إن للدعوة إلى الله تعالى آثارًا عظيمة، وثماراً نافعة، تعم العباد.. وتنتشر في البلاد.
والآثار هي الأهداف إن تحققت، ولذلك نجد اشتراكاً كبيراً بينهما وتوافقاً، وهذه الثمار نفسُها متداخلةُ المعاني فيما بينها، ومترابطةُ الأسباب، بل منها ما هو سبب للآخر، ومشاركٌ له في كثير من شُعبه، ويمكن إيجازها في ست:
- إحقاق الحق.. ودحض الباطل.
- انتشار العدل.. ورفع الظلم.
- انتشار الصلاح.. وقطع دابر الفساد.. واتقاء النقمات الإلهية.
- انتشار الخيرات.. ونزول البركات.
- انتشار الإخاء والسلام.. والأمن بين الأنام.
- سعادة العباد في الدارين.
ونبين في هذا الفصل هذه الآثار، من غير تفصيل ممل، ولا إيجاز مخل، والله الهادي إلى سواء الصراط.
الأثر الأول:
إحقاق الحق، ودحض الباطل.
إن أس الإسلام، ولبه، ومحوره: هو إحقاقُ الحق، أيًا كان، ومع من كان.. وإزهاق الباطل، أينما كان، ومع من كان.. دون النظر إلى جوانب عاطفية، أو مصالح شخصية، أو قرابات نسبية، مهما كانت درجة هذه القرابة.
بل إنَّ نصر الحق، ودحض الباطل، هو الأصل في الدعوة إلى الله، وهو المطلب الأساس.
قال تعالى -حاكياً عن أهل الجنة قولهم بعد دخولهم الجنة-: {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ} [الأعراف:43].
وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]
والحق في الدعوة إلى الله، ليس محصوراً في صورة دون صورة، ولا موجهاً لطبقة دون طبقة، ولا يسير في منحنى دون آخر، بل الحق يشمل كل صور الحياة، وأحداث الواقع، وطبقات الناس، وجميع المنحنيات، فلا يُستثنى أحد من قول الحق، أو قبول الحق.
كما يشمل جميع صور الاعتقاد، وأنواع العبادة، والأقوال والأفعال، وأنواع المعاملات والعادات في الميادين كلها.
قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ} [الرعد: 14] في كل صور الحياة.
ولذلك خاطب الله البشرية جميعاً بذلك فقال:
{قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} [يونس:108].
وأوصانا رسول الله ? بقول الحق في كل مقام، دون خوف من أحد، فقال عليه الصلاة والسلام:
’’لا يمنعن أحدَكم مخافةُ الناس -وفي رواية هيبةُ الناس- أو بَشَرٍ، أن يتكلم بالحق، إذا علمه أو شهده أو سمعه’’ [1].
وجاءت النصوص مشددة على قول الحق في مقام الحكم بين الناس.
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة: 48].
ولما أراد أسامة بن زيد أن يشفع في المخزومية التي سرقت، غضب رسول الله ? غضباً شديداً، وقال له: ’’أتشفع في حد من حدود الله’’، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ’’إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’’[2].
ولا يخفى على عاقل ما في نصر الحق، ودحض الباطل من خير عميم للبلاد، ومصالح عظيمة للعباد، ولذلك سارعت تلك الأمم على اختلاف ألوانها.. وتنوع أصولها.. إلى الدخول في الإسلام. تاركةً الباطل الذي عشعش في عقائدهم، وتحكم في عباداتهم، وسيطر على عاداتهم، مجافيةً سلاطين السوء، وحكام الجور، الذين تحكموا فيهم على مدى قرون، هاجرةً دجاجلة من كهنة ورجال دين، أفسدوا عليهم دينهم، فظهر الحق مستعلياً على باطل الشرك، كعبادة غير الله، من سؤال وسجود، ومبطلاً بدع التعبد السخيفة، كالرياضات المجوسية، من وقوف تحت الشمس أياماً تعبداً... والامتناع عن النكاح والطعام، وغير ذلك من العبادات الباطلة، التي أبطلتها دعوة الحق.
وماحياً عادات قبيحة، لا يقرها شرع، ولا يقبلها عقل، كمنع الطلاق.. ودفن الزوجة حية مع زوجها إذا مات قبلها.. وما قصة إلقاء الفتاة في نهر النيل كل سنة بمجهولة [3]، وما شابه هذه العادات الباطلة التي سخطها الإسلام، واستبدلها بالحق الناصع، والصراط المستقيم.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
وهكذا عاش المسلمون في الحق، وللحق، وبالحق.
الأثر الثاني من آثار الدعوة إلى الله:
انتشار العدل، ورفع الظلم.
الظلم ظلمان: ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره.
فأما ظلم العبد لنفسه، فهو الكفر بخالقه، وصرفُه عبادتَه لغير ربه، وادّعاءُ الولد والصاحبة لله، ووصفُ اللهِ تعالى بما لا يليق به، وإعراضُه عن دعوة الله، وعصيانه، وغيرُ ذلك من صور الظلم الكثيرة.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَىّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وقال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} [البقرة: 254].
ولذلك كان من أعظم آثار الدعوة إلى الله تعالى إزالة هذا الظلم القبيح، من اعتداء على حدود الله، في ذاته، وربوبيته، وألوهيته، وصفاته، حتى يصبح الناس عادلين في ربهم، طيبين في نفوسهم..
والظلم الآخر: ظلم العبد لغيره، وصور هذا الظلم كثيرةٌ لا تُحصى، ومختلفة لا تنضبط.. من إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، ومنع الحقوق، واختلاس الأمن، وترويع العباد، وإهلاك الحرث، وإفساد النسل.
حتى عد شرع الله عز وجل أن أخذ الشيء اليسير من الإنسان، كالسواك ظلمًا يستحق صاحبه العذاب الأليم.
قال صلى الله عليه وسلم : ’’من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة’’، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله؟، قال: ’’وإن قضيباً من أراك’’[4].
لأجل ذلك جاءت النصوص الكثيرة، والأحكام الصارمة في تحريم الظلم.
قال تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111].
وقال: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19].
وخاتمة هذه النصوص القرآنية تعلن اللعن من الله على الظالمين.
قال تعالى:{أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ} [هود: 18].
وقال صلى الله عليه وسلم : ’’الظلم ظلمات يوم القيامة’’[5].
وفي الحديث القدسي الجميل يقول الله تعالى: ’’يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا...’’[6]
وإذا انتفى الظلم حل العدل، وهو مطلب من أعظم مطالب الدعوة إلى الله وأسماها.
لأن حلولَ الظلم، مفسدةٌ للبلاد، ومهلكةٌ للعباد، وقهرٌ للنفوس، وتفتيتٌ للأكباد، واختلالٌ في الأمن.
إن الظلم ليتعدى حدود المظلمة، ليصل إلى روح المظلوم، فيذيقها الويلات، ويسكن الظلم كبد المظلوم فيفتتها.
فتحل بالمظلومين روح الانتقام، وتقوى فيهم طباع التشفي.
لذلك لا يهدأ للمظلوم بال، ولا يقر له قرار حتى يأخذ حقه، ولا يستقر له حال، حتى يعيد كرامته، أو ينتقم لنفسه، فتنتشر الثارات فيفقد الناس - حينئذ - أمنهم، وتختل موازين مجتمعاتهم..
ولم يكتف الله سبحانه بالأمر بالعدل بل أمر بالإحسان، الذي هو أعلى من العدل مرتبة، وأسمى منه منزلة، فإن العدل؛ أن تعطي المرء حقه، والإحسان؛ أن تزيده على حقه إحساناً منك وتفضلاً.
قال تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90].
كما أحسن أبو بكر الصديق إلى ابن خالته مسطح،فأرجع إليه النفقة - بعدما أمسكها عنه عندما أشاع الفاحشة في ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شأن قصة الإفك-استجابة لقول الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِى الْقُرْبَىَ} [النور:22][7].
وأمر الله تعالى بالعدل بين الناس جميعاً بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم وألوانهم.
قال تعالى حاكياً عن نبيه: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
وأمر الله بالعدل وقول الحق، دون النظر إلى قرابة، أو غنى، أو ما شابه ذلك، قال سبحانه:
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].
وأمر الله بالعدل، ولو كان لصالح الأعداء.
قال سبحانه:{وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8]
وفوق هذا كله، عدّ الله العدل من التقوى، سواء كان مع قريب أو عدو.
قال سبحانه:{اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ} [المائدة: 8].
فأي دين أعظم من هذا؟! وأيةُ وصايا أسمى من هذه؟! إذ جعل العدل مع العدو عملاً صالحاً يقرب إلى الله.
ولا تسأل بعد حلول العدل في الناس عما يكون في نفوسهم من الطمأنينة في القلوب، والسكينة في النفوس، والإحساس بالمتعة العظيمة.
فضلاً عما يكون بينهم من التآلف والتسامح، فإن العدل من أوثق روابط المجتمعات، وأقوى لبنات البناء فيما بين الناس، وفيما بينهم وبين حكامهم.
ولا أدل على هذا؛ مما حصل في الفتوحات الإسلامية، من تدافع الشعوب نحو الإسلام، لما رأت من عدل الإسلام ما رأت.. فدفعها هذا إلى الدخول في الإسلام أفواجاً، إيماناً بالعقيدة الصحيحة، ورغبة بما في الإسلام من العدل، وتخلصاً مما كانوا فيه من الظلم.. فقِصَصُ ظلم حكامهم قبل الإسلام مشهورة، وقضايا أمراء المسلمين وقضاتهم في العدل ومع غير المسلمين، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى، وقد ذكرها الكثير من علماء المسلمين في مواضع كثيرة[8](52).
والمقام ليس مقام تفصيل، وذكر حكايات.
الأثر الثالث من آثار الدعوة الى الله:
نشر الصلاح والوقاية من الفساد، واتقاء النقمات.
مما لا ريب فيه: أن من أعظم آثار الدعوة إلى الله نشر الإصلاح بين الناس، و كبح جماح الفساد في الأرض.
لذلك حث الإسلام على الصلاح والإصلاح عامة، ونهى عن الفساد والإفساد عامة.
قال تعالى: {يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]
وقال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
وقال: {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ} [القصص: 77].
وأعظم الله تعالى المواكبين لدعوتهم بالعمل الصالح، فقال سبحانه:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ورتب الله أجراً عظيماً على الإصلاح بين الناس، كلِّ الناس، دون النظر إلى أصولهم، أو أنسابهم، أو ألوانهم.
قال سبحانه:{لاّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ} [النساء: 114].
وجعل للصالحين إرث الأرض في الدنيا، فقال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
وجعلهم ورثة الجنة في الآخرة، قال تعالى: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
قال سبحانه: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ} [الأنبياء: 86].
وقال سبحانه:{إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
وكره الله الفساد وأهله، فقال سبحانه:{وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفَسَادَ} [البقرة: 205].
وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
وطلباً للإصلاح، ودفعاً للإفساد، قرر الإسلام عقوبة صارمة لمن يبغي الفساد في الأرض، قال سبحانه: {إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
ذلك لأن الفساد في الأرض، يجلب الظلم والقهر، ويدفع إلى الاغتصاب، ويضيع الحقوق، ويشيع الفوضى، فُيفقدُ الأمنُ، وتضطربُ المعايشُ. ويهلك الحرث والنسل، فلا يستقر للناس قرار، ولا يهدأ لهم حال، لذلك جاءت هذه العقوبة الصارمة للمفسدين، لكي يرتدعوا.
والإعراض عن الدعوة، يجلب الفساد في الأرض كلها، وانتقام الله عز وجل، بشتى صور الانتقام.. من تسلط الظلمة، وانتشار الأوبئة، وقلة الخيرات، ومحق البركات، وارتفاع الأسعار، ونكد العيش، وتتابع المصائب.
قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ} [طه:124].
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِى عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
قال ابن كثير: ’’الفساد: يعني انقطاع المطر عن البر.. ثم قال: أي: بان النقص في الزروع والثمار، بسبب المعاصي، وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة’’[9] .
وتارة يكون انتقامُ الله مباشراً، بإنزال العذاب بالمفسدين في الدنيا.
قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوْتَادِ * الّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14].
أي: إن الله لبالمرصاد لغيرهم من أمثالهم، قال القرطبي: ’’أي يرصد عمل كل إنسان، حتى يجازيه به، قاله الحسن وعكرمة’’[10].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ} [الفيل: 1-5].
وتارة يكون بالجوع والخوف.
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وتارة يكون انتقام الله من فوق الناس بتسليط الظلمة عليهم، أو بالتفريق والفتن بينهم.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: ’’أما العذاب الذي من فوقكم فأئمة سوء’’[11].
ولقد كان كل عذاب ينزل على الأرض بأي صورة من الصور، إنما هو بأفعال الناس الفاسدة، وهكذا الأمر يكون إلى يوم القيامة.
قال تعالى -بعد أن ذكر ما نزل بتلك الأقوام من العذاب لإفسادهم-: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103، النمل: 14].
ومن أعظم عقوبات الله تعالى بالمفسدين، أنه يمدهم في طغيانهم، ولا يصلح أعمالهم.
قال تعالى:{إِنّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
فتفسد معيشتهم، ولا يهديهم إلى إصلاحها، كما حصل من أهل مأرب، وما كانوا عليه من عيشة رغيدة، وحياة سعيدة، وتقدم مدني، حتى استطاعوا - وقتئذ - أن يبنوا سداً عظيما، يحيي الله لهم به الأرض بعد موتها... فلما أعرضوا عن الدعوة الحق أفسدوا.. فضرب الله عليهم السد، وقطعهم في الأرض أمماً، بما كانوا يفسدون.
ولأهمية هذا الحدث، نسوق وقائعه من القرآن الكريم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاّ الْكَفُورَ} [12] [سبأ:15-17].
وكذلك لما عاين فرعون الحق حين الموت، ونطق بكلمة الإيمان، ردّها الله عليه لما كان منه من الفساد من قبل.
قال سبحانه: {آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
وقد يكون العقابُ من الله مكراً باستدراجهم، ومدهم بالمال والقوة:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ* وَأُمْلى لَهُمْ إِنّ كَيْدِى مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]، [الأعراف:183].
وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56].
ولو ذهبنا نتتبع أصناف الفساد، وأنواع العذاب الذي نزل على الأمم في القرآن والسنة لطال بنا المقام.
قال ابن القيم: ’’فكل نقص وبلاء، وشر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها’’[13].
وإذا انقطع الفساد، انقطع الشرك، ودحض الباطل، ومحيت البدع والخرافات، وانقطعت شرور الناس بعضهم من بعض، من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وذهاب العقول، وسلب الأموال، وانقطع الشر كله.. فحفظت العقول، وأمنت النفوس، وأحصنت الأعراض، وسلمت الأموال، وانتشر الصلاح والخير كله، وأمن الناس بعضهم بعضاً، وعاشوا في أمان وسلام، وأخوّةٍ ووئام.
وإذا قطع الفساد، أمن الناس عذاب الله، ووقوا انتقامه، فعاشوا في أمن من الله، وأمن من الناس.
قال تعالى: {فَأَىّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ} [الأنعام: 8].
ووعد الله الصالحين بإبدال خوفهم أمنا.
قال تعالى: {وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} الآية. [النور: 55].
وهكذا عاش الصالحون في ربوع الأمن قروناً، حتى إذا ما أعرضوا عن الدعوة أعرض الله عنهم، فانتشر الفساد، وحل الظلم.. وعمت الفوضى.. فكان ما كان. إلامارحم الله.
الأثر الرابع من آثار الدعوة إلى الله:
حلول الخيرات، ونزول البركات (الرحمات):
فضلاً عما تحدثه الاستجابة لدعوة الله مما ذكر سابقاً، من سلام وأمان، وصلاح بين العباد، وحفظ للأموال والأعراض والأنفس.
فضلاً عن هذا كله، فإن الله وعد المستجيبين لهذه الدعوة، بأن ينزل عليهم الخيرات، ويجعل لهم في أموالهم البركات.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ وَلََكِن كَذّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: {وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً} [الجن: 16].
قال ابن كثير: ’’فكلما أقيم العدل، كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في الصحيحين: أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب’’[14].
وقال نوح خلال دعوة قومه إلى الله، وحثهم على الاستجابة لها:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10- 12].
قال ابن كثير: ’’وإذا تركت المعاصي كانت سبباً في حصول البركات من السماء والأرض’’[15].
وقبول الدعوة يعني: نزول الرحمة.. فما بعث الله الرسل، وما حملهم من دعوة إلا رحمة عامة للناس، ورحمة خاصة بالمستجيبين لدعوتهم.
قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال سبحانه: {إِنّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
وقال: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وقال تعالى حاكياً عن نبيه نوح: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 63].
وكان ينالُ المسلمين جائزةُ ربهم، كلما استقاموا على الطريق، ويفيض المال حتى لايجد المسلمون في كثير من البقاع من يقبل الصدقة لغناهم، وقد أمر عمر بن عبد العزيز أن يصرف الفائض في مرافق المسلمين العامة، كبناء محطات للمسافرين، وتسهيل الطرق [16] .
ولأول مرة في تاريخ البشرية، يعطى أهل الذمة سلفا لتنمية زراعتهم[17].
الأثر الخامس من آثار الدعوة إلى الله:
انتشار الإخاء والسلام، والأمن بين الأنام.
من أعظم آثار الدعوة إلى الله والاستجابة لها: انتشار الإخاء والمحبة، والرحمة والتعارف، والتعاون والأمان، والسلام بين العباد.
وبعبارة أخرى: انتشار الدعوة بين الأمم والشعوب، وقبولهم بها، يوحد هذه الأمم، ويجمع هذه الشعوب، على راية واحدة، وفي صف واحد، فيصبحوا إخوة متحابين، لا ضغينة بينهم ولا عداء، بل محبة وسلام وإخاء .
قال تعالى:{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
ففي مقام التعاون:
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وفي مقام الرحمة بين العالمين:
قال تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال صلى الله عليه وسلم: ’’الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء’’[18]62
وفي مقام التعارف بين البشرية:
قال تعالى: {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ} [الحجرات: 13].
وفي مقام المحبة بين العباد قال تعالى:
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّا} [مريم: 96].
وقال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} [المائدة: 54].
وفي مقام الأخوة:
قال تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وقال ?: ’’وكونوا عباد الله إخواناً’’[19]. 63.
وفي مقام السلام العزيز، قال تعالى:
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ} [الأنفال: 61].
وإن من أكبر الشواهد على صدق هذا، ما حققته الدعوة الإسلامية حين انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، من تعارف هذه الشعوب، مع تباعد أقطارها، وانفتاح بعضها على بعض، مع تنافر طباعها.. وتآلف بعضها مع بعض رغم اختلاف ثقافاتها.. ثم اتحادها فيما بينها رغم تفاوت أجناسها وألوانها.
فانقلب ما كان بينهم من تطاحن ودماء، إلى محبة وإخاء، وأصبحوا عباد الله إخوانا، يُعلّم بعضهم بعضا، ويدافع بعضهم عن بعض، بعد أن كانوا أعداء، يقتل بعضهم بعضا.
قال تعالى: {وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان إمام الفقه، والناس في مشارق الأرض ومغاربها عالة عليه في ذلك، وهو ليس بعربي، يتبعه العرب والأعاجم على اختلاف أصولهم.
وهذا الإمام البخاري من بخارى، وهي من أبعد البلاد عن العرب، أصبح إمام الثقلين في حديث النبي ?، يأخذ منه العرب قبل العجم، ولا غنى للأمة البتة عن كتبه.
وهذا القائد طارق بن زياد البربري، كان قائداً للعرب ولقومه.
وما كان لهؤلاء تلك المنزلة إلا بعد قبولهم لدعوة الإسلام.
وغير هؤلاء ألوف مؤلفة أصبحوا علماء، وقادة، وأمراء، متعاونين متآلفين، بعد أن كانوا من بلاد شتى متنافرين، ومن أصول مختلفة متحاربين.
وأما تلك الشعوب التي تعد بألوف الألوف.. المتنافرة و في كل شيء، في أصلها، ولغتها، وثقافتها، ودينها..أصبحت -بعد أن انتشرت الدعوة فيها- أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة، تكاد تتحدث بلسان واحد، قد تآلفت قلوبها.. وتوحدت صفوفها، قبل هذا التمزق المتأخر.
مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ} [المؤمنون: 52].
الأثر السادس من آثار الدعوة إلى الله:
سعادة العباد في الدارين:
إن اهتداء الخلق إلى طريق الحق، يُعرفُّهم بحقوقهم وواجباتهم، تجاه ربهم، وتجاه من يتعايشون معهم؛ من أهل وأقرباء، وأصحاب، وأصحاب جنب.. ومن عرف حقوقه وواجباته، وصدق في أدائها، أمن الناس وأمنوا منه، ونال حقه، ونالوا حقوقهم، وإذا حصل ذلك، عاش الناس جميعاً عيشة السعداء، فلا خوف يهددهم، ولا فساد ينغصهم.
وسعادة الإنسان في ثلاثة:
- سعادته في قلبه ونفسه..
- سعادته في حياته ومعيشته..
- سعادته في مصيره وآخرته..
وإن من أهم آثار الاستجابة لدعوة الله تعالى، تحقيق هذه السعادات كلِّها، للخلق كلِّهم.
فمن عرف ربه، واستجاب لخالقه، وتوكل عليه، ورضي بقضائه وقدره، وأيقن أن كل شي بيده، وأن كل شيء ماض عليه حكمه، عدل فيه قضاؤه، حصل عنده يقين في القلب، وراحة في النفس، مهما كان عليه من حال، ومهما قُدِّر له من قضاء، وكان كمن يعيش في قصور، ويرتع في جنان.. فهذه سعادة القلب والنفس {الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وذِكْرُ الله هاهنا أعَمُّ من كونه باللسان، لأن المقصود خشيتهُ وطاعتهُ، واتباعُ شرعه، والعملُ بقرآنه.
قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
وقال تعالى: {اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِىَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ} [الزمر:23].
فبهذا تتحقق سعادة القلب والنفس.
ومن استجاب لدعوة الله، عرف الحلال والحرام، ووقف عند حدود الله، فأدى الأمانة، واستقام في بيعه وشرائه، ووفى بعقوده ووعوده، ولم يعتد بيد، ولا في مال، ولا عرض، فأعطى ما عليه، وأخذ ما له، وتخلق بأخلاق الإسلام العظيمة.
فهذه سعادة الحياة والمعيشة: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِى الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} [الأنعام: 122].
ومن استجاب لدعوة الله نال مرضاته، ونجا من ناره، وفاز بجنته، فهذه هي السعادة الحقيقية، والسعادة الأبدية.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
قال الإمام البخاري: (استجيبوا): أجيبوا، (لما يحييكم): لما يصلحكم[20](64). أي يصلح أمركم في الدنيا والآخرة.
فبهذا يتبين: أن من أعظم آثار الاستجابة لدعوة الله، أن يحيي الله المستجيبين حياة طيبة في الدارين.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النحل: 97].
ولقد تحقق هذا ظاهراً في كثير من فترات التاريخ الإسلامي، حين صدق المسلمون العمل بهذا الدين، فغمرت السعادة قلوبهم، وعم الرخاء في حياتهم ومعيشتهم، وساد الأمن والعدل في ديارهم، وسيلقون ما يوعدون عند ربهم.
{وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29].
[1] حديث صحيح، أخرجه أحمد (3/46-84)، وابن ماجه (4007)، والترمذي (2191) مطولاً، وغيرهم، وذكره شيخنا الألباني - تعالى- في الصحيحة رقم (168)، وله ألفاظ متقاربة.
[2] رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
[3] رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة (4/1425)، وانظر قصة نيل مصر في البداية والنهاية لابن كثير (7/100)، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (5/335).
[4] رواه مسلم (137)، وله رواية أخرى بلفظ مقارب أخرجها البخاري (6659، 7445)، ومسلم (138)، والأراك هو شجر يؤخذ منه السواك.
[5] رواه البخاري (2447)، ومسلم (2579).
[6] رواه مسلم (2577)
[7] انظر البخاري (2661)، ومسلم (2770)
[8] راجع حلية الأولياء، لأبي نعيم (4/140)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (42/487)، وأخبار القضاة لمحمد بن خلف المشهور بوكيع (2/194-195).
[9] تفسير ابن كثير (3/444، 445).
[10] تفسير القرطبي (20/50)
[11] أخرجه ابن جرير (11/417) من طريقين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] معاني بعض مفردات الآيات، سبأ: قبيلة مشهورة باليمن كانت قد بنت سداً عظيماً ( سد مأرب ).
آية: عبرة وعظة.
فأعرضوا: أي تركوا العمل بدين الله بعدما أنعم عليهم، وسهل لهم الحياة.
سيل العرم: المياه التي دمرت السد.
بدلناهم: أي لما أعرضوا عاقبهم الله بتبديل النعم من بساتين، وثمار طيبة بثمار سيئة، وهي الخَمْط والأثل و...
أُكل خمط: ثمر مرُّ حامض لا يستساغ.
الأثل: شجر ينبت ثمراً لا يؤكل.
السدر: شجر ينبت ثمراً ولكن حجمه كالعنب، وطعمه قريباً من التفاح الفج، يسمى في بعض البلدان بالعبري والنبق. [راجع : معاني كلمات القرآن]
[13] (مدارج السالكين) (1/424) موجباتها: الموجب: بفتح الجيم: الثمرة، وبكسرها تعني : أن سبب الشرور الذنوب وأسبابها.
[14] تفسير ابن كثير (3/445)، والحديث أخرجه: البخاري (6512)، ومسلم (950).
[15] تفسير ابن كثير (3/445).
[16] ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبدالعزيز (85-127)
[17] المصدر السابق (136)
[18] أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[19] أخرجه البخاري (6064)، ومسلم (2564).
[20] فتح الباري (8/307).
.رسالة الإسلام
والآثار هي الأهداف إن تحققت، ولذلك نجد اشتراكاً كبيراً بينهما وتوافقاً، وهذه الثمار نفسُها متداخلةُ المعاني فيما بينها، ومترابطةُ الأسباب، بل منها ما هو سبب للآخر، ومشاركٌ له في كثير من شُعبه، ويمكن إيجازها في ست:
- إحقاق الحق.. ودحض الباطل.
- انتشار العدل.. ورفع الظلم.
- انتشار الصلاح.. وقطع دابر الفساد.. واتقاء النقمات الإلهية.
- انتشار الخيرات.. ونزول البركات.
- انتشار الإخاء والسلام.. والأمن بين الأنام.
- سعادة العباد في الدارين.
ونبين في هذا الفصل هذه الآثار، من غير تفصيل ممل، ولا إيجاز مخل، والله الهادي إلى سواء الصراط.
الأثر الأول:
إحقاق الحق، ودحض الباطل.
إن أس الإسلام، ولبه، ومحوره: هو إحقاقُ الحق، أيًا كان، ومع من كان.. وإزهاق الباطل، أينما كان، ومع من كان.. دون النظر إلى جوانب عاطفية، أو مصالح شخصية، أو قرابات نسبية، مهما كانت درجة هذه القرابة.
بل إنَّ نصر الحق، ودحض الباطل، هو الأصل في الدعوة إلى الله، وهو المطلب الأساس.
قال تعالى -حاكياً عن أهل الجنة قولهم بعد دخولهم الجنة-: {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ} [الأعراف:43].
وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]
والحق في الدعوة إلى الله، ليس محصوراً في صورة دون صورة، ولا موجهاً لطبقة دون طبقة، ولا يسير في منحنى دون آخر، بل الحق يشمل كل صور الحياة، وأحداث الواقع، وطبقات الناس، وجميع المنحنيات، فلا يُستثنى أحد من قول الحق، أو قبول الحق.
كما يشمل جميع صور الاعتقاد، وأنواع العبادة، والأقوال والأفعال، وأنواع المعاملات والعادات في الميادين كلها.
قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ} [الرعد: 14] في كل صور الحياة.
ولذلك خاطب الله البشرية جميعاً بذلك فقال:
{قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} [يونس:108].
وأوصانا رسول الله ? بقول الحق في كل مقام، دون خوف من أحد، فقال عليه الصلاة والسلام:
’’لا يمنعن أحدَكم مخافةُ الناس -وفي رواية هيبةُ الناس- أو بَشَرٍ، أن يتكلم بالحق، إذا علمه أو شهده أو سمعه’’ [1].
وجاءت النصوص مشددة على قول الحق في مقام الحكم بين الناس.
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة: 48].
ولما أراد أسامة بن زيد أن يشفع في المخزومية التي سرقت، غضب رسول الله ? غضباً شديداً، وقال له: ’’أتشفع في حد من حدود الله’’، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ’’إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’’[2].
ولا يخفى على عاقل ما في نصر الحق، ودحض الباطل من خير عميم للبلاد، ومصالح عظيمة للعباد، ولذلك سارعت تلك الأمم على اختلاف ألوانها.. وتنوع أصولها.. إلى الدخول في الإسلام. تاركةً الباطل الذي عشعش في عقائدهم، وتحكم في عباداتهم، وسيطر على عاداتهم، مجافيةً سلاطين السوء، وحكام الجور، الذين تحكموا فيهم على مدى قرون، هاجرةً دجاجلة من كهنة ورجال دين، أفسدوا عليهم دينهم، فظهر الحق مستعلياً على باطل الشرك، كعبادة غير الله، من سؤال وسجود، ومبطلاً بدع التعبد السخيفة، كالرياضات المجوسية، من وقوف تحت الشمس أياماً تعبداً... والامتناع عن النكاح والطعام، وغير ذلك من العبادات الباطلة، التي أبطلتها دعوة الحق.
وماحياً عادات قبيحة، لا يقرها شرع، ولا يقبلها عقل، كمنع الطلاق.. ودفن الزوجة حية مع زوجها إذا مات قبلها.. وما قصة إلقاء الفتاة في نهر النيل كل سنة بمجهولة [3]، وما شابه هذه العادات الباطلة التي سخطها الإسلام، واستبدلها بالحق الناصع، والصراط المستقيم.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
وهكذا عاش المسلمون في الحق، وللحق، وبالحق.
الأثر الثاني من آثار الدعوة إلى الله:
انتشار العدل، ورفع الظلم.
الظلم ظلمان: ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره.
فأما ظلم العبد لنفسه، فهو الكفر بخالقه، وصرفُه عبادتَه لغير ربه، وادّعاءُ الولد والصاحبة لله، ووصفُ اللهِ تعالى بما لا يليق به، وإعراضُه عن دعوة الله، وعصيانه، وغيرُ ذلك من صور الظلم الكثيرة.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَىّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وقال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} [البقرة: 254].
ولذلك كان من أعظم آثار الدعوة إلى الله تعالى إزالة هذا الظلم القبيح، من اعتداء على حدود الله، في ذاته، وربوبيته، وألوهيته، وصفاته، حتى يصبح الناس عادلين في ربهم، طيبين في نفوسهم..
والظلم الآخر: ظلم العبد لغيره، وصور هذا الظلم كثيرةٌ لا تُحصى، ومختلفة لا تنضبط.. من إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، ومنع الحقوق، واختلاس الأمن، وترويع العباد، وإهلاك الحرث، وإفساد النسل.
حتى عد شرع الله عز وجل أن أخذ الشيء اليسير من الإنسان، كالسواك ظلمًا يستحق صاحبه العذاب الأليم.
قال صلى الله عليه وسلم : ’’من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة’’، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله؟، قال: ’’وإن قضيباً من أراك’’[4].
لأجل ذلك جاءت النصوص الكثيرة، والأحكام الصارمة في تحريم الظلم.
قال تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111].
وقال: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19].
وخاتمة هذه النصوص القرآنية تعلن اللعن من الله على الظالمين.
قال تعالى:{أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ} [هود: 18].
وقال صلى الله عليه وسلم : ’’الظلم ظلمات يوم القيامة’’[5].
وفي الحديث القدسي الجميل يقول الله تعالى: ’’يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا...’’[6]
وإذا انتفى الظلم حل العدل، وهو مطلب من أعظم مطالب الدعوة إلى الله وأسماها.
لأن حلولَ الظلم، مفسدةٌ للبلاد، ومهلكةٌ للعباد، وقهرٌ للنفوس، وتفتيتٌ للأكباد، واختلالٌ في الأمن.
إن الظلم ليتعدى حدود المظلمة، ليصل إلى روح المظلوم، فيذيقها الويلات، ويسكن الظلم كبد المظلوم فيفتتها.
فتحل بالمظلومين روح الانتقام، وتقوى فيهم طباع التشفي.
لذلك لا يهدأ للمظلوم بال، ولا يقر له قرار حتى يأخذ حقه، ولا يستقر له حال، حتى يعيد كرامته، أو ينتقم لنفسه، فتنتشر الثارات فيفقد الناس - حينئذ - أمنهم، وتختل موازين مجتمعاتهم..
ولم يكتف الله سبحانه بالأمر بالعدل بل أمر بالإحسان، الذي هو أعلى من العدل مرتبة، وأسمى منه منزلة، فإن العدل؛ أن تعطي المرء حقه، والإحسان؛ أن تزيده على حقه إحساناً منك وتفضلاً.
قال تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90].
كما أحسن أبو بكر الصديق إلى ابن خالته مسطح،فأرجع إليه النفقة - بعدما أمسكها عنه عندما أشاع الفاحشة في ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شأن قصة الإفك-استجابة لقول الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِى الْقُرْبَىَ} [النور:22][7].
وأمر الله تعالى بالعدل بين الناس جميعاً بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم وألوانهم.
قال تعالى حاكياً عن نبيه: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
وأمر الله بالعدل وقول الحق، دون النظر إلى قرابة، أو غنى، أو ما شابه ذلك، قال سبحانه:
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].
وأمر الله بالعدل، ولو كان لصالح الأعداء.
قال سبحانه:{وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8]
وفوق هذا كله، عدّ الله العدل من التقوى، سواء كان مع قريب أو عدو.
قال سبحانه:{اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ} [المائدة: 8].
فأي دين أعظم من هذا؟! وأيةُ وصايا أسمى من هذه؟! إذ جعل العدل مع العدو عملاً صالحاً يقرب إلى الله.
ولا تسأل بعد حلول العدل في الناس عما يكون في نفوسهم من الطمأنينة في القلوب، والسكينة في النفوس، والإحساس بالمتعة العظيمة.
فضلاً عما يكون بينهم من التآلف والتسامح، فإن العدل من أوثق روابط المجتمعات، وأقوى لبنات البناء فيما بين الناس، وفيما بينهم وبين حكامهم.
ولا أدل على هذا؛ مما حصل في الفتوحات الإسلامية، من تدافع الشعوب نحو الإسلام، لما رأت من عدل الإسلام ما رأت.. فدفعها هذا إلى الدخول في الإسلام أفواجاً، إيماناً بالعقيدة الصحيحة، ورغبة بما في الإسلام من العدل، وتخلصاً مما كانوا فيه من الظلم.. فقِصَصُ ظلم حكامهم قبل الإسلام مشهورة، وقضايا أمراء المسلمين وقضاتهم في العدل ومع غير المسلمين، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى، وقد ذكرها الكثير من علماء المسلمين في مواضع كثيرة[8](52).
والمقام ليس مقام تفصيل، وذكر حكايات.
الأثر الثالث من آثار الدعوة الى الله:
نشر الصلاح والوقاية من الفساد، واتقاء النقمات.
مما لا ريب فيه: أن من أعظم آثار الدعوة إلى الله نشر الإصلاح بين الناس، و كبح جماح الفساد في الأرض.
لذلك حث الإسلام على الصلاح والإصلاح عامة، ونهى عن الفساد والإفساد عامة.
قال تعالى: {يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]
وقال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
وقال: {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ} [القصص: 77].
وأعظم الله تعالى المواكبين لدعوتهم بالعمل الصالح، فقال سبحانه:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ورتب الله أجراً عظيماً على الإصلاح بين الناس، كلِّ الناس، دون النظر إلى أصولهم، أو أنسابهم، أو ألوانهم.
قال سبحانه:{لاّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ} [النساء: 114].
وجعل للصالحين إرث الأرض في الدنيا، فقال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
وجعلهم ورثة الجنة في الآخرة، قال تعالى: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
قال سبحانه: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ} [الأنبياء: 86].
وقال سبحانه:{إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
وكره الله الفساد وأهله، فقال سبحانه:{وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفَسَادَ} [البقرة: 205].
وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
وطلباً للإصلاح، ودفعاً للإفساد، قرر الإسلام عقوبة صارمة لمن يبغي الفساد في الأرض، قال سبحانه: {إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
ذلك لأن الفساد في الأرض، يجلب الظلم والقهر، ويدفع إلى الاغتصاب، ويضيع الحقوق، ويشيع الفوضى، فُيفقدُ الأمنُ، وتضطربُ المعايشُ. ويهلك الحرث والنسل، فلا يستقر للناس قرار، ولا يهدأ لهم حال، لذلك جاءت هذه العقوبة الصارمة للمفسدين، لكي يرتدعوا.
والإعراض عن الدعوة، يجلب الفساد في الأرض كلها، وانتقام الله عز وجل، بشتى صور الانتقام.. من تسلط الظلمة، وانتشار الأوبئة، وقلة الخيرات، ومحق البركات، وارتفاع الأسعار، ونكد العيش، وتتابع المصائب.
قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ} [طه:124].
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِى عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
قال ابن كثير: ’’الفساد: يعني انقطاع المطر عن البر.. ثم قال: أي: بان النقص في الزروع والثمار، بسبب المعاصي، وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة’’[9] .
وتارة يكون انتقامُ الله مباشراً، بإنزال العذاب بالمفسدين في الدنيا.
قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوْتَادِ * الّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14].
أي: إن الله لبالمرصاد لغيرهم من أمثالهم، قال القرطبي: ’’أي يرصد عمل كل إنسان، حتى يجازيه به، قاله الحسن وعكرمة’’[10].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ} [الفيل: 1-5].
وتارة يكون بالجوع والخوف.
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وتارة يكون انتقام الله من فوق الناس بتسليط الظلمة عليهم، أو بالتفريق والفتن بينهم.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: ’’أما العذاب الذي من فوقكم فأئمة سوء’’[11].
ولقد كان كل عذاب ينزل على الأرض بأي صورة من الصور، إنما هو بأفعال الناس الفاسدة، وهكذا الأمر يكون إلى يوم القيامة.
قال تعالى -بعد أن ذكر ما نزل بتلك الأقوام من العذاب لإفسادهم-: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103، النمل: 14].
ومن أعظم عقوبات الله تعالى بالمفسدين، أنه يمدهم في طغيانهم، ولا يصلح أعمالهم.
قال تعالى:{إِنّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
فتفسد معيشتهم، ولا يهديهم إلى إصلاحها، كما حصل من أهل مأرب، وما كانوا عليه من عيشة رغيدة، وحياة سعيدة، وتقدم مدني، حتى استطاعوا - وقتئذ - أن يبنوا سداً عظيما، يحيي الله لهم به الأرض بعد موتها... فلما أعرضوا عن الدعوة الحق أفسدوا.. فضرب الله عليهم السد، وقطعهم في الأرض أمماً، بما كانوا يفسدون.
ولأهمية هذا الحدث، نسوق وقائعه من القرآن الكريم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاّ الْكَفُورَ} [12] [سبأ:15-17].
وكذلك لما عاين فرعون الحق حين الموت، ونطق بكلمة الإيمان، ردّها الله عليه لما كان منه من الفساد من قبل.
قال سبحانه: {آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
وقد يكون العقابُ من الله مكراً باستدراجهم، ومدهم بالمال والقوة:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ* وَأُمْلى لَهُمْ إِنّ كَيْدِى مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]، [الأعراف:183].
وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56].
ولو ذهبنا نتتبع أصناف الفساد، وأنواع العذاب الذي نزل على الأمم في القرآن والسنة لطال بنا المقام.
قال ابن القيم: ’’فكل نقص وبلاء، وشر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها’’[13].
وإذا انقطع الفساد، انقطع الشرك، ودحض الباطل، ومحيت البدع والخرافات، وانقطعت شرور الناس بعضهم من بعض، من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وذهاب العقول، وسلب الأموال، وانقطع الشر كله.. فحفظت العقول، وأمنت النفوس، وأحصنت الأعراض، وسلمت الأموال، وانتشر الصلاح والخير كله، وأمن الناس بعضهم بعضاً، وعاشوا في أمان وسلام، وأخوّةٍ ووئام.
وإذا قطع الفساد، أمن الناس عذاب الله، ووقوا انتقامه، فعاشوا في أمن من الله، وأمن من الناس.
قال تعالى: {فَأَىّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ} [الأنعام: 8].
ووعد الله الصالحين بإبدال خوفهم أمنا.
قال تعالى: {وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} الآية. [النور: 55].
وهكذا عاش الصالحون في ربوع الأمن قروناً، حتى إذا ما أعرضوا عن الدعوة أعرض الله عنهم، فانتشر الفساد، وحل الظلم.. وعمت الفوضى.. فكان ما كان. إلامارحم الله.
الأثر الرابع من آثار الدعوة إلى الله:
حلول الخيرات، ونزول البركات (الرحمات):
فضلاً عما تحدثه الاستجابة لدعوة الله مما ذكر سابقاً، من سلام وأمان، وصلاح بين العباد، وحفظ للأموال والأعراض والأنفس.
فضلاً عن هذا كله، فإن الله وعد المستجيبين لهذه الدعوة، بأن ينزل عليهم الخيرات، ويجعل لهم في أموالهم البركات.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ وَلََكِن كَذّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: {وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً} [الجن: 16].
قال ابن كثير: ’’فكلما أقيم العدل، كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في الصحيحين: أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب’’[14].
وقال نوح خلال دعوة قومه إلى الله، وحثهم على الاستجابة لها:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10- 12].
قال ابن كثير: ’’وإذا تركت المعاصي كانت سبباً في حصول البركات من السماء والأرض’’[15].
وقبول الدعوة يعني: نزول الرحمة.. فما بعث الله الرسل، وما حملهم من دعوة إلا رحمة عامة للناس، ورحمة خاصة بالمستجيبين لدعوتهم.
قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال سبحانه: {إِنّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
وقال: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وقال تعالى حاكياً عن نبيه نوح: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 63].
وكان ينالُ المسلمين جائزةُ ربهم، كلما استقاموا على الطريق، ويفيض المال حتى لايجد المسلمون في كثير من البقاع من يقبل الصدقة لغناهم، وقد أمر عمر بن عبد العزيز أن يصرف الفائض في مرافق المسلمين العامة، كبناء محطات للمسافرين، وتسهيل الطرق [16] .
ولأول مرة في تاريخ البشرية، يعطى أهل الذمة سلفا لتنمية زراعتهم[17].
الأثر الخامس من آثار الدعوة إلى الله:
انتشار الإخاء والسلام، والأمن بين الأنام.
من أعظم آثار الدعوة إلى الله والاستجابة لها: انتشار الإخاء والمحبة، والرحمة والتعارف، والتعاون والأمان، والسلام بين العباد.
وبعبارة أخرى: انتشار الدعوة بين الأمم والشعوب، وقبولهم بها، يوحد هذه الأمم، ويجمع هذه الشعوب، على راية واحدة، وفي صف واحد، فيصبحوا إخوة متحابين، لا ضغينة بينهم ولا عداء، بل محبة وسلام وإخاء .
قال تعالى:{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
ففي مقام التعاون:
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وفي مقام الرحمة بين العالمين:
قال تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال صلى الله عليه وسلم: ’’الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء’’[18]62
وفي مقام التعارف بين البشرية:
قال تعالى: {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ} [الحجرات: 13].
وفي مقام المحبة بين العباد قال تعالى:
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّا} [مريم: 96].
وقال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} [المائدة: 54].
وفي مقام الأخوة:
قال تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وقال ?: ’’وكونوا عباد الله إخواناً’’[19]. 63.
وفي مقام السلام العزيز، قال تعالى:
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ} [الأنفال: 61].
وإن من أكبر الشواهد على صدق هذا، ما حققته الدعوة الإسلامية حين انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، من تعارف هذه الشعوب، مع تباعد أقطارها، وانفتاح بعضها على بعض، مع تنافر طباعها.. وتآلف بعضها مع بعض رغم اختلاف ثقافاتها.. ثم اتحادها فيما بينها رغم تفاوت أجناسها وألوانها.
فانقلب ما كان بينهم من تطاحن ودماء، إلى محبة وإخاء، وأصبحوا عباد الله إخوانا، يُعلّم بعضهم بعضا، ويدافع بعضهم عن بعض، بعد أن كانوا أعداء، يقتل بعضهم بعضا.
قال تعالى: {وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان إمام الفقه، والناس في مشارق الأرض ومغاربها عالة عليه في ذلك، وهو ليس بعربي، يتبعه العرب والأعاجم على اختلاف أصولهم.
وهذا الإمام البخاري من بخارى، وهي من أبعد البلاد عن العرب، أصبح إمام الثقلين في حديث النبي ?، يأخذ منه العرب قبل العجم، ولا غنى للأمة البتة عن كتبه.
وهذا القائد طارق بن زياد البربري، كان قائداً للعرب ولقومه.
وما كان لهؤلاء تلك المنزلة إلا بعد قبولهم لدعوة الإسلام.
وغير هؤلاء ألوف مؤلفة أصبحوا علماء، وقادة، وأمراء، متعاونين متآلفين، بعد أن كانوا من بلاد شتى متنافرين، ومن أصول مختلفة متحاربين.
وأما تلك الشعوب التي تعد بألوف الألوف.. المتنافرة و في كل شيء، في أصلها، ولغتها، وثقافتها، ودينها..أصبحت -بعد أن انتشرت الدعوة فيها- أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة، تكاد تتحدث بلسان واحد، قد تآلفت قلوبها.. وتوحدت صفوفها، قبل هذا التمزق المتأخر.
مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ} [المؤمنون: 52].
الأثر السادس من آثار الدعوة إلى الله:
سعادة العباد في الدارين:
إن اهتداء الخلق إلى طريق الحق، يُعرفُّهم بحقوقهم وواجباتهم، تجاه ربهم، وتجاه من يتعايشون معهم؛ من أهل وأقرباء، وأصحاب، وأصحاب جنب.. ومن عرف حقوقه وواجباته، وصدق في أدائها، أمن الناس وأمنوا منه، ونال حقه، ونالوا حقوقهم، وإذا حصل ذلك، عاش الناس جميعاً عيشة السعداء، فلا خوف يهددهم، ولا فساد ينغصهم.
وسعادة الإنسان في ثلاثة:
- سعادته في قلبه ونفسه..
- سعادته في حياته ومعيشته..
- سعادته في مصيره وآخرته..
وإن من أهم آثار الاستجابة لدعوة الله تعالى، تحقيق هذه السعادات كلِّها، للخلق كلِّهم.
فمن عرف ربه، واستجاب لخالقه، وتوكل عليه، ورضي بقضائه وقدره، وأيقن أن كل شي بيده، وأن كل شيء ماض عليه حكمه، عدل فيه قضاؤه، حصل عنده يقين في القلب، وراحة في النفس، مهما كان عليه من حال، ومهما قُدِّر له من قضاء، وكان كمن يعيش في قصور، ويرتع في جنان.. فهذه سعادة القلب والنفس {الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وذِكْرُ الله هاهنا أعَمُّ من كونه باللسان، لأن المقصود خشيتهُ وطاعتهُ، واتباعُ شرعه، والعملُ بقرآنه.
قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
وقال تعالى: {اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِىَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ} [الزمر:23].
فبهذا تتحقق سعادة القلب والنفس.
ومن استجاب لدعوة الله، عرف الحلال والحرام، ووقف عند حدود الله، فأدى الأمانة، واستقام في بيعه وشرائه، ووفى بعقوده ووعوده، ولم يعتد بيد، ولا في مال، ولا عرض، فأعطى ما عليه، وأخذ ما له، وتخلق بأخلاق الإسلام العظيمة.
فهذه سعادة الحياة والمعيشة: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِى الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} [الأنعام: 122].
ومن استجاب لدعوة الله نال مرضاته، ونجا من ناره، وفاز بجنته، فهذه هي السعادة الحقيقية، والسعادة الأبدية.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
قال الإمام البخاري: (استجيبوا): أجيبوا، (لما يحييكم): لما يصلحكم[20](64). أي يصلح أمركم في الدنيا والآخرة.
فبهذا يتبين: أن من أعظم آثار الاستجابة لدعوة الله، أن يحيي الله المستجيبين حياة طيبة في الدارين.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النحل: 97].
ولقد تحقق هذا ظاهراً في كثير من فترات التاريخ الإسلامي، حين صدق المسلمون العمل بهذا الدين، فغمرت السعادة قلوبهم، وعم الرخاء في حياتهم ومعيشتهم، وساد الأمن والعدل في ديارهم، وسيلقون ما يوعدون عند ربهم.
{وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29].
[1] حديث صحيح، أخرجه أحمد (3/46-84)، وابن ماجه (4007)، والترمذي (2191) مطولاً، وغيرهم، وذكره شيخنا الألباني - تعالى- في الصحيحة رقم (168)، وله ألفاظ متقاربة.
[2] رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
[3] رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة (4/1425)، وانظر قصة نيل مصر في البداية والنهاية لابن كثير (7/100)، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (5/335).
[4] رواه مسلم (137)، وله رواية أخرى بلفظ مقارب أخرجها البخاري (6659، 7445)، ومسلم (138)، والأراك هو شجر يؤخذ منه السواك.
[5] رواه البخاري (2447)، ومسلم (2579).
[6] رواه مسلم (2577)
[7] انظر البخاري (2661)، ومسلم (2770)
[8] راجع حلية الأولياء، لأبي نعيم (4/140)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (42/487)، وأخبار القضاة لمحمد بن خلف المشهور بوكيع (2/194-195).
[9] تفسير ابن كثير (3/444، 445).
[10] تفسير القرطبي (20/50)
[11] أخرجه ابن جرير (11/417) من طريقين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] معاني بعض مفردات الآيات، سبأ: قبيلة مشهورة باليمن كانت قد بنت سداً عظيماً ( سد مأرب ).
آية: عبرة وعظة.
فأعرضوا: أي تركوا العمل بدين الله بعدما أنعم عليهم، وسهل لهم الحياة.
سيل العرم: المياه التي دمرت السد.
بدلناهم: أي لما أعرضوا عاقبهم الله بتبديل النعم من بساتين، وثمار طيبة بثمار سيئة، وهي الخَمْط والأثل و...
أُكل خمط: ثمر مرُّ حامض لا يستساغ.
الأثل: شجر ينبت ثمراً لا يؤكل.
السدر: شجر ينبت ثمراً ولكن حجمه كالعنب، وطعمه قريباً من التفاح الفج، يسمى في بعض البلدان بالعبري والنبق. [راجع : معاني كلمات القرآن]
[13] (مدارج السالكين) (1/424) موجباتها: الموجب: بفتح الجيم: الثمرة، وبكسرها تعني : أن سبب الشرور الذنوب وأسبابها.
[14] تفسير ابن كثير (3/445)، والحديث أخرجه: البخاري (6512)، ومسلم (950).
[15] تفسير ابن كثير (3/445).
[16] ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبدالعزيز (85-127)
[17] المصدر السابق (136)
[18] أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[19] أخرجه البخاري (6064)، ومسلم (2564).
[20] فتح الباري (8/307).
.رسالة الإسلام