بناء مناهج التعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
الأستاذ أنور الجندي
تدرس جامعاتنا ومدارسنا وكلياتنا في العالم العربي كله وفي العالم الإسلامي الأوسع، دراسات الطب والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الفيزيائية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، دون أن تشير بحرف واحد إلى الخخلفية التاريخية الإسلامية المصدر، أو إلى المراحل التي قطعها الفكر الإسلامي في بناء هذه العلوم وتنميتها، فلا يعرف الشباب العربي والمسلم أن أجدادهم كان لهم دور خطير في بناء هذه المناهج والعلوم، ودون أن يعرفوا وجهة نظر الفكر الإسلامي والثقافة الغربية في مختلف هذه العلوم والدراسات.
وكل ما يدرس في الجامعات ليس في الحق إلا نظريات الفكر الغربي التي تشكلت منذ أوائل عصر النهضة الأدبي في مختلف تطوراتها بين المناهج الرأسمالية والمناهج الاشتراكية، ولا تمثل تلك الدراسات في الحق إلا تاريخاً لمراحل تطور هذه النظريات وهذه الفلسفات وجوانب نقصها والإضافات التي تجددت عليها، وأوجه الصراع بين العصور والفلاسفة وبين المذاهب المختلفة المتعارضة... وهذا كله إنما يمثل تاريخ أوربا والغرب ونظريات أوربا والغرب التي لم يشارك العالم الإسلامي ولا الأمة العربية فيها، والتي حين تقدم إلينا الآن لتكون مادة الدراسة في جامعاتنا إنما تكشف عن عزلة واختلاف واضح بين مجتمع ومجتمع، وفكر وفطر، وعصر وعصر، وتشكيل نفسي وذاتي ووجداني متباين جد التباين.
الفكر الإسلامي أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث:
وليس هناك اعتراض على أن ندرس النظريات والمذاهب والأنظمة العالمية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس والتربية، ولكن:
يجب أن تكون هناك ثلاث مقدمات واضحة في نفس الشباب العربي المثقف.
أولاً: أن هذه وجهات نظر وليست قوانين مسلمة.
ثانياً: إنها وجهات نظر الغرب عن تجارب نبعت من محيطه ومجتمعه.
ثالثاً: إن لفكرنا العربي الإسلامي ’’وجهات نظر’’ في مختلف هذه القضايا قد تختلف عن وجهة نظر الفكر الغربي.
رابعاً: إن الفكر الإسلامي قد قدم لهذه المناهج جميعاً ’’أوليات’’ وإضافات بناءة حية.
فإذا استوى أمام المثقف العربي الفهم العميق واليقين الأكيد من أن فكر أمته قد ساهم في هذا الفكر الأوربي الذي فرض نفسه على كل ثقافات البلاد التي خضعت للثقافات الغربية فإن من شأن ذلك أن يمنحه شيئاً كبيراً من الثقة والإحساس على أنه قادر في مرحلة قريبة أن يدرس – إى جانب وجهة نظر الغرب في مختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية – وجهة نظر فكرة العربي الإسلامي الذي يستمد مقوماته أساساً من رصيد الأمة العربية ومن القرآن الكريم ومن الإسلام، وإنه قد استوى للمسلمين والعرب منذ وقت بعيد منهج فكر ومنهج حياة يختلف إلى حد بعيد وفي مسائل أساسية وجذرية مع الفكر الغربي.
ولعل أبرز ما يقدم في هذا المجال هو القول بأن الحلول الجذرية لمعضلات العصر وأزمة الحضارة والمجتمع الحديث: هذه الحلول يقدمها (الفكر الإسلامي) على نحو جامع بين المثالية والواقعية، وقي مقدمة ذلك قضية القضايا وهي ما تختلف فيها الأيديولوجيات الماركسية والغربية.
قضية الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد:
وأنه قد وضع منذ خمسة عشر عاماً قاعدة بناءة في هذا المجال حين ربط بين الفرد والمجتمع وجعل المجتمع في خدمة الفرد، والفرد في خدمة المجتمع.
وفي قضايا: التفرقة العنصرية، والعدل الاجتماعي والإخاء الإنساني والوحدة وتقارب القوميات وضع الفكر الإسلامي – مستمداً من القرآن – قواعد ونظماً ما تزال البشرية في أشد الحاجة إلى التعرف عليها.
فإذا استعرضنا مثلاً: دراسات الطب والعلوم الفيزيائية فإن دور العرب والمسلمين بالغ الأثر، فالمسلمون هم الذين وضعوا أساس (أساس الالمنهج العلمي التجريبي) بعد أن تخلصوا من الفلسفة النظرية اليونانية، وإنهم صححوا نظريات الإغريق في الفلك والبحار ورفضوا السحر والخرافة وأقاموا بناءً علمياً في هذه المجالات وخاصة في مجال الطب، وفرقوا بين الفلسفة الرياضية والطبيعية، وأتاحوا لها فرصة النماء، بينما عارضوا (الفلسفة الإلهية) التي تتعارض مع مفاهيمهم في التوحيد والنبوة، وأنشأوا فلسفة مؤمنة تدور في فلك الإيمان بالله تبارك وتعالى بعيداً عن شطحات الإلحاد ومغريات الإباحة.
والفكر الإسلامي له قوانينه الخاصة ونظمه المتميزة في مجال العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلم النفس بما ثدمه الماوردي والفارابي وابن خلدون والبيروني والغزالي وابن سينا: هذه الآراء والمفاهيم التي صهرها فلاسفة الغرب في علومهم ودراساتهم وصاغوها صياغة جديدة فعزلوها عن مصادرها الإسلامية المرتبطة بالتوحيد. (نقبل فكر ابن سيما والفارابي العلمي والطبي ونرفض فكرهما الفلسفي).
وفي مجال الثقة والتشريع والقانون كان للفكر الإسلامي القدح المعلي في نظريات ما تزال حتى الآن بكراً وما تزال مناراً يهتدى به.
وإذا قلنا أن الفكر الإسلامي قد أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث في مختلف مجالاته لم نكن مبالغين ولا نكون قد عدونا الحقيقة. نحن لا ننكر فضل العاملين الذين طوروا النظريات وأضافوا إليها ولكننا يجب أن لا ننسى فضل الرائدين الأول وهم المسلمون.
ففي علم التربية والنفس: كانت كتابات ابن سينا والغزالي والماوردي تمثل الخطوط العامة الأساسية التي ما تزال هي القاعدة العامة للنظريات التربوية الحديثة والأصول التي قدمها ابن خلدون ما تزال أساس علوم العمران (أي الحضارة) والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وعلى شبابنا أن يذكر دوماً أن رجال فكرة العربي الإسلامي هم الرواد في هذه المجالات وأن (الماوردي) أول من نادى بفكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفرد وحقوق الجماعة من غير تضحية أحدهما لحساب الآخر، كما تحدث عن الحافز الفردي وليذكروا أن (البيروني) قدم أهم نظرية اقتاصدية عن الإدخار واكتناز الأموال وإنفاقها، وعالج قضية كنز الأموال وعدم تركها للتداول. وبين الخطر الذي يترتب على ذلك. وقال أن الحركة من ضرورات الحياة فإذا وقفت الحركة حدثت أزمة اقتصادية هائلة.
وسبق (الغزالي): ديكارت وغيره بنحو ست قرون إلى القول بأن الشكوك هي الموصلة للحق، ’’فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال’’.
وأن الغزالي سبق هربرت سبنسر أيضاً إلى تصوير الدولة أو المدينة بجسم الإنسان وقد شبه الغزالي الملك بالقلب، وأصحاب المهن الحرة بأعضاء الجسم والشرطة بعصب الإنسان والوزراء بحسن الإدراك والقضاة بالشعور.
وعرف العلماء المسلمون: بإخلاص العلم لله تبارك وتعالى. وتمحيص مادة البحث، وكراهية التعصب وبذل الجهد المحرر من المؤثرات في الأحكام والاحتياط أمام التاريخ القديم المأثور.
ويجب أن يكون في ’’مقدمة المناهج’’: إن العلماء العرب والمسلمين قد صححوا أخطاء علماء اليونان أمثال: بطليموس في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار ثابتة وقال (ابن الهيثم): إن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير وصدق العلم الحديث رأيه.
وابن الهيثم هو الذي سبق بيكون في الطريقة الاستقرائية وسما عليه، وقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس وقدم الاستقراء على القياس. وحدد الشرط الأساسي في البحث العلمي وهو ’’طلب الحقيقة’’ دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أياً كانت دخل في الأملا، ويقول: ونجعل غرضنا في جميع ما نستقر به ونتصفحه استعمال العجل لا إتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق إلا الميل مع الآراء.
ولنذكر أن (ابن القيم) أضاف في الشريعة والفقه نظريات عرفتها الدوائر القانونية في أوربا وقدرتها: من أمثال حرية النعاقد ومنع الحيل في الأحكام وإحياء أعمل الفضولي المحسن، والمحافظة على أموال الغرماء.
ولا يزال تاريخ العلم يذكر تلك الميزة الواضحة لمفهوم العلم في الفكر الإسلامي وهي اتحاد الدين والعلم وفي ذلك يقول هورتن: المستشرق الألماني في كتابه ’’استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية’’:
’’كان العرب في القرون الوسطى تقريباً إلى سنة 1500 م أساتذة أوربا، وإن ما نشأ من ظن الأوربيين من أن الإسلام لا يتمشى مع المدنية إنما جاء من عدم إلمامهم بحقيقة هذا الدين وعدم تعميقهم به، وفي الإسلام نجد اتحاد الدين والعلوم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما ونجد فيه كيف أن الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرين معاً ومتجاورتين كتفاً لكتف دونة نزاع’’.
ولنذكر أن فلاسفتنا وعلماءنا لم يتقبلوا الفكر اليوناني حين ترجم إليهم تقبلاً تلقائياً، ولكنهم نظروا إليه في تحفظ ونقد، وخالفوا أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من النظريات والآراء فلم يتقيدوا بها بل أخذوا ما يتفق مع منهج التوحيد وصححوا ما لم يكن صحيحاً بالتجربة، وتركوا آثارهم وبصماتهم وطابعهم على مجاري الفكر الحديث.
لمناهج التعليم والثقافة مقدمات لابد منها:
في مواجهة هذا التحدي الذي يقوده الغزو الثقافي الذي يحاول اليوم أن يسيطر على الأمة العربية والفكر الإسلامي نجدنا في حاجة إلى أ؟ن نتعرف على حقائق واضحة تختفي اليوم وراء المناهج التعليمية والثقافية التي تقوم بتدريسها الجامعات في العالم الإسلامي كله على نحو يحس معه الشباب بأن ما يقدم له في هذه الميادين وخاصة في ميادين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون، إن هذا الذي يقدم إنما هو منص ياغة الفكر الغربي وحده، فإذا توسع في ذلك شيئاً قليلاً فإنما هو مستمد من الفكر اليوناني والروماني السابق على الفكر الغربي، والمنفصل عنه بأكثر من ألف عام وحيث لا يذكر ولو على سبيل الاستعراض التاريخي أن الفكر الإسلامي كان له دوره وأثره الواضح والعميق في صياغة هذه المفاهيم والآراء والنظريات والمذاهب التي يزخر بها الفكر البشري اليوم سواء في نطاقه الديمقراطي أو الاشتراكي على السواء. لذلك فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على هذه الحدود الواضحة والعلامات الصريحة لفكرنا العربي الإسلامي الذي يبدو أنها ضاعت أو أوشكت على الضياع في غمار التطورات والتحولات المستمرة التي تعتري الفكر والتي تتزايد على الدوام، بحيث تكاد تعزق تلك الجذور الأصيلة التي قدمها الفكر الإسلامي إلى الإنسانية وإلى الفكر البشري منذ بزوغ الإسلام والتي كانت باليقين بعيدة الأثر في تحوله ونموه، وتطوره وإخراجه من الحواجز الوثنية والطبقية الخطيرة، التي كان يعيش فيها ويتحرك من داخلها.
إن من حق شبابنا العربي والإسلامي على مدى العالم الإسلامي وليس في الأمة العربية وحدها أن يعرف وهو يراجع نظريات الاجتماع والسياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون أن فكرة العربي الإسلامي وأن أجداده العرب والمسلمين كان لهم أثر واضح في هذه النظريات. وإن من شأن هذا الفهم أن يزيد شبابنا قوة روحية وعقلية ونفسية تملأ مشاعره بالثقة وتدفع عنه تلك الشبهات الخطيرة والحرب النفسية المثارة عليه والتي تحاول ان تصوره وكأنه متسول لنظريات الغرب، هذه النظريات التي صاغتها العقول الغربية وحدها والتي فرض على العرب والمسلمين أن يأخذوها ليطبقوها في مجتمعاتهم، كأنما ليس لهم مفاهيم وقيم قدموها من قبل للفكر البشري فبنى عليها تلك الآراء والنظريات المستحدثة.
ومن حق شبابنا في هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخ الأمة العربية أن تقدم للمناهج التعليمية والثقافية بمقدمات توضح هذا وتكشف عنه، وأن نقدم أسماء هؤلاء الأعلام وما قدموه من آراء استمدوها أساساً من القرآن الكريم (أبي) المفاهيم والقيم الإنسانية التي أهداها الفكر الإسسلامي للبشرية وكانت قد أهديت إليه عن طريق السماء في الأديان السابقة ولكنها صحفت وأصابها الاضطراب والتحريف وعندنا أن ذلك الفهم سيكون بعيد المدى عقلياً ونفسياً على مجرى الثقافة العربية وعلى التكوين الفكري والروحي لشبابنا، فإذا كنا اليوم قد فتحنا أبواب جامعاتنا لنظريات علمية مختلفة في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون، فإن لنا نظريتنا الإسلامية الكاملة التي قدمها الإسلام للبشرية جميعاً والتي اقتبستها أوربا في أوائل عصر النهضة ففتحت أمامها آفاق التحرر الفكري من قيود الكنيسة وقيود الوثنية وعبادة الفرد، وتبدو بواكير هذا الأثر واضحة في حركة لوثر وكلفن ودعوتهما إلى حرية الفكر وإلغاء الوساطة بين الله والإنسان وحق الإنسان في قراءة الكتاب المقدس وفهمه ومن ذلك تلك الثورات التي قامت لإزالة الصور من الكنائس وإزالة التماثيل.
ولا يقف أمر الإسلام عند هذا الحد وحده بل يتجاوزه إلى إبداع المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة كلها: هذا المنهج أبدعه المسلمون من منطلق القرآن الذي دعاهم إلى النظر في الكون، والذي كان مخالفاً مخالفة أساسية لمنهج اليونان الفلسفي والعلمي جميعاً: ذلك المنهج الذي وقف عند حدود افتراضات النظريات بينما اتجه المفهوم الإسلامي إلى التجربة أساساً، فصحح أخطاء فلاسفة اليونان وحول التنجيم اليوناني إلى علم الفلك بأصوله ومقاييسه واستطاع المسلمون أن يضيفوا إضافات واضحة في بناء الأصول الأولية وفي مقدمتها الأرقام ورقم الصفر بالذات وامتداد ذلك إلى العلوم الطبيعية والكيميائية في مختلف مجالات الطب والفلك والفيزياء.
وقد يقف كثير من الباحثين الغربيين عند هذا الجانب العلمي، معترفين بفضل المسلمين والعرب في هذا المجال، وهو أمر أصبح اليوم ذائعاً وشائعاً، بعد أن أغمضوا عنه الطرف طويلاً، ولكنهم لا يتعدوه إلى أثر الفكر الإسلامي في جالات الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون مع أن يملك أوليات في هذه العلوم وإضافاته التي كانت بعيدة المدى وما تزال آثارها في الفكر العالمي واضحة وضوحاً لا سبيل إلى إنكاره.
ولقد وقف الفكر الإسلامي موقفاً صريحاً واضحاً من الفلسفة الإلهية اليونانية فرفضها رفضاً صريحاً وأقر إيمانه الأساسي المستمد من ’’التوحيد’’ و ’’النبوة’’ وبذلك أنشأ فلسفته الذاتية المستقلة استقلالاً كاملاً عن مفاهيم الفلسفة اليونانية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قد اغالت من قبل الديانتين اليهودية والمسيحية فأخضعتهما لها، وغلبت منطق أرسطو عليمها فإنها عجزت عن أن تفعل ذلك بالنسبة للإسلام، ومن الحق أن يقال: إن (الكندي والفارابي وابن سينا) قد قاموا بمحاولات في سبيل نقل منطق أرسطو إلى الفكر الإسلامي بكثير من التحوير لجعله قادراً على التشكل في إطار التوحيد والنبوة ولكنهم عجزوا لأن منطلق منطق أرسطو كان مرتبطاً أساساً بطبيعة الفكر اليوناني النظري، بينما كان الفكر الإسلامي بأصوله وأولوياته (تجريبياً) وإذا كان المفكرون المسلمون قد جروا شوطاً مع الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو فإنما فعلوا ذلك حين اتخذوها سلاحاً لمواجهة المتكلمين بها في مواجهة الأديان الأخرى، غير أن الفكر الإسلامي لم يلبث أن مر بهذه المرحلة سريعاً، وعاد إلى التماس جوهره، وذلك حين قرر منطلقه العلمي في المنهج العلمي التجريبي من ناحية وحين قرر الإمام الغزالي: إن أسلوب القرآن كالماء وأسلوب المتكلمين كالدواء والدواء يحتاج إليه المريض أما الماء فيحتاج إليه السليم والمريض، وأن أسلوب المتكلمين أسلوب ضرورة، ولكن أسلوب القرآن هو أسلوب الحياة الطبيعية الدائمة المستمرة. وحين نقرر مفهوم (المعرفة الإسلامي) وله جناحاه: العقلي والوجداني لا انفصال بينهما لا يستعلي أحدهما ولا ينفرد وحده. وحين كشف العلماء عن (منطق القرآن) الذي هو منطق المسلمين بديلاً لمنطق أرسطو واليونان فقد نجا الفكر الإسلامي من سيطرة الفلسفة اليونانية الوثنية واستطاع الإسلام أن يحتفظ بقيمه الأساسية ومفاهيمه الأصيلة.
هذا كله قدمه الفكر الإسلامي للفكر البشري فحرره من قيوده ونقله نقلة واسعة من الاتجاه النظري إلى الاتجاه التجريبي ومن الوثنية إلى الربانية.
وشيء آخر قدمه الفكر الإسلامي وكان بعيد الأثر في الحضارة وإعلاء المفهوم الإنساني: ذلك هو دعوة ’’المساواة والإخاء بين البشر’’: الأسود والأبيض والعرب والعجم، وكان في ذلك قضاء على نظرية روما القائمة على الفصل بين السادة والعبيد، وفق قاعدة ’’روما سادة وما حولها عبيد’’ وعلى منطلق جمهورية أفلاطون الذي فرض للسادة التأمل والحكم وللعبيد العمل والعبودية والذل.
ومن مفهوم الإسلام نشأت كل مذاهب المساواة والعدل الاجتماعي والحرية.
والقرآن هو أول كتاب على وجه الأرض كشف عن النواميس الطبيعية والقوانين الثابتة، والتي تحكم المجتمعات والوجود كله، ومنه كان منطلق علوم الاجتماع.
ولم تكن النظرية التي قدمها ابن خلدون فبنى عليها العلماء قواعد الفلسفة الاجتماعية إلا مستمدة أساساً من القرآن. والقانون الفرنسي الذي كان مصدراً لقوانين كثير من بلاد العرب في العصر الحديث مستمد من فقه الإمام مالك وهو أحد مذاهب الشريعة الإسلامية، هذا إلى عشرات النظريات القانونية المستحدثة إنما استمدها الباحثون من فقهاء الإسلام.
ويمكن القول بصفة عامة – أن الإسلام قدم للفكر البشري شحنة ضخمة من القيم الإنسانية العالمية التي كانت بعيدة الأثر في تطور الفكر الغربي وتحوله من جذوره الإغريقية الرومانية الوثنية تتمثل هذه الشحبة في الربط بين العقائد والمعاملات والأخلاق في إطار الإسلام، حيث لا انفصال بين الدين والحياة، أو بين الجسم والروح كما ربط الإسلام بين العلم والعمل، وحيث أطلق الإسلام العقل الإنساني من قيود التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى مستوى الاعتقد بحياة وراء هذه الحياة وخلص البشرية من الوثنية كما رفض الفكر الإسلامي تجسيد البطولة ورأى أن تقدير البطولة يكون بالرأي والفكر والاقتداء.
وليس في الإسلام خطيئة أصلية وإن كل إمرئ رهين بما يفعل كما كرم الإسلام كل الأديان وكل الأنبياء، وأقر عجز العقل وحده عن الوصول إلى الصواب وجعل بين الوجدان والعقل ترابطاً من الإيمان بالغيب أساساً لا تجاوز عنه كما رفض التقليد والتبعية سواء للماضي القديم أو للوافد من أي مكان.
ويمكن القول عن يقين أن الثورة الفرنسية في مفاهيمها ومبادئها أنما كانت تستمد جوهرها من الفكر الإسلامي، فقد قامت على أثر الدفعة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في العقل الغربي وتؤكد ذلك العبارات التي جاءت على ألسنة رجال الثورة الفرنسية أنفسهم والذين كانوا قد طالعوا ثمرات الإسلام في الحكم والشورى والعدل والمساواة.
وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي هما أوائل العلماء المسلمين العرب الذين تنبهوا إلى أثر الفكر الإسلامي في الفكر الغربي الحديث في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وأشاروا إلى ذلك في أبحاثهم.
كل هذه المقدمات بتفاصيلها يجب أن تكون في مقدمة دراسات العلوم، ولاشك أن ذلك يكون بعيد الأثر في النفس العربية، حافزاً لها على الثقة والإيمان والمقاومة فاليقين، لقد كان الفكر الإسلامي وكان العرب والمسلمون من أجدادنا هم صناع النظريات العقلية والعلمية التي دفعت الفكر الإسلامي هذه الدفعة الكبرى نحو النهضة والحضارة ونحن اليوم أحق الناس ونحن ندرس هذه العلوم المستحدثة والنظريات الغربية أن نعرف مصادرها وأولوياتها ودورنا في بنائها.
لابد من تحرير المناهج وتأصيلها:
عملان هامان في مجال المناهج التعليمية والتربوية والثقافية: (أولاً): إضافة تلك الصفحات التي هي بمثابة الخلفيات والأصول والمقدمات التي سبقت الصورة القائمة في الدراسات فليس همناك علم من هذه العلوم التي ندرسها الآن في مدارسنا أو جامعاتنا إلا كان للمسلمين والعرب فيه دور وجهد وعمل هو بمثابة المقدمات التي مهدت للعلماء المعاصرين في وضع هذه العلوم في الصورة القائمة اليوم (ثانياً): تأصيل المناهج المطروحة في أفق التعليم والثقافة الإسلاميتين العربيتين وتحريرهما من الانحرافات والأخطاء وما يتصل بوجهات نظر الغرب إليها أو لما تأثر به نتيجة لمفاهيمه الدينية أو لغلبة الفكر الوثني والمادي عليه في هذه المناهج، فإن مناهج التاريخ والشريعة والاقتصاد والسياسة والتربية يجب أن تحرر من هذه الشبهات وهذه الأخطاء وهذه التبعية لتعود مرة أخرى إلى أصالتها واستمدادها من المبالغ الأصيلة التي قامت عليها في الأساس فإذا لم يقم المسلمون بهذين العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق لهم نهضة أو تقوم لهم عقلاً، أو تزكي لهم نفساً أو تدعم لهم مجتمعاً أو تبني هذه الأجيال لتكون قوة قادرة على مواجهة الأخطار والتحديات. وإذا لم نقم بإضافة هذه الصفحات الناقصة، وتعديل تلك الصفحات المنحرفة فإن المسلمين سيظلون يدورون في تلك الدائرة الصماء المظلمة المغلقة التي حبسهم فيها النفوذ الأجنبي ليظلوا عاجزين عن التحرر والقوة وامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم على قواعد ’’الأصالة الإسلامية’’.
الأستاذ أنور الجندي
تدرس جامعاتنا ومدارسنا وكلياتنا في العالم العربي كله وفي العالم الإسلامي الأوسع، دراسات الطب والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الفيزيائية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، دون أن تشير بحرف واحد إلى الخخلفية التاريخية الإسلامية المصدر، أو إلى المراحل التي قطعها الفكر الإسلامي في بناء هذه العلوم وتنميتها، فلا يعرف الشباب العربي والمسلم أن أجدادهم كان لهم دور خطير في بناء هذه المناهج والعلوم، ودون أن يعرفوا وجهة نظر الفكر الإسلامي والثقافة الغربية في مختلف هذه العلوم والدراسات.
وكل ما يدرس في الجامعات ليس في الحق إلا نظريات الفكر الغربي التي تشكلت منذ أوائل عصر النهضة الأدبي في مختلف تطوراتها بين المناهج الرأسمالية والمناهج الاشتراكية، ولا تمثل تلك الدراسات في الحق إلا تاريخاً لمراحل تطور هذه النظريات وهذه الفلسفات وجوانب نقصها والإضافات التي تجددت عليها، وأوجه الصراع بين العصور والفلاسفة وبين المذاهب المختلفة المتعارضة... وهذا كله إنما يمثل تاريخ أوربا والغرب ونظريات أوربا والغرب التي لم يشارك العالم الإسلامي ولا الأمة العربية فيها، والتي حين تقدم إلينا الآن لتكون مادة الدراسة في جامعاتنا إنما تكشف عن عزلة واختلاف واضح بين مجتمع ومجتمع، وفكر وفطر، وعصر وعصر، وتشكيل نفسي وذاتي ووجداني متباين جد التباين.
الفكر الإسلامي أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث:
وليس هناك اعتراض على أن ندرس النظريات والمذاهب والأنظمة العالمية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس والتربية، ولكن:
يجب أن تكون هناك ثلاث مقدمات واضحة في نفس الشباب العربي المثقف.
أولاً: أن هذه وجهات نظر وليست قوانين مسلمة.
ثانياً: إنها وجهات نظر الغرب عن تجارب نبعت من محيطه ومجتمعه.
ثالثاً: إن لفكرنا العربي الإسلامي ’’وجهات نظر’’ في مختلف هذه القضايا قد تختلف عن وجهة نظر الفكر الغربي.
رابعاً: إن الفكر الإسلامي قد قدم لهذه المناهج جميعاً ’’أوليات’’ وإضافات بناءة حية.
فإذا استوى أمام المثقف العربي الفهم العميق واليقين الأكيد من أن فكر أمته قد ساهم في هذا الفكر الأوربي الذي فرض نفسه على كل ثقافات البلاد التي خضعت للثقافات الغربية فإن من شأن ذلك أن يمنحه شيئاً كبيراً من الثقة والإحساس على أنه قادر في مرحلة قريبة أن يدرس – إى جانب وجهة نظر الغرب في مختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية – وجهة نظر فكرة العربي الإسلامي الذي يستمد مقوماته أساساً من رصيد الأمة العربية ومن القرآن الكريم ومن الإسلام، وإنه قد استوى للمسلمين والعرب منذ وقت بعيد منهج فكر ومنهج حياة يختلف إلى حد بعيد وفي مسائل أساسية وجذرية مع الفكر الغربي.
ولعل أبرز ما يقدم في هذا المجال هو القول بأن الحلول الجذرية لمعضلات العصر وأزمة الحضارة والمجتمع الحديث: هذه الحلول يقدمها (الفكر الإسلامي) على نحو جامع بين المثالية والواقعية، وقي مقدمة ذلك قضية القضايا وهي ما تختلف فيها الأيديولوجيات الماركسية والغربية.
قضية الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد:
وأنه قد وضع منذ خمسة عشر عاماً قاعدة بناءة في هذا المجال حين ربط بين الفرد والمجتمع وجعل المجتمع في خدمة الفرد، والفرد في خدمة المجتمع.
وفي قضايا: التفرقة العنصرية، والعدل الاجتماعي والإخاء الإنساني والوحدة وتقارب القوميات وضع الفكر الإسلامي – مستمداً من القرآن – قواعد ونظماً ما تزال البشرية في أشد الحاجة إلى التعرف عليها.
فإذا استعرضنا مثلاً: دراسات الطب والعلوم الفيزيائية فإن دور العرب والمسلمين بالغ الأثر، فالمسلمون هم الذين وضعوا أساس (أساس الالمنهج العلمي التجريبي) بعد أن تخلصوا من الفلسفة النظرية اليونانية، وإنهم صححوا نظريات الإغريق في الفلك والبحار ورفضوا السحر والخرافة وأقاموا بناءً علمياً في هذه المجالات وخاصة في مجال الطب، وفرقوا بين الفلسفة الرياضية والطبيعية، وأتاحوا لها فرصة النماء، بينما عارضوا (الفلسفة الإلهية) التي تتعارض مع مفاهيمهم في التوحيد والنبوة، وأنشأوا فلسفة مؤمنة تدور في فلك الإيمان بالله تبارك وتعالى بعيداً عن شطحات الإلحاد ومغريات الإباحة.
والفكر الإسلامي له قوانينه الخاصة ونظمه المتميزة في مجال العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلم النفس بما ثدمه الماوردي والفارابي وابن خلدون والبيروني والغزالي وابن سينا: هذه الآراء والمفاهيم التي صهرها فلاسفة الغرب في علومهم ودراساتهم وصاغوها صياغة جديدة فعزلوها عن مصادرها الإسلامية المرتبطة بالتوحيد. (نقبل فكر ابن سيما والفارابي العلمي والطبي ونرفض فكرهما الفلسفي).
وفي مجال الثقة والتشريع والقانون كان للفكر الإسلامي القدح المعلي في نظريات ما تزال حتى الآن بكراً وما تزال مناراً يهتدى به.
وإذا قلنا أن الفكر الإسلامي قد أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث في مختلف مجالاته لم نكن مبالغين ولا نكون قد عدونا الحقيقة. نحن لا ننكر فضل العاملين الذين طوروا النظريات وأضافوا إليها ولكننا يجب أن لا ننسى فضل الرائدين الأول وهم المسلمون.
ففي علم التربية والنفس: كانت كتابات ابن سينا والغزالي والماوردي تمثل الخطوط العامة الأساسية التي ما تزال هي القاعدة العامة للنظريات التربوية الحديثة والأصول التي قدمها ابن خلدون ما تزال أساس علوم العمران (أي الحضارة) والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وعلى شبابنا أن يذكر دوماً أن رجال فكرة العربي الإسلامي هم الرواد في هذه المجالات وأن (الماوردي) أول من نادى بفكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفرد وحقوق الجماعة من غير تضحية أحدهما لحساب الآخر، كما تحدث عن الحافز الفردي وليذكروا أن (البيروني) قدم أهم نظرية اقتاصدية عن الإدخار واكتناز الأموال وإنفاقها، وعالج قضية كنز الأموال وعدم تركها للتداول. وبين الخطر الذي يترتب على ذلك. وقال أن الحركة من ضرورات الحياة فإذا وقفت الحركة حدثت أزمة اقتصادية هائلة.
وسبق (الغزالي): ديكارت وغيره بنحو ست قرون إلى القول بأن الشكوك هي الموصلة للحق، ’’فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال’’.
وأن الغزالي سبق هربرت سبنسر أيضاً إلى تصوير الدولة أو المدينة بجسم الإنسان وقد شبه الغزالي الملك بالقلب، وأصحاب المهن الحرة بأعضاء الجسم والشرطة بعصب الإنسان والوزراء بحسن الإدراك والقضاة بالشعور.
وعرف العلماء المسلمون: بإخلاص العلم لله تبارك وتعالى. وتمحيص مادة البحث، وكراهية التعصب وبذل الجهد المحرر من المؤثرات في الأحكام والاحتياط أمام التاريخ القديم المأثور.
ويجب أن يكون في ’’مقدمة المناهج’’: إن العلماء العرب والمسلمين قد صححوا أخطاء علماء اليونان أمثال: بطليموس في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار ثابتة وقال (ابن الهيثم): إن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير وصدق العلم الحديث رأيه.
وابن الهيثم هو الذي سبق بيكون في الطريقة الاستقرائية وسما عليه، وقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس وقدم الاستقراء على القياس. وحدد الشرط الأساسي في البحث العلمي وهو ’’طلب الحقيقة’’ دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أياً كانت دخل في الأملا، ويقول: ونجعل غرضنا في جميع ما نستقر به ونتصفحه استعمال العجل لا إتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق إلا الميل مع الآراء.
ولنذكر أن (ابن القيم) أضاف في الشريعة والفقه نظريات عرفتها الدوائر القانونية في أوربا وقدرتها: من أمثال حرية النعاقد ومنع الحيل في الأحكام وإحياء أعمل الفضولي المحسن، والمحافظة على أموال الغرماء.
ولا يزال تاريخ العلم يذكر تلك الميزة الواضحة لمفهوم العلم في الفكر الإسلامي وهي اتحاد الدين والعلم وفي ذلك يقول هورتن: المستشرق الألماني في كتابه ’’استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية’’:
’’كان العرب في القرون الوسطى تقريباً إلى سنة 1500 م أساتذة أوربا، وإن ما نشأ من ظن الأوربيين من أن الإسلام لا يتمشى مع المدنية إنما جاء من عدم إلمامهم بحقيقة هذا الدين وعدم تعميقهم به، وفي الإسلام نجد اتحاد الدين والعلوم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما ونجد فيه كيف أن الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرين معاً ومتجاورتين كتفاً لكتف دونة نزاع’’.
ولنذكر أن فلاسفتنا وعلماءنا لم يتقبلوا الفكر اليوناني حين ترجم إليهم تقبلاً تلقائياً، ولكنهم نظروا إليه في تحفظ ونقد، وخالفوا أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من النظريات والآراء فلم يتقيدوا بها بل أخذوا ما يتفق مع منهج التوحيد وصححوا ما لم يكن صحيحاً بالتجربة، وتركوا آثارهم وبصماتهم وطابعهم على مجاري الفكر الحديث.
لمناهج التعليم والثقافة مقدمات لابد منها:
في مواجهة هذا التحدي الذي يقوده الغزو الثقافي الذي يحاول اليوم أن يسيطر على الأمة العربية والفكر الإسلامي نجدنا في حاجة إلى أ؟ن نتعرف على حقائق واضحة تختفي اليوم وراء المناهج التعليمية والثقافية التي تقوم بتدريسها الجامعات في العالم الإسلامي كله على نحو يحس معه الشباب بأن ما يقدم له في هذه الميادين وخاصة في ميادين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون، إن هذا الذي يقدم إنما هو منص ياغة الفكر الغربي وحده، فإذا توسع في ذلك شيئاً قليلاً فإنما هو مستمد من الفكر اليوناني والروماني السابق على الفكر الغربي، والمنفصل عنه بأكثر من ألف عام وحيث لا يذكر ولو على سبيل الاستعراض التاريخي أن الفكر الإسلامي كان له دوره وأثره الواضح والعميق في صياغة هذه المفاهيم والآراء والنظريات والمذاهب التي يزخر بها الفكر البشري اليوم سواء في نطاقه الديمقراطي أو الاشتراكي على السواء. لذلك فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على هذه الحدود الواضحة والعلامات الصريحة لفكرنا العربي الإسلامي الذي يبدو أنها ضاعت أو أوشكت على الضياع في غمار التطورات والتحولات المستمرة التي تعتري الفكر والتي تتزايد على الدوام، بحيث تكاد تعزق تلك الجذور الأصيلة التي قدمها الفكر الإسلامي إلى الإنسانية وإلى الفكر البشري منذ بزوغ الإسلام والتي كانت باليقين بعيدة الأثر في تحوله ونموه، وتطوره وإخراجه من الحواجز الوثنية والطبقية الخطيرة، التي كان يعيش فيها ويتحرك من داخلها.
إن من حق شبابنا العربي والإسلامي على مدى العالم الإسلامي وليس في الأمة العربية وحدها أن يعرف وهو يراجع نظريات الاجتماع والسياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون أن فكرة العربي الإسلامي وأن أجداده العرب والمسلمين كان لهم أثر واضح في هذه النظريات. وإن من شأن هذا الفهم أن يزيد شبابنا قوة روحية وعقلية ونفسية تملأ مشاعره بالثقة وتدفع عنه تلك الشبهات الخطيرة والحرب النفسية المثارة عليه والتي تحاول ان تصوره وكأنه متسول لنظريات الغرب، هذه النظريات التي صاغتها العقول الغربية وحدها والتي فرض على العرب والمسلمين أن يأخذوها ليطبقوها في مجتمعاتهم، كأنما ليس لهم مفاهيم وقيم قدموها من قبل للفكر البشري فبنى عليها تلك الآراء والنظريات المستحدثة.
ومن حق شبابنا في هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخ الأمة العربية أن تقدم للمناهج التعليمية والثقافية بمقدمات توضح هذا وتكشف عنه، وأن نقدم أسماء هؤلاء الأعلام وما قدموه من آراء استمدوها أساساً من القرآن الكريم (أبي) المفاهيم والقيم الإنسانية التي أهداها الفكر الإسسلامي للبشرية وكانت قد أهديت إليه عن طريق السماء في الأديان السابقة ولكنها صحفت وأصابها الاضطراب والتحريف وعندنا أن ذلك الفهم سيكون بعيد المدى عقلياً ونفسياً على مجرى الثقافة العربية وعلى التكوين الفكري والروحي لشبابنا، فإذا كنا اليوم قد فتحنا أبواب جامعاتنا لنظريات علمية مختلفة في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون، فإن لنا نظريتنا الإسلامية الكاملة التي قدمها الإسلام للبشرية جميعاً والتي اقتبستها أوربا في أوائل عصر النهضة ففتحت أمامها آفاق التحرر الفكري من قيود الكنيسة وقيود الوثنية وعبادة الفرد، وتبدو بواكير هذا الأثر واضحة في حركة لوثر وكلفن ودعوتهما إلى حرية الفكر وإلغاء الوساطة بين الله والإنسان وحق الإنسان في قراءة الكتاب المقدس وفهمه ومن ذلك تلك الثورات التي قامت لإزالة الصور من الكنائس وإزالة التماثيل.
ولا يقف أمر الإسلام عند هذا الحد وحده بل يتجاوزه إلى إبداع المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة كلها: هذا المنهج أبدعه المسلمون من منطلق القرآن الذي دعاهم إلى النظر في الكون، والذي كان مخالفاً مخالفة أساسية لمنهج اليونان الفلسفي والعلمي جميعاً: ذلك المنهج الذي وقف عند حدود افتراضات النظريات بينما اتجه المفهوم الإسلامي إلى التجربة أساساً، فصحح أخطاء فلاسفة اليونان وحول التنجيم اليوناني إلى علم الفلك بأصوله ومقاييسه واستطاع المسلمون أن يضيفوا إضافات واضحة في بناء الأصول الأولية وفي مقدمتها الأرقام ورقم الصفر بالذات وامتداد ذلك إلى العلوم الطبيعية والكيميائية في مختلف مجالات الطب والفلك والفيزياء.
وقد يقف كثير من الباحثين الغربيين عند هذا الجانب العلمي، معترفين بفضل المسلمين والعرب في هذا المجال، وهو أمر أصبح اليوم ذائعاً وشائعاً، بعد أن أغمضوا عنه الطرف طويلاً، ولكنهم لا يتعدوه إلى أثر الفكر الإسلامي في جالات الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون مع أن يملك أوليات في هذه العلوم وإضافاته التي كانت بعيدة المدى وما تزال آثارها في الفكر العالمي واضحة وضوحاً لا سبيل إلى إنكاره.
ولقد وقف الفكر الإسلامي موقفاً صريحاً واضحاً من الفلسفة الإلهية اليونانية فرفضها رفضاً صريحاً وأقر إيمانه الأساسي المستمد من ’’التوحيد’’ و ’’النبوة’’ وبذلك أنشأ فلسفته الذاتية المستقلة استقلالاً كاملاً عن مفاهيم الفلسفة اليونانية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قد اغالت من قبل الديانتين اليهودية والمسيحية فأخضعتهما لها، وغلبت منطق أرسطو عليمها فإنها عجزت عن أن تفعل ذلك بالنسبة للإسلام، ومن الحق أن يقال: إن (الكندي والفارابي وابن سينا) قد قاموا بمحاولات في سبيل نقل منطق أرسطو إلى الفكر الإسلامي بكثير من التحوير لجعله قادراً على التشكل في إطار التوحيد والنبوة ولكنهم عجزوا لأن منطلق منطق أرسطو كان مرتبطاً أساساً بطبيعة الفكر اليوناني النظري، بينما كان الفكر الإسلامي بأصوله وأولوياته (تجريبياً) وإذا كان المفكرون المسلمون قد جروا شوطاً مع الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو فإنما فعلوا ذلك حين اتخذوها سلاحاً لمواجهة المتكلمين بها في مواجهة الأديان الأخرى، غير أن الفكر الإسلامي لم يلبث أن مر بهذه المرحلة سريعاً، وعاد إلى التماس جوهره، وذلك حين قرر منطلقه العلمي في المنهج العلمي التجريبي من ناحية وحين قرر الإمام الغزالي: إن أسلوب القرآن كالماء وأسلوب المتكلمين كالدواء والدواء يحتاج إليه المريض أما الماء فيحتاج إليه السليم والمريض، وأن أسلوب المتكلمين أسلوب ضرورة، ولكن أسلوب القرآن هو أسلوب الحياة الطبيعية الدائمة المستمرة. وحين نقرر مفهوم (المعرفة الإسلامي) وله جناحاه: العقلي والوجداني لا انفصال بينهما لا يستعلي أحدهما ولا ينفرد وحده. وحين كشف العلماء عن (منطق القرآن) الذي هو منطق المسلمين بديلاً لمنطق أرسطو واليونان فقد نجا الفكر الإسلامي من سيطرة الفلسفة اليونانية الوثنية واستطاع الإسلام أن يحتفظ بقيمه الأساسية ومفاهيمه الأصيلة.
هذا كله قدمه الفكر الإسلامي للفكر البشري فحرره من قيوده ونقله نقلة واسعة من الاتجاه النظري إلى الاتجاه التجريبي ومن الوثنية إلى الربانية.
وشيء آخر قدمه الفكر الإسلامي وكان بعيد الأثر في الحضارة وإعلاء المفهوم الإنساني: ذلك هو دعوة ’’المساواة والإخاء بين البشر’’: الأسود والأبيض والعرب والعجم، وكان في ذلك قضاء على نظرية روما القائمة على الفصل بين السادة والعبيد، وفق قاعدة ’’روما سادة وما حولها عبيد’’ وعلى منطلق جمهورية أفلاطون الذي فرض للسادة التأمل والحكم وللعبيد العمل والعبودية والذل.
ومن مفهوم الإسلام نشأت كل مذاهب المساواة والعدل الاجتماعي والحرية.
والقرآن هو أول كتاب على وجه الأرض كشف عن النواميس الطبيعية والقوانين الثابتة، والتي تحكم المجتمعات والوجود كله، ومنه كان منطلق علوم الاجتماع.
ولم تكن النظرية التي قدمها ابن خلدون فبنى عليها العلماء قواعد الفلسفة الاجتماعية إلا مستمدة أساساً من القرآن. والقانون الفرنسي الذي كان مصدراً لقوانين كثير من بلاد العرب في العصر الحديث مستمد من فقه الإمام مالك وهو أحد مذاهب الشريعة الإسلامية، هذا إلى عشرات النظريات القانونية المستحدثة إنما استمدها الباحثون من فقهاء الإسلام.
ويمكن القول بصفة عامة – أن الإسلام قدم للفكر البشري شحنة ضخمة من القيم الإنسانية العالمية التي كانت بعيدة الأثر في تطور الفكر الغربي وتحوله من جذوره الإغريقية الرومانية الوثنية تتمثل هذه الشحبة في الربط بين العقائد والمعاملات والأخلاق في إطار الإسلام، حيث لا انفصال بين الدين والحياة، أو بين الجسم والروح كما ربط الإسلام بين العلم والعمل، وحيث أطلق الإسلام العقل الإنساني من قيود التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى مستوى الاعتقد بحياة وراء هذه الحياة وخلص البشرية من الوثنية كما رفض الفكر الإسلامي تجسيد البطولة ورأى أن تقدير البطولة يكون بالرأي والفكر والاقتداء.
وليس في الإسلام خطيئة أصلية وإن كل إمرئ رهين بما يفعل كما كرم الإسلام كل الأديان وكل الأنبياء، وأقر عجز العقل وحده عن الوصول إلى الصواب وجعل بين الوجدان والعقل ترابطاً من الإيمان بالغيب أساساً لا تجاوز عنه كما رفض التقليد والتبعية سواء للماضي القديم أو للوافد من أي مكان.
ويمكن القول عن يقين أن الثورة الفرنسية في مفاهيمها ومبادئها أنما كانت تستمد جوهرها من الفكر الإسلامي، فقد قامت على أثر الدفعة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في العقل الغربي وتؤكد ذلك العبارات التي جاءت على ألسنة رجال الثورة الفرنسية أنفسهم والذين كانوا قد طالعوا ثمرات الإسلام في الحكم والشورى والعدل والمساواة.
وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي هما أوائل العلماء المسلمين العرب الذين تنبهوا إلى أثر الفكر الإسلامي في الفكر الغربي الحديث في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وأشاروا إلى ذلك في أبحاثهم.
كل هذه المقدمات بتفاصيلها يجب أن تكون في مقدمة دراسات العلوم، ولاشك أن ذلك يكون بعيد الأثر في النفس العربية، حافزاً لها على الثقة والإيمان والمقاومة فاليقين، لقد كان الفكر الإسلامي وكان العرب والمسلمون من أجدادنا هم صناع النظريات العقلية والعلمية التي دفعت الفكر الإسلامي هذه الدفعة الكبرى نحو النهضة والحضارة ونحن اليوم أحق الناس ونحن ندرس هذه العلوم المستحدثة والنظريات الغربية أن نعرف مصادرها وأولوياتها ودورنا في بنائها.
لابد من تحرير المناهج وتأصيلها:
عملان هامان في مجال المناهج التعليمية والتربوية والثقافية: (أولاً): إضافة تلك الصفحات التي هي بمثابة الخلفيات والأصول والمقدمات التي سبقت الصورة القائمة في الدراسات فليس همناك علم من هذه العلوم التي ندرسها الآن في مدارسنا أو جامعاتنا إلا كان للمسلمين والعرب فيه دور وجهد وعمل هو بمثابة المقدمات التي مهدت للعلماء المعاصرين في وضع هذه العلوم في الصورة القائمة اليوم (ثانياً): تأصيل المناهج المطروحة في أفق التعليم والثقافة الإسلاميتين العربيتين وتحريرهما من الانحرافات والأخطاء وما يتصل بوجهات نظر الغرب إليها أو لما تأثر به نتيجة لمفاهيمه الدينية أو لغلبة الفكر الوثني والمادي عليه في هذه المناهج، فإن مناهج التاريخ والشريعة والاقتصاد والسياسة والتربية يجب أن تحرر من هذه الشبهات وهذه الأخطاء وهذه التبعية لتعود مرة أخرى إلى أصالتها واستمدادها من المبالغ الأصيلة التي قامت عليها في الأساس فإذا لم يقم المسلمون بهذين العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق لهم نهضة أو تقوم لهم عقلاً، أو تزكي لهم نفساً أو تدعم لهم مجتمعاً أو تبني هذه الأجيال لتكون قوة قادرة على مواجهة الأخطار والتحديات. وإذا لم نقم بإضافة هذه الصفحات الناقصة، وتعديل تلك الصفحات المنحرفة فإن المسلمين سيظلون يدورون في تلك الدائرة الصماء المظلمة المغلقة التي حبسهم فيها النفوذ الأجنبي ليظلوا عاجزين عن التحرر والقوة وامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم على قواعد ’’الأصالة الإسلامية’’.