مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/05/28 12:00
أزمة القطاع الخيري: نذير تحول أم فرصة للنمو؟
  • قراءة في ضوء فكر مالك بن نبي

كثيرًا ما نجد أن المبادئ والقوانين التي تحكم تطور الأمم والمجتمعات الكبرى يمكن، بشيء من التبصر والتحليل، إسقاطها لفهم ديناميكيات كيانات أصغر تعمل ضمن هذا المجتمع، ومنها المنظمات بمختلف أشكالها.

وفي هذا السياق، يقدم المفكر مالك بن نبي رؤية ثاقبة ومغايرة للمألوف حول التحديات التي تواجه المجتمعات؛ فالصعوبات من منظوره ليست بالضرورة نذير انهيار، بل قد تكون "أوضح دليل على النهضة واليقظة"، وبَشير انتقال نحو مرحلة جديدة من الفاعلية الحضارية.

هذه المقالة تسعى لاستلهام هذا الطرح العميق، وإسقاطه على عالم المنظمات غير الربحية.. هذا القطاع الحيوي الذي يواجه بدوره "صعوبات" وتحولات جوهرية في مسيرته، وهي تحولات بدأت تأخذ شكل ظاهرة متكررة في أكثر من دولة، يمكن وصفها بـ"أزمة القطاع الخيري"، وآخر تجلياتها ما نشهده في دولة الكويت الحبيبة.

سنحاول فهم كيف يمكن لهذه التحديات أن تكون -كما في رؤية مالك بن نبي- علامات على "أزمة نمو" صحية، لا مجرد عقبات، وذلك بالنظر إلى تجارب منظمات دولية كبرى، وبالإشارة إلى الحاجة الماسة لتحليل الأزمات الراهنة بعمق وموضوعية.

إن ما يشهده القطاع الخيري اليوم في العديد من الدول، من تحركات لإعادة التنظيم والتقنين، وما يصاحب ذلك من تحديات وصعوبات للمؤسسات القائمة، يمكن فهمه في هذا السياق كدخول إجباري أو طوعي في "حلبة كفاح" تفرض "يقظة" جديدة

جوهر فكرة مالك بن نبي: الصعوبات كوقود للنهضة

يرى مالك بن نبي أن المجتمعات، كالكائنات الحية، تمر بأطوار مختلفة. الانتقال من حالة السكون أو الغفلة عن المشكلات إلى حالة الوعي بها ومحاولة معالجتها، يولّد بطبيعته شعورًا بالصعوبة، وهذا الشعور ليس إلا انعكاسًا لدخول "حلبة الكفاح"، وهو صراع داخلي بين "عوامل سلبية تدعوه إلى السكون، وبين عوامل إيجابية تدعوه إلى الكد والعمل". هذه "الأزمة" ليست مرضًا بقدر ما هي "أزمة نمو"، و"تحدٍّ خلاق" يستحث الطاقات ويدفع نحو التفكير والابتكار؛ فالأمة التي تشعر بالصعوبات هي أمة بدأت تطرح الأسئلة وتتحسس طريقها نحو فاعلية متجددة.
 

إسقاط منظور بن نبي على المنظمات غير الربحية

المنظمات غير الربحية، ككيانات اجتماعية هادفة، ليست بمنأى عن هذه الديناميكية. هي الأخرى قد تمر بمراحل من الاستقرار الذي قد يصل إلى حد الجمود، ثم تواجه "صعوبات" تجبرها على "اليقظة" وإعادة النظر في مسلماتها.

هذه الصعوبات قد تتخذ أشكالًا متعددة: أزمات تمويل، حاجة ملحة لتطوير الكفاءات، تغيرات جذرية في بيئة العمل أو في احتياجات الفئات المستفيدة، تحديات الحوكمة والشفافية، أو حتى فقدان البوصلة فيما يتعلق بالرسالة الأساسية.

إن ما يشهده القطاع الخيري اليوم في العديد من الدول، من تحركات لإعادة التنظيم والتقنين، وما يصاحب ذلك من تحديات وصعوبات للمؤسسات القائمة، يمكن فهمه في هذا السياق كدخول إجباري أو طوعي في "حلبة كفاح" تفرض "يقظة" جديدة. فمن منظور بن نبي، هذه الصعوبات يمكن ألا تكون مجرد مؤشرات على خلل، بل علامات على أن المنظمة -أو القطاع ككل- بدأت تعي حجم التحديات الحقيقية، أو أنها تُدفع للسعي نحو مستوى أعلى من التأثير والنضج المؤسسي.

إنها "أزمة نمو" قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية. ولتوضيح كيف يمكن لهذه "الصعوبات" أن تشكل بالفعل محفزًا للنمو والتجديد في القطاع غير الربحي، يمكننا النظر إلى تجارب بعض المنظمات الدولية الكبرى التي مرت بتحولات جوهرية، عكست هذا المنطق البنائي.

هناك مدخلان رئيسيان لتحقيق النضج والفاعلية المؤسسية المنشودة: الأول هو كيفية مواجهة المشكلات والتحديات برؤية متوازنة، والثاني هو تبني أخلاقيات الواجب والمسؤولية، حيث شدد على التركيز على "باب الواجب" أكثر من الحقوق

دراسة حالة "كير الدولية".. من طرود الإغاثة إلى تمكين الإنسان

تأسست منظمة "كير الدولية" (CARE International) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بهدف تقديم الإغاثة العاجلة لأوروبا المنكوبة من خلال "طرود كير" الشهيرة. كانت تلك مرحلة ذات أهداف واضحة وصعوبات محددة تتعلق باللوجيستيات وتوزيع المعونات.

لكن مع تغير السياق العالمي، واجهت "كير" "صعوبة" أكبر وأعمق: كيف تحافظ على relevancy، وتنتقل من دور الإغاثي الطارئ إلى المساهمة في معالجة الأسباب الجذرية للفقر؟ هذا التساؤل كان بمثابة "يقظة" دفعت المنظمة للدخول في "حلبة كفاح" جديدة.
 

تطلب الأمر إعادة تعريف جذرية للذات وللرسالة؛ فالتحول نحو التنمية طويلة الأمد، ثم التركيز الإستراتيجي العميق على تمكين النساء والفتيات، لم يكن مسارًا هيّنًا.

واجهت "كير" تحديات بناء خبرات جديدة كليًّا، وتغيير ثقافة مؤسسية راسخة، وإقناع المانحين بالرؤى الجديدة، وتطوير آليات عمل مختلفة جذريًّا.. هذه "الصعوبات" كانت ثمن "النمو" نحو فهم أعمق لمهمتها الحضارية بالمعنى الواسع، وزيادة "فاعليتها" في إحداث تغيير مستدام. إنها تجسيد للانتقال من التعامل مع "عالم الأشياء" (الطرود) إلى محاولة بناء "عالم الأشخاص" (تمكين الإنسان).

دراسة حالة "أوكسفام".. أزمة القيم ومحاولة استعادة البوصلة الأخلاقية

"أوكسفام" (Oxfam)، بتاريخها الطويل كإحدى كبرى المنظمات العاملة في مجال مكافحة الفقر والإغاثة والمناصرة، واجهت في العقد الأخير "صعوبات" من نوع مختلف، تمثلت في أزمات أخلاقية هزت صورتها وثقة الجمهور بها، أبرزها ما يتعلق بسوء السلوك وقضايا الاستغلال.

من منظور بن نبي، يمكن اعتبار هذه الأزمات بمثابة "يقظة" قاسية ومؤلمة، كشفت عن "خلل في عالم الأشخاص" داخل المنظمة، وعن ابتعاد محتمل عن القيم التي تأسست عليها. "الصعوبة" هنا لم تكن مجرد مشكلة إدارية أو مالية، بل أزمة وجودية تتعلق بالبوصلة الأخلاقية للمنظمة.

رد الفعل على هذه الأزمة، وما تضمنه من مراجعات داخلية شاملة، ومحاولات لتغيير الثقافة المؤسسية، وتطبيق إجراءات أكثر صرامة للمساءلة والشفافية، يمثل دخولًا في "حلبة كفاح" من أجل استعادة الثقة وإعادة بناء الذات على أسس أكثر صلابة.

هذا "التحدي الخلاق" -رغم مرارته- يحمل في طياته فرصة "لنمو" حقيقي في النضج الأخلاقي والمؤسسي، وتأكيدًا على الالتزام "بالواجب" تجاه المستفيدين والمجتمع بشكل عام، وليس فقط تجاه استمرارية المنظمة. إنه صراع لتغليب "القوى الإيجابية" على "القوى السلبية" التي ربما تكون قد تسربت إلى نسيجها.

يجب أن يكون المحرك الأساسي للمنظمة هو "واجبها" تجاه رسالتها والفئات التي تخدمها. هذا التركيز على الواجب يدفعها للابتكار والتضحية والتطوير المستمر، بدلًا من الانشغال بمصالح ضيقة أو "حقوق" داخلية قد تعيق التطور

مفاتيح النضج والفاعلية المؤسسية: استلهام رؤى بن نبي في العمل غير الربحي

بعد تشخيصه مراحل الوعي والتحدي، يقدم بن نبي ما يمكن اعتباره مفاتيح أساسية للانتقال نحو مرحلة أرقى من الوجود الحضاري للأمم. وإذا أردنا إسقاط هذه الرؤى على المنظمات غير الربحية، يمكننا القول إن هناك مدخلين رئيسيين لتحقيق النضج والفاعلية المؤسسية المنشودة: الأول هو كيفية مواجهة المشكلات والتحديات برؤية متوازنة، حيث دعا بن نبي لمواجهة المشكلات "مستبشرين لا متشائمين"، مع تجنب "نفسية المستحيل" و"نفسية التساهل". والثاني هو تبني أخلاقيات الواجب والمسؤولية، حيث شدد على التركيز على "باب الواجب" أكثر من الحقوق.
 

يمكن للمنظمات غير الربحية استلهام هذه المداخل لتحقيق تطورها المنشود في:

  • الرؤية المتفائلة والواقعية: على المنظمات أن تواجه تحدياتها (التمويل، الكفاءات، التغيرات البيئية للقطاع) برؤية لا تستسلم لليأس (مستحيل أن نتغير أو نجد موارد)، ولا تستخف بحجم المشكلة أو الجهد المطلوب (الأمر بسيط وسنحله بسهولة").. الواقعية في التشخيص والتفاؤل في القدرة على التغيير ضروريان.
  • أولوية الواجب والرسالة: يجب أن يكون المحرك الأساسي للمنظمة هو "واجبها" تجاه رسالتها والفئات التي تخدمها. هذا التركيز على الواجب يدفعها للابتكار والتضحية والتطوير المستمر، بدلًا من الانشغال بمصالح ضيقة أو "حقوق" داخلية قد تعيق التطور. فالمؤسسة التي يرتفع فيها منسوب أداء الواجب تجاه رسالتها هي المؤسسة القادرة على النمو والتأثير.

إن النظر إلى التحديات كفرص لـ"تحدٍّ خلاق" يتطلب شجاعة في المواجهة، ومرونة في التكيف، والتزامًا عميقًا بـ"الواجب" تجاه الرسالة

إن فكر مالك بن نبي يقدم للمنظمات غير الربحية إطارًا قيمًا لفهم ديناميكيات التحدي والتغيير؛ فالصعوبات التي تواجهها في مسيرتها، سواء كانت نابعة من سعيها للتوسع والتأثير، أو نتيجة لأزمات داخلية أو خارجية، يمكن أن تكون بالفعل "بشير يقظة ومخاض نمو".

وما نشهده اليوم كظاهرة متنامية من "أزمات القطاع الخيري"، وما يصاحبها من جهود لإعادة صياغة وترتيب العمل الخيري في دول عديدة، ومنها الكويت، إنما يؤكد الحاجة الماسة ليس فقط للمعالجات التنظيمية، بل للبحث المعمق بمشاركة جميع أصحاب المصلحة، للتعمق في فهم الأسباب الجذرية، بدلًا من اللجوء إلى المعالجات السطحية أو الحلول السريعة، التي غالبًا ما تُعتمد بناءً على انطباعات أو تحت تأثير الضغوطات الآنية.

وقد تكون هذه الأزمة، في جوهرها، بشير خير لدفع القطاع الخيري -ومن خلاله الجمعيات بمختلف مجالاتها- إلى الاهتمام الحقيقي بـ "عالم الأفكار" الذي ربما تم تجاهله لفترة طويلة، حيث غلب الجانب العملي التنفيذي أو "عالم الأشياء" و"الأفراد" (كمنفذين أو مستفيدين مباشرين) على حساب الرؤية الفكرية العميقة والمنهجية المتكاملة.
إن النظر إلى هذه التحديات كفرص لـ"تحدٍّ خلاق" يتطلب شجاعة في المواجهة، ومرونة في التكيف، والتزامًا عميقًا بـ"الواجب" تجاه الرسالة. وفي هذا المسار، الذي يتطلب بحثًا وتأصيلًا فكريًّا وعمليًّا بدلًا من ردود الأفعال المتسرعة، قد تجد المنظمات غير الربحية طريقها ليس فقط للبقاء، بل للازدهار وتحقيق "فاعلية" أعمق وأكثر استدامة في خدمة الإنسان والمجتمع.

*نقلاً عن موقع الجزيرة دوت نت

أضافة تعليق