بقلم الأستاذ:منصور المقرن
في كل سنة ولله الحمد؛ تُقام في بلاد المسلمين حفلات تخريج آلاف الخاتمين والحافظين لكتاب الله تعالى، وأصبحت أرقام أعداد الخاتمين والحافظين، ومسابقات الحفظ والتلاوة مجالاً للتنافس وإبراز الإنجازات ليس بين الجمعيات فحسب، بل بين الدول حتى وإن كانت –بعضها- لا تعمل بآياته، ولا تتحاكم إليه!.
لكن تخريجَ أعدادٍ من الخاتمين والحافظين لا يعني –بالضرورة– أنهم أو غالبيتهم على هَدي القرآنِ وسمتِه، فضلاً أن يكونوا دعاة إلى نهجِه، سواء أثناء حفظهم أو بعد ختمهم وابتعادهم عن حلقات التعليم، ولك أن تسأل حلقة مسجدك: كم تخرّج منها من خاتم خلال سنوات، وكم الذين بقوا منهم -بعد تخرجهم- على حالٍ صالحةٍ ، فيعملون بآياته، ويستمدون منه قيمهم وتصوراتهم، ويتحاكمون إليه؟.
ولعل أبرز أسباب ذلك هو: اعتبار حفظ القرآن غاية، وليس عبادة ووسيلة تزرع التقوى في النفوس، وهذا الأمر ليس عند كثير من الجمعيات فحسب بل إن غاية كثير من الآباء والأمهات هي حفظ أولادهم للقرآن، ويغفلون عن الغاية الأسمى والمطلب الأعلى وهو أن يكونوا هُداة مهتدين صالحين مُصلحين سواء حفظوا القرآن أم لم يحفظوه! وعلى هذا الاعتبار، فقد اقتصر دور كثير من حلقات القرآن والوالدين على العناية بحفظ القرآن وتجويده، دون السعي إلى تزكية النفوس به.
وقد نبه وحذر الصحابة رضي الله عنهم، وعلماء السلف من هذه الحالة (الـمُخَدِّرةِ) للأمة ولدعاتها، لكونها تُشعِر بالإنجاز الظاهري، وتصرف النظر في ضعف تحقيق الإنجاز الحقيقي النافع للفرد والأمة.
أتى رجلٌ أبا الدرداء رضي الله عنه، فقال: إن ابني جَمعَ القرآن – أي حفظه-، فقال: “اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع“، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لرجل: “إن بَعدَك زماناً تُحفظ فيه الحروف، وتُضيّع فيه الحدود” وقال أيضاً: “إنّا صَعُبَ علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بَعدَنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به“، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعجمى ولا يرزقون العمل به“، وقال: “لقد رأيْتُ رِجالًا يُؤْتَى أحدُهم القُرآنَ، فيقرَأُ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه ما يَدري ما أمْرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عنده منه، ينثُرُه نثْرَ الدَّقَلِ” (الدقل: رديء التَّمرِ)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما عند قول الله تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)، “أي: غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظاً وقراءة بلا فهم، لا يدرون ما فيها“.
ويبين التابعي الحسن البصري معنى ولوازم تدبر القرآن، فيقول: “إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا عِلمَ لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من أوله، قال الله تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، وما تدبر آياته إلا باتّباعِه. أما – والله – ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفاً. قد والله أسقطَه كلَّه، ما رُئي القرآن له في خُلقٍ ولا عمل“.
وينبه ابن تيمية معلمي القرآن إلى أن المراد الأهم من تعلّم القرآن هو فهم وتعلّم معانيه، فيقول: “دخل في قوله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)، تعليم حروفه ومعانيه جميعاً، بل تعلّم معانيه هو المقصد الأول من تعلّم حروفه وذلك الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا“، ويشير ابن القيم إلى مقصد العمل بالقرآن فيقول: “أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه، ويعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه“.
وختاماً .. فإن المؤمل من القائمين على حلقات القرآن – وهم الباذلين أوقاتهم وجهودهم، الحريصين على رؤية زرعهم يُؤتي أُكلَه كلَّ حين- بذل مزيد من الجهود لتربية طلاب الحلقات على سمت القرآن وهديه، وتجاوز العوائق أو التخفيف منها، فما لا يُدرك كُلّه، لا يُترك جُلّه، وذلك حتى تقرَّ أعينهم برؤية جيلٍ قرآني ربوه، وخيرٍ مستدامٍ للأمة قدموه.