-
محمد الناصري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين، وآتانا به من لم يؤت أحدا من العالمين، أنزله هداية عالمية دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتمة، ثم جعل له من نفسه حجة على الدهر قائمة.
والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، ووصيته القرآن، وميراثه القرآن، القائل "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
وبعد:
الموضوع الذي تعالجه هذه الورقة عنوانه: "النسخ في القرآن" وترجع صلتي بالموضوع إلى بحث نيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، عنوانه "العلاقة مع الآخر في ضوء الأخلاق القرآنية".
وكان هدفي من البحث: التأكيد على سلمية العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لا يدينون بدين الإسلام، وأنها علاقة قائمة على الأمن والسلم والتسامح، لتحقيق التواصل الفعلي، والتعارف والتفاعل الحضاري والتعاون الموصوف بالبر والتقوى.
وأنا أحاول التدليل على ذلك، اعترضتني مشكلة شائكة: تلك هي مشكلة القول بآية السيف أو آيات القتال التي حكم القائلون بها بنسخها لخمس وسبعين آية من الآيات القرآنية الداعية إلى السلم وحسن الجوار والمعاملة بالتي هي أحسن والصفح والعفو ... بما فيها الآيات التي هي من قواعد الإسلام الكلية مثل قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"[1].
القول بآية السيف حدا بالقائلين بها إلى اعتبار الحرب أصل العلاقة مع الآخر المخالف دينيا، وأن الكفر في ذاته سبب لمقاتلة أهله، وقسمت الأرض بناء على هذا القول إلى عوالم ثلاثة: دار الإسلام، دار العهد، دار الحرب، مما أثر سلبا في إفقار الخطاب القرآني من روح التسامح التي يتسم بها.
فوجدت نفسي أمام مشكلة شائكة تحتاج إلى الحل، فقررت بحث الموضوع مستقلا، فاخترت النسخ في القرآن موضوعا لورقتي هذه، وكل يقين بأن الموضوع يحتاج إلى كبير جهد وصبر، وكثير من العمق والهدوء ... وإلا فهو موضوع أكبر من أن يناقش في صفحات معدودة.
والخطة المتبعة في تناول الموضوع تقوم على دراسة المشكلة في محورين وخاتمة.
أما المحور الأول فهو يدور حول أهمية النسخ عند السلف ومعناه لغة وشرعا، وأنواعه وأدلته عندهم.
وبعد المحور الأول يجيء المحور الثاني لتفنيد دعوى النسخ في القرآن من خلال مناقشة أدلة القائلين به وتتبع سياقاتها، والوقوف على معنى "الآية" فيها.
وأخيرا تجيء الخاتمة، فتوجز أهم نتائج الورقة، وتقدم المقترحات التي هدي إليها.
المحور الأول : النسخ عند القائلين به
يشيع بين المسلمين أن قي القرآن الكريم آيات أحكامها ملغية، وأن هناك آيات قد رفع حكمها ولفظها، وأخرى قد رفع لفظها بينما حكمها باق ملزم.
وقد تلقت الأمة هذا الأمر بالقبول، بفضل إجماع علمائها على وقوع ذلك شرعا وجوازه عقلا، وقد ناقش علماء السلف هذا الأمر، تحت عنوان "علم الناسخ والمنسوخ"
و في فضل هدا العلم يقول القرطبي إن معرفة الناسخ والمنسوخ "أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، روى أبو البحتري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكر الناس، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال :فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا، قال : هلكت وأهلكت ومثله عن ابن عباس"[2].
وتظهر عناية علماء الأمة بموضوع الناسخ والمنسوخ من كثرة المؤلفات التي أفردوا له، إذ "أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون"[3]، كشفوا النقاب عن مواطنه وأزالوا الشبهات التي أحيطت بموضوعه، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر.
- ابن الجوزي الفقيه الحنبلي (ت 597هـ) صاحب كتاب "أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ.
- أبو جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي (ت338هـ) صاحب كتاب "الناسخ والمنسوخ.
- مكي بن أبي طالب القيسي (ت 313هـ) صاحب كتاب "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخة،وكتاب "الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكتب في الناسخ والمنسوخ كل من :
o قتادة بن دعامة من تابعي البصرة.
o أبو عبيد القاسم بن سلام.
o أبو داود السجستاني.
o أبو بكر ابن الأنباري.
o أبو بكر بن العربي المعافري.
النسخ ... الدلالة اللغوية والشرعية
يذكر اللغويون لمادة النسخ عدة معان تدور بين النقل والإبطال والإزالة، فيقولون نسخ زيد الكتاب إذا نقله عن معارضة (مقابلة) ونسخ النحل إذا نقله من خلية إلى أخرى، ويقولون نسخ الشيب الشباب إذا أزاله وحل محله، ويقولون : نسخت الريح آثار القوم إذا أبطلتها.
يقول ابن فارس: "النون والسين والخاء أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه، قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه، وقال آخرون قياسه تحويل شيء إلى شيء، وكل شيء خلف شيئا فقد اتتسخه وانتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب ومنه تناسخ الأزمنة والقرون"[4].
ويقول صاحب "لسان العرب" :"النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه ... النسخ تبديل الشيء من الشيء وغيره.
ونسخ الشيء بالشيء نسخه وانتسخه، أزاله به وأداله، والشيء ينسخ الشيء نسخا أي يزيله ويكون مكانه ...
والأشياء تناسخ، تداول فيكون بعضها مكان بعض كالدول والملك... والعرب تقول : نسخت الشمس الظل وانتسخته أزالته، والمعنى أذهبت الظل وحلت محله"[5].
وأمام هذه المعاني المتعددة للمادة نراهم يختلفون في أيها هو المعنى الحقيقي وأيها مجاز له، ثم يتجاوز هذا الخلاف دائرتهم إلى الأصوليين والمفسرين والمؤلفين في الناسخ والمنسوخ حين ينقلون عنهم.
فهذا أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم يقرر أن اشتقاق النسخ من شيئين أحدهما يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله، ونظير هذا "فينسخ الله ما يلقي الشيطان". والآخر من نسخت الكتاب إذا نقلته من نسخته وعلى هذا الناسخ والمنسوخ[6].
وهذا أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي صاحب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ينكر على النحاس إجازة أن يكون النسخ في القرآن بمعنى النقل، ويحكم بأن هذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن حيث قال: "وهذا المعنى ليس من النسخ الذي قصدنا إلى بيانه، إذ ليس في القرآن آية ناسخة لآية أخرى، كلاهما بلفظ واحد ومعنى واحد، وهما باقيتان، وهذا لا معنى لدخوله فيما قصدنا إلى بيانه.
وقد غلط في هذا جماعة، وجعلوا النسخ الذي وقع في القرآن مأخوذا من هذا المعنى، وهو وهم، وقد انتحله النحاس، وقال في كتابه "أكثر النسخ في الله عز وجل مشتق من نسخت الكتاب"، مع كلام بدل على هذا المذهب، هذا خطأ ليس في القرآن آية نسخت بآية في مثلها في لفظها ومعناها، وهما باقيتان، لأن معنى نسخت الكتاب، نقلت ألفاظه ومعانيه إلى كتاب آخر، وهذا ليس من النسخ الذي هو إزالة الحكم وإبقاء اللفظ، ولا من النسخ الذي هو إزالة الحكم واللفظ"[7].
في حين يذهب أبو البركات محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي، النحوي في كتابه "الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ" إلى ترجيح قول النحاس على قول مكي إذ قال : ويشهد لما قاله النحاس قوله تعالى "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون"[8]"[9].
وإذا تركنا المؤلفين في الناسخ والمنسوخ إلى الأصوليين نجدهم مختلفين كسابقيهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه فهم "يعنون غالبا ببيان المعنى الحقيقي للكلمة، وقد يعجزهم الوقوف على هذا المعنى فيحكمون بأن جميع معانيها حقيقة، وأنها من المشترك أو يحكمون بأن معانيها مجازية، وأنها كلمة شرعية عبر القرآن عن المراد منها بمادة أخرى هي التبديل، فهذه المادة هي أوجه ما تفسر به إذن.
فهذا السرخسي في أصوله بعد أن يذكر من معاني النسخ : النقل، والإبطال، والإزالة، يقرر بأن "كل ذلك مجاز لا حقيقة ... وأوجه ما قيل فيه أنه عبارة عن التبديل، من قول القائل: نسخت الرسوم، أي بدلت برسوم أخر"[10].
وأما الغزالي فهو يصور –في المستصفى- الاتجاه على الحقيقة في كل من الإزالة والنقل، ويقرر أن مادة النسخ مشتركة بينهما حيث يقول :"النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان، يقال نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها،[11] وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب، فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة".
إذا انتقلنا إلى المفسرين فإننا نلحظ نفس الملاحظة، وهو اختلافهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه، ومن أعجزه ذلك، اكتفى بإيراد آثار تحدد المراد بالنسخ دون ترجيح.
فهذا ابن كثير الدمشقي في تفسيره للآية 106 من سورة البقرة يقول: "قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه "ما ننسخ من آية "ما نبدل من آية، وقال ابن جرير : عن مجاهد " ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها، ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم وروى عن أبي العالية، ومحمد بن كعب نحو ذلك، وقال الضحاك "ما ننسخ من آية "ما ننسك. وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها، وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموها البتة". وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراما والحرام حلالا... وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله، ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"[12].
أما القرطبي في تفسيره فيحكم أن حقيقة النسخ الإبطال والإزالة يقول في تفسيره للآية106 من سورة البقرة "النسخ في كلام العرب على وجهين :
- أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر،وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى :"إذ كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه وإثباته.
- الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين :
o أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة أخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وهو معنى قوله تعالى :"ما نسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها".
o الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم، نسخت الريح الأثر ومن هذا المعنى قوله تعالى "فينسخ الله ما يلقي الشيطان"[13]. أي يزله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بد له"[14].
وهكذا يمضى المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون في سعيهم إلى تحديد معنى النسخ لغة قصد تبين حقيقته من مجازه.
والراجح عند أغلبهم أن مادة النسخ وضعت لتدل على معنى الإزالة، إذ يحكم أكثرهم أن الإزالة هي المعنى الحقيقي لمادة النسخ في القرآن.
إذا انتقلنا إلى البحث عن حقيقة النسخ الشرعية، بعد أن تبينا حقيقته ومجازه لغة، فإن ما نسجله ابتداء هو اختلاف الأصوليين في تعريف النسخ شرعا، تبعا لاختلافهم في تحديد معناه لغة.
وهكذا "نجد من الأصوليين من يعرفه بأنه بيان انتهاء مدة التعبد مع التراضي، ومن يعرفه بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، ومن يعرفه بأنه اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول، ومن يعرفه فيقول : هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه، ومن يذهب في تعريفه إلى أنه رفع تعلق مطلق بحكم شرعي ابتداء، ومن يضطرب فيحاول الجمع بين عدة اتجاهات في تعريفه، ومن يستوحي القرآن والسنة وكلام ا لمتقدمين فيعرفه، بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر"[15] .
والتعريف الأخير للنسخ –والذي مفاده بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- هو الراجح عند جمهور العلماء لأنه "تعريف واضح بسيط لا غموض فيه ولا تعقيد، وأنه يعود بالنسخ إلى مدلوله الأول، فيربط بينه وبين معناه اللغوي برباط وثيق، ويستمد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغة الصحابة والتابعين حقيقته الشرعية كما أنه تعريف جامع مانع لا يحمل نوعا من النسخ، ولا يسمح بدخول ما ليس بنسخ في نطاق النسخ كما حده، بالإضافة إلى أنه يعرفه على أنه هو فعل الشارع، وهذه هي حقيقته، والشارع وحده هو الذي يملك سلطة تقريره والقول به فيما شاء من أحكامه"[16].
إنها ملاحظات تجعل من تعريفنا هو الراجح "والجائز عند جمهور علماء الأمة"[17].
إذا كان التعريف الجائز والراجح عند الجمهور هو : رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، فإن سؤالا يواجهنا مفاده، ما المعنى الذي كانت تحمله "كلمة النسخ" في عصر الرسالة والصحابة والتابعين هل كان الصحابة يطلقون كلمة "النسخ" ويقصدون بها رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، أم كانوا يقصدون ما هو أعم؟.
إن الصحابة قد يطلقون كلمة النسخ ولا يقصدون بها المعنى الاصطلاحي كما هو عند الأصوليين، بل يقصدون ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل، وتقييد المطلق وتخصيص العام.
إلى هذا ذهب الشاطبي في موافقته وعبر عنه حين قال : "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين : فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا أعمال في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يعد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام من الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استعمل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد"[18].
ويورد الشاطبي مجموعة من الأمثلة على قضايا نسخ صحت روايتها عن الصحابة والتابعين، لتأكيد ما ذهب إليه من أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أعم منه عند الأصوليين، ونورد هاهنا بعضا منها لتبين المراد.
1.ما روي عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى :"من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد"[19] إنه ناسخ لقوله تعالى :"من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها"[20].
وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق ... وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
2.وهي أيضا مروية عن ابن عباس، إذ قال في قوله "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى نستأنسوا وتسلموا على أهلها"[21] إنه منسوخ بقوله "ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة"[22]. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله :"ليس عليكم جناح"[23] يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.
3.وهي كسابقتيها مروية عن ابن عباس، قال في قوله تعالى "قل الانفال لله والرسول"[24] منسوخ بقوله :"واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه"[25] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : "الله والرسول"[26].
نفهم مما سبق أن الصحابة كانوا يطلقون كلمة النسخ ويقصدون بها ما هو اعم من مدلول الأصوليين لكلمة النسخ الذي يعنون به "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر مع ما يفيد ذلك من إبطال للمنسوخ، وهم (أي الاوصوليون) يخالفون الصحابة في النسخ. وليس لقولهم مستند قوي. ذلك "أن من قرأ كتب الحديث الستة المعروفة أو التسعة بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدارمي، أو الأربعة عشر بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة، أو السبعة عشر بإضافة صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وأكثر منها : لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيـه : إن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة وقد بطل حكمها، أو يقول : إن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا ... مع أهمية هذا البيان وضرورة وحاجة المسلمين الماسة إليه، وقد قرر العلماء أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لما فيه من إضلال الناس عن الحقيقة"[27].
إذا كان الأمر كذلك بمعنى إذا خلت كتب الحديث الصحاح وغير الصحاح من حديث نبوي صحيح يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ آية متأخرة نزولا من القرآن لآية أخرى متقدمة عنها والقول بإبطال حكم الآية المتقدمة.
فمن أين جاء المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بأقوالهم التي توصل عدد الآيات المنسوخة إلى أزيد من مائتي آية.
والمحققون قد اشترطوا أن "الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص فهو عصر الرسالة، دون ما بعده، ومن ثم يجب أن ترفض كل دعوى نسخ لم تؤثر عن هذا العصر، وإنما حدث بعد مضيه؛ إذ لا ينبغي أن ينسخ نص تشريعي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم محكما ... ويزداد هذا وضوحا إذا نحن تركنا الزمن الذي يسوغ فيه النسخ إلى من له الحق في النسخ"[28].
وفي هذا يقول الشاطبي :إن "الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق"[29].
في نفس الاتجاه يقول السيوطي "قال ابن الحصار "... إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة يينه، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد"[30].
أمام هذه الحقيقة، كيف حكم المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بوقوع النسخ في القرآن دون اعتماد على نقل محقق، وكيف تلقت الأمة عنهم ذلك بالقبول؟ لن نتعقبهم بمزيد اعتراضات إضافية ونؤجل غيرها إلى حين معرفة أنواع النسخ التي قالوا بها، وأدلتهم التي ساقوها لتأكيد ما ذهبوا إليه.
النسخ ... حكمه ... أنواعه ... دليله ...
ذهب المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون إلى وقوع النسخ في القرآن، وحكموا بجوازه عقلا في الشريعة الواحدة وبين الشرائع، حيث إن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها.
وبناء على ما ذهبوا إليه قسموا النسخ إلى قسمين:
أولا : قوله تعالى :"ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها"[32].
ثانيا : قوله تعالى :"يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"[33].
ثالثا : قوله تعالى :"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل"[34]"[35].
وتبعا لذلك نوع القائلون بالنسخ في القرآن، القرآن إلى أنواع ثلاثة :
الأول : نسخ التلاوة والحكم معا : يدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن رواه الشيخان"[36].
الثاني : نسخ الحكم دون التلاوة : ويدل على وقوعه آيات كثيرة، منها آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة"[37]. منسوخة بقوله سبحانه: "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واطيعوا الله ورسوله"[38] على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية، مع أن تلاوة كلتيهما باقية"[39].
الثالث : نسخ التلاوة دون الحكم : ويدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا : كان فيما أنزل من القرآن، الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة" وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء، مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ"[40].
وأورد السيوطي في إتقانه مجموعة روايات يؤكد بها وقوع هذا النوع من النسخ في القرآن نورد بعضها :
قال "قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال : لا يقولن أحدكم : قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.
وقال : حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.
وقال : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال : قال لي أبي بن كعب كأي تعد سورة الأحزاب؟ قلت اثنين وسبعين آية او ثلاثا وسبعين أية قال إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم قلت وما آية الرجم؟ قال : "إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"[41].
المحور الثاني : تفنيد دعوى النسخ في القرآن
كنا نتحدث فيما سبق عن النسخ كأنه حقيقة لا جدال فيها لكن كيف يستقيم القول بأن في القرآن آيات أحكامها ملغية، وأن هناك آيات قد رفع حكمها ولفظها وأخرى قد رفع لفظها بينما حكما باق ملزم والله عز وجل يتعهد في قرآنه بحفظ آياته "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"[42].
- أليس في القول بالنسخ إخلال باطلاقية القرآن وإحكامه وحسن تفصيله ؟ أليس في القول بالنسخ تعارضا مع قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"[43] وقوله سبحانه "وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"[44]. ؟
- أليس في القول بالنسخ إقرارا باختلاف القرآن وتناقض آياته وهو المحال في حقه لقوله تعالى :"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"[45].
- ألم يحكم القرآن بخلود آياته، ويقر بأن خطابه عالمي إنساني شامل نزل ليرسم الطريق الصحيح للبشرية ويعالج مشكلاتها، ويضع حلولا لها في كل زمان ومكان، فيكف يمكن والحالة هذه ان نعمل بعض الآيات ونعطل بعضا بسبب القول بالنسخ؟
- كيف ننسخ النص القرآني الثابت القطعي بأخبار آحاد؟ وقد أكد العلماء عدم جواز نسخ القرآن بأخبار آحاد وفي مقدمتهم أولئك القائلون بالنسخ؟
- كيف يدعى النسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والعلماء قد اشترطوا أن الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص هو عصر الرسالة دون ما بعده؟
- كيف يتبدل الوحي ويتحول والله يحكم بأنه "لا تبديل لكلماته"[46].
إنها أسئلة تمثل اعتراضات وجيهة عن القول بالنسخ، وتزداد وجاهتها بالنظر إلى عدد الآيات التي حكم القائلون بالنسخ بنسخها، إذ "اعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة، مائة آية خمس وسبعون آية منسوخة بآية القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه، الناسخ والمنسوخ إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية ..."[47] في حين أوصلها "ابن الجوزي إلى مائتين وسبعة وأربعين آية"[48]. أغلبها منسوخ بآية السيف.
إن القول بنسخ هذا العدد من الآيات القرآنية أمر خطير يحتاج على أمر محقق،وهو الغائب في كثير من الكتابات التي ألفت في موضوع النسخ.
فالقول بآية السيف يعطل العمل بآيات قرآنية هي من القواعد الكلية والمبادئ العامة في الدين الإسلامي، من ذلك قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"[49] "ولو شاء ربك لأمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين"[50] "فاصفح الصفح الجميل"[51]"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"[52] وغيرها...
حيث "لم يترك الموسعون في النسخ آية تدعو إلى الرفق واللين أو العفو والصفح أو الصبر والدفع بالتي هي أحسن او غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام انه بعث ليتممها إلا قالوا عنها نسختها آية السيف"[53].
بعد هذا الاستطراد الضروري نعود لمعالجة الهدف الأساسي من هذا المحور وهو تفنيد دعوى النسخ في القرآن ولتحقيق ذلك لابد من :
1) مناقشة أدلة القائلين بالنسخ والرد عليها :
الأدلة التي استدل بها القائلون بالنسخ هي الآيات القرآنية :
1. "ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها، الم تعلم أن الله على شيء قدير"[54].
2. "وإذ بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما انت مفتر"[55]
3. "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلناهم أزواجا وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعند أم الكتاب"[56].
هذه هي الأدلة التي يحتج بها القائلون بالنسخ على وقوعه في القرآن الكريم ومن تم شريعة الإسلام، ولنا أن نتساءل.
- ما المراد "بالنسخ" في الآية 106 من سورة البقرة، أهو النسخ العام لشريعة بشريعة أخرى، وقد تحقق للإسلام نسخة كل شريعة سبقته أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟
- ما المراد بالمحو والإثبات "في الآيتين 39-40 من سورة الرعد أهو التنويع في معجزات الأنبياء والرسل، فتمحى معجزة رسول لتحل معجزة الرسول الآخر محلها أي ليثبت بدلا منها، أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟.
- وما المراد بالتبديل في الآية 101 من سورة النحل أهو وضع شيء مكان شيء آخر دون إلغاء له ولا إبطال يعني مع بقاء صلاحيته وفعاليته، أم هو التبديل بمعنى الإزالة والإبطال مما ينسجم ومدلول النسخ عند الأصوليين؟
إن السبيل لمعرفة المراد في كل آية آية، هو تتبع سياق كل آية، ذلك أن دلالة كل آية متوقعة على سياق ورودها، وإنا لنؤكد هذا ونوضحه هنا بالاحتكام إلى السياق نفسه :
1. ونبدأ بالآيتين 39-40 من سورة الرعد :
إن الآيات التي قبل هذه الآية تقول : "وكذلك أنزلناه حكما عربيا، ولئن اتبعت اهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، لكل أجل كتاب"[57].
والآيات التي بعدها تقول :
"وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم او نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب"[58].
ما الذي يشهد له السياق في بيان المراد بالمحو والإثبات في الآية ؟ "يمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله وهو المرجع الأخير، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة، ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته، فليقف عندما أنزل عليه لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة، أما الذين يطلبون منه آية، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ"[59].
"فمجال المحو والإثبات هو الشرائع إذن يمحو الله ما يشاء محوه فيها ليثبت بدلا منه ما يشاء إثباته، وهو معجزات الرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه دعاة إلى توحيده وعبادته، يمحو معجزة رسول منها ليثبت بدلا منها معجزة أخرى، للرسول الذي يبعث بعده"[60].
"وهنا نستطيع أن نقرر في شيء من الطمأنينة أن مجال المحو والإثبات في آيتنا هو الشرائع والمعجزات، لا الأحكام في الشريعة الواحدة، فقد عالجت الآيات قبلها وبعدها إنزال القرآن وإرسال الرسل وتأبيدهم بالمعجزات حسب مشيئة الله وبإذنه ثم توعدت أولئك الذين أنكروا رسالة محمد، وتساءلت في إنكار قائلة أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" لم تحدثت عن مكر الذين كانوا قبل قوم محمد لتقول لهم "فلله المكر جميعا" ثم حكت إنكارهم لرسالته لترد عليهم، مؤكدة أنه الله –وهو الذي عنده علم ما كان في كتبهم على الحقيقة- يستشهد بينه وبينهم ويومئذ سيعلم الكفار من الذي سينعم بالآخرة وستكون له العقبى"[61].
إذا مجال المحو والإثبات في الآيتين 39-40 من سورة الرعد هو الشرائع والمعجزات وعليه نستطيع أن نقرر دون تردد بطلان دعوى اعتبارهما دليل على وقوع النسخ الجزئي في الشريعة الواحدة ومن تم تنفيذ دعوى النسخ في القرآن بناء على هذا الدليل.
فهذا دليل من الأدلة الثلاثة التي استند عليها القائلون بالنسخ اتضح بطلانه فماذا عن الدليلين الآخرين؟
2.ومنها الآية 106 من سورة البقرة وهي قوله تعالى :"ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها الم تعلم أن الله على شيء قدير"
إن الآيات التي قبل هذه الآيات تقول :
"يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم، ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" [62]
والآيات التي بعدها تقول :
"أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير"[63].
فماذا يعني قوله تعالى "ما ننسخ" في هذا السياق ؟
أهو النسخ العام لشريعة بشريعة أخرى، وقد تحقق للإسلام نسخه كل شريعة سبقته أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟
يمضي السياق "في كشف دسائس اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين وتحذير الجماعة المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم، وما تكنه نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر، وما يبتون لهم من الكيد والضر، ونهى الجماعة المسلمة عن التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في قول أو فعل، ويكشف للمسلمين عن الأسباب الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال اليهود وأفعالهم، وكيدهم ودسهم وألاعيبهم وفتنهم التي يطلقونها في الصف الإسلامي"[64].
السؤال هاهنا لما اشتد غيظ اليهود واشتد كيدهم للمسلمين، وزاد حقدهم عن المومنين؟
"اشتدت هذه الحملة عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اتجه بالصلاة عقب الهجرة إلى بيت المقدس، قبلة اليهود ومصلاهم، فاتخذ اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة، مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب ولا يصرح في التحول عن بيت المقدس على الكعبة، بيت الله المحرم، وظلت هذه الرغبة تعتمل في نفسه حتى استجاب له ربه فوجهه إلى القبلة التي يرضاها كما سيجيء في سياق السورة ونظرا لما يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل فقد عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة، فشنوها حملة دعاية ماكرة في وسط المسلمين، بالتشكيك في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحة تلقيه عن الوحي ...
ويمضي السياق في هذا الدرس على هذا النحو، حتى ينتهي إلى أن يضع المسلمين وجها لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود، والنصارى،.. إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم[65].
في هذا السياق يأتي قوله تعالى "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" فالمناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، كما يدل سياق الآية وما بعدها.
بنا عليه نستطيع القول بأن النسخ الوارد هنا هو نسخ بين ملة أهل الكتاب وملة أهل القرآن نسخ عام لشريعة أهل الكتاب بشريعة الإسلام، وليس نسخا جزئيا واقعا في القرآن الكريم.
وقد فسر محمد عبده "الآية في قوله تعالى :"ما ننسخ من آية" بالمعجزة استنادا إلى فاصلة الآية "فإن ذكر القدرة والتقرير بها لا يناسب موضوع الأحكام ونسخها، وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة.
يقول محمد عبده في تفسير للآية 106 " والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى أخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بما جاء بها فإننا بما لنا من القدرة التامة والتصرف في الملك نأت بخير منها من قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك.
ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء وسميت جمل القرآن آيات لأنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل من قبيل تسميته الخاص باسم العام"[66].
ويرى محمد عبده أن السياق البلاغي للآية يقتضي أن يكون نسخ الآيات بمعنى الدلائل دون الأحكام الشرعية إذ لا معنى لأن يعقب الآية مباشرة "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير" ويعقب هذه الآية بقوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" وماذا كان يسأل موسى من قبل؟ كان يسأل من قومه بني إسرائيل ومن قوم فرعون على السواء ... آيات وخوارق، فجاء القرآن ليقول للناس انتهى زمن الخوارق. إذا فالآية في قوله " ما ننسخ من آية" هي المعجزة، وليس النص القرآني.
وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، كما يدل سياق الآية وما بعدها أم معنى الآية المعجزة، فالآية 106 من سورة البقرة لا تدل بوجه على وقوع النسخ الجزئي في القرآني، وإلى هذا ذهب الفخر الرازي في تفسيره أن الآية لا تدل على وقوع النسخ، قال "واعلم أن الاستدلال بهذه الآية على وقوع النسخ ضعيف، لأن " ما هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك "من جاءك فأكرمه" لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه..."[67].
2) الدليل الثالث الذي يستند عليه القائلون بالنسخ هو الآية 101 من سورة النحل وهي قوله تعالى :"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل"[68].
3) تأتي الآية في سياق الحديث عن موقف المشركين من نزول القرآن ووجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءته، ونفي سلطان الشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم، وبيان جهل المشركين بحقيقة ما أنزل الله، وأنه ليس من افتراء محمد وإنما هو تنزيل من رب العالمين، لكن سؤالا يواجهنا مفاده : ما مدلول كلمة "بدلنا" ؟ هل تفيد النسخ؟
إن التبديل هنا غير النسخ، خاصة إذا علمنا أن حقيقة النسخ عند الأصوليين تعني الإزالة والإبطال[69].
والتبديل يعني وضع شيء مكان شيء آخر دون إلغاء له ولا إبطال أي بقاء صلاحية المبدل (بفتح الدال) وفعاليته، فقد تتعدد الحلول، وتختلف باختلاف الأزمنة وتعدد الأمكنة.
وهنا يكمن سر صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وهنا يكمن سر حكمة التدرج في التشريع فإذا كان التشريع قد انتهى وكمل، فإن الوقائع والأحداث لم تنقضي ولن تنقطع، فوجب استعمال التدرج في التنزيل وفق التدرج في الإنزال.
ونورد هنا مثالا لتأكيد صحة ما ذهبنا إليه يقول الله عز وجل في شأن "الخمر" "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"[70] ويقول "يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"[71] ويقول "إنما الخمر والميسر والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[72].
قد يقول قائل إن آية المائدة ناسخة للآيتين اللتين سبقتاها "وأنا لا أنظر إلى الأمر بهذه الصورة، وأرى أن الآيات كلها متكاملة، ويجب أن نأخذها من الآية الأولى حتى الآية الأخيرة ككل واحد فضلا عن أن الآية الأخيرة لا تتضمن نسخا بالمعنى المألوف فلم يقل القرآن أبدا "أشربوا الخمر" ثم عاد فقال "لا تشربوا الخمر" إن هذا لم يحدث ولو حدث لكان ناسخا ولكن الذي وجد درجات متفاوتة ولكنها مترابطة من النهي تمثل الحكمة في التشريع هي التدرج ولما كانت مثل هذه الحكمة من الناحية الموضوعية لا يمكن أن تنسخ وأنها تظل دائما حكمة فإنها تظل دائما حكمة فإنها تطبق مرة وأخرى عندما توجد الظروف والملابسات التي أوجبت تطبيقها أول مرة. وقد طبق القرآن الكريم هذا الأسلوب للحكمة التي صورتها عائشة في حديث طويل رواه البخاري. وجاء فيه "ولو نزل أول شيء" لا تشربوا الخمر" لقالوا "لا ندع الخمر أبدا" .. ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا "لا ندع الزنا ابدا" فاقتضت حكمة التشريع التدرج. وهذا بعيد كل البعد عن النسخ لأنه يمكن كما ذكرنا أن يتكرر إذا تكررت الحكمة التي تطلبته، إذ الحكمة لا تنسخ ولا تبطل، وإنما تظل قائمة، فإذا مست الحاجة إليها أخذ بها، وأقرب شيء إلى هذا ظهور الإسلام بين قوم يغرمون بالخمر غرام العرب بها، أو ربما أشد كما هو الحال في بعض الدول اللوربية التي يعد تحريم الخمر أكبر عقبة في سبيل إسلامهم، ولا ريب أن إسلام هؤلاء مع استمرارهم فيما ألفوه لو أسلموا فسيمكن بعد فترة حملهم على الإقلاع عن الخمر أو سيخرج الله من أصلابهم من لا يشربون الخمر أصلا. والأخذ بالنسخ يستبعد الأخذ بهذا الأسلوب، وليس هذا مجرد افتراض. فقد حدث بالفعل. وقد روى أحد المؤرخين أنه في سنة 987م أراد القيصر فلاديمير حاكم روسيا وقتئذ أن يتخير لشعبة الذي كان وثنيا دينا سماويا وطلب ممثلين للأديان الثلاثة (الإسلام – المسيحية – اليهودية) وكان أقرب الأديان الثلاثة إليه الإسلام خاصة وأنه كان يحتفظ بزوجتين فضلا عن عدد من السرارى ولكن ما إن قالوا إن الإسلام يحرم الخمر حتى قال "آسف إن شعبي يجد متعته الكبرى في الخمر" واختار المسيحية وجعلها دينا رسميا وعاما لروسيا ومن ثم اعتبرته الكنيسة قديسا.
فلو كان لدى الدعاة الإسلاميين الحكمة والفطنة ولولا ما سبق من دعاوى النسخ المؤكدة والمسجلة في كتب الفقه لكان من الممكن إرجاء الإشارة إلى تلك القضية التي لا تعد من الأركان الخمسة للإسلام وكان لهم في هذا سندا من حكمة التشريع وكان يمكن إقامة مجتمع إسلامي يشرب أفراده الخمر كما شرب الصحابة قبل التحريم حتى يأتي يوم يمكن فيه تحريم الخمر.[73.
إذن التبديل لا يعني بحال النسخ، ومن ثم بطلان الاستناد على الآية 101 للقول بالنسخ في القرآن.
اتضح من خلال تتبع سياق الآيات التي استدل بها علماء السلف على وقوع النسخ في القرآن، أنها آيات عامة يمكن الاستدلال بها على وقوع :
- النسخ في الآيات الكونية.
- النسخ في آيات (معجزات) الأنبياء.
- النسخ بالشريعة الخاتمة لما قبلها من الشرائع
في حين حصرها القائلون بالنسخ في كونها أدلة على وقوع النسخ في القرآن وهو محال لأن القرآن "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"[74]، وهذا ما يظهر في قوله تعالى في الآية التي لم يذكرها المدافعون عن النسخ، حين ورد الإحكام في مقابل النسخ وهي "وما أرسلنا من قلبك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم"[75].
إن أدلة القائلين بالنسخ –عامة تدل على النسخ في عمومه، أما بالنسبة للنسخ في القرآن فلم يرد ولا دليل قطعي يفيد وقوع النسخ فيه.
2) لتأكيد ما ذهبنا إليه نقف على مدلول لفظ "الآية" في القرآن الكريم.
وقد ذكرت كلمة آية في القرآن الكريم على ما ذكر محمد عبد الباقي في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم في المرات التالية، وعنه ننقلها هنا.
"مات ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"[76]
"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية"[77]
"ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك"[78]
"سل بني اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة"[79]
"وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"[80]
"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"[81]
"وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس"[82]
"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"[83]
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس"[84]
"أني قد جئتكم بآية من ربكم"[85]
"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"[86]
"وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعوني"[87]
"تكوم لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك"[88].
"وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين"[89]
"وإن بروا كل آية لا يؤمنوا بها"[90]
"أن تبتغي نفقا في الأرض او سلما في السماء فتأتيهم بآية"[91]
"وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه"[92]
"قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون"[93]
"وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها" [94]
"وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي"[95].
"هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله"[96]
"قال إن كنت جئت بآية فأت بها عن كنت من الصادقين"[97]
"وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين"[98].
"وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها"[99].
"وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها"[100].
"ويقولون لولا انزل عليه آية من ربه"[101].
"فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" [102]
"ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم"[103].
"ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل"[104].
"إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة"[105].
"وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها"[106].
"ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه"[107].
"ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه"[108].
"وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللهّ[109].
"إن في ذلك لآية للمؤمنين"[110].
"إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"[111].
"إن في ذلك لآية لقوم يذكرون"[112].
"إن في ذلك لآية لقوم يسمعون"[113].
"إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"[114]
"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر"[115].
"وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل"[116] .
"وجعلنا آية النهار مبصرة"[117]
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس"[118]
"ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا"[119].
"تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى"[120].
"قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى"[121].
"وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه"[122].
"بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون"[123].
"فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين"[124] .
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآيناهما إلى ربوة"[125]
"لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية"[126].
"إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين"[127].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[128].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[129].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[130].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[131].
"أتبنون بكل ريع آية تعبثون"[132].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[133]
"ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين"[134]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[135]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[136]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[137]
"أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل"[138].
"إن في ذلك لآية لقوم يعلمون"[139].
"فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين"[140].
"ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون"[141].
"إن في ذلك لآية للمؤمنين"[142].
"ولئن جئتم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون"[143].
"إن في ذلك لآية لكل عبد منيب"[144].
"لقد كان لسبإ في مسكنهم آية"[145].
"وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا"[146].
"وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون"[147].
"وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون"[148].
"وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين"[149].
"وإذا رأوا آية يستسخرون"[150].
"وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله"[151].
"وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها"[152].
"ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما"[153].
"وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم"[154].
"وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر"[155].
"ولقد تركناها آية فهل من مدكر"[156].
"فأراه الآية الكبرى"[157] .
بناء على هذا التتبع لكلمة "آية" في القرآن الكريم نجد ان لفظ "آية" في القرآن لا يعني أبدا نص أو جملة قرآنية، وإنما يعني "الآيات الكونية (الشمس –القمر- الليل – النهار- الموت... والمعجزات والخوارق المتعلقة بالأنبياء وقصصهم "وجعلنا ابن مريم وأمه آية"[158] عصا موسى جسد فرعون..وتاريخ الأمم السابقة "لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية"[159].
إذا كان القرآن لا يستخدم لفظ "الآية" بمعنى النص أو الجملة القرآنية فلماذا استثنى القائلون بالنسخ الآيات الثلاث التي استدلوا بها واعتبروا لفظ الآية فيها دالا على النص القرآني/ الجملة القرآنية مما ينسجم وقولهم بالنسخ في آيات القرآن.
2. مناقشة شروط النسخ :
اشترط القائلون بالنسخ لوقوعه شروطا أهمها أنه لابد في تحقيق النسخ من ورود دليلين عن الشارع، وهما متعارضان تعارضا حقيقيا، لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل، وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر احدهما ناسخا والآخر منسوخا، دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم"[160].
ويظهر من قولهم هذا أن مسوغهم للقول بالنسخ هو تناقض الآيات وتعارضها، فهل وقع تعارض بين نصين تشريعيين، مع أن أحكام الشريعة الواحدة الصادرة عن المعصوم لا تقبل التناقض؟
إننا نقطع في حسم بأن لا تناقض في كلام الشارع، وإنما التناقض كما يقول الشاطبي- في الأذهان وليس في الأفهام[161] ومستندنا في هذا الحكم هو الاستقراء التام، فقد أثبت هذا الاستقراء بيقين أن التعارض –كما حده الأصوليون وشرطوا فيه- لم يقع بين نصين شرعيين. هنا نتساءل ما دام التعارض مستحيل الوقوع، فكيف وقع النسخ مع أنه ينبني على التعارض؟
خاتمـــــــة :
نستطيع أن نقرر بعد هذا –وبكل طمأنينة- بطلان دعوى القول بالنسخ وتفنيد وقوعه في القرآن الكريم، لأنها دعوى لا تستند على دليل واحد قطعي الدلالة إنما مجمل القول عند القائلين بالنسخ هو "قيل وقيل"
وعليه تقرر بهدوء بأنه "لا نسخ في القرآن الكريم.
والله أعلم
توصيات ومقترحات
نقترح في ختام بحثنا هذا :
1. إن على الفكر الإسلامي المعاصر تحرير القول الفصل بخصوص موضوع النسخ في القرآن : إن إقرار أو إنكارا، حتى يتسنى للمسلم الدفاع عن الشريعة الإسلامية السمحة ومجاهدة أعدائها.
2. إن الناسخ والمنسوخ في السنة النبوية الكريمة يجب أن يحظى بنفس عناية موضوع النسخ في القرآن على اعتبار مكانة السنة في التشريع الإسلامي.
3. أن تقوم مراكز البحوث والمعاهد العلمية ووزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في مختلف بلدان العلام الإسلامي، بتحقيق ونشر بعض الكتب المخطوطة في موضوع الناسخ والمنسوخ وتكليف أهل الاختصاص بدراستها ونقدها وتمحيصها وفق المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل.
لائحة المصادر والمراجع
(مرتبة حسب ورودها في البحث)
1) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الحديث، القاهرة، طبعة 1413هـ/2002م.
2) جلال الدين بن عبد الرحمان السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، ط1425هـ/2004م.
3) أحمد بن فارس بن زكرياء أبو الحسن، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون،دار الجيل، د.ت.
4) محمد جمال الدين بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت.
5) مصطفى زيد، النسخ في القرآن، دراسة تشريعية تاريخية، نقدية، دار الوفاء المنصورة،الطبعة 3، 1408/1987م.
6) أبو الفداء اسماعيل بن كثير، تفسير القرآن الكريم، دار الجيل، بيروت، د.ت.
7) ابراهيم بن موسى أبو اسحاق الشاطبي اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، تعليق محمد عبد الله دراز، المكتبة التوفيقية، القاهرة، طبعة 2003م.
8) يوسف القرضاوي، جريدة التجديد، يومية شامة، المغرب.
9) محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط 1412هـ/1995م.
10) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، ط1، 1415هـ/1995م.
11) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق الطبعة الشرعية الثلاثون، 1422هـ/2001م.
12) محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار، دار الفكر، ط2، د.ت.
13) الفخر الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، ط3، 1405هـ/1985م.
14) جمال البنا، تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم، دار الفكر الإسلامي، ط1، 2004.
[1] - سورة البقرة، الآية 256.
[2] - راجع، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، درا الحديث، القاهرة، ط1423هـ/ 2002م، ج1، ص479.
[3] - انظر، السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، ط1425/2004، ص517.
[4] - ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الجيل، مادة :نسخ".ج5، ص424-425.
[5] - ابن منظور : لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، مادة "نسخ"، ج3، ص61.
[6] - انظر : مصطفى زيد : النسخ في القرآن : دراسة تشريعية، تاريخية، نقدية، دار الوفاء المنصورة، ط3، 1408هـ/1989م، ج1، ص55.
[7] - السيوطي، م.س.، ص518.
[8] - الجاثية، 29.
[9] - السيوطي، م.س، ص518.
[10] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص60-61.
[11] - نفسه،ج1، ص61.
[12] - ابن كثير تفسير القرآن العظيم، دار الجيل بيروت، د.ت، ج1، ص142.
[13] - سورة الحج، الآية 25.
[14] - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م.س.، ج1، ص 479-480.
[15] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص97.
[16] - نفسه، ص105.
[17] - راجع : محمد الحفناوي، دراسات في القرآن الكريم، ط. دار الحديث، والقول وراد في القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م.س.، ج1، ص382، الهامش رقم1.
[18] - الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة التوفيقية، د.ت، ج3، ص89-90.
[19] - سورة الإسراء، الآية 18.
[20] - سورة الشورى، الآية 20.
[21] - سورة النور، الآية 27.
[22] - سورة النور، الآية 29.
[23] - سورة النور، الآية 29.
[24] - سورة الأنفال، الآية 01.
[25] - سورة الأنفال، الآية 41.
[26] - سورة الأنفال، الآية 01.
[27] - يوسف القرضاوي، جريدة التجديد، قضايا وآراء، الحلقة العاشرة، عدد 733 الجمعة –الأحد 16-18 جمادى الثانية 1424هـ/مواقف 15-17 غشت 2003م، ص17.
[28] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص174.
[29] - الشاطبي، الموافقات، م.س.، ج3، ص87.
[30] - السيوطي، م.س.، ص 528-529.
[31] - راجع : محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط 1412هـ/1991م، ج2، ص 103، ومصطفى زيد / م.س.، ج1، ص 50.
[32] - سورة البقرة، الآية 106.
[33] - سورة الرعد، الآية 39.
[34] - سورة النحل، الآية 101.
[35] - انظر محمد عبد العظيم الزرقاني، م.س.، ج2، ص89.
[36] - السيوطي، م.س.، ص520. الزرقاني، م.س.، ج2، ص110.
[37] - المجادلة، الآية 12.
[38] - سورة المجادلة، الآية 13.
[39] - الزرقاني، م.س.، ج2، ص110-111.
[40] - نفسه، ج1، ص111.
[41] - راجع : السيوطي، م.س.، ص529.
[42] - الحجر، الآية 9.
[43] - سورة هود، الآية 01.
[44] - فصلت، الآيتان : 41-42.
[45] - سورة النساء، الآية 82.
[46] - سورة الكهف، الآية 27.
[47] - محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، ط1، 1415هـ/1995م، ص 207.
[48] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص405.
[49] - سورة البقرة، الآية 256.
[50] - سورة يونس، الآية 99.
[51] - سورة الحجر، الآية 85.
[52] - سورة السجدة، الآيتان 34-35.
[53] - يوسف القرضاوي، م.س. ص18.
[54] - سورة البقرة، الآية 106.
[55] - سورة النحل، الآية 101.
[56] - سورة الرعد، الآيتان : 39-40.
[57] - سورة الرعد، الآيتان، 37-38.
[58] - سورة الرعد، الآيتان 40-41.
[59] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، الطبعة الشرعية الثلاثون 1422هـ/2001م، ج3، ص2064.
[60] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص 246-247.
[61] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص248.
[62] - سورة البقرة، الآيتان، 104-105.
[63] - سورة البقرة، الآيات : 107-109.
[64] - سيد قطب، م.س.، ج1، ص99.
[65] - سيد قطب، م.س.، ج1، ص99-100.
[66] - محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، دار الفكر، ط2، د.ت.، ج1، ص417.
[67] - الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م، ج2، م3-4، ص248.
[68] - سورة النحل، الآية 101.
[69] - راجع مصطفى زيد، م.س./ ج1، ص65.
[70] - سورة البقرة، الآية 219.
[71] - النساء، الآية 43.
[72] - سورة المائدة، الآية 90-91.
[73] - جمال البنا، تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم، درا الفكر الإسلامي، ط1، 2004م، ص 93-94.
[74] - هود، الآية 01.
[75] - الحج، 52.
[76] - البقرة 102.
[77] -البقرة 118.
[78] - البقرة 145.
[79] - البقرة، 211.
[80] - البقرة، 248.
[81] - البقرة 248.
[82] - البقرة 259.
[83] - آل عمران 13.
[84] - آل عمران، 41.
[85] - آل عمران 49.
[86] - آل عمران 49
[87] - آل عمران 50.
[88] - المائدة 114.
[89] - الأنعام، 4.
[90] - الأنعام، 25.
[91] - الأنعام، 35.
[92] - الأنعام، 37.
[93] - الأنعام، 37.
[94] - الأنعام 109.
[95] - الأنعام 124.
[96] - الأعراف 73.
[97] - الأعراف 102.
[98] - الأعراف، 123.
[99] - الأعراف، 136.
[100] - الأعراف، 203.
[101] - يونس، 20.
[102] - يونس، 92.
[103] - يونس 97.
[104] - هود، 64.
[105] - هود، 103.
[106] - يوسف، 105.
[107] - الرعد، 7.
[108] -الرعد 27.
[109] - الرعد، 38.
[110] - الحجر 77.
[111] - النحل 11.
[112] - النحل 13.
[113] - النحل 65.
[114] - النحل 69.
[115] - النحل 101.
[116] - الإسراء 12.
[117] - الإسراء 12.
[118] - مريم 10.
[119] - مريم 21.
[120] - طه 22.
[121] - طه 47.
[122] - طه 133.
[123] -الأنبياء 5.
[124] - الأنبياء 91.
[125] - المؤمنون 50.
[126] - الفرقان 37.
[127] - الشعراء 4.
[128] - الشعراء 8.
[129] -الشعراء 67.
[130] - الشعراء 103.
[131] - الشعراء 121.
[132] - الشعراء 128.
[133] - الشعراء 139.
[134] - الشعراء 154.
[135] - الشعراء 158.
[136] - الشعراء 174.
[137] - الشعراء 190.
[138] - الشعراء 197.
[139] - النمل 52.
[140] - العنكبوت 15.
[141] - العنكبوت 35.
[142] - العنكبوت 44.
[143] - الروم 58.
[144] - سبأ 9..
[145] - سبأ 15.
[146] - يس 33.
[147] - يس 37.
[148] - يس 41.
[149] - يس 46.
[150] - الصافات 14.
[151] - غافر 78.
[152] - الزخرف 48.
[153] - الفتح 20.
[154] - الذاريات 37.
[155] - القمر 2.
[156] - القمر 15.
[157] - النازعات 20.
[158] - المومنون، الآية 50.
[159] - الفرقان، الآية 37.
[160] - راجع، محمد عبد العظيم الزرقاوي، م.س.، ج2، ص
[161] - الشاطبي، م.س.، ج3، ص274.
*الملتقى الفكري
| فلسفة التجديد | قضايا التجديد | مدارس الإصلاح والنهضة |المرأة | الفلسفة والمعرفة | إصلاح التعليم | الإسلام والغرب | مراجعات وعروض | حــوارات | مؤتمرات | سجل الزوار | تواصل معنا | مواقع | البحث | اجعلنا صفحتك الأولى
جميع الحقوق محفوظة لموقع الملتقى الفكري للإبداع © 2007 - 2008
النسخ في القرآن |
محمد الناصري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين، وآتانا به من لم يؤت أحدا من العالمين، أنزله هداية عالمية دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتمة، ثم جعل له من نفسه حجة على الدهر قائمة.
والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، ووصيته القرآن، وميراثه القرآن، القائل "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
وبعد:
الموضوع الذي تعالجه هذه الورقة عنوانه: "النسخ في القرآن" وترجع صلتي بالموضوع إلى بحث نيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، عنوانه "العلاقة مع الآخر في ضوء الأخلاق القرآنية".
وكان هدفي من البحث: التأكيد على سلمية العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لا يدينون بدين الإسلام، وأنها علاقة قائمة على الأمن والسلم والتسامح، لتحقيق التواصل الفعلي، والتعارف والتفاعل الحضاري والتعاون الموصوف بالبر والتقوى.
وأنا أحاول التدليل على ذلك، اعترضتني مشكلة شائكة: تلك هي مشكلة القول بآية السيف أو آيات القتال التي حكم القائلون بها بنسخها لخمس وسبعين آية من الآيات القرآنية الداعية إلى السلم وحسن الجوار والمعاملة بالتي هي أحسن والصفح والعفو ... بما فيها الآيات التي هي من قواعد الإسلام الكلية مثل قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"[1].
القول بآية السيف حدا بالقائلين بها إلى اعتبار الحرب أصل العلاقة مع الآخر المخالف دينيا، وأن الكفر في ذاته سبب لمقاتلة أهله، وقسمت الأرض بناء على هذا القول إلى عوالم ثلاثة: دار الإسلام، دار العهد، دار الحرب، مما أثر سلبا في إفقار الخطاب القرآني من روح التسامح التي يتسم بها.
فوجدت نفسي أمام مشكلة شائكة تحتاج إلى الحل، فقررت بحث الموضوع مستقلا، فاخترت النسخ في القرآن موضوعا لورقتي هذه، وكل يقين بأن الموضوع يحتاج إلى كبير جهد وصبر، وكثير من العمق والهدوء ... وإلا فهو موضوع أكبر من أن يناقش في صفحات معدودة.
والخطة المتبعة في تناول الموضوع تقوم على دراسة المشكلة في محورين وخاتمة.
أما المحور الأول فهو يدور حول أهمية النسخ عند السلف ومعناه لغة وشرعا، وأنواعه وأدلته عندهم.
وبعد المحور الأول يجيء المحور الثاني لتفنيد دعوى النسخ في القرآن من خلال مناقشة أدلة القائلين به وتتبع سياقاتها، والوقوف على معنى "الآية" فيها.
وأخيرا تجيء الخاتمة، فتوجز أهم نتائج الورقة، وتقدم المقترحات التي هدي إليها.
المحور الأول : النسخ عند القائلين به
يشيع بين المسلمين أن قي القرآن الكريم آيات أحكامها ملغية، وأن هناك آيات قد رفع حكمها ولفظها، وأخرى قد رفع لفظها بينما حكمها باق ملزم.
وقد تلقت الأمة هذا الأمر بالقبول، بفضل إجماع علمائها على وقوع ذلك شرعا وجوازه عقلا، وقد ناقش علماء السلف هذا الأمر، تحت عنوان "علم الناسخ والمنسوخ"
و في فضل هدا العلم يقول القرطبي إن معرفة الناسخ والمنسوخ "أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، روى أبو البحتري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكر الناس، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال :فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا، قال : هلكت وأهلكت ومثله عن ابن عباس"[2].
وتظهر عناية علماء الأمة بموضوع الناسخ والمنسوخ من كثرة المؤلفات التي أفردوا له، إذ "أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون"[3]، كشفوا النقاب عن مواطنه وأزالوا الشبهات التي أحيطت بموضوعه، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر.
- ابن الجوزي الفقيه الحنبلي (ت 597هـ) صاحب كتاب "أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ.
- أبو جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي (ت338هـ) صاحب كتاب "الناسخ والمنسوخ.
- مكي بن أبي طالب القيسي (ت 313هـ) صاحب كتاب "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخة،وكتاب "الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكتب في الناسخ والمنسوخ كل من :
o قتادة بن دعامة من تابعي البصرة.
o أبو عبيد القاسم بن سلام.
o أبو داود السجستاني.
o أبو بكر ابن الأنباري.
o أبو بكر بن العربي المعافري.
النسخ ... الدلالة اللغوية والشرعية
يذكر اللغويون لمادة النسخ عدة معان تدور بين النقل والإبطال والإزالة، فيقولون نسخ زيد الكتاب إذا نقله عن معارضة (مقابلة) ونسخ النحل إذا نقله من خلية إلى أخرى، ويقولون نسخ الشيب الشباب إذا أزاله وحل محله، ويقولون : نسخت الريح آثار القوم إذا أبطلتها.
يقول ابن فارس: "النون والسين والخاء أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه، قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه، وقال آخرون قياسه تحويل شيء إلى شيء، وكل شيء خلف شيئا فقد اتتسخه وانتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب ومنه تناسخ الأزمنة والقرون"[4].
ويقول صاحب "لسان العرب" :"النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه ... النسخ تبديل الشيء من الشيء وغيره.
ونسخ الشيء بالشيء نسخه وانتسخه، أزاله به وأداله، والشيء ينسخ الشيء نسخا أي يزيله ويكون مكانه ...
والأشياء تناسخ، تداول فيكون بعضها مكان بعض كالدول والملك... والعرب تقول : نسخت الشمس الظل وانتسخته أزالته، والمعنى أذهبت الظل وحلت محله"[5].
وأمام هذه المعاني المتعددة للمادة نراهم يختلفون في أيها هو المعنى الحقيقي وأيها مجاز له، ثم يتجاوز هذا الخلاف دائرتهم إلى الأصوليين والمفسرين والمؤلفين في الناسخ والمنسوخ حين ينقلون عنهم.
فهذا أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم يقرر أن اشتقاق النسخ من شيئين أحدهما يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله، ونظير هذا "فينسخ الله ما يلقي الشيطان". والآخر من نسخت الكتاب إذا نقلته من نسخته وعلى هذا الناسخ والمنسوخ[6].
وهذا أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي صاحب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ينكر على النحاس إجازة أن يكون النسخ في القرآن بمعنى النقل، ويحكم بأن هذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن حيث قال: "وهذا المعنى ليس من النسخ الذي قصدنا إلى بيانه، إذ ليس في القرآن آية ناسخة لآية أخرى، كلاهما بلفظ واحد ومعنى واحد، وهما باقيتان، وهذا لا معنى لدخوله فيما قصدنا إلى بيانه.
وقد غلط في هذا جماعة، وجعلوا النسخ الذي وقع في القرآن مأخوذا من هذا المعنى، وهو وهم، وقد انتحله النحاس، وقال في كتابه "أكثر النسخ في الله عز وجل مشتق من نسخت الكتاب"، مع كلام بدل على هذا المذهب، هذا خطأ ليس في القرآن آية نسخت بآية في مثلها في لفظها ومعناها، وهما باقيتان، لأن معنى نسخت الكتاب، نقلت ألفاظه ومعانيه إلى كتاب آخر، وهذا ليس من النسخ الذي هو إزالة الحكم وإبقاء اللفظ، ولا من النسخ الذي هو إزالة الحكم واللفظ"[7].
في حين يذهب أبو البركات محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي، النحوي في كتابه "الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ" إلى ترجيح قول النحاس على قول مكي إذ قال : ويشهد لما قاله النحاس قوله تعالى "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون"[8]"[9].
وإذا تركنا المؤلفين في الناسخ والمنسوخ إلى الأصوليين نجدهم مختلفين كسابقيهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه فهم "يعنون غالبا ببيان المعنى الحقيقي للكلمة، وقد يعجزهم الوقوف على هذا المعنى فيحكمون بأن جميع معانيها حقيقة، وأنها من المشترك أو يحكمون بأن معانيها مجازية، وأنها كلمة شرعية عبر القرآن عن المراد منها بمادة أخرى هي التبديل، فهذه المادة هي أوجه ما تفسر به إذن.
فهذا السرخسي في أصوله بعد أن يذكر من معاني النسخ : النقل، والإبطال، والإزالة، يقرر بأن "كل ذلك مجاز لا حقيقة ... وأوجه ما قيل فيه أنه عبارة عن التبديل، من قول القائل: نسخت الرسوم، أي بدلت برسوم أخر"[10].
وأما الغزالي فهو يصور –في المستصفى- الاتجاه على الحقيقة في كل من الإزالة والنقل، ويقرر أن مادة النسخ مشتركة بينهما حيث يقول :"النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان، يقال نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها،[11] وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب، فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة".
إذا انتقلنا إلى المفسرين فإننا نلحظ نفس الملاحظة، وهو اختلافهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه، ومن أعجزه ذلك، اكتفى بإيراد آثار تحدد المراد بالنسخ دون ترجيح.
فهذا ابن كثير الدمشقي في تفسيره للآية 106 من سورة البقرة يقول: "قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه "ما ننسخ من آية "ما نبدل من آية، وقال ابن جرير : عن مجاهد " ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها، ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم وروى عن أبي العالية، ومحمد بن كعب نحو ذلك، وقال الضحاك "ما ننسخ من آية "ما ننسك. وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها، وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموها البتة". وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراما والحرام حلالا... وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله، ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"[12].
أما القرطبي في تفسيره فيحكم أن حقيقة النسخ الإبطال والإزالة يقول في تفسيره للآية106 من سورة البقرة "النسخ في كلام العرب على وجهين :
- أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر،وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى :"إذ كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه وإثباته.
- الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين :
o أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة أخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وهو معنى قوله تعالى :"ما نسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها".
o الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم، نسخت الريح الأثر ومن هذا المعنى قوله تعالى "فينسخ الله ما يلقي الشيطان"[13]. أي يزله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بد له"[14].
وهكذا يمضى المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون في سعيهم إلى تحديد معنى النسخ لغة قصد تبين حقيقته من مجازه.
والراجح عند أغلبهم أن مادة النسخ وضعت لتدل على معنى الإزالة، إذ يحكم أكثرهم أن الإزالة هي المعنى الحقيقي لمادة النسخ في القرآن.
إذا انتقلنا إلى البحث عن حقيقة النسخ الشرعية، بعد أن تبينا حقيقته ومجازه لغة، فإن ما نسجله ابتداء هو اختلاف الأصوليين في تعريف النسخ شرعا، تبعا لاختلافهم في تحديد معناه لغة.
وهكذا "نجد من الأصوليين من يعرفه بأنه بيان انتهاء مدة التعبد مع التراضي، ومن يعرفه بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، ومن يعرفه بأنه اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول، ومن يعرفه فيقول : هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه، ومن يذهب في تعريفه إلى أنه رفع تعلق مطلق بحكم شرعي ابتداء، ومن يضطرب فيحاول الجمع بين عدة اتجاهات في تعريفه، ومن يستوحي القرآن والسنة وكلام ا لمتقدمين فيعرفه، بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر"[15] .
والتعريف الأخير للنسخ –والذي مفاده بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- هو الراجح عند جمهور العلماء لأنه "تعريف واضح بسيط لا غموض فيه ولا تعقيد، وأنه يعود بالنسخ إلى مدلوله الأول، فيربط بينه وبين معناه اللغوي برباط وثيق، ويستمد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغة الصحابة والتابعين حقيقته الشرعية كما أنه تعريف جامع مانع لا يحمل نوعا من النسخ، ولا يسمح بدخول ما ليس بنسخ في نطاق النسخ كما حده، بالإضافة إلى أنه يعرفه على أنه هو فعل الشارع، وهذه هي حقيقته، والشارع وحده هو الذي يملك سلطة تقريره والقول به فيما شاء من أحكامه"[16].
إنها ملاحظات تجعل من تعريفنا هو الراجح "والجائز عند جمهور علماء الأمة"[17].
إذا كان التعريف الجائز والراجح عند الجمهور هو : رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، فإن سؤالا يواجهنا مفاده، ما المعنى الذي كانت تحمله "كلمة النسخ" في عصر الرسالة والصحابة والتابعين هل كان الصحابة يطلقون كلمة "النسخ" ويقصدون بها رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، أم كانوا يقصدون ما هو أعم؟.
إن الصحابة قد يطلقون كلمة النسخ ولا يقصدون بها المعنى الاصطلاحي كما هو عند الأصوليين، بل يقصدون ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل، وتقييد المطلق وتخصيص العام.
إلى هذا ذهب الشاطبي في موافقته وعبر عنه حين قال : "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين : فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا أعمال في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يعد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام من الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استعمل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد"[18].
ويورد الشاطبي مجموعة من الأمثلة على قضايا نسخ صحت روايتها عن الصحابة والتابعين، لتأكيد ما ذهب إليه من أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أعم منه عند الأصوليين، ونورد هاهنا بعضا منها لتبين المراد.
1.ما روي عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى :"من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد"[19] إنه ناسخ لقوله تعالى :"من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها"[20].
وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق ... وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
2.وهي أيضا مروية عن ابن عباس، إذ قال في قوله "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى نستأنسوا وتسلموا على أهلها"[21] إنه منسوخ بقوله "ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة"[22]. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله :"ليس عليكم جناح"[23] يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.
3.وهي كسابقتيها مروية عن ابن عباس، قال في قوله تعالى "قل الانفال لله والرسول"[24] منسوخ بقوله :"واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه"[25] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : "الله والرسول"[26].
نفهم مما سبق أن الصحابة كانوا يطلقون كلمة النسخ ويقصدون بها ما هو اعم من مدلول الأصوليين لكلمة النسخ الذي يعنون به "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر مع ما يفيد ذلك من إبطال للمنسوخ، وهم (أي الاوصوليون) يخالفون الصحابة في النسخ. وليس لقولهم مستند قوي. ذلك "أن من قرأ كتب الحديث الستة المعروفة أو التسعة بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدارمي، أو الأربعة عشر بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة، أو السبعة عشر بإضافة صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وأكثر منها : لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيـه : إن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة وقد بطل حكمها، أو يقول : إن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا ... مع أهمية هذا البيان وضرورة وحاجة المسلمين الماسة إليه، وقد قرر العلماء أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لما فيه من إضلال الناس عن الحقيقة"[27].
إذا كان الأمر كذلك بمعنى إذا خلت كتب الحديث الصحاح وغير الصحاح من حديث نبوي صحيح يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ آية متأخرة نزولا من القرآن لآية أخرى متقدمة عنها والقول بإبطال حكم الآية المتقدمة.
فمن أين جاء المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بأقوالهم التي توصل عدد الآيات المنسوخة إلى أزيد من مائتي آية.
والمحققون قد اشترطوا أن "الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص فهو عصر الرسالة، دون ما بعده، ومن ثم يجب أن ترفض كل دعوى نسخ لم تؤثر عن هذا العصر، وإنما حدث بعد مضيه؛ إذ لا ينبغي أن ينسخ نص تشريعي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم محكما ... ويزداد هذا وضوحا إذا نحن تركنا الزمن الذي يسوغ فيه النسخ إلى من له الحق في النسخ"[28].
وفي هذا يقول الشاطبي :إن "الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق"[29].
في نفس الاتجاه يقول السيوطي "قال ابن الحصار "... إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة يينه، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد"[30].
أمام هذه الحقيقة، كيف حكم المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بوقوع النسخ في القرآن دون اعتماد على نقل محقق، وكيف تلقت الأمة عنهم ذلك بالقبول؟ لن نتعقبهم بمزيد اعتراضات إضافية ونؤجل غيرها إلى حين معرفة أنواع النسخ التي قالوا بها، وأدلتهم التي ساقوها لتأكيد ما ذهبوا إليه.
النسخ ... حكمه ... أنواعه ... دليله ...
ذهب المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون إلى وقوع النسخ في القرآن، وحكموا بجوازه عقلا في الشريعة الواحدة وبين الشرائع، حيث إن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها.
وبناء على ما ذهبوا إليه قسموا النسخ إلى قسمين:
- النسخ الكلي : وهو النسخ الواقع بين الشرائع السماوية، فكل شريعة متأخرة زمنيا تأتي أحكامها ناسخة لبعض أحكام الشريعة التي سبقتها فمثلا شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لشريعة عيسى، وبذلك تعتبر شريعة محمد ناسخة لما قبلها من الشرائع، فلا عمل بما في شريعة سابقة إلا ما وافق الشريعة الخاتمة الخالدة.
- النسخ الجزئي : وهو النسخ الواقع في الشريعة الواحدة، كأن يكون في الشريعة الواحدة حكم جاء مخالفا لحكم سابق عليه، ولا يمكن الجمع بينهما بتأويل مقبول، فيكون الثاني حتما ناسخا للأول.
أولا : قوله تعالى :"ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها"[32].
ثانيا : قوله تعالى :"يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"[33].
ثالثا : قوله تعالى :"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل"[34]"[35].
وتبعا لذلك نوع القائلون بالنسخ في القرآن، القرآن إلى أنواع ثلاثة :
الأول : نسخ التلاوة والحكم معا : يدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن رواه الشيخان"[36].
الثاني : نسخ الحكم دون التلاوة : ويدل على وقوعه آيات كثيرة، منها آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة"[37]. منسوخة بقوله سبحانه: "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واطيعوا الله ورسوله"[38] على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية، مع أن تلاوة كلتيهما باقية"[39].
الثالث : نسخ التلاوة دون الحكم : ويدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا : كان فيما أنزل من القرآن، الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة" وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء، مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ"[40].
وأورد السيوطي في إتقانه مجموعة روايات يؤكد بها وقوع هذا النوع من النسخ في القرآن نورد بعضها :
قال "قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال : لا يقولن أحدكم : قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.
وقال : حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.
وقال : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال : قال لي أبي بن كعب كأي تعد سورة الأحزاب؟ قلت اثنين وسبعين آية او ثلاثا وسبعين أية قال إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم قلت وما آية الرجم؟ قال : "إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"[41].
المحور الثاني : تفنيد دعوى النسخ في القرآن
كنا نتحدث فيما سبق عن النسخ كأنه حقيقة لا جدال فيها لكن كيف يستقيم القول بأن في القرآن آيات أحكامها ملغية، وأن هناك آيات قد رفع حكمها ولفظها وأخرى قد رفع لفظها بينما حكما باق ملزم والله عز وجل يتعهد في قرآنه بحفظ آياته "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"[42].
- أليس في القول بالنسخ إخلال باطلاقية القرآن وإحكامه وحسن تفصيله ؟ أليس في القول بالنسخ تعارضا مع قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"[43] وقوله سبحانه "وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"[44]. ؟
- أليس في القول بالنسخ إقرارا باختلاف القرآن وتناقض آياته وهو المحال في حقه لقوله تعالى :"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"[45].
- ألم يحكم القرآن بخلود آياته، ويقر بأن خطابه عالمي إنساني شامل نزل ليرسم الطريق الصحيح للبشرية ويعالج مشكلاتها، ويضع حلولا لها في كل زمان ومكان، فيكف يمكن والحالة هذه ان نعمل بعض الآيات ونعطل بعضا بسبب القول بالنسخ؟
- كيف ننسخ النص القرآني الثابت القطعي بأخبار آحاد؟ وقد أكد العلماء عدم جواز نسخ القرآن بأخبار آحاد وفي مقدمتهم أولئك القائلون بالنسخ؟
- كيف يدعى النسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والعلماء قد اشترطوا أن الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص هو عصر الرسالة دون ما بعده؟
- كيف يتبدل الوحي ويتحول والله يحكم بأنه "لا تبديل لكلماته"[46].
إنها أسئلة تمثل اعتراضات وجيهة عن القول بالنسخ، وتزداد وجاهتها بالنظر إلى عدد الآيات التي حكم القائلون بالنسخ بنسخها، إذ "اعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة، مائة آية خمس وسبعون آية منسوخة بآية القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه، الناسخ والمنسوخ إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية ..."[47] في حين أوصلها "ابن الجوزي إلى مائتين وسبعة وأربعين آية"[48]. أغلبها منسوخ بآية السيف.
إن القول بنسخ هذا العدد من الآيات القرآنية أمر خطير يحتاج على أمر محقق،وهو الغائب في كثير من الكتابات التي ألفت في موضوع النسخ.
فالقول بآية السيف يعطل العمل بآيات قرآنية هي من القواعد الكلية والمبادئ العامة في الدين الإسلامي، من ذلك قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"[49] "ولو شاء ربك لأمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين"[50] "فاصفح الصفح الجميل"[51]"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"[52] وغيرها...
حيث "لم يترك الموسعون في النسخ آية تدعو إلى الرفق واللين أو العفو والصفح أو الصبر والدفع بالتي هي أحسن او غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام انه بعث ليتممها إلا قالوا عنها نسختها آية السيف"[53].
بعد هذا الاستطراد الضروري نعود لمعالجة الهدف الأساسي من هذا المحور وهو تفنيد دعوى النسخ في القرآن ولتحقيق ذلك لابد من :
1) مناقشة أدلة القائلين بالنسخ والرد عليها :
الأدلة التي استدل بها القائلون بالنسخ هي الآيات القرآنية :
1. "ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها، الم تعلم أن الله على شيء قدير"[54].
2. "وإذ بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما انت مفتر"[55]
3. "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلناهم أزواجا وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعند أم الكتاب"[56].
هذه هي الأدلة التي يحتج بها القائلون بالنسخ على وقوعه في القرآن الكريم ومن تم شريعة الإسلام، ولنا أن نتساءل.
- ما المراد "بالنسخ" في الآية 106 من سورة البقرة، أهو النسخ العام لشريعة بشريعة أخرى، وقد تحقق للإسلام نسخة كل شريعة سبقته أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟
- ما المراد بالمحو والإثبات "في الآيتين 39-40 من سورة الرعد أهو التنويع في معجزات الأنبياء والرسل، فتمحى معجزة رسول لتحل معجزة الرسول الآخر محلها أي ليثبت بدلا منها، أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟.
- وما المراد بالتبديل في الآية 101 من سورة النحل أهو وضع شيء مكان شيء آخر دون إلغاء له ولا إبطال يعني مع بقاء صلاحيته وفعاليته، أم هو التبديل بمعنى الإزالة والإبطال مما ينسجم ومدلول النسخ عند الأصوليين؟
إن السبيل لمعرفة المراد في كل آية آية، هو تتبع سياق كل آية، ذلك أن دلالة كل آية متوقعة على سياق ورودها، وإنا لنؤكد هذا ونوضحه هنا بالاحتكام إلى السياق نفسه :
1. ونبدأ بالآيتين 39-40 من سورة الرعد :
إن الآيات التي قبل هذه الآية تقول : "وكذلك أنزلناه حكما عربيا، ولئن اتبعت اهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، لكل أجل كتاب"[57].
والآيات التي بعدها تقول :
"وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم او نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب"[58].
ما الذي يشهد له السياق في بيان المراد بالمحو والإثبات في الآية ؟ "يمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله وهو المرجع الأخير، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة، ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته، فليقف عندما أنزل عليه لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة، أما الذين يطلبون منه آية، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ"[59].
"فمجال المحو والإثبات هو الشرائع إذن يمحو الله ما يشاء محوه فيها ليثبت بدلا منه ما يشاء إثباته، وهو معجزات الرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه دعاة إلى توحيده وعبادته، يمحو معجزة رسول منها ليثبت بدلا منها معجزة أخرى، للرسول الذي يبعث بعده"[60].
"وهنا نستطيع أن نقرر في شيء من الطمأنينة أن مجال المحو والإثبات في آيتنا هو الشرائع والمعجزات، لا الأحكام في الشريعة الواحدة، فقد عالجت الآيات قبلها وبعدها إنزال القرآن وإرسال الرسل وتأبيدهم بالمعجزات حسب مشيئة الله وبإذنه ثم توعدت أولئك الذين أنكروا رسالة محمد، وتساءلت في إنكار قائلة أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" لم تحدثت عن مكر الذين كانوا قبل قوم محمد لتقول لهم "فلله المكر جميعا" ثم حكت إنكارهم لرسالته لترد عليهم، مؤكدة أنه الله –وهو الذي عنده علم ما كان في كتبهم على الحقيقة- يستشهد بينه وبينهم ويومئذ سيعلم الكفار من الذي سينعم بالآخرة وستكون له العقبى"[61].
إذا مجال المحو والإثبات في الآيتين 39-40 من سورة الرعد هو الشرائع والمعجزات وعليه نستطيع أن نقرر دون تردد بطلان دعوى اعتبارهما دليل على وقوع النسخ الجزئي في الشريعة الواحدة ومن تم تنفيذ دعوى النسخ في القرآن بناء على هذا الدليل.
فهذا دليل من الأدلة الثلاثة التي استند عليها القائلون بالنسخ اتضح بطلانه فماذا عن الدليلين الآخرين؟
2.ومنها الآية 106 من سورة البقرة وهي قوله تعالى :"ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها الم تعلم أن الله على شيء قدير"
إن الآيات التي قبل هذه الآيات تقول :
"يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم، ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" [62]
والآيات التي بعدها تقول :
"أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير"[63].
فماذا يعني قوله تعالى "ما ننسخ" في هذا السياق ؟
أهو النسخ العام لشريعة بشريعة أخرى، وقد تحقق للإسلام نسخه كل شريعة سبقته أم هو النسخ الجزئي لحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر فيها؟
يمضي السياق "في كشف دسائس اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين وتحذير الجماعة المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم، وما تكنه نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر، وما يبتون لهم من الكيد والضر، ونهى الجماعة المسلمة عن التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في قول أو فعل، ويكشف للمسلمين عن الأسباب الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال اليهود وأفعالهم، وكيدهم ودسهم وألاعيبهم وفتنهم التي يطلقونها في الصف الإسلامي"[64].
السؤال هاهنا لما اشتد غيظ اليهود واشتد كيدهم للمسلمين، وزاد حقدهم عن المومنين؟
"اشتدت هذه الحملة عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اتجه بالصلاة عقب الهجرة إلى بيت المقدس، قبلة اليهود ومصلاهم، فاتخذ اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة، مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب ولا يصرح في التحول عن بيت المقدس على الكعبة، بيت الله المحرم، وظلت هذه الرغبة تعتمل في نفسه حتى استجاب له ربه فوجهه إلى القبلة التي يرضاها كما سيجيء في سياق السورة ونظرا لما يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل فقد عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة، فشنوها حملة دعاية ماكرة في وسط المسلمين، بالتشكيك في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحة تلقيه عن الوحي ...
ويمضي السياق في هذا الدرس على هذا النحو، حتى ينتهي إلى أن يضع المسلمين وجها لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود، والنصارى،.. إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم[65].
في هذا السياق يأتي قوله تعالى "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" فالمناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، كما يدل سياق الآية وما بعدها.
بنا عليه نستطيع القول بأن النسخ الوارد هنا هو نسخ بين ملة أهل الكتاب وملة أهل القرآن نسخ عام لشريعة أهل الكتاب بشريعة الإسلام، وليس نسخا جزئيا واقعا في القرآن الكريم.
وقد فسر محمد عبده "الآية في قوله تعالى :"ما ننسخ من آية" بالمعجزة استنادا إلى فاصلة الآية "فإن ذكر القدرة والتقرير بها لا يناسب موضوع الأحكام ونسخها، وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة.
يقول محمد عبده في تفسير للآية 106 " والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى أخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بما جاء بها فإننا بما لنا من القدرة التامة والتصرف في الملك نأت بخير منها من قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك.
ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء وسميت جمل القرآن آيات لأنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل من قبيل تسميته الخاص باسم العام"[66].
ويرى محمد عبده أن السياق البلاغي للآية يقتضي أن يكون نسخ الآيات بمعنى الدلائل دون الأحكام الشرعية إذ لا معنى لأن يعقب الآية مباشرة "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير" ويعقب هذه الآية بقوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" وماذا كان يسأل موسى من قبل؟ كان يسأل من قومه بني إسرائيل ومن قوم فرعون على السواء ... آيات وخوارق، فجاء القرآن ليقول للناس انتهى زمن الخوارق. إذا فالآية في قوله " ما ننسخ من آية" هي المعجزة، وليس النص القرآني.
وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، كما يدل سياق الآية وما بعدها أم معنى الآية المعجزة، فالآية 106 من سورة البقرة لا تدل بوجه على وقوع النسخ الجزئي في القرآني، وإلى هذا ذهب الفخر الرازي في تفسيره أن الآية لا تدل على وقوع النسخ، قال "واعلم أن الاستدلال بهذه الآية على وقوع النسخ ضعيف، لأن " ما هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك "من جاءك فأكرمه" لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه..."[67].
2) الدليل الثالث الذي يستند عليه القائلون بالنسخ هو الآية 101 من سورة النحل وهي قوله تعالى :"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل"[68].
3) تأتي الآية في سياق الحديث عن موقف المشركين من نزول القرآن ووجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءته، ونفي سلطان الشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم، وبيان جهل المشركين بحقيقة ما أنزل الله، وأنه ليس من افتراء محمد وإنما هو تنزيل من رب العالمين، لكن سؤالا يواجهنا مفاده : ما مدلول كلمة "بدلنا" ؟ هل تفيد النسخ؟
إن التبديل هنا غير النسخ، خاصة إذا علمنا أن حقيقة النسخ عند الأصوليين تعني الإزالة والإبطال[69].
والتبديل يعني وضع شيء مكان شيء آخر دون إلغاء له ولا إبطال أي بقاء صلاحية المبدل (بفتح الدال) وفعاليته، فقد تتعدد الحلول، وتختلف باختلاف الأزمنة وتعدد الأمكنة.
وهنا يكمن سر صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وهنا يكمن سر حكمة التدرج في التشريع فإذا كان التشريع قد انتهى وكمل، فإن الوقائع والأحداث لم تنقضي ولن تنقطع، فوجب استعمال التدرج في التنزيل وفق التدرج في الإنزال.
ونورد هنا مثالا لتأكيد صحة ما ذهبنا إليه يقول الله عز وجل في شأن "الخمر" "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"[70] ويقول "يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"[71] ويقول "إنما الخمر والميسر والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[72].
قد يقول قائل إن آية المائدة ناسخة للآيتين اللتين سبقتاها "وأنا لا أنظر إلى الأمر بهذه الصورة، وأرى أن الآيات كلها متكاملة، ويجب أن نأخذها من الآية الأولى حتى الآية الأخيرة ككل واحد فضلا عن أن الآية الأخيرة لا تتضمن نسخا بالمعنى المألوف فلم يقل القرآن أبدا "أشربوا الخمر" ثم عاد فقال "لا تشربوا الخمر" إن هذا لم يحدث ولو حدث لكان ناسخا ولكن الذي وجد درجات متفاوتة ولكنها مترابطة من النهي تمثل الحكمة في التشريع هي التدرج ولما كانت مثل هذه الحكمة من الناحية الموضوعية لا يمكن أن تنسخ وأنها تظل دائما حكمة فإنها تظل دائما حكمة فإنها تطبق مرة وأخرى عندما توجد الظروف والملابسات التي أوجبت تطبيقها أول مرة. وقد طبق القرآن الكريم هذا الأسلوب للحكمة التي صورتها عائشة في حديث طويل رواه البخاري. وجاء فيه "ولو نزل أول شيء" لا تشربوا الخمر" لقالوا "لا ندع الخمر أبدا" .. ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا "لا ندع الزنا ابدا" فاقتضت حكمة التشريع التدرج. وهذا بعيد كل البعد عن النسخ لأنه يمكن كما ذكرنا أن يتكرر إذا تكررت الحكمة التي تطلبته، إذ الحكمة لا تنسخ ولا تبطل، وإنما تظل قائمة، فإذا مست الحاجة إليها أخذ بها، وأقرب شيء إلى هذا ظهور الإسلام بين قوم يغرمون بالخمر غرام العرب بها، أو ربما أشد كما هو الحال في بعض الدول اللوربية التي يعد تحريم الخمر أكبر عقبة في سبيل إسلامهم، ولا ريب أن إسلام هؤلاء مع استمرارهم فيما ألفوه لو أسلموا فسيمكن بعد فترة حملهم على الإقلاع عن الخمر أو سيخرج الله من أصلابهم من لا يشربون الخمر أصلا. والأخذ بالنسخ يستبعد الأخذ بهذا الأسلوب، وليس هذا مجرد افتراض. فقد حدث بالفعل. وقد روى أحد المؤرخين أنه في سنة 987م أراد القيصر فلاديمير حاكم روسيا وقتئذ أن يتخير لشعبة الذي كان وثنيا دينا سماويا وطلب ممثلين للأديان الثلاثة (الإسلام – المسيحية – اليهودية) وكان أقرب الأديان الثلاثة إليه الإسلام خاصة وأنه كان يحتفظ بزوجتين فضلا عن عدد من السرارى ولكن ما إن قالوا إن الإسلام يحرم الخمر حتى قال "آسف إن شعبي يجد متعته الكبرى في الخمر" واختار المسيحية وجعلها دينا رسميا وعاما لروسيا ومن ثم اعتبرته الكنيسة قديسا.
فلو كان لدى الدعاة الإسلاميين الحكمة والفطنة ولولا ما سبق من دعاوى النسخ المؤكدة والمسجلة في كتب الفقه لكان من الممكن إرجاء الإشارة إلى تلك القضية التي لا تعد من الأركان الخمسة للإسلام وكان لهم في هذا سندا من حكمة التشريع وكان يمكن إقامة مجتمع إسلامي يشرب أفراده الخمر كما شرب الصحابة قبل التحريم حتى يأتي يوم يمكن فيه تحريم الخمر.[73.
إذن التبديل لا يعني بحال النسخ، ومن ثم بطلان الاستناد على الآية 101 للقول بالنسخ في القرآن.
اتضح من خلال تتبع سياق الآيات التي استدل بها علماء السلف على وقوع النسخ في القرآن، أنها آيات عامة يمكن الاستدلال بها على وقوع :
- النسخ في الآيات الكونية.
- النسخ في آيات (معجزات) الأنبياء.
- النسخ بالشريعة الخاتمة لما قبلها من الشرائع
في حين حصرها القائلون بالنسخ في كونها أدلة على وقوع النسخ في القرآن وهو محال لأن القرآن "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"[74]، وهذا ما يظهر في قوله تعالى في الآية التي لم يذكرها المدافعون عن النسخ، حين ورد الإحكام في مقابل النسخ وهي "وما أرسلنا من قلبك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم"[75].
إن أدلة القائلين بالنسخ –عامة تدل على النسخ في عمومه، أما بالنسبة للنسخ في القرآن فلم يرد ولا دليل قطعي يفيد وقوع النسخ فيه.
2) لتأكيد ما ذهبنا إليه نقف على مدلول لفظ "الآية" في القرآن الكريم.
وقد ذكرت كلمة آية في القرآن الكريم على ما ذكر محمد عبد الباقي في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم في المرات التالية، وعنه ننقلها هنا.
"مات ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"[76]
"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية"[77]
"ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك"[78]
"سل بني اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة"[79]
"وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"[80]
"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"[81]
"وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس"[82]
"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"[83]
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس"[84]
"أني قد جئتكم بآية من ربكم"[85]
"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"[86]
"وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعوني"[87]
"تكوم لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك"[88].
"وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين"[89]
"وإن بروا كل آية لا يؤمنوا بها"[90]
"أن تبتغي نفقا في الأرض او سلما في السماء فتأتيهم بآية"[91]
"وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه"[92]
"قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون"[93]
"وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها" [94]
"وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي"[95].
"هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله"[96]
"قال إن كنت جئت بآية فأت بها عن كنت من الصادقين"[97]
"وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين"[98].
"وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها"[99].
"وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها"[100].
"ويقولون لولا انزل عليه آية من ربه"[101].
"فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" [102]
"ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم"[103].
"ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل"[104].
"إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة"[105].
"وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها"[106].
"ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه"[107].
"ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه"[108].
"وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللهّ[109].
"إن في ذلك لآية للمؤمنين"[110].
"إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"[111].
"إن في ذلك لآية لقوم يذكرون"[112].
"إن في ذلك لآية لقوم يسمعون"[113].
"إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"[114]
"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر"[115].
"وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل"[116] .
"وجعلنا آية النهار مبصرة"[117]
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس"[118]
"ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا"[119].
"تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى"[120].
"قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى"[121].
"وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه"[122].
"بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون"[123].
"فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين"[124] .
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآيناهما إلى ربوة"[125]
"لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية"[126].
"إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين"[127].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[128].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[129].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[130].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[131].
"أتبنون بكل ريع آية تعبثون"[132].
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[133]
"ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين"[134]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[135]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[136]
"إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين"[137]
"أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل"[138].
"إن في ذلك لآية لقوم يعلمون"[139].
"فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين"[140].
"ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون"[141].
"إن في ذلك لآية للمؤمنين"[142].
"ولئن جئتم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون"[143].
"إن في ذلك لآية لكل عبد منيب"[144].
"لقد كان لسبإ في مسكنهم آية"[145].
"وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا"[146].
"وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون"[147].
"وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون"[148].
"وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين"[149].
"وإذا رأوا آية يستسخرون"[150].
"وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله"[151].
"وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها"[152].
"ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما"[153].
"وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم"[154].
"وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر"[155].
"ولقد تركناها آية فهل من مدكر"[156].
"فأراه الآية الكبرى"[157] .
بناء على هذا التتبع لكلمة "آية" في القرآن الكريم نجد ان لفظ "آية" في القرآن لا يعني أبدا نص أو جملة قرآنية، وإنما يعني "الآيات الكونية (الشمس –القمر- الليل – النهار- الموت... والمعجزات والخوارق المتعلقة بالأنبياء وقصصهم "وجعلنا ابن مريم وأمه آية"[158] عصا موسى جسد فرعون..وتاريخ الأمم السابقة "لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية"[159].
إذا كان القرآن لا يستخدم لفظ "الآية" بمعنى النص أو الجملة القرآنية فلماذا استثنى القائلون بالنسخ الآيات الثلاث التي استدلوا بها واعتبروا لفظ الآية فيها دالا على النص القرآني/ الجملة القرآنية مما ينسجم وقولهم بالنسخ في آيات القرآن.
2. مناقشة شروط النسخ :
اشترط القائلون بالنسخ لوقوعه شروطا أهمها أنه لابد في تحقيق النسخ من ورود دليلين عن الشارع، وهما متعارضان تعارضا حقيقيا، لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل، وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر احدهما ناسخا والآخر منسوخا، دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم"[160].
ويظهر من قولهم هذا أن مسوغهم للقول بالنسخ هو تناقض الآيات وتعارضها، فهل وقع تعارض بين نصين تشريعيين، مع أن أحكام الشريعة الواحدة الصادرة عن المعصوم لا تقبل التناقض؟
إننا نقطع في حسم بأن لا تناقض في كلام الشارع، وإنما التناقض كما يقول الشاطبي- في الأذهان وليس في الأفهام[161] ومستندنا في هذا الحكم هو الاستقراء التام، فقد أثبت هذا الاستقراء بيقين أن التعارض –كما حده الأصوليون وشرطوا فيه- لم يقع بين نصين شرعيين. هنا نتساءل ما دام التعارض مستحيل الوقوع، فكيف وقع النسخ مع أنه ينبني على التعارض؟
خاتمـــــــة :
نستطيع أن نقرر بعد هذا –وبكل طمأنينة- بطلان دعوى القول بالنسخ وتفنيد وقوعه في القرآن الكريم، لأنها دعوى لا تستند على دليل واحد قطعي الدلالة إنما مجمل القول عند القائلين بالنسخ هو "قيل وقيل"
وعليه تقرر بهدوء بأنه "لا نسخ في القرآن الكريم.
والله أعلم
توصيات ومقترحات
نقترح في ختام بحثنا هذا :
1. إن على الفكر الإسلامي المعاصر تحرير القول الفصل بخصوص موضوع النسخ في القرآن : إن إقرار أو إنكارا، حتى يتسنى للمسلم الدفاع عن الشريعة الإسلامية السمحة ومجاهدة أعدائها.
2. إن الناسخ والمنسوخ في السنة النبوية الكريمة يجب أن يحظى بنفس عناية موضوع النسخ في القرآن على اعتبار مكانة السنة في التشريع الإسلامي.
3. أن تقوم مراكز البحوث والمعاهد العلمية ووزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في مختلف بلدان العلام الإسلامي، بتحقيق ونشر بعض الكتب المخطوطة في موضوع الناسخ والمنسوخ وتكليف أهل الاختصاص بدراستها ونقدها وتمحيصها وفق المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل.
لائحة المصادر والمراجع
(مرتبة حسب ورودها في البحث)
1) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الحديث، القاهرة، طبعة 1413هـ/2002م.
2) جلال الدين بن عبد الرحمان السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، ط1425هـ/2004م.
3) أحمد بن فارس بن زكرياء أبو الحسن، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون،دار الجيل، د.ت.
4) محمد جمال الدين بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت.
5) مصطفى زيد، النسخ في القرآن، دراسة تشريعية تاريخية، نقدية، دار الوفاء المنصورة،الطبعة 3، 1408/1987م.
6) أبو الفداء اسماعيل بن كثير، تفسير القرآن الكريم، دار الجيل، بيروت، د.ت.
7) ابراهيم بن موسى أبو اسحاق الشاطبي اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، تعليق محمد عبد الله دراز، المكتبة التوفيقية، القاهرة، طبعة 2003م.
8) يوسف القرضاوي، جريدة التجديد، يومية شامة، المغرب.
9) محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط 1412هـ/1995م.
10) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، ط1، 1415هـ/1995م.
11) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق الطبعة الشرعية الثلاثون، 1422هـ/2001م.
12) محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار، دار الفكر، ط2، د.ت.
13) الفخر الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، ط3، 1405هـ/1985م.
14) جمال البنا، تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم، دار الفكر الإسلامي، ط1، 2004.
[2] - راجع، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، درا الحديث، القاهرة، ط1423هـ/ 2002م، ج1، ص479.
[3] - انظر، السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، ط1425/2004، ص517.
[4] - ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الجيل، مادة :نسخ".ج5، ص424-425.
[5] - ابن منظور : لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، مادة "نسخ"، ج3، ص61.
[6] - انظر : مصطفى زيد : النسخ في القرآن : دراسة تشريعية، تاريخية، نقدية، دار الوفاء المنصورة، ط3، 1408هـ/1989م، ج1، ص55.
[7] - السيوطي، م.س.، ص518.
[8] - الجاثية، 29.
[9] - السيوطي، م.س، ص518.
[10] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص60-61.
[11] - نفسه،ج1، ص61.
[12] - ابن كثير تفسير القرآن العظيم، دار الجيل بيروت، د.ت، ج1، ص142.
[13] - سورة الحج، الآية 25.
[14] - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م.س.، ج1، ص 479-480.
[15] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص97.
[16] - نفسه، ص105.
[17] - راجع : محمد الحفناوي، دراسات في القرآن الكريم، ط. دار الحديث، والقول وراد في القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م.س.، ج1، ص382، الهامش رقم1.
[18] - الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة التوفيقية، د.ت، ج3، ص89-90.
[19] - سورة الإسراء، الآية 18.
[20] - سورة الشورى، الآية 20.
[21] - سورة النور، الآية 27.
[22] - سورة النور، الآية 29.
[23] - سورة النور، الآية 29.
[24] - سورة الأنفال، الآية 01.
[25] - سورة الأنفال، الآية 41.
[26] - سورة الأنفال، الآية 01.
[27] - يوسف القرضاوي، جريدة التجديد، قضايا وآراء، الحلقة العاشرة، عدد 733 الجمعة –الأحد 16-18 جمادى الثانية 1424هـ/مواقف 15-17 غشت 2003م، ص17.
[28] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص174.
[29] - الشاطبي، الموافقات، م.س.، ج3، ص87.
[30] - السيوطي، م.س.، ص 528-529.
[31] - راجع : محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط 1412هـ/1991م، ج2، ص 103، ومصطفى زيد / م.س.، ج1، ص 50.
[32] - سورة البقرة، الآية 106.
[33] - سورة الرعد، الآية 39.
[34] - سورة النحل، الآية 101.
[35] - انظر محمد عبد العظيم الزرقاني، م.س.، ج2، ص89.
[36] - السيوطي، م.س.، ص520. الزرقاني، م.س.، ج2، ص110.
[37] - المجادلة، الآية 12.
[38] - سورة المجادلة، الآية 13.
[39] - الزرقاني، م.س.، ج2، ص110-111.
[40] - نفسه، ج1، ص111.
[41] - راجع : السيوطي، م.س.، ص529.
[42] - الحجر، الآية 9.
[43] - سورة هود، الآية 01.
[44] - فصلت، الآيتان : 41-42.
[45] - سورة النساء، الآية 82.
[46] - سورة الكهف، الآية 27.
[47] - محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، ط1، 1415هـ/1995م، ص 207.
[48] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص405.
[49] - سورة البقرة، الآية 256.
[50] - سورة يونس، الآية 99.
[51] - سورة الحجر، الآية 85.
[52] - سورة السجدة، الآيتان 34-35.
[53] - يوسف القرضاوي، م.س. ص18.
[54] - سورة البقرة، الآية 106.
[55] - سورة النحل، الآية 101.
[56] - سورة الرعد، الآيتان : 39-40.
[57] - سورة الرعد، الآيتان، 37-38.
[58] - سورة الرعد، الآيتان 40-41.
[59] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، الطبعة الشرعية الثلاثون 1422هـ/2001م، ج3، ص2064.
[60] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص 246-247.
[61] - مصطفى زيد، م.س.، ج1، ص248.
[62] - سورة البقرة، الآيتان، 104-105.
[63] - سورة البقرة، الآيات : 107-109.
[64] - سيد قطب، م.س.، ج1، ص99.
[65] - سيد قطب، م.س.، ج1، ص99-100.
[66] - محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، دار الفكر، ط2، د.ت.، ج1، ص417.
[67] - الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م، ج2، م3-4، ص248.
[68] - سورة النحل، الآية 101.
[69] - راجع مصطفى زيد، م.س./ ج1، ص65.
[70] - سورة البقرة، الآية 219.
[71] - النساء، الآية 43.
[72] - سورة المائدة، الآية 90-91.
[73] - جمال البنا، تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم، درا الفكر الإسلامي، ط1، 2004م، ص 93-94.
[74] - هود، الآية 01.
[75] - الحج، 52.
[76] - البقرة 102.
[77] -البقرة 118.
[78] - البقرة 145.
[79] - البقرة، 211.
[80] - البقرة، 248.
[81] - البقرة 248.
[82] - البقرة 259.
[83] - آل عمران 13.
[84] - آل عمران، 41.
[85] - آل عمران 49.
[86] - آل عمران 49
[87] - آل عمران 50.
[88] - المائدة 114.
[89] - الأنعام، 4.
[90] - الأنعام، 25.
[91] - الأنعام، 35.
[92] - الأنعام، 37.
[93] - الأنعام، 37.
[94] - الأنعام 109.
[95] - الأنعام 124.
[96] - الأعراف 73.
[97] - الأعراف 102.
[98] - الأعراف، 123.
[99] - الأعراف، 136.
[100] - الأعراف، 203.
[101] - يونس، 20.
[102] - يونس، 92.
[103] - يونس 97.
[104] - هود، 64.
[105] - هود، 103.
[106] - يوسف، 105.
[107] - الرعد، 7.
[108] -الرعد 27.
[109] - الرعد، 38.
[110] - الحجر 77.
[111] - النحل 11.
[112] - النحل 13.
[113] - النحل 65.
[114] - النحل 69.
[115] - النحل 101.
[116] - الإسراء 12.
[117] - الإسراء 12.
[118] - مريم 10.
[119] - مريم 21.
[120] - طه 22.
[121] - طه 47.
[122] - طه 133.
[123] -الأنبياء 5.
[124] - الأنبياء 91.
[125] - المؤمنون 50.
[126] - الفرقان 37.
[127] - الشعراء 4.
[128] - الشعراء 8.
[129] -الشعراء 67.
[130] - الشعراء 103.
[131] - الشعراء 121.
[132] - الشعراء 128.
[133] - الشعراء 139.
[134] - الشعراء 154.
[135] - الشعراء 158.
[136] - الشعراء 174.
[137] - الشعراء 190.
[138] - الشعراء 197.
[139] - النمل 52.
[140] - العنكبوت 15.
[141] - العنكبوت 35.
[142] - العنكبوت 44.
[143] - الروم 58.
[144] - سبأ 9..
[145] - سبأ 15.
[146] - يس 33.
[147] - يس 37.
[148] - يس 41.
[149] - يس 46.
[150] - الصافات 14.
[151] - غافر 78.
[152] - الزخرف 48.
[153] - الفتح 20.
[154] - الذاريات 37.
[155] - القمر 2.
[156] - القمر 15.
[157] - النازعات 20.
[158] - المومنون، الآية 50.
[159] - الفرقان، الآية 37.
[160] - راجع، محمد عبد العظيم الزرقاوي، م.س.، ج2، ص
[161] - الشاطبي، م.س.، ج3، ص274.
*الملتقى الفكري
| فلسفة التجديد | قضايا التجديد | مدارس الإصلاح والنهضة |المرأة | الفلسفة والمعرفة | إصلاح التعليم | الإسلام والغرب | مراجعات وعروض | حــوارات | مؤتمرات | سجل الزوار | تواصل معنا | مواقع | البحث | اجعلنا صفحتك الأولى
جميع الحقوق محفوظة لموقع الملتقى الفكري للإبداع © 2007 - 2008