قادة وجنود
حاجة قائمة ، وتغافل مستمر !!
الجُندِية في مقابل العبودية هي العلاقة الرئيسية بين الخالق ’’المعبود’’ والمخلوق ’’العبد’’ فالجندية في هذا المقام لابد أن تكون مطلقة وذلك بامتثالها وتنفيذها لما تستطيع من الأوامر وتركها للنواهي والسعي لرضوان الله سبحانه وتعالى وهذا هو الهدف أصلا ، هدف وجود البشر قال الله ( وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون ) الذاريات ’’56’’ .
لكن الجندية في ميدان العمل وفى ساحة الحركة وخاصة في مضمار الاجتهاد البشري لا ينبغي بل ليس من الصواب أن تكون الجندية مطلقة .
نعم إننا بحاجة إلى الجنود الذين يقدِّمون أرواحهم ولا يتأخرون في التنفيذ بل ولا يناقشون ولكن في ظروف خاصة وأحوال محددة ولا يعني أنها قاعدة وحالة مستمرة وثابتة وفي كل الظروف والأحوال .
إن مناهج التربية وأساليبها ومنها المُتّبع في الجماعات الإسلامية ، بقصد أو بدون قصد ، تغرس ضعف الشخصية في نفوس أفرادها ، وتُربِّيهم على الاستسلام والقابلية للانقياد والتسليم بدون تأمل .
إنّ الجندية وان كانت مِيزة إلا أن التركيز عليها والإفراط في تعميقها يُولّد أثارا سيئة تسيء للعمل والجماعة قبل أن تسيء للأفراد ، فالممدوح من الجندية هو الامتثال للقطعي والذي لا مجال للنقاش فيه من نصوص الوحيين ، وليس من أراء غير المعصوم .
فالجندية أمام كل رأي وموقف وفكر واجتهاد وشخص لا نختلف أنها مذمومة وغير مقبولة فيكفي أنّ من ثمارها الحنظلية أنها تُهَيّئ النفوس للقبول بأي قيادة وان كان فيها من المقالات وعليها من الملاحظات ما يمنع وصولها إلى مجرد الانتماء إلى الجماعة فضلا عن أن تكون في الصف الأول ، ومن ثمار الجندية المفرطة أيضاً :أنها تُربي على قفل الفكر وإغلاق العقل وتوقيف الإبداع بدرجة أو بأخرى فقد يصل الأمر ببعض الجنود إلى أن ينتظر الأمر أحيانا حتى في أموره الشخصية والطامة أنها تصل أحيانا إلى انتظار الأمر في الواجبات الشرعية وتقرباته إلى ربه سبحانه وتعالى !!!
ولا عيب في غرس الجندية في الأفراد وتربيتهم عليها إنما المأخذ هو في التفريط والمبالغة ومجاوزة الحد والذي يُلحظ في عدة مظاهر وبعدة أساليب فالذي لا تُملي عليه الحركة والجماعة قوانين معدة وخطوات مكتوبة في الجندية ، تملي عليه هالة من التقديس والإفراط في الاحترام - سوء لأشخاص أو لأفكار واجتهادات - هذه الهالة تزرع فيه روح الجندية مثلها مثل تلك الجندية التي تزرعها المراسيم والتعليمات العسكرية الصارمة .
ومهما قلنا وكتبنا عن أولئك الذين يربون أتباعهم على تعظيم الشيخ وتقديسه من الفرق المبتدعة وهو حق ( أي ما يُقال عنهم ) إلا أننا نقوم بنفس التربية وقد لا يكون بنفس المستوى وان تَبرّأنا وأعلنا النكير والنفير من أجل القضاء على ذلك الخطر المحدق !!!!
فالذي يصدر لأتباعه أمرا ولا يقبل النقاش فيه ولا التردد في تنفيذه ، فهو وإن لم يكن فيه مصلحة خاصة ظاهرة كما يفعل أصحاب تقبيل الركب والتسمح ، إلا أنه رأي وإذا علم بمعترض أو ناقد فالويل له وأقل ما يقال في حقه : أنه لم يحترم القادة وتعامل بسوء أدب معهم ، إن لم تلصق به تهم : شق الصف وتفريق الكلمة والعمالة ..... وغيرها من الشارات الجاهزة والتي تُستعمل عند الحاجة .
والذي تتوقف ترقيته التنظيمية والحركية على مدى طاعته وانقياده وإغلاقه لعقله وتسليمه لقياداته وعلى مدى تنفيذه لأراء وان لم يكن مقتنعا بها ، بهذه الطريقة وتلك نشابه بل نماثل أهل الطرق وان اختلفت الصورة ونقوم بنفس حكاية الشيخ والمريد والميت بين يدي مغسليه شعرنا أو لم نشعر . !!!
وبهذه الطرق وغيرها والتي - للأسف لا زالت مُتّبعة - ظهرت ثمار سيئة أثّرتْ في مسيرة العمل الإسلامي وأخرت الصحوة في كثير من المجالات والبلدان فلا زال الدفاع عن الأخطاء منهج وأسلوب ولو كانت كالشمس وضوئها .
ولا زال الظلم مستمر في حق من حاول التحرر من هذه الجندية والتبعية فلا زال الهجر والإبعاد والنفي خارج حدود الجماعة ، يهدد مصير كثير مما يحاول أن يقول : ( لا ) لما ينبغي أن يُقال فيه ( لا ) ولازال تشويه السمعة والتحذير من شخصيات تُعلن برأتها من أخطاء شرعية ، منهج متبع وقانون معمول به إلى اليوم .
والقضية جد خطيرة وفيما تقدم إشارة كافية - فيما يبدو – فقصدنا الإشارات وليس التأصيل ، ويجدر بنا أن نقول: إن الجندية لا بد منها وخاصة في بداية السير مع الركب إذ لا يمكن مرافقة الرفقة بدونها فهي تأشيرة الدخول في هذا الميدان ، ولكن كما هي تأشيرة دخول تستعمل بقدرها وعند الحاجة إليها وإلا فالأصل أن التربية على القيادة ملازمة للتربية على الجندية ولا بد من التوازن فالحاجة ماسة إلى قادة تحمل الهم والمنهج والفكرة وتستمر في حمل الراية ولا تقبل أن يأخذ الراية عضو من خارج الصف وهي تحت قيادته طائعة .
وهذا يظهر جليا في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فمع ما نرى فيهم من الجندية العجيبة يزداد عجبنا عندما نرى فيهم الجانب القيادي الذي غير الحياة . ! !
( فقد ربّاهم ليكونوا جنودا فائقين تحت قيادته صلى الله عليه وسلم ، وليكونوا في الوقت ذاته ’’صفا ثانيا’’ بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة ، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه ) الصحوة الإسلامية / محمد قطب (117) بخلاف ما ( نجد في الساحة الواقعية - اليوم - أنّ الجنود قد رُبّوا ليكونوا جنودا فحسب ، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم) السابق .
ومن تلك التربية - تربية النبي صلى الله عليه وسلم - خرج جيل يحمل روح القيادة بل روح السيادة والرغبة في تغيير العالم وتطويعه للحق والخير حتى أننا سمعنا منهم عبارات وقراءنا مواقف مازلنا نفتخر بها ونُزين بها مقالاتنا وأوراقنا لكننا لم نقف عندها لنعرف مكنونها و باعثها ومكوّنها و كيفية الوصول إلى محاكاتها ، مثل المقولة المشهورة ’’ جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ’’ وبتلك التربية استطاع ذلك الجيل أن يغيّر الخريطة ويقلب الموازين السائدة في عصره ففي خلال نصف قرن يزيد أو ينقص تمّ القضاء على أكبر إمبراطوريتين في تلك الحقبة من الزمن وإدخالهما تحت سيادة الدولة الوليدة .
لو كان أولئك المعشر تربَّوا على الجندية فقط ، لعجزوا أنْ يُحرّروا أنفسهم - كما عجزنا - من رِق العادات والشهوات فضلا عن أن يحرروا غيرهم .
(لقد كانوا جنودا فائقين للدعوة ، ولقائدهم - صلى الله عليه وسلم - على الصورة التي يعرفها التاريخ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رباهم في الوقت ذاته بحيث يكون كل واحد منهم ركنا في الموقع الذي يكون فيه ، فقاموا بالمهام التي وكلها إليهم على المستوى الفائق الذي يعرفه التاريخ ، وكانوا هم للناس في تربيتهم على هذا الدين ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم هم في هذه التربية الفريدة ، ثم كانوا هم حمله الأمانة من بعده ، والقادة الذين قادوا الأمة من بعده في الخلافة الراشدة التي يعرفها التاريخ (أيضا ) ... تلك سُنة جارية في عملية البناء وهى ألزم ما تكون في بناء الجماعة التي تتولى الدعوة لدين الله ) السابق (57)
ولنقتطف أمثلة من ذلك المنهج النبوي في تربية الجنود على القيادة لتوضيح المقصود لا لحصره :
1— حديث ذي اليدين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : صَلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيِّ ركعتين ، ثم سلم ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ، فوضع يده عليها ، وفى القوم أبوكر وعمر، فهاباه أن يكلماه ، وخرج سَرعان الناس ، فقالوا : قَصُرت الصلاة ، وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله أنسيتَ أم قصرت الصلاة ؟ فقال :’’ لم أنسَ ولم تُقصرْ’’ فقال بلى ، قد نسيت ،.... ’’ الحديث وفيه فقال : ’’ أصَدَقَ ذا اليدين ؟’’ فقالوا : نعم ’’ البخاري (1227)ومسلم وغيرهما .
في هذا الحديث والذي يُعدُّ أصلاً في باب سجود السهو ، وقد تكلم الفقهاء والشُّراح فيه كثيرا حول المسائل المستنبطة منه ، فيه تلمَح روح القيادية في الأتْبَاع ، والتي تستطيع أن تتسآل - وبكل أدب - ولا تسكت عما تظنه خطأ أو خلاف ما تعرف ، يظهر ذلك في موقف الصحابي المختلف في اسمه وغير المعروف ، والموصوف ( بذي اليدين ) رضي الله عنه ، جندي مغمور... وهذه الجندية لا تمنعه أن يسأل القيادة ، بل أعظم قيادة عرفتها البشرية ، لا تمنعه أن يستفهم عما يظن أنه حصل على خلاف ما يعرف ، أهو نسيان ؟ فيُذُّكر القيادة .. أو حكم جديد ؟ فيمتثل الأمر !!!
جندية تحمل نَفَس القيادة والمتمثل في أنه لا سكوت عما ينبغي الكلام فيه ولو مع القيادة .
2- حديث المتابعة :
متابعة الإمام في الصلاة واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم ’’ إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به فإذا كبر فكبروا ، ولا تكبروا حتى يكبر ، وإذا ركع فاركعوا ، ولا تركعوا حتى يركع ، ...’’ الحديث متفق عليه
تأمل ....!!! جُندية بمعنى الكلمة ، متابعة بترتيب وتعقيب ، لا تَقَدُّم ولا تراخي ، يدل عليها العطف بالفاء ، وهى ليس مجرد حركات ، إنها حركات في أفضل الأعمال وأهم القُرُبات ، حركات يُتعبد بها الله ، تُربي على الجندية ، وبشكل مركّز وواضح ، ومع هذا الوضوح إلا أنها لم تكن مطلقة ، إنها مقيدة وبنفس النصوص التي وضحتها ، مقيدة بنصوص مفصلة وواضحة أيضا، جندية مقيدة حتى لا يقع الإفراط ، وحتى يطمح الفرد الجندي بالارتقاء إلى القيادة ، ومن هذه القيود أن المجال مفتوح لمن أراد هذا المنصب إذا حقق شرطه - مع إمكانية ذلك – وهو أن يكون أقرأ القوم ، ومنها أيضا أنها لا تقبل القبول بالخطأ فُشُرِع الفتحُ على الإمام والتسبيح إذا وقع في خطاءٍ ما ، لتعلن أن الجندية الحقيقة تتابع لكن لا على الخطأ وتنصت لكن إلا للخطأ ، ولو كانت في أعظم موقف يقفه المسلم في الدنيا ، بل يصل الأمر إلى بطلان الصلاة للجندي المطلق وذلك إذا تابع القيادة متابعة مطلقة حتى في الخطأ الذي تيقن أنه خطأ كالقيام إلى خامسة في رباعية ... فالجندية مطلوبة لكن لها حدود .
3- إنّ لصاحب الحق مقالا :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنّ رجلا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتقاضاه ، فأغلظ له ، فَهَمَّ به أصحابُه ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ’’ دَعُوهُ فإن لصاحب الحق مقالا ’’ . ثُمّ قال : ’’ أعطوه سناً مثل سِنِّه ’’ ، قالوا : يا رسول الله لا نجدُ إلا أمثلَ من سِنه ، قال : أعطوه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء ’’ متفق عليه في البخاري رقم ( 2305 ) .
يا الله !!!! ما أروع هذه القيادة ، وما أمس البشرية حاجةً لمثل هذا التعامل ؟؟ !! لا عجب ، إنها قيادة النبي – صلى الله عليه وسلم - هوَ هُوَ ، يُغلَظ له الخطاب ، وهو القائد ، بل وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – أشرف الخلق وأكرمهم واتقاهم وسيدهم - صلى الله عليه وسلم – ولأنه يُربي قادة ، ولأنه يُربي على عدم السكوت عن الحق مهما كان الشخص المطالِب به ، ومهما كانت منزلة المطالَب ، ولأنه يَضع قواعد للمربين والقادة من بعده ، في فن التعامل مع الجنود ، ها هوَ جندي عادي ، مجهول الاسم ، والجهالة هُنا كعدمها ، يطالب بحقٍ له ، والمُطَالَب هو القائد ، إلا أنه لم يطالِب بالطريقة التي تليق بشخص المطالَب ، ولذلك همّ به الصحابة ، لكن هل هذا الخطأ يحرمه من حَقِّه ، بل هل يكون مبررا لمنعه من المطالبة ويعطي القيادة الحق في مصادرة حقه وعقوبته وفصله من الجماعة ؟؟!!!
قد يكون هذا في غير مثل قيادة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومَن اقتدى به ، إنه يؤصل بموقفه قاعدة تقول : ’’ إن لصاحب الحق مقالاً ’’ فليَقل حتى لا تضيع الحقوق ، فقد تضيع خوفاً أو حياءً ، أو على مضض ، أو مجاملة أو مداهنة ..... إذا كانت في ذمة القيادات والمسئولين والرموز .
إن من أسباب تضيع الحقوق والرضا بضياعها ، وسواءً كانت الحقوق سياسية أو فكرية أو مالية ، إن من أسباب ذلك التربية على الجندية المذلة التي تستهين بالتنازل عن الحقوق وتقبل بالقليل أو أقل منه منها .
بعد هذه الجولة السريعة في أعظم بستان تربية نعود قليلا إلى واقعنا ولا شك أنّه كلما قَرُب المِشْرط من الجرح وتعمق فيه كلما زادت حدة الألم ... لكنّها الطريق إلى العافية بإذن الله تعالى ، واترك الأسطر الآتية لخبير ومجرب ، سطّرَ رأيه وتجربته حول هذه القضية وكتب مثالا على ذلك بحالة من حالات ، ونوعا من أنواع ، ذلك هو المفكر الإسلامي الأستاذ : محمد قطب – حفظه الله تعالى - في كتابه (الذي قلما تجد مثله صراحة وقوة تدلك على تعمّق مفهوم النصح والتصحيح ): كتاب ’’ الصحوة الإسلامية ’’ قال حفظه الله : (( رُبّما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بَين الإخوان العاملين ، الذين رباهم على عينه ، وأفضل جوانب هذه التربية هو الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه ، والروح الفدائية الصادقة التي زرعها في نفوسهم ، ثم تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى ، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل .
ولكننا رأينا - والكلام ما زال له – كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق ، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة .
لا ندري - والكلام له - كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قَمِينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر .... ولكننا نجد على الساحة الواقعية أنّ الجنود قد رُبّوا ليكونوا جنودا (فحسب ) لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم – إلى أن قال - نجدُ غياب ’’ الصف الثاني ’’ على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحا ملموسا كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد ، فندرك - على الصعيد الواقعي - أنّه كان هناك نقص في التربية ، في هذا الجانب )) الصحوة الإسلامية (117) اهـ كلامه بهذه الصراحة وهذا الذي ينبغي إذا أردنا فعلا تصحيح المسار وتجاوز الأخطاء وما ذكره حفظه الله مجرد مثال ولا يعني أنّ غير هذه الجماعة سَلِمَ من هذا الداء ، بل قد يكون في بعض الحالات أشد وأعمق .
ونتمنى مثل هذه المؤلفات من جميع الجماعات لنصل إلى الأفضل والأحسن وإنْ كان العلاج من الداخل أشد مرارة لكنه أصدق وأعلم بالحالة.
ومن هنا وبناءً على ما سبق ينبغي أن نُعيدَ النظر ونكرره في مناهجنا وطرق تربيتنا داخل أسوار الجماعات الإسلامية حول قضايانا المهمة وقضيتنا هذه من أهمها ، وحتى لا نكون عونا للأعداء ، ونحن لا نشعر ، بتهيئة جيل يهوى الجندية ويعشقها وتخيفه - أو يستصعبها – القيادية
ولا نحتاج إلى التدليل على التقصير الواضح والخطأ البَيّن في تربية الأفراد على هذا الجانب .
فلو لم يكن هناك أخطاء لما تمكن أفراد مشبوهون من الوصول إلى قيادة العمل الإسلامي ، ولَمَا سَهل علينا أن نرى صورة تُكرر للجندي المسلم في الجماعة أن يتحول إلى جماعة أخرى خارج السور ويقبل بقيادة أخرى كانت يوماً ما عدوه الوحيد .
إنّنا في فقه الجندية نحتاج إلى تأصيل آخر وإعداد آخر وطُرق أخرى لتتغير النتائج فان حل المشكلة بنفس الأسلوب ونفس الطريقة لا يُتوقع منها نتائج جديدة مهما تغيرت الأشخاص والأسماء ، وأول خطوة في هذا التجديد هي موقف القيادات الرسمية وقناعتها بضرورة الانتقال وتغير ما ثبت خطؤه والمطلوب منها بكل صراحة : عدم الاعتداد بالنّفس ، والقضية قضية أمة ، لا أسماء ومصالح خاصة ، فقد ينتج عن تجديد التربية وزرع روح القيادية إلى أن تتعرض - وهماً - مكانة وأسماء ومناصب إلى اهتزاز وزلزلة ، وقَلّما يكون هذا الأمر مقبولا ، لكن لئنْ تتعرض هذه لاهتزازت تهددها أهون ألف مرة من بقائها ثابتة محاطة بالجنود ثم فجأة يموت البطل وتهتز الجماعة والمؤسسة وقد يرث التركة أبناء غير شرعيين .
إنّ لسان حال الأفراد في الجماعات يقول : رَبّوا فِينا روحَ القيادة لندخل معترك الحياة وفتحات المجتمعات دخول الواثق الذي لا يهاب المرهبات ولا يُفتن بالمغريات ولا تستهويه الأهواء ، وفي المثل قيل : ألف ثعلب يقودهم أسد ، أفضل من ألف أسد يقودهم ثعلب ، والمثل يُضرب ولا يُقاس .
إنّا نطالب بتربية غير هذه التي تَغرس فينا الجندية المفرطة المذلة ، نريد تربية نكون بها (( جنوداً ملتزمين للقائد ، ونكون في نفس الوقت ’’ قيادات ’’ تَحمل المسؤولية بعد ذهاب القائد ، وكل قائد لابد أن يذهب في يوم من الأيام، وذلك هو المنهج النبوي الذي أخرج أعظم جند عرفتهم البشرية ، وأعظم قيادات عرفتها البشرية كذلك )) الصحوة الإسلامية (140) ، وقد يكون من المحزن والمؤسف أنْ نعترف بأنّ القيادات الدّعوية والعلمية - أو أغلبها- في الساحة لم تخرج من رَحم الجماعات الإسلامية ، وليست ناتج طبيعي للمناهج المتبعة في التربية بقدر ما هي ناتج عن جهد فردى وتوجه شخصي بما تملكه تلك القيادات من مواهب وإبداعات فرضت به نفسَها على الساحة ، وعند النضج أو بدايته تبنته الجماعة كقائد دعوي أو علمي ، واستفادت منه أكثر من أنّها أهلته وطوّرته ، ولاشك أنّ الجماعات لها فضل على تلك القيادات فهي التي قدّمتها للمجتمع وفتحت له مجالات وقدّمت لها خدمات معنوية ومادية ، لكن حديثنا يخص التكوين والإعداد أمّا الجاهز فالمنافع متبادلة ، ولا حرج في ذلك أصلا ، فنريد التأصيل والإعداد حتى لا يأتي من يَصعد السُّلّم من وسطه أو يصعد بدون سلم ويصل فجأة الى القمة ، وبالنسبة لما ذكرنا من القيادات الموجودة ، لاشك أنّ منها من تدرج وتربى على أعين القادة ، لكن عبارة عن حالات فردية،أما الأعم الأغلب فهو عبارة عن استخدام مادة جاهزة ومن هُنا تتقبل بعض الجماعات التسليم لبعض القيادات الجاهزة مع ما تراه من ملاحظات وتساؤلات حولها ... لأنها تريد قيادات جاهزة تختصر بها الطريق وتجمع بها أعداد أخرى ، وتغفل أو تتغافل عن النتائج السلبية لهذا التجاوز وينسيها أحيانا بريق الاسم ، أو ميزة ظهرت لهذا ’’ القائد الجديد ’’ أخفت عنها كثير مما يفسد العلاقة .
ومما يدل على الاستخدام للجاهز : أنك تسمع الترويج والدعاية الإعلامية - رسمية أو شعبية - للخطيب الفلاني وتنتشر أشرطته وتكثر طلبات زيارته لمناطق مختلفة وبينما هو في أوج شهرته وعنوان بدايته تجد سوقَه يبدأ بالتراجع وجمهوره بالانخفاض لا لأنّ مستواه تراجع ، ولكن لأن هناك ، وفي الحي المجاور ، ظهر اسم جديد أقوى صوتا وأعظم تأثيرا في الجمهور وربما أشجع وأجرأ وغير ذلك من المواصفات التي يعشقها الجمهور .... فتتولى الجماعة الأمر وتُظهره بعد أنْ أظهر نفسه وفجأة ..... يرتقي إلى .... قمة القيادة ، وربما...... قيادة القمة ..... وهكذا.
ولأنّ الجمهور الخاص – أفراد الجماعات - تَربَّوا على الجندية ، وهو مربط موضوعنا فان تغير وتجدد القيادات يسهل عندهم ، فمن السهولة تغير الولاء وتحول الانقياد لمن مَثّلَ الانقياد عنده أعلى درجات الانتماء .. ! ! !
إن المنهجية المتبعة في تربية الجنود مظاهر الخطأ فيها واضحة ، وما مرَّ من أمثلة وبيان يدل على ذلك ، ولسنا بصدد ذكر المظاهر والأسباب والعلاج تفصيلا ، وإنّما نحن نرغب في أن ينتبه من يستطيع ذلك وبيده الأمر والنهي في الجماعات .
ويكفينا شكوى أن نقول للجماعات العاملة في الساحة: لابد من إعداد القادة في مختلف المجالات ، وأن يكون هذا الأمر نابع من داخلها ومن برامجها ، وأساسية من أساسياتها تقوم به من الصفر حتى يصبح رقما صعبا فيها وعلى غيرها .
والاكتفاء بالجاهز قد يُوفر الجهد لكن لا يوفر المطلوب ، فالبحث عن القادة من مدرجات الجامعات وكراسي الكليات ، ومن خلال المواهب ، أمر غير مقبول لإعداد قادة وان كان مقبولا لتوفير أعداد بل وقد يكون ضروريا من خلال معركة الغزو الفكري الصليبي على الأمة ، وهو أمر حسن ولاشك ، لكن الأحسن منه والأنفع أن تتولى الجماعة التربية من مرحلة العجين وبداية التكوين ، ليكون التشكيل كما تريد .... ليطمئن قلبها ، أما الوَجَبَات التربوية السريعة لِمِن أصبح قائدا بين عيشة وضحاها فكما أنها سريعة فبقاؤها وبقاء أثرها أيضا سريع الذهاب إلا إن يشاء الله ،! وقد تستغرب إذا قلت لك : إن المبدعين والمبرزين في المجتمع عموما وفى الجماعات الإسلامية - وهى جزء من المجتمع - وإن كان الأمر فيها أخف ، يتعرضون لابتزاز وانتهاك لحقوقهم بشكل غير معقول وما سبب لهم ذلك هو مواهبهم وقدراتهم التي كان من المفروض أن تنفعهم وتنفع غيرهم .
ووجه تعرض حقوقهم لانتهاك أن الآخرين - مجتمع أو جماعات - إذا عَرفوا منهم إبداعا وتميزا في مجال ما أرادوا منهم الإبداع والتميز في كل شيء مما يضطرهم إلى تشتيت الجهود والانشغال بالمفضول وترك الفاضل في كثير من المجالات ومع ذلك فهم يستنفذون طاقاتهم ويرهقون أفكارهم وربما أبدانهم بما لم يُبدعوا فيه ويتركوا ما يمكن أن يبدعوا فيه لمنا سبة ظروف أخرى قد لا تأتي وبعد أن تنتهي قوتهم وتخور ، ومعها يظهر مبدع جديد تتوجه إليه الأنظار - كما أسلفنا - أصبح الأول قديما ومُلاماً بتركه لتخصصه الذي فاق أقرانه فيه ويخرج من المهمة الصعبة منهك القوى مليء بتبعات تلك الفترة من علاقات وأثار مالية أو نفسيه أو اجتماعيه وكثيرا ما يفوته قطار الإبداع فيما ثبت فيه تميزه فيه ويسلي نفسه أو يوهم نفسه انه قدم للأمة وعمل لها شيئا وهو فعلا عمل شيئا بل أشياء لكن كان يمكن لغيره أن يقوم بذلك العمل وهو يستمر في إبداعه .
ومثل هذه النتيجة سببها الرئيس – من وجهة نظري - التربية على الجندية التي نحن في وسط الحديث عنها والتي تدلك على أنّ الجماعات تقدم برامج تربوية مكررة وربّما موَحَدة وبمقاس واحد ولا مراعاة للاختلافات الفردية والمميزات الذاتية والفوارق حتى الزمنية ، فمنهج اليوم يشابه إلى حد كبير منهج نُفذ قبل أكثر من ثمانين عام .
ولاشك أن توحيده يوحد الولاء ويقوي الانتماء ، لكنه بالمقابل يقهر كثيرا من المتطلعين أو يكبت كثيرا من الطموحين ويجمّد كثيرا من المتحركين فينقلبوا خاسرين .
بعد هذا الإسهاب - والذي كان لابد منه - نُطالب بإيجاد آليات جديدة في التعامل مع الأمور الاجتهادية داخل وخارج الجماعة ، وفي التعامل مع المواهب والقدرات وفى العلاقة بين المناهج والأشخاص وفي العلاقات بين الأفراد والقادة ، نُجدد بها الدماء ونُقارب الخُطى نحو المجتمع الأسمى ، والله الموفق والمعين .
أبو عبد الرحمن / نبيل عبد المجيد النشمي
[email protected]
حاجة قائمة ، وتغافل مستمر !!
الجُندِية في مقابل العبودية هي العلاقة الرئيسية بين الخالق ’’المعبود’’ والمخلوق ’’العبد’’ فالجندية في هذا المقام لابد أن تكون مطلقة وذلك بامتثالها وتنفيذها لما تستطيع من الأوامر وتركها للنواهي والسعي لرضوان الله سبحانه وتعالى وهذا هو الهدف أصلا ، هدف وجود البشر قال الله ( وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون ) الذاريات ’’56’’ .
لكن الجندية في ميدان العمل وفى ساحة الحركة وخاصة في مضمار الاجتهاد البشري لا ينبغي بل ليس من الصواب أن تكون الجندية مطلقة .
نعم إننا بحاجة إلى الجنود الذين يقدِّمون أرواحهم ولا يتأخرون في التنفيذ بل ولا يناقشون ولكن في ظروف خاصة وأحوال محددة ولا يعني أنها قاعدة وحالة مستمرة وثابتة وفي كل الظروف والأحوال .
إن مناهج التربية وأساليبها ومنها المُتّبع في الجماعات الإسلامية ، بقصد أو بدون قصد ، تغرس ضعف الشخصية في نفوس أفرادها ، وتُربِّيهم على الاستسلام والقابلية للانقياد والتسليم بدون تأمل .
إنّ الجندية وان كانت مِيزة إلا أن التركيز عليها والإفراط في تعميقها يُولّد أثارا سيئة تسيء للعمل والجماعة قبل أن تسيء للأفراد ، فالممدوح من الجندية هو الامتثال للقطعي والذي لا مجال للنقاش فيه من نصوص الوحيين ، وليس من أراء غير المعصوم .
فالجندية أمام كل رأي وموقف وفكر واجتهاد وشخص لا نختلف أنها مذمومة وغير مقبولة فيكفي أنّ من ثمارها الحنظلية أنها تُهَيّئ النفوس للقبول بأي قيادة وان كان فيها من المقالات وعليها من الملاحظات ما يمنع وصولها إلى مجرد الانتماء إلى الجماعة فضلا عن أن تكون في الصف الأول ، ومن ثمار الجندية المفرطة أيضاً :أنها تُربي على قفل الفكر وإغلاق العقل وتوقيف الإبداع بدرجة أو بأخرى فقد يصل الأمر ببعض الجنود إلى أن ينتظر الأمر أحيانا حتى في أموره الشخصية والطامة أنها تصل أحيانا إلى انتظار الأمر في الواجبات الشرعية وتقرباته إلى ربه سبحانه وتعالى !!!
ولا عيب في غرس الجندية في الأفراد وتربيتهم عليها إنما المأخذ هو في التفريط والمبالغة ومجاوزة الحد والذي يُلحظ في عدة مظاهر وبعدة أساليب فالذي لا تُملي عليه الحركة والجماعة قوانين معدة وخطوات مكتوبة في الجندية ، تملي عليه هالة من التقديس والإفراط في الاحترام - سوء لأشخاص أو لأفكار واجتهادات - هذه الهالة تزرع فيه روح الجندية مثلها مثل تلك الجندية التي تزرعها المراسيم والتعليمات العسكرية الصارمة .
ومهما قلنا وكتبنا عن أولئك الذين يربون أتباعهم على تعظيم الشيخ وتقديسه من الفرق المبتدعة وهو حق ( أي ما يُقال عنهم ) إلا أننا نقوم بنفس التربية وقد لا يكون بنفس المستوى وان تَبرّأنا وأعلنا النكير والنفير من أجل القضاء على ذلك الخطر المحدق !!!!
فالذي يصدر لأتباعه أمرا ولا يقبل النقاش فيه ولا التردد في تنفيذه ، فهو وإن لم يكن فيه مصلحة خاصة ظاهرة كما يفعل أصحاب تقبيل الركب والتسمح ، إلا أنه رأي وإذا علم بمعترض أو ناقد فالويل له وأقل ما يقال في حقه : أنه لم يحترم القادة وتعامل بسوء أدب معهم ، إن لم تلصق به تهم : شق الصف وتفريق الكلمة والعمالة ..... وغيرها من الشارات الجاهزة والتي تُستعمل عند الحاجة .
والذي تتوقف ترقيته التنظيمية والحركية على مدى طاعته وانقياده وإغلاقه لعقله وتسليمه لقياداته وعلى مدى تنفيذه لأراء وان لم يكن مقتنعا بها ، بهذه الطريقة وتلك نشابه بل نماثل أهل الطرق وان اختلفت الصورة ونقوم بنفس حكاية الشيخ والمريد والميت بين يدي مغسليه شعرنا أو لم نشعر . !!!
وبهذه الطرق وغيرها والتي - للأسف لا زالت مُتّبعة - ظهرت ثمار سيئة أثّرتْ في مسيرة العمل الإسلامي وأخرت الصحوة في كثير من المجالات والبلدان فلا زال الدفاع عن الأخطاء منهج وأسلوب ولو كانت كالشمس وضوئها .
ولا زال الظلم مستمر في حق من حاول التحرر من هذه الجندية والتبعية فلا زال الهجر والإبعاد والنفي خارج حدود الجماعة ، يهدد مصير كثير مما يحاول أن يقول : ( لا ) لما ينبغي أن يُقال فيه ( لا ) ولازال تشويه السمعة والتحذير من شخصيات تُعلن برأتها من أخطاء شرعية ، منهج متبع وقانون معمول به إلى اليوم .
والقضية جد خطيرة وفيما تقدم إشارة كافية - فيما يبدو – فقصدنا الإشارات وليس التأصيل ، ويجدر بنا أن نقول: إن الجندية لا بد منها وخاصة في بداية السير مع الركب إذ لا يمكن مرافقة الرفقة بدونها فهي تأشيرة الدخول في هذا الميدان ، ولكن كما هي تأشيرة دخول تستعمل بقدرها وعند الحاجة إليها وإلا فالأصل أن التربية على القيادة ملازمة للتربية على الجندية ولا بد من التوازن فالحاجة ماسة إلى قادة تحمل الهم والمنهج والفكرة وتستمر في حمل الراية ولا تقبل أن يأخذ الراية عضو من خارج الصف وهي تحت قيادته طائعة .
وهذا يظهر جليا في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فمع ما نرى فيهم من الجندية العجيبة يزداد عجبنا عندما نرى فيهم الجانب القيادي الذي غير الحياة . ! !
( فقد ربّاهم ليكونوا جنودا فائقين تحت قيادته صلى الله عليه وسلم ، وليكونوا في الوقت ذاته ’’صفا ثانيا’’ بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة ، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه ) الصحوة الإسلامية / محمد قطب (117) بخلاف ما ( نجد في الساحة الواقعية - اليوم - أنّ الجنود قد رُبّوا ليكونوا جنودا فحسب ، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم) السابق .
ومن تلك التربية - تربية النبي صلى الله عليه وسلم - خرج جيل يحمل روح القيادة بل روح السيادة والرغبة في تغيير العالم وتطويعه للحق والخير حتى أننا سمعنا منهم عبارات وقراءنا مواقف مازلنا نفتخر بها ونُزين بها مقالاتنا وأوراقنا لكننا لم نقف عندها لنعرف مكنونها و باعثها ومكوّنها و كيفية الوصول إلى محاكاتها ، مثل المقولة المشهورة ’’ جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ’’ وبتلك التربية استطاع ذلك الجيل أن يغيّر الخريطة ويقلب الموازين السائدة في عصره ففي خلال نصف قرن يزيد أو ينقص تمّ القضاء على أكبر إمبراطوريتين في تلك الحقبة من الزمن وإدخالهما تحت سيادة الدولة الوليدة .
لو كان أولئك المعشر تربَّوا على الجندية فقط ، لعجزوا أنْ يُحرّروا أنفسهم - كما عجزنا - من رِق العادات والشهوات فضلا عن أن يحرروا غيرهم .
(لقد كانوا جنودا فائقين للدعوة ، ولقائدهم - صلى الله عليه وسلم - على الصورة التي يعرفها التاريخ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رباهم في الوقت ذاته بحيث يكون كل واحد منهم ركنا في الموقع الذي يكون فيه ، فقاموا بالمهام التي وكلها إليهم على المستوى الفائق الذي يعرفه التاريخ ، وكانوا هم للناس في تربيتهم على هذا الدين ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم هم في هذه التربية الفريدة ، ثم كانوا هم حمله الأمانة من بعده ، والقادة الذين قادوا الأمة من بعده في الخلافة الراشدة التي يعرفها التاريخ (أيضا ) ... تلك سُنة جارية في عملية البناء وهى ألزم ما تكون في بناء الجماعة التي تتولى الدعوة لدين الله ) السابق (57)
ولنقتطف أمثلة من ذلك المنهج النبوي في تربية الجنود على القيادة لتوضيح المقصود لا لحصره :
1— حديث ذي اليدين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : صَلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيِّ ركعتين ، ثم سلم ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ، فوضع يده عليها ، وفى القوم أبوكر وعمر، فهاباه أن يكلماه ، وخرج سَرعان الناس ، فقالوا : قَصُرت الصلاة ، وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله أنسيتَ أم قصرت الصلاة ؟ فقال :’’ لم أنسَ ولم تُقصرْ’’ فقال بلى ، قد نسيت ،.... ’’ الحديث وفيه فقال : ’’ أصَدَقَ ذا اليدين ؟’’ فقالوا : نعم ’’ البخاري (1227)ومسلم وغيرهما .
في هذا الحديث والذي يُعدُّ أصلاً في باب سجود السهو ، وقد تكلم الفقهاء والشُّراح فيه كثيرا حول المسائل المستنبطة منه ، فيه تلمَح روح القيادية في الأتْبَاع ، والتي تستطيع أن تتسآل - وبكل أدب - ولا تسكت عما تظنه خطأ أو خلاف ما تعرف ، يظهر ذلك في موقف الصحابي المختلف في اسمه وغير المعروف ، والموصوف ( بذي اليدين ) رضي الله عنه ، جندي مغمور... وهذه الجندية لا تمنعه أن يسأل القيادة ، بل أعظم قيادة عرفتها البشرية ، لا تمنعه أن يستفهم عما يظن أنه حصل على خلاف ما يعرف ، أهو نسيان ؟ فيُذُّكر القيادة .. أو حكم جديد ؟ فيمتثل الأمر !!!
جندية تحمل نَفَس القيادة والمتمثل في أنه لا سكوت عما ينبغي الكلام فيه ولو مع القيادة .
2- حديث المتابعة :
متابعة الإمام في الصلاة واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم ’’ إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به فإذا كبر فكبروا ، ولا تكبروا حتى يكبر ، وإذا ركع فاركعوا ، ولا تركعوا حتى يركع ، ...’’ الحديث متفق عليه
تأمل ....!!! جُندية بمعنى الكلمة ، متابعة بترتيب وتعقيب ، لا تَقَدُّم ولا تراخي ، يدل عليها العطف بالفاء ، وهى ليس مجرد حركات ، إنها حركات في أفضل الأعمال وأهم القُرُبات ، حركات يُتعبد بها الله ، تُربي على الجندية ، وبشكل مركّز وواضح ، ومع هذا الوضوح إلا أنها لم تكن مطلقة ، إنها مقيدة وبنفس النصوص التي وضحتها ، مقيدة بنصوص مفصلة وواضحة أيضا، جندية مقيدة حتى لا يقع الإفراط ، وحتى يطمح الفرد الجندي بالارتقاء إلى القيادة ، ومن هذه القيود أن المجال مفتوح لمن أراد هذا المنصب إذا حقق شرطه - مع إمكانية ذلك – وهو أن يكون أقرأ القوم ، ومنها أيضا أنها لا تقبل القبول بالخطأ فُشُرِع الفتحُ على الإمام والتسبيح إذا وقع في خطاءٍ ما ، لتعلن أن الجندية الحقيقة تتابع لكن لا على الخطأ وتنصت لكن إلا للخطأ ، ولو كانت في أعظم موقف يقفه المسلم في الدنيا ، بل يصل الأمر إلى بطلان الصلاة للجندي المطلق وذلك إذا تابع القيادة متابعة مطلقة حتى في الخطأ الذي تيقن أنه خطأ كالقيام إلى خامسة في رباعية ... فالجندية مطلوبة لكن لها حدود .
3- إنّ لصاحب الحق مقالا :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنّ رجلا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتقاضاه ، فأغلظ له ، فَهَمَّ به أصحابُه ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ’’ دَعُوهُ فإن لصاحب الحق مقالا ’’ . ثُمّ قال : ’’ أعطوه سناً مثل سِنِّه ’’ ، قالوا : يا رسول الله لا نجدُ إلا أمثلَ من سِنه ، قال : أعطوه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء ’’ متفق عليه في البخاري رقم ( 2305 ) .
يا الله !!!! ما أروع هذه القيادة ، وما أمس البشرية حاجةً لمثل هذا التعامل ؟؟ !! لا عجب ، إنها قيادة النبي – صلى الله عليه وسلم - هوَ هُوَ ، يُغلَظ له الخطاب ، وهو القائد ، بل وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – أشرف الخلق وأكرمهم واتقاهم وسيدهم - صلى الله عليه وسلم – ولأنه يُربي قادة ، ولأنه يُربي على عدم السكوت عن الحق مهما كان الشخص المطالِب به ، ومهما كانت منزلة المطالَب ، ولأنه يَضع قواعد للمربين والقادة من بعده ، في فن التعامل مع الجنود ، ها هوَ جندي عادي ، مجهول الاسم ، والجهالة هُنا كعدمها ، يطالب بحقٍ له ، والمُطَالَب هو القائد ، إلا أنه لم يطالِب بالطريقة التي تليق بشخص المطالَب ، ولذلك همّ به الصحابة ، لكن هل هذا الخطأ يحرمه من حَقِّه ، بل هل يكون مبررا لمنعه من المطالبة ويعطي القيادة الحق في مصادرة حقه وعقوبته وفصله من الجماعة ؟؟!!!
قد يكون هذا في غير مثل قيادة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومَن اقتدى به ، إنه يؤصل بموقفه قاعدة تقول : ’’ إن لصاحب الحق مقالاً ’’ فليَقل حتى لا تضيع الحقوق ، فقد تضيع خوفاً أو حياءً ، أو على مضض ، أو مجاملة أو مداهنة ..... إذا كانت في ذمة القيادات والمسئولين والرموز .
إن من أسباب تضيع الحقوق والرضا بضياعها ، وسواءً كانت الحقوق سياسية أو فكرية أو مالية ، إن من أسباب ذلك التربية على الجندية المذلة التي تستهين بالتنازل عن الحقوق وتقبل بالقليل أو أقل منه منها .
بعد هذه الجولة السريعة في أعظم بستان تربية نعود قليلا إلى واقعنا ولا شك أنّه كلما قَرُب المِشْرط من الجرح وتعمق فيه كلما زادت حدة الألم ... لكنّها الطريق إلى العافية بإذن الله تعالى ، واترك الأسطر الآتية لخبير ومجرب ، سطّرَ رأيه وتجربته حول هذه القضية وكتب مثالا على ذلك بحالة من حالات ، ونوعا من أنواع ، ذلك هو المفكر الإسلامي الأستاذ : محمد قطب – حفظه الله تعالى - في كتابه (الذي قلما تجد مثله صراحة وقوة تدلك على تعمّق مفهوم النصح والتصحيح ): كتاب ’’ الصحوة الإسلامية ’’ قال حفظه الله : (( رُبّما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بَين الإخوان العاملين ، الذين رباهم على عينه ، وأفضل جوانب هذه التربية هو الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه ، والروح الفدائية الصادقة التي زرعها في نفوسهم ، ثم تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى ، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل .
ولكننا رأينا - والكلام ما زال له – كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق ، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة .
لا ندري - والكلام له - كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قَمِينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر .... ولكننا نجد على الساحة الواقعية أنّ الجنود قد رُبّوا ليكونوا جنودا (فحسب ) لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم – إلى أن قال - نجدُ غياب ’’ الصف الثاني ’’ على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحا ملموسا كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد ، فندرك - على الصعيد الواقعي - أنّه كان هناك نقص في التربية ، في هذا الجانب )) الصحوة الإسلامية (117) اهـ كلامه بهذه الصراحة وهذا الذي ينبغي إذا أردنا فعلا تصحيح المسار وتجاوز الأخطاء وما ذكره حفظه الله مجرد مثال ولا يعني أنّ غير هذه الجماعة سَلِمَ من هذا الداء ، بل قد يكون في بعض الحالات أشد وأعمق .
ونتمنى مثل هذه المؤلفات من جميع الجماعات لنصل إلى الأفضل والأحسن وإنْ كان العلاج من الداخل أشد مرارة لكنه أصدق وأعلم بالحالة.
ومن هنا وبناءً على ما سبق ينبغي أن نُعيدَ النظر ونكرره في مناهجنا وطرق تربيتنا داخل أسوار الجماعات الإسلامية حول قضايانا المهمة وقضيتنا هذه من أهمها ، وحتى لا نكون عونا للأعداء ، ونحن لا نشعر ، بتهيئة جيل يهوى الجندية ويعشقها وتخيفه - أو يستصعبها – القيادية
ولا نحتاج إلى التدليل على التقصير الواضح والخطأ البَيّن في تربية الأفراد على هذا الجانب .
فلو لم يكن هناك أخطاء لما تمكن أفراد مشبوهون من الوصول إلى قيادة العمل الإسلامي ، ولَمَا سَهل علينا أن نرى صورة تُكرر للجندي المسلم في الجماعة أن يتحول إلى جماعة أخرى خارج السور ويقبل بقيادة أخرى كانت يوماً ما عدوه الوحيد .
إنّنا في فقه الجندية نحتاج إلى تأصيل آخر وإعداد آخر وطُرق أخرى لتتغير النتائج فان حل المشكلة بنفس الأسلوب ونفس الطريقة لا يُتوقع منها نتائج جديدة مهما تغيرت الأشخاص والأسماء ، وأول خطوة في هذا التجديد هي موقف القيادات الرسمية وقناعتها بضرورة الانتقال وتغير ما ثبت خطؤه والمطلوب منها بكل صراحة : عدم الاعتداد بالنّفس ، والقضية قضية أمة ، لا أسماء ومصالح خاصة ، فقد ينتج عن تجديد التربية وزرع روح القيادية إلى أن تتعرض - وهماً - مكانة وأسماء ومناصب إلى اهتزاز وزلزلة ، وقَلّما يكون هذا الأمر مقبولا ، لكن لئنْ تتعرض هذه لاهتزازت تهددها أهون ألف مرة من بقائها ثابتة محاطة بالجنود ثم فجأة يموت البطل وتهتز الجماعة والمؤسسة وقد يرث التركة أبناء غير شرعيين .
إنّ لسان حال الأفراد في الجماعات يقول : رَبّوا فِينا روحَ القيادة لندخل معترك الحياة وفتحات المجتمعات دخول الواثق الذي لا يهاب المرهبات ولا يُفتن بالمغريات ولا تستهويه الأهواء ، وفي المثل قيل : ألف ثعلب يقودهم أسد ، أفضل من ألف أسد يقودهم ثعلب ، والمثل يُضرب ولا يُقاس .
إنّا نطالب بتربية غير هذه التي تَغرس فينا الجندية المفرطة المذلة ، نريد تربية نكون بها (( جنوداً ملتزمين للقائد ، ونكون في نفس الوقت ’’ قيادات ’’ تَحمل المسؤولية بعد ذهاب القائد ، وكل قائد لابد أن يذهب في يوم من الأيام، وذلك هو المنهج النبوي الذي أخرج أعظم جند عرفتهم البشرية ، وأعظم قيادات عرفتها البشرية كذلك )) الصحوة الإسلامية (140) ، وقد يكون من المحزن والمؤسف أنْ نعترف بأنّ القيادات الدّعوية والعلمية - أو أغلبها- في الساحة لم تخرج من رَحم الجماعات الإسلامية ، وليست ناتج طبيعي للمناهج المتبعة في التربية بقدر ما هي ناتج عن جهد فردى وتوجه شخصي بما تملكه تلك القيادات من مواهب وإبداعات فرضت به نفسَها على الساحة ، وعند النضج أو بدايته تبنته الجماعة كقائد دعوي أو علمي ، واستفادت منه أكثر من أنّها أهلته وطوّرته ، ولاشك أنّ الجماعات لها فضل على تلك القيادات فهي التي قدّمتها للمجتمع وفتحت له مجالات وقدّمت لها خدمات معنوية ومادية ، لكن حديثنا يخص التكوين والإعداد أمّا الجاهز فالمنافع متبادلة ، ولا حرج في ذلك أصلا ، فنريد التأصيل والإعداد حتى لا يأتي من يَصعد السُّلّم من وسطه أو يصعد بدون سلم ويصل فجأة الى القمة ، وبالنسبة لما ذكرنا من القيادات الموجودة ، لاشك أنّ منها من تدرج وتربى على أعين القادة ، لكن عبارة عن حالات فردية،أما الأعم الأغلب فهو عبارة عن استخدام مادة جاهزة ومن هُنا تتقبل بعض الجماعات التسليم لبعض القيادات الجاهزة مع ما تراه من ملاحظات وتساؤلات حولها ... لأنها تريد قيادات جاهزة تختصر بها الطريق وتجمع بها أعداد أخرى ، وتغفل أو تتغافل عن النتائج السلبية لهذا التجاوز وينسيها أحيانا بريق الاسم ، أو ميزة ظهرت لهذا ’’ القائد الجديد ’’ أخفت عنها كثير مما يفسد العلاقة .
ومما يدل على الاستخدام للجاهز : أنك تسمع الترويج والدعاية الإعلامية - رسمية أو شعبية - للخطيب الفلاني وتنتشر أشرطته وتكثر طلبات زيارته لمناطق مختلفة وبينما هو في أوج شهرته وعنوان بدايته تجد سوقَه يبدأ بالتراجع وجمهوره بالانخفاض لا لأنّ مستواه تراجع ، ولكن لأن هناك ، وفي الحي المجاور ، ظهر اسم جديد أقوى صوتا وأعظم تأثيرا في الجمهور وربما أشجع وأجرأ وغير ذلك من المواصفات التي يعشقها الجمهور .... فتتولى الجماعة الأمر وتُظهره بعد أنْ أظهر نفسه وفجأة ..... يرتقي إلى .... قمة القيادة ، وربما...... قيادة القمة ..... وهكذا.
ولأنّ الجمهور الخاص – أفراد الجماعات - تَربَّوا على الجندية ، وهو مربط موضوعنا فان تغير وتجدد القيادات يسهل عندهم ، فمن السهولة تغير الولاء وتحول الانقياد لمن مَثّلَ الانقياد عنده أعلى درجات الانتماء .. ! ! !
إن المنهجية المتبعة في تربية الجنود مظاهر الخطأ فيها واضحة ، وما مرَّ من أمثلة وبيان يدل على ذلك ، ولسنا بصدد ذكر المظاهر والأسباب والعلاج تفصيلا ، وإنّما نحن نرغب في أن ينتبه من يستطيع ذلك وبيده الأمر والنهي في الجماعات .
ويكفينا شكوى أن نقول للجماعات العاملة في الساحة: لابد من إعداد القادة في مختلف المجالات ، وأن يكون هذا الأمر نابع من داخلها ومن برامجها ، وأساسية من أساسياتها تقوم به من الصفر حتى يصبح رقما صعبا فيها وعلى غيرها .
والاكتفاء بالجاهز قد يُوفر الجهد لكن لا يوفر المطلوب ، فالبحث عن القادة من مدرجات الجامعات وكراسي الكليات ، ومن خلال المواهب ، أمر غير مقبول لإعداد قادة وان كان مقبولا لتوفير أعداد بل وقد يكون ضروريا من خلال معركة الغزو الفكري الصليبي على الأمة ، وهو أمر حسن ولاشك ، لكن الأحسن منه والأنفع أن تتولى الجماعة التربية من مرحلة العجين وبداية التكوين ، ليكون التشكيل كما تريد .... ليطمئن قلبها ، أما الوَجَبَات التربوية السريعة لِمِن أصبح قائدا بين عيشة وضحاها فكما أنها سريعة فبقاؤها وبقاء أثرها أيضا سريع الذهاب إلا إن يشاء الله ،! وقد تستغرب إذا قلت لك : إن المبدعين والمبرزين في المجتمع عموما وفى الجماعات الإسلامية - وهى جزء من المجتمع - وإن كان الأمر فيها أخف ، يتعرضون لابتزاز وانتهاك لحقوقهم بشكل غير معقول وما سبب لهم ذلك هو مواهبهم وقدراتهم التي كان من المفروض أن تنفعهم وتنفع غيرهم .
ووجه تعرض حقوقهم لانتهاك أن الآخرين - مجتمع أو جماعات - إذا عَرفوا منهم إبداعا وتميزا في مجال ما أرادوا منهم الإبداع والتميز في كل شيء مما يضطرهم إلى تشتيت الجهود والانشغال بالمفضول وترك الفاضل في كثير من المجالات ومع ذلك فهم يستنفذون طاقاتهم ويرهقون أفكارهم وربما أبدانهم بما لم يُبدعوا فيه ويتركوا ما يمكن أن يبدعوا فيه لمنا سبة ظروف أخرى قد لا تأتي وبعد أن تنتهي قوتهم وتخور ، ومعها يظهر مبدع جديد تتوجه إليه الأنظار - كما أسلفنا - أصبح الأول قديما ومُلاماً بتركه لتخصصه الذي فاق أقرانه فيه ويخرج من المهمة الصعبة منهك القوى مليء بتبعات تلك الفترة من علاقات وأثار مالية أو نفسيه أو اجتماعيه وكثيرا ما يفوته قطار الإبداع فيما ثبت فيه تميزه فيه ويسلي نفسه أو يوهم نفسه انه قدم للأمة وعمل لها شيئا وهو فعلا عمل شيئا بل أشياء لكن كان يمكن لغيره أن يقوم بذلك العمل وهو يستمر في إبداعه .
ومثل هذه النتيجة سببها الرئيس – من وجهة نظري - التربية على الجندية التي نحن في وسط الحديث عنها والتي تدلك على أنّ الجماعات تقدم برامج تربوية مكررة وربّما موَحَدة وبمقاس واحد ولا مراعاة للاختلافات الفردية والمميزات الذاتية والفوارق حتى الزمنية ، فمنهج اليوم يشابه إلى حد كبير منهج نُفذ قبل أكثر من ثمانين عام .
ولاشك أن توحيده يوحد الولاء ويقوي الانتماء ، لكنه بالمقابل يقهر كثيرا من المتطلعين أو يكبت كثيرا من الطموحين ويجمّد كثيرا من المتحركين فينقلبوا خاسرين .
بعد هذا الإسهاب - والذي كان لابد منه - نُطالب بإيجاد آليات جديدة في التعامل مع الأمور الاجتهادية داخل وخارج الجماعة ، وفي التعامل مع المواهب والقدرات وفى العلاقة بين المناهج والأشخاص وفي العلاقات بين الأفراد والقادة ، نُجدد بها الدماء ونُقارب الخُطى نحو المجتمع الأسمى ، والله الموفق والمعين .
أبو عبد الرحمن / نبيل عبد المجيد النشمي
[email protected]