كان بالكوفة رجل عربي يقرأ ويتابع أخبار وأحوال كسرى والفرس؛ فسمى لذلك “عمر كسرى”. في أحدى المرات حدّث الناس عن كسرى ونسائه، فسأله رجل: كم أمهات المؤمنين؟ قال: لا أدرى! فقيل له: أنت رجلٌ من المسلمين تعرف نساء كسرى ولا تعرف نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم!.
وذات يوم مرّ به رجل يُقال له “علي بن يزيد بن الوليد بن عبد الملك” وكانت جدته فارسية، فقال عمر كسرى : ما رأيت أحداً أشبه بصفة كسرى من هذا!، فقيل له: أتعرفه؟ قال: لا. فقيل له: هذا علي بن يزيد. فرغم أنه لم يرَ كسرى، ولكن من كثرة ما يقرأ عنه صار يعرف حتى شبهه وصفته.
فكم من شبابنا اليوم أمثال “عمر كسرى”، ممن يعرفون أدق التفاصيل عن اللاعبين والممثلين والمشاهير ولا يعرفون إلا النـزر اليسير عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وأعلام أمة الإسلام؟
بل كم من كتابنا ومثقفينا الذين يستشهدون في كتاباتهم وأحاديثهم بأقوال فلاسفة ومفكري الغرب والشرق[1]، متجاهلين تراثهم العربي والإسلامي، بل والقرآن الكريم وتفسيره، والسنة النبوية وشروحها؟
إن تجاهل الوحيين وقدسيتهما، وتراثنا وثرائه، في اطروحات وحوارات بعض الكتاب والمثقفين المسلمين يشي بالحاجة إلى التذكير بعدد من الأمور:
أولاً: أن في القرآن الكريم والسنة المطهرة تبياناً لكل ما يحتاجه العالَم من العقائد التي تسعد القلوب، والأحكام التي تضبط السلوك وتزكي النفوس، والتنظيمات التي ترسخ العدل والرضا للفرد والأسرة والمجتمع والأمة.
قال الله تعالى: (وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، قال ابن كثير: “الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ خَبَرِ مَا سَبَقَ، وَعِلْمِ مَا سَيَأْتِي، وَحُكْمِ كُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمَا النَّاسُ إِلَيْهِ محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم وَمَعَادِهِم“، وذكر ابن القيم أن أحد أسباب انصراف أقوام عن الاستشهاد بالقرآن الكريم، هو نظرتهم للقرآن أنه كتاب تاريخي تحدّث وعالج أحوال زمانه، وليس منهج حياة للأفراد والأمم على مر العصور، فيقول: “أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته (أي القرآن) وتضمنه له ، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يُعقّبِوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن“
ثانياً: أن فلاسفة ومفكري الغرب والشرق قد فرحوا واستغنوا بما عندهم من العلم عن الوحي والنبوة، ثم تبعهم بعد ذلك فلاسفة العرب، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتهُم رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلعِلمِ)، قال الآلوسي في تفسيره: “والزَّمانُ مُتَشابِهٌ فَقَدْ رَأيْنا مَن تَرَكَ مُتابَعَةَ خاتَمِ المُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم واسْتَنْكَفَ عَنِ الِانْتِسابِ إلى شَرِيعَةِ أحَدٍ مِنهم فَرَحًا بِما لَحِسَ مِن فَضَلاتِ الفَلاسِفَةِ وقالَ: إنَّ العِلْمَ هو ذاكَ دُونَ ما جاءَ بِهِ الرُّسُلُ“، وقال السعدي: “وهذا عام لجميع العلوم، التي نوقض بها ما جاءت به الرسل، ومن أحقها بالدخول في هذا: علوم الفلسفة، والمنطق اليوناني، الذي رُدَّت به كثير من آيات القرآن، ونقصت قدره في القلوب“.
ثالثاً: أن ما عند هؤلاء الفلاسفة والمفكرين من المعارف والعلوم، مقتصر على الماديات الدنيوية، مُنبتٌ عن الوحي، وبالتالي فهو لا يحقق مصالح العباد الروحية والنفسية والاجتماعية ونحوها، كما قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: “وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ“. وقال ابن تيمية عن الفلاسفة: “وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جداً, وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد فلا يعرفون ذلك ألبتة“، وقال السعدي: “ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يُحيّر العقول ويدهش الألباب … وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة بالعواقب“.
رابعاً: أن في الاعتزاز والتفاخر والاستشهاد بأقوال فلاسفة ومفكري الغرب والشرق، نوع من الاستنكاف والإعراض عن ما جاءت به الشريعة الشاملة الكاملة، فإن من يُكثر من الاطلاع على كتابات الفلاسفة لن يبقى في قلبه مكاناً لتراث الإسلام، قال ابن تيمية: “من أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم ؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير“.
خامساً: أن عدداً من المسلمين ممن انخدعوا وأعجبوا بفلاسفة ومفكري الغرب والشرق، شعروا بهشاشة معتقداتهم، ومناقضتهم لعقائد المسلمين، فعادوا وتبرؤوا منهم ومن أقوالهم، فهذا أبو المعالي الجويني يقول في آخر حياته: “لقد خضتُ البحرَ الخِضَمَّ، وخلّيت أهلَ الإسلام وعلومَهم، ودخلتُ في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته؛ فالويل لابن الجويني! وها أنا أموت على عقيدة أمي“. وهذا محمد بن عمر الرازي يقول: “لقد تأمَّلتُ تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن … ومَن جرَّب مثلَ تجربَتِي، عرف مثل معرفتِي“.
وختاماً .. فإن استخراج درر وكنوز تراثنا في العقائد والأحكام والسلوك والتنمية، وربطها بالواقع، وتقريبها لأفراد الأمة، من أجلّ الأعمال الصالحة، لكونها تحفظ المجتمع من الانحراف الفكري، والتخبط المنهجي والعقلي، وتعزز هوية الأمة، فهنيئاً لمن يقوم بذلك.
[1] أمثال: “أرسطو، أفلاطون، دور كايم، فولتير، جان جاك روسو، ديكارت، مارتن لوثر، غاندي”
*نقلاً عن مدونة منصور بن محمد المقرن*