لما كان الدين قد كمل في زمن النبوة، فلا يُحتاج إلى زيادة فيه أو إنقاص منه، فإن من تمام ودلائل كماله أنه راعى المستجدات اللاحقة في كل عصر بعد انقطاع الوحي، نظرا لأنها رسالة خالدة لا تتعلق بزمن معين ولا تقف عند حقبة بعينها.
الدين قد بيّن القواعد التي يحتاج إليها الناس في الضروريات والحاجيات والتحسينات، فالضروريات ما لا تقوم الحياة بدونها كالمضطر لأكل الميتة لتقوم بها حياته، والحاجيات تقوم بدونها الحياة مع مشقة شديدة تلحق المُكلَّف، والتحسينيات هي التي لا تمس الحاجة إليها وتقوم الحياة بدونها ولا تتأثر حياة المكلف مع انعدامها، فهذه كلها قد بين الدين قواعدها.
يقول الشاطبي رحمه الله في الاعتصام: “فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلابد من إعمالها ولا يسع الناس تركها وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه”.
تلك المرونة في التشريعات من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية التي تستوعب كل الأزمنة والأمكنة، فإن شريعة جاءت على أساس الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حتما لن تتعرض لتفاصيل أحكام الجزئيات الواقعة في المستقبل مع كثرتها وتعددها وتجددها بتجدد العصر، لذا ناسب هذا الإجمال خلود هذه الشريعة.
ومن أبلغ ما يدل على مرونة الشريعة الإسلامية تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والعرف، لأن الشريعة في الأصل مبناها على مصالح العباد في معاشهم وآخرتهم، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “هَذَا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْجَبَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي فِي أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لَا تَأْتِي بِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ”.
وساق ابن القيم أمثلة عديدة على تغير الأحكام وفق الزمان أو المكان، فمن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو مع أنه حدٌّ، خشية أن يؤدي لمفسدة أكبر، كأن يلحق من أقيم عليه الحد بالأعداء.
ومن دلائل مرونة الشريعة تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ومن أعظم ما يدل عليه ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنْ الْحِجْرِ).
وهذا الحديث يدل على ترْك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من أجل ما هو أهم وأولى.
والخلاصة كما قال ابن القيم فإن الأحكام نوعان، نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة.
الحديث عن مرونة الشريعة الإسلامية وبيان عظمة الدين الإسلامي بصفة عامة أمر ضروري وهام، في ظل حملات التشويه الممنهجة ضد الإسلام عقيدة وشريعة، التي يروج القائمون عليها أن هذه الشريعة مكانها خيام الصحراء في عصر النبوة، ولا تصلح لعصر الذرة والتقنيات الحديثة وارتياد الفضاء، فحري بالدعاة والمصلحين التركيز على خصائص الشريعة الإسلامية لكي يتشبع بها المسلم ويقدر دينه حق قدره، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.