فلان إداري ناجح، وفلان غنيٌ وصاحب منصب وجاه، وشخصية هذا الشاب جاذبة، وذاك رجل حاد الذكاء، والآخر متعدد المواهب ذائع الصيت.
أيها الأفاضل .. هذه صفات لأشخاص يعجب بهم الناس كثيراً، وبسببها يُقدمونهم على غيرهم، ويُوقرونهم، ويتمنون أن يكونوا مثلهم، لكن هل هذه الصفات والموازين مُقدمة معتبرة عند ربِّ الناس كما هي عند الناس؟
إن العبدَ يكون محبوباً وولياً عند الله متى ما كان تقياً؛ حتى ولو لم تكن عنده صفة من تلك الصفات، وعليه فليس لتلك الصفات ونحوها اعتباراً ووزناً عند الله تعالى إلا إذا صاحبها تقوى الله، أما بدون ذلك فهي على صاحبها وبالٌ وبلاء، وشقاءٌ وعناء.
لقد ألقت أجهزة الرأسمالية والحياة المادية بثقلها على تفكيرنا ومعايير تقييمنا للحياة وللناس، وبالتالي مواقفنا وسلوكنا معهم، حيث أصبحت موازين الأرض (فقط) هي الحاكمة بين غالب الناس، وغابت موازين السماء عنهم إلا النـزر اليسير منها؛ وأصبح الحديث شبه غائب عنها، بل قد يعتبر الحديث عنها نوعاً من (الدروشة) والجهل وضعف الرأي.
ولك أن تتخيل كيف سيكون حالَ مجتمعٍ: المُقدمون والقدوات فيه بعيدون عن موازين السماء، وعامة المجتمع يتطلعون ويسعون بكل جهدهم إلى موازين البشر المادية بصرف النظر عن تحقيق التقوى معها من عدمه.
ولأهمية وضرورة بناء المجتمعات على موازين السماء وحدها دون غيرها؛ فقد كثر ذكرها والتأكيد عليها في القرآن والسنة، فمن ذلك:
قول الله تعالى: (إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ)، قال الطبري: “(أي) أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة“، وقال ابن القيم: “فَإنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى بِالتَّقْوى، وحَقائِقِ الإيمانِ. لا بِفَقْرٍ ولا غِنًى“.
ومنها قوله سبحانه: (وَلَقَد جِئتُمُونَا فُرَ ٰدَىٰ كَمَا خَلَقنَـٰكُم أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَتَرَكتُم مَّا خَوَّلنَـٰكُم وَرَاۤءَ ظُهُورِكُم)، قال الطبري: “خلّفتم أيها القوم ما مكْنّاكم في الدنيا -مما كنتم تتباهون به فيها- خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم“.
ومن دلائل النبوة؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيأتي زمان يُقيّم الناسُ بعضهم بعضاً وِفق موازين دنيوية بحتة، وليس وفق موازين الله تعالى ودينه، فقال: (يُقَالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ وما أظْرَفَهُ وما أجْلَدَهُ، وما في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمَانٍ) متفق عليه، تأمل قوله (ما أجلده) أي أنه يعمل بجد واجتهاد لكن في طلب الدنيا، وقوله: (ما أظرفه) أي أن الناس يستلطفونه ويعجبون بحديثه ويحبونه لكن من أجل تميّزه في أمور الدنيا، وقوله (ما أعقله) أي ما أشد ذكاءه وتدبيره لأمور دنياه. قال ابن كثير في ترجمته أبي العلاء المعري: “كم من ذكي ليس بزكي“، وقال الذهبي في السير: “لعن الله الذكاء بلا إيمان, وحيّا الله البلادة مع التقوى“.
مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا. رواه البخاري،وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه لَيأتي الرجُلُ السمينُ العظيم يومَ القيامة لا يَزِنُ عند الله جَناحَ بَعوضةٍ) متفق عليه.
ختاماً .. “عندما تُـنحّى موازين السماء وتُحكّم موازين الأرض: تخـتل القيم وتـتبدل المبادئ وتضيع الأخلاق .. فـتذهب رابطة الدين، وتـنـفصم عُرى الولاء، وتـندرس عقيدة البراء، ويتحزّب الناسُ فِرقـاً وجماعات، كل حزب بما لديهم فرحون“
*نقلاً عن مدونة منصور بن محمدالمقرن