مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2025/01/20 22:50
تقاطعات السياسة والموت في أزمات الشرق الأوسط

تخيل الأديب العالمي جوزيه ساراماجو سؤالاً افتراضياً بنى عليه أحداث روايته "انقطاعات الموت" [1]، وهو: ماذا لو اختفى الموت في دولة دون غيرها؟. في أحداث تلك الرواية، يربك توقف الموت سلطة الحكومة، فالملكة التي كانت تحتضر ظلت روحها مُعلَّقة، فيما تساءلت مؤسسة الكنيسة عن جدوى دورها إن حلت الأبدية. أما القطاعات الاقتصادية، كشركات التأمين على الحياة وحفّاري القبور، فقد عانوا خسائر كبيرة نظراً لتوقف أنشطتهم.

غمرت السعادة المجتمع، في البداية، بفعل الخلود المفاجئ، لكن أعبائه تكشفت لاحقاً، مع اكتظاظ المستشفيات بالمرضى ودور المسنين بكبار السن دون انقضاء أجلهم، ما دفع بعض الأسر إلى نقل ذويهم الميئوس من شفائهم إلى دولة مجاورة لا يزال يعمل فيها الموت، لتظهر بعد ذلك جماعة مافيا تلبي هذا الطلب المجتمعي، الأمر الذي أدى إلى أزمة سياسية حدودية. بعد أشهر من هدنة الموت، عاد فجأة ليحصد الآلاف من المحتضرين في لحظة واحدة، لكنه أثار هلعاً عاماً لدى الحكومة والمجتمع، من خلال إرسال "المنية" خطاباً تمنح من اختارته للموت مهلة عدة أيام.

يقيناً، تخالف تلك السردية الأدبية الواقع والمعتقدات الدينية، فالموت حقيقة حتمية مستمرة في الحياة يقدرها الله بأسبابها وزمانها ومكانها لكل كائن حي دون تمييز. لكن القدرة الأدبية لساراماجو استطاعت توظيف رمزية الانقطاعات المتخيلة لظاهرة الموت لإظهار تقاطعاتها المرئية وغير المرئية مع ديناميات السلطة السياسية والدينية، وقطاعات الاقتصاد الرأسمالي، والأبنية الاجتماعية في الدولة القومية الحديثة، وهي تقاطعات تبدو قليلة التناول نسبياً في الدراسات السياسية، مقارنة بما تحظى به من اهتمام واسع في الدراسات الدينية والثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية.

ربما يرجع ذلك الأمر إلى التباعد الدلالي "الظاهري" بين السياسة، كمجال حياتي يتعلق بالتنافس على القوة أو السلطة أو إدارة شئون المجتمعات، والموت كحالة فناء لا يتمناها البشر ولا يتنافسون عليها بل يعدونها مصدراً للقلق والتهديد. أضف لذلك، فإن تباين معتقدات المجتمعات حول الموت بين تجنب التفكير فيه وتعظيمه كمحدد قيمي وديني وثقافي لسلوكيات الأفراد والجماعات، قد يصعب التوافق العام على تحديد أثره السياسي في مختلف البيئات. ناهيك عن أن فكرة الزوال الإنساني المرتبطة بالموت قد تحفز البعض على انتهاج سلوكيات دافعة للزهد والترفع عن خوض صراعات السلطة.

 لم تمنع تلك العوامل المتصورة للتباعد بين الموت والسياسة من وجود طروحات فكرية تجد التقاطع بينهما وثيقاً وجوهرياً، عندما يصبح الموت وإدارة الوفيات بوجه عام، نتيجة أو أداة أو مجال لخطابات وممارسات السلطة وبناء القوة من أجل تحقيق أغراض سياسية واستراتيجية، على نحو بلورته أدبيات غربية في سياسات الموت Thanatopolitics [2]. فقد تتحكم السلطة (دولة ذات سيادة، مليشيا مسلحة، جماعة إرهابية، قوة غزو أو احتلال خارجي...) في موت وحياة الأفراد والجماعات من خلال امتلاك آليات مباشرة (القتل، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي) أو غير مباشرة ( الحرمان من خدمات الصحة، سياسات اقتصادية تقود إلى إفقار المجتمعات وتدمير موارد البيئة، سياسات تمييز وإقصاء وعزل للأفراد والجماعات).

بهذا المعنى، لا يصبح الموت المباشر الموجه للأجساد هو الشكل الوحيد الناجم عن ممارسات تحكم السلطة أو الصراعات عليها، إنما هنالك أشكال أخرى مثل: الموت البطيء (خضوع الأفراد إلى سياقات معيشية قاسية قد تقود إلى حتفهم ببطء، بسبب فشل وظائف الدولة ومؤسساتها في توفير خدمات عامة)، الموت المحتمل (قد يغامر الأفراد بأرواحهم في مسارات النزوح والهجرة للفرار من مخاطر أمنية وسياسية واقتصادية في بلدانهم، حال نشوب حروب أو أزمات أو كوارث)، الموت السياسي- الاجتماعي (تحويل الأفراد والجماعات إلى أحياء أموات، أي يبقون على قيد الحياة بلا حقوق أو كرامة، بل يصبحون مُعرَّضين بشكل مستمر لتهديدات الموت، بفعل خضوعهم لسياسات الاستثناء).

برزت هذه الأشكال الناجمة عن ممارسة سياسات الموت في الواقع السياسي العالمي خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، مثل: تجارب الأنظمة الشمولية النازية والستالينية، الحربان العالميتان الأولى والثانية، الحروب في كوريا وفيتنام ورواندا والبوسنة، وأخيراً الحرب الروسية- الأوكرانية. أما الشرق الأوسط، فتزداد فيه وطأة تلك السياسات بفعل الصراعات المميتة التي لا تتوقف منذ عقود عن حصد الضحايا، بدءاً من الحروب العربية-الإسرائيلية، مروراً بحربي الخليج الأولى والثانية، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، والصراعات الأهلية في أعقاب فشل موجة الثورات العربية خلال العقد الأخير، وانتهاءاً بحرب إسرائيل الأخيرة على قطاع غزة ولبنان.

في هكذا سياق صراعي ممتد، تصبح قيمة الحق في الحياة وحمايتها في الشرق الأوسط مهددة على نحو مستمر، خاصة إن أضيف لذلك، توظيفات بعض دول المنطقة لسياسات الموت من أجل إبقاء هيمنتها على السلطة. وعليه، يستكشف هذا التحليل تقاطعات السياسة والموت، وأنماطها ودينامياتها في أزمات المنطقة، انطلاقاً من محاولة فهم طبيعة سياسات الموت في بعض الرؤى والأدبيات، مع الأخذ بالحسبان خصوصية فكرة الموت وسياقاتها في دول ومجتمعات المنطقة.

بين سياسات الحياة والموت

تتراوح النظرة للموت في المجتمعات الغربية بين اتجاهات عديدة بسبب طبيعة تطوراتها الفكرية والثقافية والسياسية والدينية، منها: خشية الفلاسفة الغربيين [3] من الفناء وخلافاتهم حول تفسير ما قد يواجهه الفرد بعد الموت في العالم الآخر، أو إدخال فكرة الموت في إطار الصراعات مع سيطرة الكنيسة على الدولة والمجتمع خلال العصور الوسطى، أو تجاهله كمحدد للسلوك الإنساني، مع هيمنة خطابات العقل والفردانية والفلسفات المادية، وفصل الدين عن الدولة القومية الحديثة خلال عصر النهضة والتنوير، والذي مثل أساس الحداثة الغربية التي ركزت على سياسات الحياة، بما تعنيه من دعم رفاهية الفرد وحرياته، وبالتالي استقرار وتنمية المجتمع.

إلا أن الاتجاهات النقدية للحداثة الغربية لمست تقاطعات الموت مع السياسة في مجال إدارة السلطة وبناء القوة في الدولة القومية الحديثة، من خلال الربط بين سياسات الحياة والموت، فمثلما تعطي ممارسة الدولة لسيادتها الحق في إدارة حياة الأفراد والمجتمع، فإنها قد تستولي على تلك الحياة وتلغيها عبر الموت. على أساس ذلك، صك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو مفهوم السياسة الحيوية Biopolitics في سبعينيات القرن العشرين، كمعالجة لظاهرة السلطة من منظور بيولوجي تركز على تنظيم وإدارة حياة المجتمعات [4].

اعتبر فوكو أن السلطة السيادية انتقلت من النهج التقليدي في العصور الوسطى، عندما كان الملك يسيطر على حق الموت والحياة للفرد إلى السلطة الحيوية في الدولة القومية التي تتحكم في حياة السكان وتنظيمها وتعظيمها، من خلال استخدام آليات الانضباط والمراقبة والإخضاع والتمكين لأجساد الأفراد والسكان، حيث تقوم تلك السلطة عبر مؤسساتها بإدارة المواليد، والوفيات، والتعداد السكاني وتوفير الرعاية الصحية ومكافحة الأمراض وغيرها. أي أن الدولة، هنا، تعمل على صنع الحياة وترك الموت، وهو ما عكس الحاجة للنمو الرأسمالي الغربي، والطلب على سياسات الرفاه، وتكريس الفردانية والحريات والحكم الليبرالي في المجتمعات الغربية. وبرغم أن تلك السياسة الحيوية تخلق نوعاً من المجتمعات المسيطر عليه، لكن بدا لها وجهاً إيجابياً يتعلق بالحفاظ على الحق في الحياة، عبر تحسين صحة الأفراد والمجتمعات، ورفع مردوداتهم الإنتاجية.

في المقابل، ربط فوكو سياسات الموت بالعنصرية التي قد تمارسها تلك السلطة تجاه الأعراق التي تراها "متدنية" [5]، ومن ثم تعمل على التخلص منها أو استبعادها أو إقصائها، في سياق اعتماد الدول على مبدأ القتل من أجل الحياة، وهو ما يظهر في تجارب الاستعمار الإمبريالي الغربي في أفريقيا، والتي تسببت بوفاة ملايين من الشعوب ومحو ثقافاتها وهوياتها، لخدمة أغراض الهيمنة السياسية والثقافية والمكاسب الرأسمالية، وتحت تبريرات وخطابات عنصرية تنطوي على نظرة متدنية لسكان المستعمرات. كذلك الحال، وفقاً لفوكو، في تجربة الحكم النازي الألماني التي أنتجت آليات القتل والإبادة والتطهير العرقي ضد اليهود في أوروبا (الهولوكست).

أعاد الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين [6] قراءة السياسة الحيوية لفوكو من منظور قانوني مُركِّزاً أكثر على سياسات الموت، من خلال طرح فكرة "حالة الاستثناء"، التي قد تشرعنها السلطة في الدولة القومية الحديثة، عبر القانون وفرض الطواريء لمواجهة التهديدات والأزمات. إذ تعطي الإجراءات والممارسات الاستثنائية أسبقية لسيادة الدولة في التعامل مع التهديدات على حساب حقوق الأفراد والجماعات، مما يخلق نوعاً من "الإنسان المستباح homo sacer"، الذي قد يتعرض للقتل دون معاقبة الجناة، بما يجعله يعيش "حياة عارية" معرضة لمخاطر الموت، أي يتقزم الوجود البشري في ظل "الاستثناء السيادي"، من وجهة نظر أجامبين، إلى مجرد البقاء البيولوجي.

بالتالي، قد يتعرض الأفراد جراء سياسات الموت ليس فقط للقتل المباشر، إنما أيضاً للموت بمعناه السياسي الاجتماعي، أي يعيشون في مجتمع دون أن يكونوا أعضاء فعالين فيه، فيصبح جل هدفهم البقاء أحياء دون حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية مثل: معسكرات الاعتقال واللاجئين. تفسر أفكار أجامبين، التي طُرحت في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ديناميات السياسة العالمية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث تم شرعنة سياسات الاستثناء في العديد من الدول التي تملك نظماً تسلطية أو ديمقراطية، تحت مبرر مكافحة تهديدات الإرهاب، فضلاً عن تبرير الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، والذي أسفر عن مقتل مئات الآلاف من الأفراد، وانتهاكات حقوقية رمزت لها سجون جوانتامو، وأبو غريب في العراق، كمواضع لحالة الاستثناء.

من معنى النخر الذي يشير إلى موت أنسجة الجسم لقلة تدفق الدم لها، استوحى المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي مفهوم السياسات النكرووية أو سياسات الموت Necropolitics [7] في سياقات أدبيات ما بعد الاستعمار. إذ رأى أن السياسة الحيوية لفوكو لا تفسر تقنيات الموت المتطورة التي أنتجتها الإمبريالية الغربية في مرحلة ما بعد الاستعمار أو الديمقراطيات الليبرالية التي تخوض الحروب الحديثة. بالتالي، ركز على فكرة إخضاع الحياة لـ"القوة المميتة"، حيث قد تفرض السلطة شروطاً وإملاءات حول من يجب أن يعيش ومن يموت، من خلال إنتاج "عوالم موت" يتعرض فيها الأفراد إلى ظروف تحولهم إلى "أحياء أموات"، أي يصبح الخط الفاصل لهم بين الحياة والموت غير واضح.

هنا، لا تستخدم السلطة في ممارسة سياسات الموت آليات القتل أو الإبادة أو التطهير العرقي فحسب، إنما تنشر أيضاً فرق الموت وتقيد حريات الأفراد وتنزع ملكيتهم، وتفرض عليهم الحصار والتجويع، بل قد تمنع موتهم بكرامة من خلال تدمير المقابر وانتهاك حرمات أجساد المتوفين. ينشأ عن تلك السياسات، من وجهة نظر مبيمبي، نوع من مجتمعات العداء التي يصبح فيها الآخر المختلف ثقافياً واجتماعياً مهدداً وجودياً ينبغي التخلص منه في نظر السلطة، بأشكال قتل مباشرة أو موت بطيء أو موت سياسي اجتماعي، وتحت تبرير خطابات وسرديات الأمن أو القومية أو النقاء العرقي أو العنصرية. تم تطبيق هذا المفهوم على سياسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينين [8]، ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، وحروب الإرهاب، والاستعمار الغربي في دول الجنوب.

مع ذلك، واجهت سياسات الموت خاصة التي انتهجها الاستعمار الغربي مقاومة لاستعادة سياسات الحياة عبر استهداف التحرر الوطني والاستقلال عن المستعمر، مثل انتفاضة الماو ماو في خمسينيات القرن العشرين ضد الاستعمار البريطاني في كينيا الذي همش السكان المحليين واستولى على أراضيهم، أو حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي الذي مارس سياسات موت بمختلف أشكالها وآلياتها على مدى 132 عاماً بما أودى بحياة مليون ونصف المليون شخص، أو حركات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

التمدد التفسيري لمجالات سياسات الموت

بشكل عام، أسهمت الرؤى النقدية للحداثة الغربية في فهم سياسات الموت في الدولة القومية الحديثة، حيث تتحكم السلطة عبر آليات مباشرة وغير مباشرة في من يجب أن يعيش ومن يموت، وهو ما يفسر ظواهر القتل الفردي والجماعي وإخضاع السكان وإذلالهم واستباحة حقوقهم في مناطق الحروب والصراعات، سواء عبر تقنيات تقليدية، أو حتى تكنولوجيات عسكرية حديثة، كالمسيرات وغيرها كآلات قتل ومراقبة وسيطرة على حياة وموت الأفراد والجماعات[9].

أعادت أيضاً تلك الرؤى فهم ظواهر مثل المحرقة النازية لليهود في أوروبا (الهولوكست). فعلى الرغم من نظرة البعض لهذه المحرقة، كاستثناء في مسار التحضر والعقلانية للحداثة الغربية، لكن زيجموند باومان [10] اعتبرها غير منفصلة عن طبيعة تلك الحداثة ذاتها التي أزاحت البنى التقليدية الاجتماعية وأقصت الاختلافات الثقافية في المجتمعات لصالح تكريس هيمنة سلطة الدولة القومية، بما حرر الأخيرة من قيود الرقابة، ودفعها لامتلاك أسباب العنف، وممارسة هندسة اجتماعية جامحة، من أجل التحكم والسيطرة، وامتلاك الحق على الموت والحياة، من خلال استغلال مفاهيم حديثة كالقانون والنظام أو تبريرات أيديولوجية قومية متطرفة، أو تقسيمات بيولوجية عنصرية للجنس البشري بين عرق متفوق، وآخر متدن.

إلا أن الدروس التاريخية لحالة الهولوكست أسهمت في تغذية سياسات الموت المعاصرة في السياسة العالمية كونها طرحت استنتاجين، من وجهة نظر باومان: الأول، أسماه "التوليد الذاتي للعبة الضحية"، أي أن "اضطهاد الضحايا يؤدي إلى اضطهاد ضحايا جدد.. فــذكرى المعاناة لا تضمن محاربة النماذج اللانسانية والوحشية والايذاء". والثاني، أن شبح الهولوكست قسّم "الانسانية إلى ضحايا وجلادين، وإذا كنت ضحية أو تتوقع أن تكون، فعليك أن تقلب الأمور لصالحك"، وهو منطق يفسر انتشار العنف والصراعات في العديد من مناطق العالم [11]. استدمج الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هذين الاستنتاجين من الهولوكست، عبر وراثة الاضطهاد، وعقلية الحصار، وإعادة إنتاجهما في مذابح وحشية ضد العرب لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا في الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينين في حرب غزة.

من جانب آخر، تمنح سياسات الموت نظرة تفسيرية أوسع لظواهر تتجاوز العنف المميت ضد الآخر في الصراعات والحروب، فيمكن من خلالها تفسير سياسات الدول الغربية لتقييد الهجرة، مع صعود اليمين المتطرف والاتجاهات الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة. إذ تنطوي تلك السياسات على إجراءات واستثناءات تشرعنها الدولة بحكم سيادتها، ويتحول بمقتضاها المهاجرون غير النظاميين إلى "أناس مستباحين" وفقاً للقانون، حيث قد يتعرضون للموت الفعلي أو المحتمل (إطلاق نار من حرس الحدود، الموت غرقاً، الظروف اللانسانية في مراكز احتجاز اللجوء، الإهمال الصحي،...).

أيضاً، قد يتم ممارسة سياسات عنصرية ضد المهاجرين تعزز فرص الحياة للبعض وترفع احتمال الموت للآخرين، على غرار حظر الرئيس دونالد ترامب إبان رئاسته الأولى دخول مواطني سبعة دول إسلامية في عام 2017، ثم تعهده قبل فوزه برئاسة ثانية في نوفمبر الماضي بترحيل 11 مليون مهاجر غير نظامي من الولايات المتحدة، أو حتى الإعفاءات التي حصل عليها طالبو اللجوء من أوكرانيا إثر الغزو الروسي لبلادهم في فبراير 2022، مقارنة بتقييدها لدى نظرائهم من مناطق أخرى [12].

تُقارِب دراسات أخرى آثار السياسات النيوليبرالية على المجتمعات من خلال الآليات غير المباشرة لسياسات الموت، فمع انتهاج الحكومات لسياسات تقشف وتقليص لأدوارها التنموية تحت ضغوط مشروطيات المؤسسات المالية الدولية، قد تصبح الفئات الفقيرة أكثر عرضة للموت البطيء، حيث تكون غير قادرة على الاعتناء بصحتها بسبب عدم القدرة على شراء الأدوية أو الموت المحتمل، عندما يتعرض الأفراد لمخاطره أثناء الهجرة هرباً من البطالة والفقر.

 بل إن التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية التي قد تنجم عن السياسات النيولبيرالية قد تؤدي إلى نتائج غير متكافئة في مواجهة مخاطر الموت داخل المجتمعات بسبب عدم المساواة في الخدمات الصحية، مثلما جرى الأمر خلال أزمة جائحة كورونا في بعض الدول [13]. أيضاً، قد تفسر سياسات الموت إهدار حقوق السكان الأصليين أو الفقراء عبر تهجيرهم ونقلهم من أماكن عيشهم الى مناطق أخرى قد تكون خطرة على حياتهم أو تدمر حياتهم الاجتماعية، من أجل استثمار موارد الأرض التي يعيشون عليها لصالح تحالفات رأسمالية مع السلطة [14].

مع الأهمية التفسيرية لسياسات الموت وتمددها لمجالات عديدة، هنالك ملاحظتان أساسيتان يمكن طرحهما، قبل مقاربة تلك السياسات في أزمات الشرق الأوسط:

أولاً: إن سياسات الحياة والموت قد لا تنفصلان عند ممارساتها من قبل السلطة في الدول القومية، إلا أن هنالك تفاوتاً في مساحتيهما، وفقاً لحدود القيود المطروحة في النظم السياسية. فتطور الدولة في الغرب أنتج توازناً للسلطات وآليات رقابة ومحاسبة في إطار الحكم الديمقراطي قد تحد من سياسات الموت وآلياتها المباشرة وغير المباشرة على الأقل تجاه مواطنيها، وإن لم يمنعها تجاه الآخرين في الخارج بسبب مصالح جيوسياسية واقتصادية. يختلف ذلك نسبياً عن تطور الدولة في السياقات غير الغربية، خاصة في الجنوب، فلا تزال العديد من أنظمتها السياسية، كما في الشرق الأوسط، تأخذ صبغة تسلطية بسبب الانتخابات الشكلية وافتقار مؤسساتها للقدرة التمثيلية للمجتمعات أو مراقبة سياسات السلطة ومحاسبتها، بما يخلق بيئة قابلة لممارسة سياسات الموت دون كوابح.

ثانياً: إن سياسات الموت ترتبط بشكل جوهري بممارسة السلطة للعنف بأشكاله المختلفة – كما صنفها جالتونج [15] - وهي العنف المباشر (قتل مباشر يقود للموت الفعلي للأفراد) والعنف الهيكلي (اختلال هياكل مؤسسية يؤدي إلى عدم تكافؤ في الوصول إلى السلطة والموارد، ومن ثم يمنع تلبية الأفراد لاحتياجاتهم وحقوقهم، وقد يخلق ذلك أشكالاً من الموت البطيء أو المحتمل أو السياسي الاجتماعي) أو العنف الثقافي (تبرير وإضفاء الشرعية على آليات العنف المباشر والهيكلي عبر خطابات عنصرية وكراهية تجعل موت الآخر مُبرراً أو لا يثير تعاطفاً إنسانياً معه).

هنا، من الأهمية الإشارة إلى أن بعض الدول، خاصة التي تواجه صراعات أهلية وتدخلات خارجية في الشرق الأوسط، لا تحتكر آليات العنف بالكامل، ومن ثم لا تملك السيطرة وحدها على سياسات الموت على أساس ممارسة السيادة، حيث هنالك منافسة لها من فاعلين مسلحين دون الدول، كالمرتزقة، المليشات المسلحة، جماعات الإرهاب، شركات أمنية خاصة، وغيرها. وقد يمارس أولئك الفاعلون بدورهم سياسات موت في المناطق التي تخضع لسيطرتهم.

أنماط سياسات الموت الشرق أوسطية

في مجتمعات الشرق الأوسط (دول عربية وغير عربية كإيران وإسرائيل وتركيا)، لا تعد النظرة للموت مجرد فناء جسدي، إنما امتداداً وانعكاساً للحياة، على نحو جذّرته حضارة المصريين القدماء، فضلاً عن الديانات السماوية التي كانت المنطقة مهداً لها. من هنا، تتحول لحظة الموت وما يعقبها من تشييع للمتوفى في تلك المجتمعات من حالة يغيب فيها شخص بمفرده عن الحياة إلى لحظة جماعية تنتج سياقات قيمية وثقافية واجتماعية وسياسية. إذ يرتبط الموت بوجود سردية مفسرة له، من خلال المعتقدات الدينية حول الثواب والعقاب في الآخرة، والتي تعزز القيم والهوية الجماعية، كونها تصوغ تصوراً مشتركاً حول الاتصال الوثيق بين السلوك الحياتي للأفراد في الحياة الدنيا، وما قد يواجهونه من مآلات بعد الموت.

من جانب آخر، يثير الموت الإحساس المشترك بالحزن والتعاطف والألم من قبل مجموعة أفراد مرتبطين بالشخص المتوفي سواء أكان الارتباط مباشراً (العائلة والأصدقاء والأقرباء) أو غير مباشر (حالة رحيل رموز وقادة سياسيين وشخصيات عامة). يعزز هذا الإحساس المشترك نمط العلاقات بين الأفراد والجماعات، بما يحول لحظة الموت إلى أحد مصادر التماسك الجماعي وبناء رأس المال الاجتماعي، على مستوى الأسر والجماعات، أو رأس المال السياسي على مستوى الفاعلين السياسيين.

أيضاً، قد يشكل الخوف من الموت مصدراً للضبط السلوكي لحركة الأفراد والجماعات وعلاقاتهم في الفضاء العام، خاصة مع تحوله إلى عقوبة في النظم القانونية الحديثة لمواجهة جرائم تهدد السلم والأمن الاجتماعي، كالقتل والاغتصاب وغيرها. أخيراً، يرتبط الموت بفكرة التضحية بالنفس، كأحد وسائل مواجهة الأعداء، وهو معنى خضع لجدالات وتأويلات دينية وسياسية بسبب ربطه بمفهوم الجهاد [16]، حيث سعت جماعات متطرفة إلى تزييف المفهوم وقصره على فكرة القتال، كأداة لفرض السيطرة على الآخر المخالف دينياً، تحت مزاعم إعادة تطبيق الشريعة.

لذلك، من الأهمية التفرقة بين التضحية بالنفس في حالات الإرهاب الذي يعد عدواناً مجرماً على الآخرين أو المقاومة المشروعة التي تجابه قوة احتلال أو الحروب الوطنية ضد اعتداءات القوى الخارجية. ففي حالتي المقاومة والحروب الوطنية، تكتسب فكرة الموت دفاعاً عن الكرامة والشرف والأرض والعدالة نوعاً من منح الحياة والتحرر للآخرين.

تشي تلك الدلالات بأهمية فكرة الموت في منظومة القيم والسلوكيات الفردية والجماعية في الشرق الأوسط، حيث تخلق بيئة عامة تنفذ منها سياسات الموت. وإذا أضيفت دلالات الموت إلى مأزق الدولة على مستوى ضعف القيود على استخدامها للعنف أو منافستها على احتكاره من قبل فاعلين مسلحين من دون الدول، فيمكن التمييز التحليلي بين ثلاثة أنماط لسياسات الموت في أزمات المنطقة سواء أكانت حروباً أو صراعات أو أزمات سياسية أو أمنية أو اقتصادية.

أول تلك الأنماط هي سياسات الموت المباشرة، والثاني سياسات الموت غير المباشرة، والثالث، سياسات الموت الناعمة التي تنزع لتوظيف الخصوصية القيمية لفكرة الموت لدى مجتمعات المنطقة. مع إدراك تداخل تلك الأنماط الثلاثة في الواقع، وأن أحدها قد يتحول للآخر أو أن يتم ممارساتهم في توقيت واحد، وبدرجات متفاوتة، وفقاً لمدى قدرة السلطة على تحقيق أهدافها في عملية السيطرة على مجال الحياة والموت، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:

أولاً: سياسات الموت المباشرة: تعبر عن لجوء السلطة إلى العنف الصريح للسيطرة على مجال الموت والحياة، والذي قد يؤدي إلى موت الأفراد على نحو مباشر. ينتشر هذا النمط في الشرق الأوسط، بسبب عنف الحروب والصراعات، أو الممارسات العنيفة لبعض الأنظمة التسلطية إزاء المعارضين لها من خلال الاغتيال والإخفاء القسري والتعذيب، وقد تُمارس سياسات الموت تلك بوسائل تقليدية أو تكنولوجية حديثة قد ترفع من حجم الضحايا إلى حد الوصول إلى إبادة الآخر.

على سبيل المثال، قتل أكثر من 45 ألف فلسطيني وأصيب أكثر من مائة ألف آخرين في حرب إسرائيل على قطاع غزة، منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، دون حساب من قضوا أو أصيبوا بفعل تدمير البنى التحتية [17]. استهدفت إسرائيل من وراء تصعيد سياسات الموت المباشرة إلى الإبادة الجماعية ليس فقط إنهاء القدرات العسكرية لحماس لعدم تكرار هجماتها وبالتالي استعادة الردع، إنما تحويل قطاع غزة إلى منطقة موت غير قابلة للحياة، من أجل تنفيذ مخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، فضلاً عن الهيمنة الإقليمية، لا سيما مع توسيع عدوان إسرائيل إلى لبنان واحتلال أراضٍ في جنوب سوريا مؤخراً إثر سقوط نظام الأسد. تبرر إسرائيل نشر سياساتها للموت في المنطقة باحتياجات الأمن وخطابات عنصرية لدى حكومتها المتطرفة تجرد الآخرين من إنسانيتهم وحقوقهم في المنطقة، على النحو الذي وصف فيه يواف جالانت وزير الدفاع السابق الفلسطينيين بأنهم "حيوانات" لتبرير إباداتهم.

راح أيضاً ضحية الصراع الأهلي المحتدم في السودان منذ إبريل 2023 بين قوات الجيش ومليشيا الدعم السريع ما لا يقل عن 20 ألف قتيل خلال عام ونصف، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، بينما تُضاعف تقديرات أخرى الرقم إلى أكثر من واحد وستين ألفا إن أضيف له من يموتون بسبب الجوع وانتشار الأمراض بسبب الحرب. أما في سوريا، فقد قتل خلال الحرب الأهلية خلال 13 عاماً أكثر من نصف مليون شخص، وفقاً المرصد السوري لحقوق الإنسان، بينما يقدر عدد المختفين بأكثر من مائة ألف شخص [18].

قد تصبح الصورة العامة أكثر قتامة حول تقديرات العنف المميت التي تخفي ورائها حيوات بشر انقضت والآم جماعية عامة ستنعكس سلباً على مستقبل المنطقة، عندما تشير دراسة لمعهد واتسون في الولايات المتحدة في مايو 2023 إلى مقتل ما بين 4.5 -4.7 مليون شخص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب الآثار المباشرة وغير المباشرة للعنف في مناطق حروب وصراعات كسوريا وأفغانستان وباكستان والعراق واليمن، وذلك على مدى أكثر من عقدين منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 [19].

ثانياً: سياسات الموت غير المباشرة: وهي تتعلق بممارسة السيطرة على مجال الموت والحياة من قبل السلطة عبر آليات غير مباشرة قد تكون متعمدة أو غير متعمدة لكنها تقود إلى خلق سياقات قاسية قد تفضي للموت البطيء أو المحتمل أو السياسي-اجتماعي سواء نتيجة لفشل الدول ومؤسساتها في توفير الخدمات العامة أو ممارسة سياسات قمعية أو اقتصادية فاشلة تعزز الفجوات داخل المجتمعات.

تسهم هنا أيضاً الصراعات المميتة في الشرق الأوسط في تغذية سياسات الموت غير المباشرة، فقد أدى فشل وظائف الدولة السورية إثر نشوب الحرب الأهلية إلى تحول نصف سكانها إلى نازحين ولاجئين يتعرضون لمخاطر الموت، أما في حرب إسرائيل على غزة، فمن لم يمت مباشرة بسلاح الاحتلال، تعرض للموت بشكل غير مباشر، فغالبية سكان القطاع يعانون النزوح والحصار والتجويع والافتقاد للاحتياجات الإنسانية الأساسية. فيتعرض مثلاً أصحاب الأمراض المزمنة في غزة، الذين تقدرهم منظمة الصحة العالمية بـ 350 ألف شخص، إلى تهديدات الموت البطيء بسبب الافتقار لخدمات الصحة بعد تدمير إسرائيل المستشفيات [20].

قد تتضمن سياسات الموت غير المباشرة نمطاً من العنف الهيكلي، عندما تقود السياسات الاقتصادية للحكومات إلى إحداث اختلالات اقتصادية واجتماعية ترفع بدورها من احتمالات موت الأفراد. على سبيل المثال، تعد الدول العربية الأقل مساواة في العالم بسبب فشل الإصلاح الاقتصادي وتراكم الديون والاعتماد على هياكل ريعية تعاني انكشافاً مزمناً أمام الصدمات الخارجية، كما جرى إبان جائحة كورونا أو الحرب الأوكرانية التي رفعت أسعار الغذاء والطاقة، وبالتالي تعمقت أزمات اللامساوة داخل مجتمعات المنطقة على مستوى الدخل والثروة بل والحصول على حق الغذاء. يشير في هذا الصدد، تقرير للأمم المتحدة في العام 2023 إلى أن فشل الدولة ووظائفها أنتج انعدام الأمن الغذائي الذي يهدد حوالي 181 مليون شخص في المنطقة العربية، أي قرابة ثلث سكانها، خاصة أن غالبيتهم تحت خط الفقر [21].

 تتسع دائرة سياسات الموت غير المباشرة في المنطقة، عند النظر إلى تدهور الحقوق والحريات التي تجعل الأفراد والجماعات في بعض الدول يعيشون موتاً سياسياً أشبه بالحياة العارية التي وصفها أجامبين، حيث تتراجع غالبية دول المنطقة على مؤشر الحريات العالمي بسبب نمط الانتخابات المعيبة وانتشار الحروب والصراعات [22]. قد تؤدي آثار سياسات الموت غير المباشرة على المجتمعات إلى مقاومة شعبية لها، على نحو برز في الثورات العربية أو في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بما قد يدفع السلطة إلى التحول لسياسات موت مباشرة عنيفة لقمعها.

 ثالثاً: سياسات الموت الناعمة: أي توظيف السلطة مجال الموت سياسياً بطريقة غير صدامية وغير مباشرة تعتمد على الخطابات والآليات السلمية، وهو نمط شائع في ديناميات منطقة الشرق الأوسط وله أوجه سلبية وإيجابية. فقد يستخدم القادة السياسيون الأحياء شعبية قادة تاريخيين أموات لتعزيز شرعيتهم السياسية أو استمرار همينتهم على السلطة. تلجأ الحكومات أيضاً لتأبين قتلى الحروب وإعلان الحداد الوطني على ضحايا الكوارث لتعزيز الهوية والتماسك الجماعي في مواجهة الأزمات. كذلك، قد تتحول مراسم الجنازات للقادة السياسيين إلى مؤشر على مدى الدعم لفئة حاكمة أو شبكات المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية داخل الدولة أو شعبية سياسات معينة لقادة راحلين، على غرار الجنازة الشعبية للزعيم جمال عبد الناصر التي شيعها الملايين في مصر والمنطقة تعبيراً عن دعم توجهاته الاقتصادية-الاجتماعية والوحدوية العروبية ومواجهة الاستعمار، على الرغم من الانتقادات لبعض سياساته إزاء المعارضين.

في هذا الإطار، يقارب محمد شقير النموذج المغربي في الاستخدام الناعم للموت من خلال إطار تعزيز الشرعية السياسية (الإشراف على النصب التذكارية، التنافس بين السلطة والأحزاب على توظيف الرصيد النضالي لشهداء الحركة الوطنية في تكريس شرعيتها من خلال إطلاق أسمائهم على الشوارع وغيرها)، وإطار تكريس الاستمرارية السياسية (التوافق الوطني بعد وفاة الملك من خلال البيعة، مدى حضور المخزن (النخب الحاكمة المتمحورة حول الملك) أو أعضاء من الحكومة أو العائلة المالكة لجنازات المتوفين، حيث يعبر عن مدى الرضا السياسي من عدمه). لكنه يضيف أيضاً إطاراً ثالثاً يتعلق بالمواجهة السياسية، وهو أقرب لنمط سياسات الموت التي تتخذ طابعاً عنيفاً سواء أكان مباشراً وغير مباشر، حيث ممارسة الاغتيالات والاضرابات وغيرها [23].  

ويمكن القول إن توظيف لحظة الموت سياسياً بشكل ناعم قد تشكل اختباراً كاشفاً لمدى التماسك السياسي والاجتماعي للدول والمجتمعات في المنطقة. يظهر ذلك في مثالين مختلفين من حيث السياقات الزمنية والمكانية. في مصر، لم يؤثر الاغتيال السياسي للرئيس أنور السادات في عام 1981 على استقرار الدولة المصرية بسبب الرسوخ المؤسسي والتماسك الاجتماعي، فضلاً عن أن السادات ظل رمزاً وطنياً ومجتمعياً للانتصار على العدو الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، حتى مع وجود انتقادات لسياساته. على النقيض، شكل مقتل الزعيم الليبي معمر القذافي على يد معارضيه المسلحين بعد نشوب الثورات العربية أحد عوامل اضطراب المسار الانتقالي، وهو ما يمكن تفسيره بضعف الدولة ومؤسساتها وافتقاد التوافق الوطني على إدارة الانتقال السياسي، ناهيك عن السياسات العنيفة للقذافي إزاء المعارضين خلال فترة حكمه، والتي أعادت إنتاجها مليشيات مسلحة بعد سقوط النظام بطريقة أكثر حدة في ظل الانقسام الحكومي والمناطقي في البلاد.

ديناميات الإذعان والاختراق والاحتلال

مع وجود عوامل داخلية وخارجية واضحة تغذي انتشار سياسات الموت بأنماطها المختلفة في أزمات الشرق الأوسط، كالحروب والصراعات، وغلبة نمط النظم التسلطية، واختراقات القوى الخارجية، وصعود المسلحين دون الدول، وفشل العديد من الدول ووظائفها، ناهيك عن طبيعة النظرة للموت في مجتمعات المنطقة، إلا أن فهم ديناميات التشابك بين تلك العوامل قد يبين كيف تبلور أنماط من السلطة التي تحكم مجال الحياة والموت في منطقتنا.

داخلياً، ترتبط حدة ممارسة السلطة لسياسات الموت بطبيعة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمعات، فكلما تغولت الأولى على الثانية بدا تحكم السلطة أكبر في مجال الحياة والموت دون كوابح. تتفاوت درجات هذا التغول في المنطقة بين نظم ديمقراطية قليلة (تأخذ طابعاً عنصرياً كإسرائيل أو مقيداً كإيران وتركيا)، أو نظم تسلطية تعتمد على المقايضة بين الحقوق الاقتصادية-الاجتماعية والحقوق السياسية المتعلقة بالمشاركة والتمثيل في السلطة، اعتماداً على امتلاك الموارد وكفاءة الإنفاق والتحديث العام أو نظم تسلطية تفرض سلطة إذعان، خاصة أنها إما لا تملك الموارد اللازمة للمقايضة أو حتى تملكها لكنها محتكرة من تحالفات ضيقة موالية لتلك السلطة، أي تفتقد إلى عدالة التوزيع على قاعدة اجتماعية واسعة.

في هذا النمط الأخير، قد يصل تغول الدولة إلى أقصاه على حساب حقوق الأفراد والمجتمع، فتصبح السلطة دون رقابة أو محاسبة، ومن ثم تعمل على إنتاج آليات العنف والاستثناء والإقصاء من أجل استمرارها. على سبيل المثال، في حالة سوريا، يربط الباحث ميشيل سورا استمرار هيمنة عائلة الأسد على السلطة لعقود بإنتاج نوع من السلطة المتوحشة العنيفة إزاء مجتمع متنوع الأعراق والطوائف والأديان، لخلق سياقات من الإذعان المجتمعي. إذ تتحول الدولة ومؤسساتها إلى آلية للسيطرة بالمعنى السلبي لا الإيجابي للسياسة الحيوية لفوكو، ومن ثم تصبح سياسات الموت نهجاً للسلطة في علاقتها مع المجتمع.

يرجع سورا ذلك إلى طبيعة بنية نظام الأسد، والتي يفسرها من منظور ابن خلدون، حيث ثلاثية العصبية (مجموعة صغيرة متحالفة تسيطر على السلطة ومواردها ولها ظهير طائفي علوي يسيطر على الأغلبية) والدعوة (امتلاك سردية سياسية من خلال حزب البعث لتبرير تلك السيطرة، وتوظيف العلاقات الخارجية لدعم وتمويل تلك العصبية) والمُلك (الحفاظ على السلطة بكل الوسائل الممكنة بما فيها آليات العنف المباشر وغير المباشر) [24]. تتمدد سياسات الموت لهكذا نمط من السلطة نحو الأقليات، مثلما جرى مع الأكراد في سوريا حيث تحولت مناطقهم إلى أماكن للاستثناء والتمييز والإقصاء، بما جعلهم عرضة للعنف غير المقيد سواء من قبل السلطة في سوريا أو حتى من جانب قوى إقليمية كتركيا وإيران أو جماعات إرهابية كداعش [25].

يتكرر النمط السلطوي الحاد في سياقات أخرى في المنطقة بدرجات متفاوتة كليبيا واليمن، وبالتالي يتعرض الخروج المجتمعي عليه طلباً للحقوق والحريات إلى مواجهته من قبل السلطة بعنف. لذا، ليس مفارقة أن يقود فشل الثورات العربية إلى عسكرة الانتماءات الأولية سواء أكانت دينية أو قبلية أو طائفية أو مناطقية، ومن ثم تصاعد تأثير الفواعل المسلحة دون الدول وحيازتها لمساحات من العنف، بما جعلها تُضعف سيادة الدولة وتحل محلها جزئياً في بعض المناطق كاليمن وليبيا، أو حتى أحياناً بشكل كلي، مثل سيطرة هيئة تحرير الشام، المصنفة كجماعة إرهابية، على السلطة في سوريا بعد إسقاط نظام الأسد في ديسمبر الماضي، مستغلة تغيرات توازن القوى في المنطقة إثر تداعيات حربي إسرائيل على غزة ولبنان، حيث تراجع المحور الإيراني ووكلائه الداعم لنظام الأسد، فضلاً عن الانشغال الروسي بحرب أوكرانيا.

 المعضلة أن الفواعل المسلحة دون الدول تنتج في غمار صراعها العنيف مع الدول في المنطقة سياسات موت مضاد، على غرار النموذج الداعشي في سوريا والعراق في تكفير وقتل الآخرين واستباحة أجسادهم وأعراضهم وحقوقهم وإخضاع حياتهم لفضاءات موت كتلك التي تحدث عنها "مبيمبي"، مع تبرير ذلك بسرديات مشوهة تتعلق بالنقاء الديني أو إقامة الخلافة المزعومة للدولة الإسلامية. أيضاً، هنالك نموذج مليشيا "الدعم السريع" في الحرب السودانية، حيث يتعرض المدنيون لقتل ومجاعة وانتهاكات حقوقية مروعة تصل إلى حد اغتصاب النساء واستبعادهم، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش [26].

مع تحول الداخل المأزوم في دول الصراعات في المنطقة إلى ساحة لسياسات الموت المتبادلة تدفع المجتمعات ثمنها، تتآكل سيادة الدولة وتصبح أكثر عرضة للاختراق والتبعية من القوى الإقليمية والدولية، والتي قد تلجأ بدورها إلى ممارسة سياسات الموت لتحقيق أهدافها ومصالحها. فتارة، تلجأ إلى التدخلات العسكرية المباشرة مثل: تدخلات حلف الناتو في ليبيا لدعم المعارضة المسلحة ضد نظام القذافي أو التدخلات الروسية والإيرانية والمليشيات الشيعية لدعم نظام بشار الأسد لمواجهة المعارضة المسلحة في سوريا. وتارة أخرى، قد تستخدم القوى الخارجية تدخلات مميتة بالوكالة من خلال تمويل المليشيات والمرتزقة وغيرهم بالمال والسلاح ليصبحوا "وكلاء موت" في مناطق الصراعات، كي تتجنب تلك القوى المساءلة أو القيود الدولية، مثلما يظهر في صراعات السودان وليبيا واليمن وسوريا، وهو نمط دولي بات منتشراً في مناطق الحروب الحديثة مثل الحرب الروسية-الأوكرانية [27].

يتشابك مع أزمات الداخل والخارج معضلة استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي يمثل مصدراً رئيسياً لتغذية سياسات الموت في المنطقة، كونه يرفع سقف العنف المميت إلى درجات غير مسبوقة، كما جرى في حرب غزة، فضلاً عن توظيف بعض دول المنطقة التهديد الخارجي المتمثل في إسرائيل لتبرير استمرار سلطة الإذعان في علاقتها مع المجتمعات، حتى مع مفارقة صمتها على تمدد العنف الإسرائيلي في المنطقة، والذي يتلقى أيضاً دعماً مادياً ومعنوياً من قوى كبرى، كالولايات المتحدة.

تلك الديناميات المتشابكة في أزمات الشرق الأوسط تحفز على وجود سياقات تظهر فيها أنماط من السلطة التي تتحكم في مجال الحياة والموت، وهي سياقات تتعزز أكثر في ظل فشل النظام الدولي ومؤسساته في حماية الحق في الحياة للأفراد والجماعات في المنطقة، بفعل ازدواجية القيم والمعايير والسياسات الغربية، وهو ما يجعل منطقتنا ليس فقط أقل إنسانية وعدالة، أو أكثر قابلية لانتشار العنف والكراهية والتطرف، إنما أقرب ما تكون إلى جغرافيا تعج بسياسات الموت أكثر من الحياة.


[1] جوزيه ساراماجو، رواية انقطاعات الموت، ترجمة صالح علماني، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2005.

[2] (Stuart J. Murray Thanatopolitics: On the Use of Death for Mobilizing Political Life ،Polygraph: An International Journal of Politics and Culture Volume: 18 2006. https://shorturl.at/Bdn19

[3] لتفاصيل أوسع حول تطور الموت في الفلسفة الغربية أنظر: جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة د. إمام حسين عبد الفتاح، سلسلة عالم المعرفة، إبريل 1984.

[4] أنظر في ذلك، فصل حق الموت والسلطة على الحياة، في: ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية (1)، إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام، دار أفريقيا الشرق، 2004، ص 111، وما بعدها.

[5] عامر شطارة، دعاء نصار، مفهوم السياسة الحيوية بين فوكو وأغامبين، دورية تبين، العدد 40، ربيع 2022، Tabayun40-2022-chatarra.pdf

[6] جورجيو اغامبين، حالة الاستثناء.. الانسان الحرام، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للأبحاث والنشر، يناير 2015.

[7] طرح مبيمبي المفهوم في البداية كمقال في عام 2003، ثم أصدر كتاباً حوله بالفرنسية عام 2016، والإنجليزية عام 2019، أنظر: أشيل مبيمبي، السياسات النكرووية أو سياسات الموت، ترجمة أماني أبو رحمة، مجلة الفيصل، 1 مارس 2020 https://www.alfaisalmag.com/?p=18010

Achille Mbembe, "Necropolitics". Public Culture ,Duke University Press Volume 15, Number 1, Winter 2003. https://shorturl.at/jqSnw

[8] استخدمت عدة دراسات سياسات الموت لمقاربة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، منها:

Honaida Ghanim, Thanatopolitics: the case of the colonial occupation in Palestine, in R.Lentin (ed.) Thinking Palestine ,Bloomsbury Publishing ,2008 https://shorturl.at/96orT

[9] Ezenwa E. Olumba ,The necropolitics of drone bases and use in the African context. Critical Studies on Terrorism, 2024 https://doi.org/10.1080/17539153.2024.237964

[10] زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكست، ترجمة حجاج أبو جير، دينا رمضان، دار الكتب المصرية، 2012.

[11] المرجع السابق مباشرة، ص ص 349 وما بعدها.

[12] Brenda K. Wilson, Alexis Burnstan, Cristina Calderon,Thomas J. Csordas, Letting die” by design: Asylum seekers’ lived experience of postcolonial necropolitics, Social Science & Medicine, Volume 320, 2023, https://doi.org/10.1016/j.socscimed.2023.115714

[13] Sandset, T. The necropolitics of COVID-19: Race, class and slow death in an ongoing pandemic. Global Public Health, 16(8–9), 2021 https://doi.org/10.1080/17441692.2021.1906927

[14] Richard Kirk, Neoliberal necropolitics and the global competition for urban dominance,Geoforum, Volume 155,2024, https://doi.org/10.1016/j.geoforum.2024.104107.

[15] Galtung, J., Fischer, D. Violence: Direct, Structural and Cultural. In: Johan Galtung. Springer Briefs on Pioneers in Science and Practice, vol 5. Springer, Berlin, Heidelberg, 2013 https://doi.org/10.1007/978-3-642-32481-9_3

[16] شيخ الأزهر، مفهوم الجهاد لا يقتصر على القتال في ميدان المعركة، صحيفة المصري اليوم، 9-4-2015

https://www.almasryalyoum.com/news/details/702749

[17] إحصائية لوزارة الصحة الفلسطينية صدرت في 2 يناير 2025. https://shorturl.at/ur2hS

[18] باحثون: قتلى حرب السودان أعلى من بكثير من المسجل على الأرجح، صحيفة الشرق الأوسط، 14 نوفمبر 2024، https://shorturl.at/ZtrH6 ، المرصد، 528 ألف قتيل خلال سنوات النزاع في سوريا، صحيفة الشرق الأوسط، 1 يناير 2025، https://shorturl.at/2d1PQ

[19] Watson Institute for international and public affairs ,How Death Outlives War: The Reverberating Impact of the Post-9/11 Wars on Human Health https://watson.brown.edu/costsofwar/papers/2023/IndirectDeaths

[20] الأمراض والأوبئة تجتاح غزة، الجزيرة. نت، 4-8-2024، https://shorturl.at/DqY58

[21] تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا ( الاسكوا)، الأمم المتحدة، عدم المساواة في المنطقة العربية .. غياب الأمن الغذائي يشمل الفوراق 2023. https://shorturl.at/e7z2d

[22] The human freedom 2023 https://www.cato.org/sites/cato.org/files/2023-12/human-freedom-index-2023-full-revised.pdf

[23] محمد شقير، جدلية الموت والسياسة بالمغرب من الاستئثار بالرمزية الوطنية إلى الشرعية السياسية، دار أفريقيا الشرق، 2023.

https://shorturl.at/by9vj

[24] على الرغم من أن تحليل ميشيل سورا يركز على تحليل سياسات نظام حافظ الأسد (الأب) العنيفة في السبعينيات وأوائل الثمانينيات في مواجهة الاحتجاجات ضده، إلا أنه يسمح أيضاً بتفسير استمرار تلك السياسات خلال حكم بشار الأسد (الابن) في مواجهة الاحتجاجات بعد العام 2011، أنظر: فصل الدولة المتوحشة في سوريا، في ميشيل سورا، سوريا.. الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة، مارك بيالو، تقديم د. برهان غليون د. جيل كيبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017.، ص ص 27-47

[25] Saeidi, F., & Osmanzadeh, D.Colonial sovereignty and religious necropolitics: The sacred victimization of infidel Kurds in the Middle East. Ethnicities, 2024. https://doi.org/10.1177/14687968241287204

[26] هيومن رايتس ووتش، السودان: مقاتلون يغتصبون نساء وفتيات ويستعبدوهنّ جنسياً، 15 ديسمبر 2024

https://www.hrw.org/ar/news/2024/12/15/sudan-fighters-rape-women-and-girls-hold-sex-slaves

[27] Matthew P. Arsenault ,Necropolitics in Modern Warfare November 06, 2024 https://shorturl.at/NEwhK


 

 نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية* 

أضافة تعليق
آخر مقالات