المؤامرة على الفُصْحى لغة القرآن
(1)
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
ما تزال المؤامرة على اللغة العربية الفصحى مستمرة لم تتوقف .. لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب .. ثم تضاعفت الدعوة إليها وتنوعت مرتبطة بالصهيونية والماركسية .. وهي مؤامرة تلبس في بعض حلقاتها ومراحلها ثوب البحث العلمي، وتحاول أن تدعي أنها تستهدف الخير والتقدم .. والصورة المعروضة اليوم تخدع الكثيرين. وربما تجد لها من بعض الشباب الذي لم يلم إلماماً كافيا بخطوات المؤامرة، استجابة ساذجة.
وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف الدعوة إلى العامية، أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذت في بعض الأوقات الدعوة إلى معارضة مفاهيم النحو أو نطق الكلمات، وجرت في خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر ..
والذين ينظرون اليوم في مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، ومنذ أن ارتفعت صيحة الدكتور عمر فروخ بالكشف عنه وإذاعته واهتمام الجهات المختصة به حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر .. وحين قال في تقريره بالحرف الواحد ’’إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر’’ ..
ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها. وقد أطلق على خطبته اسماً خطيراً هو: ’’لماذا لا توجد قوة الاختراع عند المصريين ..!’’، وكانت إجابته بالطبع: ’’إن السر ذلك هو اللغة العربية الفصحى، وإن سبيل إيجاد قوة الاختراع هو اتخاذ العامية بديلاً ..!’’.
وتوالت المحاولات الماكرة اللئيمة التي كانت تستهدف أمراً واحداً هو عزل المسلمين عن بيان القرآن وعن أسلوبه وشق وحدة اللسان والكلمة بإعلاء العاميات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية حتى تنمو تلك العاميات وتصبح لغات منفصلة، وعندئذ يصبح القرآن (تراثاً) يترجم ويقرأ عن طريق القواميس. وهم يعضون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة، ويجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين، وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة أصلاً؛ وإنما ترجم إليها ..
2- ولما عجزت خطة العامية، قدمت خطة الكتابة بالحروف اللاتينية. واضطلعت المحافل اللغة الرسمية في تقديم عشرات من المشروعات: كان أخطرها مشروع عبد العزيز فهمي باشا الذي قوبل بالسخط والنكير من جميع حماة اللغة العربية والذائدين عنها، وإن كان أتباع التغريب من أمثال لطفي السيد وطه حسين عجزوا عن أن يعلنوا رأياً صريحاً قاطعاً. ذلك أن لطفي السيد نفسه كان من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها: (ويلكوكس – ويلمور – دنلوب).
3- ثم كانت هناك حطة ثالثة هي: (اللغة الوسطى) وتلك دعوة حمل لواءها فريد أبو حديد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي. وهي محاولة ماكرة لفصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام ولغة الكتابة بإعلاء اللهجات واعتماد اللغة الصحفية لغة أساسية. فلا هي عامية ولا هي فصحى؛ ولكنها تنزل درجة عن الفصحى لتنفصل عن بيان القرآن وتكون مقدمة لمرحلة أخرى تصل بها إلى العامية.
4- وجاءت بعد ذلك محاولة خطيرة تولاها وتصدى لها الدكتور طه حسين، هي: تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم (تطوير اللغة) تحت اسم تهذيب أو تيسير أو إصلاح أو تجديد، وهي أسماء لبقة مرنة تخفي وراءها هدفاً خطيراً هو –كما عبر عنه الدكتور محمد محمد حسين: ’’التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد) وهي القوانين التي ضمنت لنا القدرة على مطالعة تراث المسلمين والعرب خلال أربعة عشر قرناً.
فإذا ما تحققت هذه الخطة التي تسمى بالتطوير أو التهذيب وتحللنا من هذه الأصول والقوانين والقواعد التي صانت اللغة هذه القرون، كانت النتيجة هي تحقيق الهدف. في تبلبل الألسنة بين المصري والشامي والمغربي وما بين الإيطالي والأسباني .. وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي متعذرة على غير المتخصصين من دارس الآثار ومفسري الطلاسم .. وعندئذٍ تصبح وحدة العرب مقدمة لوحدة المسلمين عمل باطل ..!.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: ’’ليس الخطر في الدعوة إلى العامية، ولا في الدعوة إلى الحروف اللاتينية ولا إلى إبطال النحو وقواعد الإعراب أو إسقاطها؛ وإنما الخطر في هؤلاء العتاة الذين يعرفون كيف يخدعون الصيد بإخفاء الشراك .. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاً الهدامون مِمَن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً .. إن الخطر الحقيقي هو قبول (مبدأ التطوير) نفسه؛ لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حد معين أو مدى معروف يقف عنده المتطورون، ولا ريب أن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض.
5- كانت هناك ولا تزال خطة أخرى (وهذه الخطط كلها تعمل داخل المؤسسات) مؤسسات اللغة والتعليم. تلك هي بدعة إصلاح اللغة .. وقد ظن الكثير من البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء، فالمصطلح خادع وماكر وسيء النية أيضاً .. وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال: ’’إن الإصلاح في الألفاظ والتراكيب والأساليب لا يكون إلا بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها والأحوال العارضة على الألفاظ باختلاف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد والمركب من حيث الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط الفصاحة والبلاغة وهي (المعاني)، ومعنى إصلاح قواعد الصرف انتقالاً من الصعب إلى السهل إنما يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخاً تاماً لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه، وبعد أن يتم الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفاً جديداً محدود القواعد، قليل التنويع، خفيفاً على العقل والفكر، سهلاً على الذهن والفهم .. وكذلك الأمر في إصلاح قواعد النحو، وإصلاح علوم البلاغة.
وبهذا يكون معنى الإصلاح في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية. ذلك أن الإصلاح هو التغيير، والتغيير يعني الإزالة والوضع.
ويقول الدكتور العناني أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً بالوضع فقط، أو بالوضع والإزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة. وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنه تعبد عنها شيئاً فشيئاً حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة ..
ونقول أن هذا ما يحلم به سعيد عقل، وأنيس فريحة، ولويس عوض .. وما كان يتمناه سلامة موسى، والخوري مارون غصن وطه حسين ولطفي السيد .. ومعنى هذا أن يصبح كل تراث العربية البالغ عشرات الآلاف من الكتب في مختلف مجالات الشريعة الإسلامية والأدب، والحضارة والفكر والفن عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف .. ويقول الدكتور علي العناني: ’’إن قواعد اللغة العربية وُضِعت طبقاً لنصوص القرآن والحديث والمسموع من العرب، فالتغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث.
كذلك فإن الدين الإسلامي وهو عقيدة وشريعة قد استنبطت أحكامه فيما يختص بالعقيدة والتشريع في العبادات والمعاملات من الكتاب والسنة وعمل الرسول والقياس والاجتهاد. وكل هذه الأركان والينابيع لا يمكن أن يستنبط منها حكم إلا بواسطة مبادئ خاصة وقوانين معروفة بعلم الأصول. وأساس هذه المبادئ والقوانين الراسخ أو دعائم علم الأصول إنما هي فهم لغة العرب: لغة القرآن والرسول بما وضع لها من القواعد الصرفية والنحوية وضوابط علوم البلاغة، وإذا أصلحت هذه الضوابط وتلك القواعد بالإزالة والوضع انهدم أساس علم الأصول وتداعت دعائمه، وإذا انهدم الأساس وتداعت الدعائم انهدم أيضاً ما يرتكز عليها، وهو هذا العلم .. وإذا وصل هذا العلم الأساسي في استنباط أحكام العقيدة ومسائل الشريعة إلى التداعي، تداعت معه أيضاً طريقة الاستنباط وفهم ما استنبط ودون بالفعل، وضاعت العقيدة واحتجبت الشريعة وعدنا إلى الجاهلية الأولى.
6- هذه هي خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من أعداء الإسلام واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من ثوب إلى ثوب، ومن أسلوب إلى أسلوب، كلما انكشف لهم جانب أعادوا تشكيله في صورة أخرى، وهم الآن على أبواب التعليم، وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها وأعين عليها. ومن هنا نجد عبارة شخ الأزهر واضحة في معارضة المشروع حين يقول: ’’إن هذا المشروع واضح الهدف في هدم معالم اللغة العربية، وتبعاً لذلك البعد بها وبأهلها عن القرآن الكريم. ثم ما ينتج عن ذلك من مساس بالإسلام وأصوله كما هي مصونة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تئول إليه اللغة (لا قدر الله) وما احتوته من تراث في صورتها السليمة يمتد عبر أربعة عشر قرناً في نحو أربعة عشر إقليماً ..
ولذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية يرى في هذا المشروع خطراً داهماً على اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من شأنه أن يقطع صلة المسلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد عليه على دلالة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر، والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما لا يتحقق في لغة أساسها العامية. بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي الإسلامي بصفة شاملة.
ومَن يطالع تقرير الدكتور عمر فروخ يحس بالخطر الكامن واضحاً في عبارات صريحة، يقول: ’’وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات جرت بحوث واقتراحات وملاحظات جعلتني = خيفة شديدة من المشروع .. إن كل ما دار في مؤتمر برمانا كان يولد فيّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر كان الاهتمام باللغة العامية .. لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ونفر من العرب غير اللبنانيين (وكثرة) من الأجانب لفتت نظري أن جلهم من الرهبان اليسوعيين ..
ونحن نقول إنها حلقة جديدة من حلقات المؤامرة أخش أنم تقف منها المجامع العربية موقع الصمت أو التردد؛ حيث نرى بعض رجالها يؤمنون بما يؤمن بها المستشرقون ويدافعون عنه، وخاصة في محاولة تطبيق علم اللغات الحديث على اللغة العربية، وهو علم قامت نظرياته ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات الأوربية. وهذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق. أما تاريخها فإنها مشتقة من اللغة اللاتينية ولغات أخرى. وقد كانت في أول أمرها لهجات عامية ثم استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .. أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القومية الأوربية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .. أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم؛ وإنما لغة الثقافة الإسلامية بعامة .. ومن هنا فإن محاولة القول الذي تردد كثيراً على ألسنة طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد، وما يزال يتردد على ألسنة بعض من يتولون أمر اللغة، بأن اللغة العربية لغتنا ونحن أصحابها، ولنا حق التصرف فيها، هو قول باطل وغير صحيح ومردود؛ ويرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي .. وربما كان قولاً صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية، أما بالنسبة للغة العربية فإنه أمر جد مختلف؛ ذلك أن اللغة العربية منذ أن نزل التنزيل بها فقد أعطاها أبعاداً تختلف وواقعاً خاصاً ..
فاللغة العربية منذ ارتبطت بالقرآن الكريم أصبحت ليست لغة أمة هي العرب فحسب؛ بل هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 700 مليون.
ومن هنا فإن ارتباطها بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وأن يقرأ تراثها بقاموس .. وسيظل الترابط بين المسلمين ولغة الضاد الفصحى لغة القرآن قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ..
وبعد: فإن مؤامرة مشروع العربية العامية يجب أن يشجب بقوة من جميع الهيئات الإسلامية وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي التي تمثل اليوم مكان الأمم لمختلف المنظمات الإسلامية. وهي ما هي غيرة وقوة وإيماناً.
(2)
الفصحى: لغة القرآن
لغة ألف مليون: هم المسلمون
وليس مائة مليون هم العرب وحدهم !
ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة: وفي مؤتمر المستشرقين الأخير دارت مناقشات وأبحاث كثيرة حول ما يسمونه اللغة العربية الحديثة وحول اللهجات العامية التي يسمونها لغات.
وهناك اتجاه في بعض الجامعات التي يشرف على الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهود صهيونيون يرمي إلى المبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، وهناك دراسات عن اللهجات المصرية والتونسية والمغربية.
ويواجه الأساتذة العرب هذه الحركة بحركة مضادة معادية لهذا الاتجاه يقررون فيها ضرورة التمسك باللغة الفصحى لغة القرآن ويكشفون فساد هذا المنهج التعريبي الذي تحمل لواءه اليهودية العالمية لحساب الصهيونية وإسرائيل، ونحن نعرف أن الهدف هو القرآن والإسلام والقضاء على الوحدة الفكرية الجامعة تحت لواء الإسلام في لغة الأمم.
وفي هذا نذكر ذلك النذير الذي أصدره الأستاذ مصطفى صادق الرافعي منذ خمسين عاماً حين قال:
’’إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمداولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء بها وأحكام اللغة والبصر في حقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق بها، وكل هذا يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد، والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها’’.
ويعني هذا الذي يقوله الأستاذ الرافعي رحمه الله أن اللغة العربية ارتبطت بالقرآن فأصبحت لغة أمة: ولغة فكر وثقافة ولغة عبادة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم ألف مليون، وليست لغة مائة مليون هم العرب وحدهم، ولقد حماها ارتباطها بالقرآن مِن أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة وحال بينها وبين أن يُقرأ تراثها بقاموس كما يُقرأ تراث اللغات الأوربية. وسيظل الترابط بين المسلمين وبين لغة الضاد قائماً مادام القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
إن اللغات الأوربية حين انسحبت من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية فأصبحت لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم، وقد أصبح من شأن هذه اللغة أن تتطور وتتطور وهي في كل فترة تنتقل من اللغة المكتوبة إلى لغة الكلام التي تصبح بدورها لغة كتابة، ومن ثم فإن أوربا لا تستطيع أن تقرأ شكسبير أو ملتون أو غيرهما من أعلام الأدب إلا بواسطة القاموس، وليس بين اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وبين هذا التراث أكثر من أربعمائة عام، بينما يقرأ العرب والمسلمون اليوم امرؤ القيس وبينهم وبينه أكثر من ألف وخمسمائة عام كأنما ألقى شعره في نفس اليوم، ولو أن إنساناً عربياً من الجاهلية بعث اليوم لاستطاع أن يتحدث إلينا ونتحدث إليه ويفهم منا ونفهم منه.
عن القول الباطل الذي يردده هؤلاء التغريبيون من قولهم أن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها هو قول غير صحيح يرده واقع التاريخ ويدحضه منطق البحث العلمي.
وقد يكون صحيحاً بالنسبة لعلم اللغات الذي استمد مقوماته من دراسة اللغات الأوربية وأقام نظرياته على أساس واقعها وهو إذ يصح بالنسبة لكل اللغات فإنه لا يصح بالنسبة للغة العربية التي احتضنها القرآن فنزل بها ومن ثم فقد أعطاها ’’أبعاداً خالدة’’ تختلف اختلافاً واسعاً عن اللغات وقد تتباين ويتعارض معها، ذلك أن اللغات الأوربية ترجمت كتابها المقدس إلى لغاتها الجديدة، وكانت موجة القوميات الأوربية عاملاً على أن تقيم من لهجاتها لغات خاصة منفصلة عن اللغة الأم، كما انفصلت سياسياً عن النظام السياسي الغربي الذي كان قائماً ومتصلاً بالكنيسة الغربية الواحدة، وهذا أمر يختلف في اللغة العربية تماماً؛ فإن المسلمين لم يترجموا قرآنهم وما يزال يقرؤه الهندي والفارسي والتركي والبربري وغيرهم من الأجناس واللغات بنفس اللغة العربية التي نزل بها، ولذلك فهو قد أقام للغة العربية كياناً خاصاً حماها من التحول إلى العاميات، ومن ثم فإن علم اللغات الحديث الذي تجري محاولة تطبيقه على اللغة العربية هو علم قاصر قامت مستخلصاته على أساس دراسة اللغات الأوربية وظروفها، كما ذكرت ولكنه لم يدرس ظروف اللغة العربية.
ولقد اعتقد المسلمون على مدى القرون، وهو الحق: أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ولغة لكاتبه ومعجزة رسوله ولساناً لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشارها وخلدها القرآن بخلوده، فالقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وأن ’’الأرجانون’’ لأي فكر أو ’’منهج بحث’’ لأي فكر إنما يستند إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج البحث العلمي العربي إنما يستند إلى خصائص اللغة العربية ولا يستطيع أن يستند إلى خصائص لغة أخرى، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها، وكما هاجم المسلمون المنهج الأرسطي وقالوا أنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية فكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي الوافد (ماركسياً أو ليبرالياً أو فرويدياً أو وجودياً)؛ ذلك لأن الفكر الإسلامي منهج البحث الخاص به ومنهج المعرفة الذي يمثله والمستمد من اللغة العربية أصلاً ومن التوحيد الخالص.
ولا ريب أن محاولة فصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام بإعلاء اللهجات أو بخلق ما يسمونه لغة وسطى أو لغة الصحافة، كل هذا له خطره وله أبعاده ومخاطره.
إن النظرة اليسيرة قد ترى في ذلك شيئاً مقبولاً، ولكن النظرة العميقة تكشف عن محاذير عميقة أبرزها: الانفصال عن مستوى البيان القرآني؛ ذلك أنه من الضروري أن تظل اللغة العربية متصلة ببيان القرآن ومرتبطة به، فإذا بعدت عنه كان من أخطار ذلك أن تنفصل أو تنعزل عن مستوى البيان القرآني. فإذا مر زمن طال أو قصر انقطعت الصلة بين البيان والأداء العربي وبين القرآن.
واللغة العربية: لغة غنية خصبة عملاقة، يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين: ’’إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 ألف و412 كلمة’’، ويقول الحسن الزبيدي أن ما يستعمل من ألفاظ اللغة العربية هو 5620 لفظاً فقط. وعندما نزل بها القرآن أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية عن مكانها في مصر والشام وأفريقيا وأدالت منها قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث تحولت الصلوات في الكنائس إليها، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأبجية والساحلية. كما كتب بها لغة أهل الملايو وقد حدث هذا منذ أكثر من ألف عام.
ثم دخلت إلى اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية. ومن الناحية العلمية فهي تفوق أضخم اللغات ثروة وأصواتاً ومقاطع؛ إذ بها 28 حرفاً غير مكررة. بينما في اللغة الإنجليزية 26 حرفاً ومنها مكرر، كذلك فإن اللغة العربية ثراء في الأسماء فيها 400 اسم للأسد و300 للسيف و255 للناقة و170 للماء و70 للمطر؛ لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة.
ولقد عرف رجل من أشد خصوم الإسلام قدر اللغة العربية فكتب عنها في كتابه اللغات السامية، ذلك هو أرنست رينان فقال:
’’من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة’’.
هذا وقد أثبت الأستاذ كامل كيلاني أنه ما من فن أو علم أو معنى في شعر أو نثر يتحدث في أدب من الآداب إلا وله ضريب في اللغة العربية، وقد جمع 18 صورة من هذه المقابلات، بينما وجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا ضريب لها في الآداب الغربية.
وقد شغلت كلمة (الوفاء) في اللغة العربية من لسان العرب صفحات 278، 279، 280، 281 من جزئه العشرين، بينما لا توجد هذه الكلمة في بعض اللغات كلية.
ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقوا أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.
ولذلك فمن الخطر فصل اللغة العربية عَن مستوى بيان القرآن، وذلك هو هدف التغريب الذي يعرفه جيداً جميع المستشرقين.
يقول بول كراوس: ’’لا لغة عربية بدون قرآن’’.
ويقول سيديو: أن ’’اللغة العربية حافظت على وجودها وصفاتها بفضل القرآن’’.
ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام يتخفى وراء عبارات كاذبة مضللة.
(3)
وكانت مجلة البيان الكويتية قد اقترحت أن يطلق عام 1397 عام اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ومن الحق أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذه النصرة والتجمع والمؤازرة في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي بالذات؛ حيث تتجمع قوى كبيرة للتآمر عليه وقد ارتفعت الأصوات: أصوات دعاة اليقظة الإسلامية بالتحذير من تلك الأخطار التي توجه إلى اللغة العربية الفصحى ..
فإن العدو عندما عجز عن مواجهة القرآن الكريم لجأ إلى مهاجمته عن طريق اللغة في مجال البيان، ولجأ إلى التشكيك فيه عن طريق السنة في مجال الفقه. وعلى شباب المسلمين المثقف أن يحذر مما يوجه الآن إلى اللغة والسنة من مؤامرات وتحديات ..
ولقد صدرت في السنوات الأخيرة مؤلفات ودراسات تكشف عن هذه المحاذير، في مقدمتها ’’الزحف على لغة القرآن’’ للأستاذ الجليل أحمد عبد الغفور عطار، و’’العامية’’ للدكتورة نفوسة، وصدر لكاتب هذه السطور: ’’اللغة العربية بين حماتها وخصومها’’، ومنذ وقت قريب عُقد في الخرطوم مؤتمر بحث تطوير دراسة اللغة العربية، قرر توحيد مناهج إعداد معلمي اللغة العربية والعمل على تأكيد قرار معلمي أفريقيا الخاص باعتبار اللغة العربية إحدى ثلاث لغات أفريقيا أساسية يدرسها كل أفريقي مع لغته الأصلية، كما أوصى بالإسراع في تعريب التعليم الجامعي.
والواقع أن مجامع اللغة التي قدمت عدداً أوفر من المصطلحات قد أصبحت اليوم محتواة بمجموعة من خصوم اللغة العربية الذين استطاعوا السيطرة عن طريق ما أسموه دراسات علم اللغة والأصوات وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى تشجيع العاميات واللهجات ويفسحون أمامها الطريق لتدخل القواميس ولتسطير على منهجية البيان العربي الأصيل الذي فرضه القرآن الكريم والذي يلتزم أهل العربية بالاتصال به والاستمرار في مستواه ..
والمؤامرة معروفة ومدخلها: تطوير اللغة، والقول بوضع اللغة في خدمة العصر، وهذه كلها عبارات لم تعد تخدع أحداً، ومعروف هدفها وهو الفصل بين العرب وبين لغة القرآن التي جمعتهم إلى محاولة الوصول باللهجات العامية في كل قطر إلى لغة تمزق الوحدة الفكرية والسياسية الجامعة بين العرب أنفسهم وبين العرب والمسلمين. ولقد قاومت اللغة العربية الفصحى محاولات مستمرة لم تتوقف وصمدت صموداً عنيداً أمام جميع التحديات الاستعمارية في المغرب العربي وفي سوريا وفي مصر، وفي كل مكان حيث حاول النفوذ الأجنبي ضربها ضرباً مزدوجاً باللغات الأجنبية وبإعلاء اللهجات العامية .. قاومت اللغة العربية كل المحاولات من إدماج وإزالة وإبادة؛ لأنها مدينة لقاموسها الجوهري ولنظام بناء الكلمات وتركيب العبارات والنحو والصرف، ومن هنا كانت دعوتنا إلى نقل العلوم والتكنولوجيا من أفق اللغات الأجنبية إلى أفق اللغة العربية، فنحن لا نطالب بأن ينقل الفكر؛ وإنما نطالب بأن ينقل العلم إلى أفق اللغة العربية لا أن ينتقل العرب والمسلمون إلى أفق اللغات الأجنبية. ولقد واجهت اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث مقاومة ضخمة في كل مكان: فقد حيل بينها وبين نومها الطبيعي وامتدادها مع انتشار الإسلام إلى آفاق العالم وخاصة في أفريقيا، وتشير التقارير إلى أن اللغة العربية خارج الوطن العربي هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في أفريقيا المعاصرة، وهناك دول تعتبر العربية فيها أكثر اللغات الوطنية انتشاراً. في موريتانيا وتشاد ومالطة، فانتشار العربية في موريتانيا لا يقل عن انتشارها في المملكة المغربية، فاللهجات البربرية المختلفة هي وسيلة التعامل المحلية عند حوالي ثلث سكان موريتانيا، ولكن نصف أبناء البربرية في موريتانيا يستطيعون التعامل في أمور الحياة باللغة العربية وفي المناطق الممتدة من السنغال ومالي إلى تشاد فإن العربية مستخدمة هناك في مناطق كثيرة كلغة أُم أو كلغة تداول، بل إن العربية هي أكثر اللغات استخداماً في المنطقة الممتدة من تمبكتوا (مالي) إلى كانم وواداي إلى غرب السودان.
ويقول التقرير أن أهم تجمع بشري يتعامل بالعربية في هذه المنطقة يوجد في تشاد؛ حيث يعيش فيها حوالي مليون و800 ألف مِمَن يستخدمون اللغة العربية كلغة أُم. والعربية بهذا هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في تشاد؛ فأبناء اللغات الأخرى يكونون 40 في المائة فقط من سكان تشاد، وهناك منطقة لم يرتبط تعريبها بالإسلام وهي جزيرة مالطة: المنطقة الوحيدة التي تخلو من المسلمين ولغة الحديث فيها إحدى اللهجات العربية، أما في موريتانيا وتشاد ومالطة فإن العربية قاصرة على أمور الحياة اليومية البسيطة، ولكن العربية بعيدة عن هذه المناطق في المجالات الثقافية واللغة السياسية، وعلى العكس من ذلك نجد الموقف اللغوي في الصومال حيث تسود في أمور الحياة اليومية البسيطة الواحدة لغة واحدة هي اللغة الصومالية، ولكن أبناءها يتوسلون بالعربية في أمور الثقافة الجادة والتعليم، ويهتم الصوماليون اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة العربية ويحسن كثير منهم التعامل بها فتصبح بمثابة اللغة الأم الثانية .. وقدر ارتبط تعليم العربية في الصومال بحفظ القرآن الكريم وبالثقافة الدينية عموماً، غير أنه في ظل الحكم الماركسي الحالي يعاني السكان والعربية من مشاكل كثيرة ليس أقلها قفل المعاهد الإسلامية ومنع الخطابة باللغة العربية .. إنها محنة نعتقد أنها سوق تزول عن شعب الصومال .. وهناك دول، يشكل أبناء العربية فيها أغلبية سكانية ولكنهم يكونون أقليات لغوية هي (مالي والنيجر وإيران وأريتريا وأربكستان وأفغانستان)، وقد لاحظ الرحالة الغربيون أن العربية منتشرة من شمال السنغال ومنطقة النيجر إلى تمبكتو، ثم من بورنو إلى دارفور في السودان .. والمنطقة التي ينقطع فيها استخدام العربية هي المنطقة من بورنو إلى تمبكتو. كما أشار التقرير إلى أن أكبر تجمع بشري يستخدم العربية في دولة مالي والمناطق المتاخمة لها هم (ذووحسان)، وقد تُعرف لهجتهم العربية باسم (الحسانية)، وهم الذين يُسميهم ابن خلدون (عرب المعقل)، وأغلب الظن أنهم دخلوا هذه المنطقة قبيل دخول الهلالية إلى المغرب. كما توجد أقليات عربية اللغة في عدد من الدول الأسيوية، وفي مناطق أخرى من إيران تعيش جماعات تتعامل باللغة العربية في حياتها الخاصة ويقدر عدد هؤلاء بنصف مليون ..
أما في تركيا فتعيش جماعات عربية في منطقة ماردين ويقدر عدد أبناء العربية في تركيا بحوالي رب مليون نسمة، وهناك عدة جزر لغوية صغيرة في أفغانستان وأزبكستان ..
ويقدر الباحثون أن اللغة العربية الآن هي لغة حوالي مائة وخمسة عشر مليوناً من العرب (1970)، أما الجماعات غير العربية فهي لا تزيد عن خمسة ملايين نسمة، وقد لوحظ ازدياد انتشار العربية في الأجيال الصاعدة مع انتشار التعليم ويصدق هذا على جنوب السودان رغم البطء الشديد في نشر التعليم هناك، وأكبر جماعات بشرية غير عربية في البلاد العربية هي جماعات الأكراد (مليون) والبربر (4 ملايين) والنوبيون والمهرة وأبناء لغات جنوب السودان. وفي أقصى جنوب جزيرة العرب تجد في مناطق من جمهورية اليمن الشعبية عدداً من المتحدثين بلغة سامية قديمة هي لغة المهرية، ويعتبر النوبيون أهم تجمع بشري غير العربي في مصر (ربع مليون).
ولا ريب أن هذه الإحصائيات تعطي صورة النمو المتجدد للغة العربية في العالم الإسلامي بالرغم من كل محاولات حصر اللغة الفصحى وحجبها وتغليب اللهجات العامية واللغات الأجنبية عليها، وبالرغم من محاولات تغيير أبجديات اللغات في الملايو وبعض البلاد الأفريقية ..
ولقد كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي من أوائل المجاهدين في الدفاع عن اللغة الفصحى، حتى وصف بأنه (حارس لغة القرآن)، يقول:
’’قد أدهشتني الكلمة التي جرت على قلم يوسف حنا من اعتقادي أني المختار لحراسة لغة القرآن، فأنا لم أقل له هذا ولم أعتقدها مطلقاً، ومن أجل ذلك أثّرت فيّ هذه الكلمة تأثيراً عظيماً وأعددتها أنباء من الغيب واعتقدتها والظاهر أنها كذلك’’ ..
والحق أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) كان بمثابة القنبلة الخطيرة التي ألقاها الرافعي في جو ظن خصوم الإسلام والعربية أنهم قادرون فيه على الهدم دون أن يتلفت إليهم أحد ..
ولكن اليقظة الإسلامية كانت تنطلق دائماً مكتسحة كل هذا الركام الذي شيده الأعداء. وفي هذا المجال يذكر رجل آخر من المجاهدين في سبيل اللغة العربية هو أحمد السكندري:
كان الدكتور منصور فهمي يقول كلما واجهتهم في المجتمع اللغوي مشكلة:
’’انتظروا السكندري، أرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا ولديه حل ما استعصى علينا’’، فلما مات السكندري قال منصور فهمي: ’’الآن يموت حلال المشكلات والمرتجي في اللغة للمستعصيات’’. وكان السكندري يقول: ’’لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد’’.
وهو واحد من مؤسسي المجمع ومن أكثر المتحدثين فيه، وقد كان عضواً في لجنة الرياضيات والعلوم الطبيعية والكيميائية وعلوم الحياة والطب، بل لقد كان عضواً في سبع لجان من أحد عشر لجنة، وهو من ذلك الرعيل الأول لدار العلوم: الخضري والمهدي وحفني ناصف -أولئك الذين كانت لم مواقف حاسمة إزاء المؤتمرات التي وجهت إلى اللغة في مطالع العصر ..
ومنذ بدأت فكرة التجمع لحماية اللغة والنظر في أمرها كان السكندري في المقدمة وهو قد شاهد توفيق البكري وحمزة فتح الله والشيخ الشنقيطي وحفني ناصف عندما احتجوا لأول مرة ووضعوا عشرات من الكلمات، ثم جاء بعدهم نادي دار العلوم فوضع مئات الكلمات وشارك هو في هذه اللجنة ..
والسكندري: أزهري درعمي معاً: شغف باللغة وتخصص فيها وكان من أصحاب العزائم، كان مؤمناً بمبدأ لا يتزعزع: أن اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود، فعنده أن عناصر هذه اللغة تنسحب إلى ماضٍ لا أول له، وفي طاقتها أن تمد إلى مستقبل لا آخر له، فاللغة عنده ماضيها وحاضرها ومستقبلها وحدة قوية متماسكة تتسع لكل المصطلحات. وكان يُعَد من المتشددين في القديم. وقد جعل المجمع بالغ الحرص على توفير المظان القديمة، شديد العناية بممارسة ما احتوته من مدخور العربية وكنوزها. ولم تكن معاركه داخل المجمع وحده؛ ولكنه كان معاركاً في كل مجال من أجل اللغة. وعندما كان أحمد زكي باشا شيخ العروبة يكتب كان يتحاماه كثيرون، ولكن شيخ العروبة أراد أن يكتب عن اللغة ويتعرض لكلمات: ’’على الحركرك، ويا الله)، فكتب رأيه، ثم سأل أصدقائه وطالب السكندري بالذات أن يدلي برأيه في الكلمتين ..
وقال السكندري: ’’ظن الباشا أن صمت مثلي إنما هو علم يكتمه ولا والله ليس إلا قلة الاعتداد بما خطر على بالي والاستهانة بما سنح لي في تخريج هذا الحرف (على الحركرك)، واللهُ يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فأما إذا أحرجني الباشا مرتين ولم يرضَ لي غير إحدى خصلتين: الفتيا ولو بغير مضع، أو استحقاق الإلجام بلجام من نار، فإني أستغفر الله وأقول ما لم أتعود قوله:
خطر ببالي أن (على الحركرك) محرف من نقطتين فصيحتين هما: حرَج الحرَج قلبت الجيم فيهما كافاً لتقاربهما في المخارج، الحرَج بفتح الراء معناه أضيق الضيق، فإذا أضيف إلى مثله كما يقول فلان في ضيق الضيق كانت المبالغة أشد، إذ هو بمنزلة أن يقال: أضيق ضيق الضيق، وهو ما تريده العامة وهو نظير قولهم (شفت فيه ويل الويل ومر المر). ويحتمل أن يكون محرفاً عن الحرَج الحرَج، فإذا كان يعجب الباشا مثل هذا التخريج فذاك، وإلا فإنني أعتقد أن إجابتي إنما هي على حرج الحرج، وأربأ بنفسي أن أكون في رأيه مستأهل الإلجام بلجام من نار والعياذ بالله’’ ..
وبعد فمن الحق للغة العربية أن تفرد لها عاماً يشترك فيه المجاهدون دونها، ولعل الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن يقدم وجهة نظره في هذه الدعوة المطروحة الآن على بساط البحث في عدد من البلاد العربية ..
(3)
لماذا دراسة اللهجات العامية والاهتمام بها ؟!
ما تزال اللغة العربية تدافع عن كيانها الذي يرهق الاستشراق والتغريب والذي تخطط له الماركسية في كل مكان تحل فيه، كما يخطط له الاستعمار والصهيونية بوصفها لغة القرآن التي تجمع العرب إلى وحدة الأمة والجماعة وتربط المسلمين إلى وحدة الفكر والثقافة، ولقد ترددتْ في المرحلة الأخيرة ظاهرة تبدو كأنها دفاع عن الفصحى ولكنها تُخفي في أعماقها حربها وخصومتها، تلك هي ظاهرة دراسة اللهجات العامية، ترى ذلك واضحاً اليوم في عديد من مجامع اللغة ومعاهد الدراسة العالية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يدعي أن الغاية من دراسة اللهجات هو الكشف عن أنجع الوسائل المؤدية إلى جعل لغة الضاد (موحَدة وموحِدة) في جميع البلاد العربية، أي أن تكون أكبر أداة لتوحيد الشعوب الإسلامية في أمة واحدة.
ولكن المتعمق للأمور يرى أن ذلك وَهْم من الأوهام، وأن التجربة لم تحققه؛ بل حققت عكسه، وأن بعض المعاهد التي استقدمت أمثال أنيس فريحة وغيره لم تزد أن أعطت دعاة العامية سلاحاً ضد الفصحى بالإضافة إلى أسلحتهم المشرعة اليوم في مجال المسرح والإذاعة والكاريكاتير ..
يقول الأمير مصطفى الشهابي: ’’إن اللهجات العربية العامية تعد بالعشرات بل بالمئات وكلها اليوم لا ضابط لها من نطاق أو صرف أو نحو أو اشتقاق أو تحديد لمعنى الألفاظ؛ فهي كلام العامة يستعمل في الأغراض المعاشية وفي علاقات الناس بعضهم ببعض .. وهذا الكلام وقتي لا يثبت على مرور الأيام، وموضعي لا يتجول من قطر عربي إلى قطر عربي آخر .. ومعناه أن اللهجات العامية لا يمكن أن تكون لغات علم وأدب وثقافة وليس في مقدورها أن تعيش طويلاً وأن يعم بعضها أو كلها، الأقطار العربية كافة، وكل ما يكتب بلهجة عامية يظل محصوراً في قطره وقلما يفهمه غير أبناء ذلك القطر أو غير طائفة من أبناء ذلك القطر، فإذا تدارسنا حقائق هذه اللهجات ووضعنا لكل منها قواعد رجراجة، فماذا تكون مغبة هذا العمل .. إن أخشى ما نخشاه أن يستهوي هذا الموضوع عقول بعض هؤلاء الطلاب فيعكفوا على معالجة تنظيم الكتابة والتأليف باللهجات المختلفة وعلى طبع هذه الرطانات ونشرها فتكون النتيجة تشويشاً وضرراً يباعِد بعض الأقطار العربية عَن بعض، بدلاً من أن يتوحد بلغتها، أي تكون النتيجة مخالفة تماماً المخالفة لِمَا يتوقع من تدريس اللهجات العامية في خدمة الفصحى’’.
أما القول بأن تدريس هذه اللهجات يفضي إلى معرفة مشكلات الفصحى وإلى مداواة أدوائها فهو قول ضعيف في نظرنا؛ فأدوات الفصحى معروفة تحتاج إلى مَن يعالجها بإخلاص ونشاط وصبر ومثابرة وأهمها وضع المصطلحات العلمية أو تحقيقها وتبسيط قواعد الكتابة والإعراب والصرف والنحو وتبسيط الكثير من تعليلات القواعد الصرفية والنحوية.
وجميع هذه الأمور الشائكة يعرفها علماؤنا الأثبات ولا علاقة لها باللهجات العامة وقواعد تدريسها. ومن الطبيعي القول بأن هذا التبسيط لم يمس جوهر الفصحى وسلامتها وأنها ستظل صعبة في نظر بعض الناس ولا مجال للبحث عن بعض الآراء التي تذهب إلى جعل التبسيط تشويهاً للفصحى. المطلوب هو رد العامي إلى الفصيح، كما فعل الشيخ أحمد رضا العاملي وعلماء أثبات وفقهاء باللغة مِمَن يعرفون كيف يُفيدون الفصحى مِن دراساتهم وكيف يقربون العامية منها وكيف يمنعون طغيان العامية عليها. إن قضية الفصحى والعامية لا تُحَل بدراسة اللهجات العامية وتدريسها للطلاب؛ بل تُحَل بتيسير قواعد الفصحى مع الاحتفاظ بسلامتها، وعلى الأخص نشر التعليم في سواد الشعوب العربية، ومنها فرض التعليم بالفصحى على المعلمين وعلى التلاميذ في جميع المدارس، ومنع طبع رسائل بالعامية أو التكلم بها في المدارس والمسارح ومحطات الإذاعة ودوائر الحكومات.
(4)
الفصحى في لغات أوربا
يقول (والت تايلور) في رسالته عن الألفاظ العربية في اللغة الإنجليزية أنه في الفترة ما بعد 1450 ميلادية كان الداخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية بمعدل 83 في المائة، وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصلات بين الشرق والغرب، وقد كان للجزيرة الأندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات الأوربية، فالسيادة العربية التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون قد طعمت لغتها الأسبانية والبرتغالية بعدد كبير من الألفاظ.
والذي يفتح كتاب دوزي عن الألفاظ في اللغة الأسبانية يجد فيه نحو ألف وخمسمائة كلمة من أصل عربي بعضها يرجع إلى عهود العرب الأولى في الأندلس.
كذلك فقد دخلت إلى أوربا ولغاتها مصطلحات كثيرة عن طريقة جزيرة صقلية وعن طريق الحروب الصليبية.
وقد قسم أنيس المقدسي هذه الألفاظ العربية إلى عدة أنواع:
أولاً: أعلام أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة.
ثانياً: ألفاظ ومصطلحات مستحدثة.
ثالثاً: مصطلحات علمية وخصوصاً الفلكية منها كأسماء النجوم (إبرة العقرب) و(الشعري) و(رأس الثعبان).
رابعاً: ألفاظ عربية تبنتها اللغة الإنجليزية أمثال منبر وكنيسة وسراط وفردوس وسكر ومسك وفندق.
وقد اندغمت هذه المصطلحات والألفاظ في اللغة الإنجليزية حتى لم تعد أصولها العربية واضحة.
ومجال القول في هذا الموضوع ذو سعة، وقد تناوله عشرات الباحثين الأجانب:
1- والتر تايلور: ما اكتسبت الإنجليزية من العربية.
2- الأب لامنسي: علاقة العربية بالفرنسية.
3- دوزي: علاقة العربية بالأسبانية والبرتغالية.
4- قاموس أكسفورد.
5- قاموس وبستر.
6- معجم الألفاظ الفلكية: أمين المعلوف.
7- معجم ألفاظ النبات: للدكتور أحمد عيسى.
8- معجم الألفاظ الزراعية: للأمير مصطفى الشهابي.
9- معجم العلوم الطبيعية والطبية: للدكتور محمد شرف.
10- معجم الألفاظ الداخلة في اللغة العربية: للقس الفيسي.
أنور الجندي