موظف يتطلع إلى ترقية وعلاوة مجزية، فضاعف من جهده، وتقرب إلى مديره وتودد إليه. وطالب جامعي يطمع في درجة الامتياز فقدم بحوثاً لدكتور المادة، وزاره في مكتبه وتلطف معه. هذه الأحوال ليست غريبة فهي تحدث دائماً، لكن الغريب أن ترى مسلماً يرجو تيسير أموره، وانشراح صدره، والحفظ من الشرور وغير ذلك كثير، ثم لا يتقرب إلى من يملكها ولا يسأله، وهو الله عز وجل.
ما أكثر من يستغني بحوله وقوته وجاهه وماله وعلاقاته عن التقرب إلى الله تعالى وسؤاله حاجاته، فما أقرب هؤلاء من قول الله تعالى: (كلَّا إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَيَطغَىٰ أَن رَّءَاهُ ٱستَغنَىٰ) ، أي يتجاوز حدّه ويستكبر على ربه، إذا رأى نفسه استغنت، قال نجم الدين الغزي: “ومن أخلاق (الشيطان) اللعين: إنساء العبد أن يذكر ربه في شدائده وحاجاته، فيلقي في قلب العبد طلب الغوث والحاجة من العبد؛ لما له من الجاه أو الكلمة أو القوة“.
وما أكثر أيضاً من يلجأ إلى ربه في حال ضُره واضطراره فقط، فإذا انكشف ما به من ضُر نسي وأعرض عن ربه، قال الله تعالى عنهم: (وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِۦٓ أَو قَاعِدًا أَو قَائِما فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّم يَدعُنَا إِلَىٰ ضُرّ مَّسَّهُ)، قيل عند هذه الآية: “ليس – إلا من عصم الله ورحم – من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفاً وأن هناك عجزاً. وساعات الرخاء تُنسِي، والإحساس بالغنى يُطغِي، ثم يمسه الضرُ فإذا هو جزوعٌ هلوع، وإذا هو كثير الدعاء، عريض الرجاء، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء، فإذا استجيب الدعاء، وكُشف الضرُ انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر“.
ومن صور استغناء بعض الناس عن الله جل وعلا:
الاستغناء عن سؤال الله تعالى الثبات على الإسلام، واستشعار نعمة الهداية: فإن من دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).
الاستغناء عن أقرب صلة له مع ربه وهي الصلاة، فهو إما لا يحافظ عليها في وقتها، وإما يؤديها بلا استحضار لمعناها وقيمتها.
الاستغناء عن مناجاة الله والأنس به، فلا يمكث في مسجد أو غيره ليخلو بربه، ولا يشعر بمعية الله وقربه منه.
الاستغناء عن عون الله وتيسيره عند تأديته لأعماله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رحمتَك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ، وأصلح لي شأني كلّه).
الاستغناء عن سؤال الله تعالى أن يدله ويرشده إلى خير الأمور عندما يحتار في اختيار أحدها، فلا يصلي صلاة الاستخارة أو يسأل الله الهداية لما اختلف فيه بين الناس، فيقول كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اهدِني لما اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ إنَّكَ تهدي من تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ).
الاستغناء عن طلب صلاح أحواله وزوجه وأولاده، فلا يدعو كما كان أنبياء الله عليهم السلام يدعون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)
الاستغناء عن اللجأ إلى الله والتضرع إليه ودعائه عندما تلم به أو بأهله البلايا والمصائب، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
الاستغناء عن حفظ الله وتوفيقه، فلا يداوم على تلاوة القرآن والأذكار، فإن من صفات المؤمنين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
الاستغناء عن فضل وكرم الله تعالى فيما شرع من مواسم الخير كرمضان، وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة، وعاشوراء، فلا يحتفي بها ولا يستثمرها.
وختاماً .. فما أقسى حياة من استغنى عن الله تعالى، وما أشد غربته، وما أعظم حيرته، بينما الطمأنينة بقربه، والعون بجواره، والأنس حوله، لكنه -بسبب غفلته واتكاله على قوته- استغنى عن الله الجواد الكريم الذي يملك سعادته وحوله وقوته، ويفرح بمن يطلبها، ويُعطي من سألها، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ * وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
*نقلاً عن مدونة منصور بن محمد المقرن*