لم تكن مجرد هزيمة لحقت بجيش الإسلام في معركة أحد، إنما هي عاصفة داهمت الشعور وأيقظت الانتباه للتفتيش عن جوهر القضية، فقد مر عام على انتصارهم في موقعة بدر، وهم لا يزالون على الإيمان كما هم، وأعداؤهم لا يزالون على الكفر كما هم، فما الذي تغير؟ كيف انهزم جند الإيمان والتوحيد وقُتل منهم سبعون رجلًا وضُرب النبي صلى الله عليه وسلم فشُجّ وجهه وكسرت رباعيته؟ كيف؟
يتنزل القرآن بالسؤال والإجابة الشافية الكافية معًا {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 165].
إنه الدرس المُكلّف، والذي ستظل كلفته محفورة في الأذهان للأمة ما دامت تطالع هذه الآيات، تربية للشخصية الإسلامية لتدرك جيدًا تأثير علاقتها بالله على مسار الحياة، وتعلم أن النصر قرين الطاعة، والهزيمة قرين المعصية، وأن الخير إنما هو من عند الله، وأن الشر إنما هو من ذوات أنفسنا، أراده الله قدرًا لكننا جعلنا من أنفسنا أسبابا له وأبوابًا إليه. الهزيمة في أحد كانت نصرًا معرفيًا وإدراكيًا، حيث أيقن المسلمون أن عصيان القلة يجد العموم مغبته، فخمسون من الرماة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا من على الجبل لجمع الغنائم دون إذنه، تسببوا في جراح الأمة بأسرها، فهكذا هي أمة الإسلام جسد واحد، فكما أن التلف في أحد أعضاء الجسم يؤثر على سائر الجسد، وكما أن الإنسان يعاقب في النار بجسده كله على ما اقترفته بعض أعضائه من آثام، فكذلك يتأثر بقية الجسد الإسلامي بصنيع عضو منه. تعلم المسلمون من هذه الهزيمة أنه لا يكفي للمسلم أن ينتمي إلى الحق، فمجرد انتمائه للحق لا يكفل له التمكين والنصر، بل لابد من العمل بمقتضى هذا الانتماء للمنهج، والذي يتمثل في طاعة الله فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، فهكذا كان الحال معهم في معركة أحد، كانوا على الحق لكنهم لم يأخذوا بأسباب النصر، بل بدَرَ منهم ما يستدعي الهزيمة وهو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا قد حدث مع مجموعة من الرماة لم يقصدوا الخروج على طاعة نبيهم وإنما رأوا ما يحبون من الغنائم بعد فرار المشركين فظنوا أن القتال انتهى، فإن كان هذا قد حدث معهم فكيف بمن يغرقون في المخالفة ليلا ونهارا عن غير اجتهاد أو ظن منهم؟
فالنصر يأتي مع الطاعة، والهزيمة تأتي مع المعصية، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَإِذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَكَانَ عَدُوُّهُمْ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ؛ إمَّا لِتَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا لِعُدْوَانِهِمْ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا».
تعلم المسلمون أن الكبوة والأزمة هي موطن تعلم واعتبار، لا ينبغي أن يجعلها المسلم قرارًا له ويغرق في آثارها، بل عليه أن ينهض من جديد، ويستدرك ما فاته، ويتفادى أخطاء التجربة الأليمة، ولقد جاء التعقيب القرآني بعد الهزيمة ليؤكد على هذه الحقيقة، فكما كان العتاب كانت التسلية واستنهاض العزم، ومن ذلك تذكيرهم بأنهم الأعلون مهما ألمت بهم الملمات {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139]، ومنها تذكيرهم بمُصاب أعدائهم أيضًا، فليسوا وحدهم من أُثخن فيهم، وأن الأيام دولٌ بين الناس، إضافة إلى التذكير بحكمة الله من تلك الابتلاءات، والتمحيص، واتخاذ شهداء منهم لله تعالى {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]. إن أحداث ونتائج هذه المعركة تأخذ بتلابيب أفكارنا إلى أن نتعامل في حياتنا بمنطق العضو في الجسد، فكل ما يصدر عن المسلم من سلوكيات وأنماط معيشية إنما يصب في النهاية في المسار العام للأمة بأسرها، فكل أعمال الطاعة والإصلاح هي خير للأمة، وكل أعمال العصيان والفساد هي شر للأمة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.