بعد أن عَدَّ منهج تجديد الفكر الإسلامي هو أصول الفقه والعلوم الاجتماعية -بعد إعادة صياغتها- أن يحدد طبيعة العلاقة بين المنهج الأصولي ومناهج العلوم الاجتماعية، ويعطي من خلال ذلك تصوره لمنهج أسلمة العلوم الاجتماعية ولكنه لم يفعل.
- والأهم من كل هذه الملاحظات هو السؤال الآتي: هل أجاب الكاتب عن مشكلة البحث وهي بلورة منهج إسلامي للتأصيل والتجديد؟
إن فصل الكاتب ابتداءً بين التأصيل والتجديد في المفهوم والمهام يقتضي منه صياغة منهج للتجديد وآخر للتأصيل، لكن الملاحظ أن الكاتب قصر بحثه على منهجية التجديد فقط؛ ومن جهة أخرى فقد أسهب في بيان مصادر التجديد وضوابطه وأبعاده ومحاوره والمشاكل المنهجية التي تعيق مساره ولم يخصص لمنهج التجديد إلا جملتين اثنتين، حيث قال: ’’… والمنهجية هي منهجية أصول الفقه الإسلامي، فضلاً عن العلوم الاجتماعية الحديثة بعد تنقيحها وتأصيلها وصياغتها إسلامياً’’ (ص216). وهذا الأمر يجعل الكتاب في مجمله حديثاً ’’على’’ منهج التجديد وليس ’’في’’ منهج التجديد
*
أضافة تعليق
آخر مقالات