أشَقُّ من طريق الوصولِ إلى القيادة: البقاءُ في موقع القيادة، وأشقُّ منها: التوازنُ في قيادة الآخرين، فيغلِب على القادة - إلا قليلاً - تغليبُ جانب على آخرَ في قيادِ الآخرين، سواءٌ فيما يخص القائدَ في تعاملِه مع نفسه، أو فيما يخص تعاملَه مع من تحت قيادته.
ولم ترَ قائدًا متوازنًا كمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تحنَثْ، ولن تتراجعَ، ولم تبالغْ، ولا غرابة أن يُعَدَّ توازنُه من أبرز دلائل نبوته - صلى الله عليه وآله وسلم.
توازنٌ جعل منه القدوة العليا في جميع جوانب الاقتداءِ؛ من أبٍ وزوج، ورئيسِ دولة، وقائدٍ للجيش، وقاضٍ، ومربٍّ ومعلِّم، وعابد مجتهدٍ في عبادته، وغيرها من الصفاتِ، والتي مكَّنته من احتواء مَن حوله، والتعامل معهم كلٌّ بما يملِك من قدرات، وما يستطيع من مهاراتٍ، فوجَّهها الوجهةَ الصحيحة، وغرس فيهم مبدأ التوازن؛ لينتفع به صاحبُه، وتنتفع منه أمَّتُه ودينُه، فخرج منهم قادةٌ غيَّروا وجهَ الأرض بعمل متوازنٍ، حتى قال أحدُ قادة الإسلام - رضي الله عنه - خريج هذه المدرسة: "إن نمتُ ليلي، ضيَّعت نفسي، وإن نمتُ نهاري، ضيَّعت رعيتي".
توازنٌ في القيادة على قاعدة: "أعطِ كلَّ ذي حق حقَّه"، فالتوازن المقصود هو أن يضعَ كلَّ شيء في موضعه دون إهمال أو مبالغة في جانب على حساب جوانبَ أخرى، فغيابُ التوازن يُنتج ثمرةً غير ناضجة، ويُجحف بالرُّوح، ويضيِّق النفوس، ويضاعف الخسارة، ويعرِّض النجاحَ للضعف، والمنجَزَ للسقوط، وقبل ذلك فهو استهلاكٌ للطاقة والرُّوح، واستعجالٌ في القضاء عليها.
يَغفُل كثير من القادة في مواقعَ مختلفةٍ - قيادات دعوية أو اجتماعية، فكيف بالسياسية؟ - عن العناية بالرُّوح وتقويةِ الصلة بالله - سبحانه وتعالى - والتعبُّد الذاتي، والتنفُّل والتضرع للخالق - عز وجل.
يغفُل وإن تذكَّر أو ذُكِّر يبرِّر لنفسه بالانشغال، وهو - في الظاهر - مبررٌ مقبولٌ، لكنه لو علِم كم سيوفر من طاقةٍ روحية وفكرية - بله بدنية - إذا أعطى هذا الأمرَ جزءًا من وقته، لَمَا تركه لأيِّ مبرِّر كان، ولَمَا صار التعبد حِملاً ثقيلاً.
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبني أمَّة، ويربي جيلاً، ويبلِّغ دينًا، ويجاهد ويعلم ويدعو، ويقوم بمهام شاقةٍ - يعطي درسًا للأمة عمومًا، وللقادة خصوصًا، أنه لا غنى لهم عن تربية الروح ودوام الصلة بالله - سبحانه وتعالى - والالتجاء إليه في كل حالٍ، من خلال نوافل العباداتِ، ومناجاة الأسحارِ، وبكاء الخَلَوات.
كما وصفه ربه - سبحانه وتعالى - وأمَره: قام الليل إلا قليلاً، ورتَّل القرآن ترتيلاً، وذكر اسم ربه وتبتل إليه تبتيلاً، وسبح بحمد ربه بُكرة وأصيلاً، وقبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وأدبار السجود وإدبار النجوم، وسجد له ليلاً طويلاً، صام حتى ظنوا أنه لا يفطر، وقام حتى تفطَّرت قدماه، وكان يستغفر أكثر من سبعين مرة ويذكر الله على كل أحيانه - صلى الله عليه وسلم.
بكى خشوعًا وتضرُّعًا لله - سبحانه وتعالى - وقد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، حتى يُسمع لصدره أزيزٌ، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا دخلت العشرُ أعلن حالة الطوارئ القصوى في التعبُّد، فيُحيي ليله، ويوقظ أهلَه، ويشد المئزر.
أكملُ الناسِ عبادةً وقربة إلى الله، وهو مع هذا الجُهد لم يفتُرْ يومًا عن الدعوة وتعليم الناس دينَهم، والنصح لهم، بل والجهاد في سبيل الله والغزو، مع ما يقوم به من حق نسائِه وبيوته - صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يوسوس لك شيطانُ إنس أو جان: أنَّ هذا رسولُ الله ونبيُّ الله، ولا مجال للمقارنة، فاستعذْ بالله من شرِّ الوسواس الخناس من الجِنَّة والناس، واستحضر قول الملك العلام، القيوم الذي لا ينام: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، فهدْيُه أقوم قيلاً وأهدى سبيلاً.
وانفُضْ عنك مبرر الانشغال، فلا نهايةَ لهذا المبرر حتى قيام الساعة، فلو صدقت الهمة، فإن في الحياة سبحًا طويلاً، فاجعل من وقتك ما تخص به نفسَك مع ربِّك من ذكرٍ ودعاء وصلاة وابتهال، وليكن حاضرًا في ذهنك وفاعلاً في فؤادك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إمامُ الدعاة وإمام القادة كان يعتكف العشر، ويتفرَّغ للذكر والدعاء مع عظيم المهمات، وكثير المسؤوليات، ودعِ المثبِّطين، واهجرهم هجرًا جميلاً، ولا يغبْ عن ذكرك أن في الآخرة أنكالاً وجحيمًا، وطعامًا ذا غُصةٍ وعذابًا أليمًا؛ ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [المزمل: 19].
إن القائد - وخاصة على مستوى قيادة أمَّة أو دولة أو جماعة - بحاجة إلى روحٍ يقِظةٍ، ونفسٍ هادئة، وفكر متوقِّد، ومهما تكن طاقة المرء وحيويته، إلا أنه بحاجة إلى تجديد الرُّوح، وتزكية النفس، وتنوير الفكر، وبحاجة إلى اتصال رباني، وارتقاء إيماني، يقوِّي عزيمتَه، ويشحذ همَّته، ويسلِّي همومَه، فلا غنى للقائد أين كان موقعُه، ومهما كانت أشغاله - عن خَلوةٍ مع النفس يناجي فيه ربَّه، ويتفقَّد فيها نفسه وإيمانه.
تأمَّل قول المولى - عز وجل -: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 97 - 99].
والحمد لله رب العالمين