مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي

الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي

يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو ’’السر الحقيقي’’ وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة ’’لقيطة’’ لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.

في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.

في مجال النهضة:
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة ’’السلام’’: ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: ’’إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل’’.

في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.
أنور الجندي
أضافة تعليق