🖋 عبد الله بن فيصل الأهدل
🗓 الخميس 1443/4/20هـ
يتخذ أهل المعاصي والشبهات مطايا لهم للترويج لمعاصيهم وتهوين مواقعتها على عوام المسلمين، وبفضل الله تعالى لا يكادون يجدون شخصًا قدوة من حملة القرآن والدعوة إلا نادرًا..
إن الدعوة إلى الفعاليات التي تعج بالاختلاط والغناء وألوان العبث وحدها كافية للقول بالتحريم، وأنْ تصدر هذه الدعوة عن شيخ حامل للقرآن، فتالله إنها لإحدى الكُبَر، فاستحلال الغناء وحده مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فكيف إذا ضم إليه الاختلاط، والدعوة إلى الخنا والفحش:
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان/6].
أخرج الطبري بأسانيد يقوي بعضها بعضًا، عن جابر وغيره، في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ قال: هو الغناء والاستماع له. وهذا التفسير ثابت عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم.
وأخرج الطبري -أيضًا- بسند صحيح عن مجاهد في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ قال: اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير، أو استماع إليهم أو إلى مثله من الباطل.
وقال تعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ 59 وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ 60 وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾
أخرج الطبري بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس: ﴿سَامِدُونَ﴾ قال: السامدون: المغنون بالحميرية.
وعن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف. ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَم -أي: جبل- يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة».
[علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم محتجًّا به (5590)، ورواه ابن حبان (6754) في صحيحه، وصححه الألباني في الصحيحة (91)].
قال الحافظ: "وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن فيه" [تغليق التعليق (5/22)].
قوله: «يستحلون» واضح الدلالة على أنَّ المذكورات الأربعة ليست حلالًا شرعًا، ومنها المعازف.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنـه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة».
[رواه البزار (7513)، وحسنه الضياء في الأحاديث المختارة (2200)، وله شاهد يقويه في مسند أبي داود الطيالسي (1788)، وفي مصنف ابن أبي شيبة (12124)، والسنن الكبرى للبيهقي (7151)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3801) وانظر الصحيحة (427)].
قال ابن تيمية: "هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء". [الاستقامة (1/293)].
وقد حكى جمع من العلماء من مختلف المذاهب الأربعة الإجماع على تحريمه، كزكريا بن يحيى الساجي في كتابه (اختلاف العلماء)، وابن عبد البر في (التمهيد)، وابن قدامة، والعز بن عبد السلام.
يقول ابن حجر الهيتمي: "ومَن حكى فيه خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هَواه، حتى أصمَّه وأعماه، ومنعه هداه، وزلَّ به عن سنن تَقواه". [كف الرعاع صـ(118)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة، ولم يحك عنهم نزاع في ذلك". اهـ [منهاج السنة النبوية (3/442)].
وقال -أيضًا-: "والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها. ولهذا قال الفقهاء: أن من أتلفها فلا ضمان عليه..". اهـ [مجموع الفتاوى (11/535)].
وقد سئل الإمام مالك عن الغناء، فقال: "إنما يفعل ذلك عندنا الفساق".
وقد عد بعضهم سماع الغناء من الكبائر، كابن النحاس في كتابه (تنبيه الغافلين)، وابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر).
ومما سبق يتبين لنا حرمة الغناء باستعمال آلات اللهو والطرب، ويترتب على تحريمها: تحريم التجارة فيها بيعًا وشراء، وتحريم اقتنائها، وتحريم الاستماع إليها، وتحريم الاشتغال بها والتكسب منها، وتحريم دراستها فيما يسمى بمعاهد الموسيقى وغيرها، وتحريم إنشاء هذه المعاهد أو العمل بها.
ويستثنى من ذلك الضرب بالدف للنساء خاصة لإعلان النكاح في الأعراس، وألحق بعض العلماء بذلك الأعياد، وعند قدوم الغائب، والختان، ونحو ذلك.
ولحامل القرآن -بحقه- مكانة عالية في الإسلام؛ يقول أبو العباس القرطبي: "ومن حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه، وقد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته، وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره، كما قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَف لَهَا العَذَابُ ضِعفَينِ﴾؛ لا سيما إذا كان ذلك الذنب مما يحبط تلك المنزلة ويسقطها؛ كترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة". اهـ [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/419)].
وقوله: "ومن حفظ القرآن فكأنما أُدرجت النبوة بين كتفيه" ورد مرفوعًا بسند فيه ضعف، ولكنه ثابت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ موقوفًا قَالَ: "مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، لَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ يَحِدُّ، وَلَا يَجْهَلْ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ". [رواه الآجري في أخلاق أهل القرآن، وصححه الألباني في الضعيفة (5118)]. ومعنى: "فَلَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ يَحِدُّ" أي: يغضب بلا مسوغ؛ قال ابن الأثير: "يُقال: حَدَّ يَحِدُّ حَدًّا وحِدَّة إذا غَضِب". اهـ [النهاية (1/909)].
وقوله: "وقد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته" ثابت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ». [رواه أبو داود الطيالسي (2238) وغيره، وصححه الألباني].
وعن الفضيل بن عياض يقول: "حَامِلُ الْقُرْآنِ حَامِلُ رَايَةِ الْإِسْلَامِ؛ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْغُوَ مَعَ مَنْ يَلْغُو، وَلَا يَسْهُوَ مَعَ مَنْ يَسْهُو، وَلَا يَلْهُوَ".
وقال -أيضًا-: "إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآَنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ عَمَلًا، -أَيْ لِيُحِلُّوا حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَيَقِفُوا عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ-". [رواه الآجري في أخلاق أهل القرآن صـ(103) بسند صحيح].
يقول المناوي: "حامل القرآن حامل راية الإسلام"، "استعارة فإنه لما كان حاملا للحجة المظهرة للإسلام وقمع الكفار كان كحامل الراية في حربهم؛ قال الغزالي: فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن واشتغالًا برفع راية الإيمان". اهـ [فيض القدير (3/368)].
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -يعني ابن مسعود-: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِنْ غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ". قَالُوا: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ". [رواه ابن أبي شيبة (37156) وغيره، بسند صحيح].
وأي أمانة أعظم من أن يحفظ المرء دينه وعرضه من الشبهات التي تلوثهما..
وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنـه قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ: اسْتَقِيمُوا؛ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا". [رواه البخاري (6739)].
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: "استقيموا". أي: اسلكوا طريق الاستقامة، وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلًا وتركًا". اهـ [فتح الباري (13/257)].
وقال -في الموضع نفسه-: "قوله: "فإن أخذتم يمينًا وشمالًا". أي خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾" اهـ.
واليمن والشمال هنا يقصد به طريقي الإفراط والتفريط، وهذا أمر معروف أن طائفة تأخذ طريق الإفراط، أي: الغلو. وطائفة تأخذ طريق التفريط والمعاصي..
والوسط بين الطائفتين هو الصراط المستقيم المذكور في الآية؛ قال مجاهد في قول الله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، قال: البدع والشبهات. [رواه الطبري (14163) بسند صحيح].
فننصح أنفسنا وعامة إخواننا بالابتعاد عن الشبهات؛ فعن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». [متفق عليه].
قال النووي: "أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام... قال العلماء وسبب عظم موقعه أنَّه صلى الله عليه و سلم نبَّه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات؛ فإنه سبب لحماية دينه وعرضه". اهـ [شرح مسلم (11/27)].
وإن المسلم يتراجع إذا أخطأ ويتقي الشبهات حماية لدينه وعرضه، وكل مسلم حسيب نفسه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
﴿تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾، أي: لا يهمها غير نجاة نفسها، فلا يهمها أبوين، أو زوجة، أو أولاد، أو أصدقاء..
🤲🏻 أصلح الله تعالى أحوالنا وأحوال عموم المسلمين.