يأتي حديثنا عن الطليعة والقائد في إطار الحديث عن النهضة المنشودة، وقد أثار بعض القُرَّاء للمقال السابق “طليعة النهضة” تساؤلات حول الدور الحقيقي للقائد، وكان من أبرزها :
من يصنع الآخر:هل الطليعة تصنع القائد أم القائد هو من يصنع الطليعة ؟
هل يمكن حدوث نهضة إذا وجدت الطليعة دون القائد أو العكس؟
ألم يكن النبي (ﷺ) يرجو دخول عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام للإسلام؟! ألم يخبرنا بأن الله يبعث للأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، والله يقول :” إن إبراهيم كان أمة ” ألا يدل ذلك على أن القائد هو من تحتاج له الأمة؟!
من يصنع الآخر ؟
عبر التاريخ، وفي إطار (الأمة أو المجتمع) تَكوَّنت طليعة، وقيادات مجتمعية، والطليعة مُكوِّن أساسيٌّ في أي أمة، والتسميات هي التي تختلف بين الحين والآخر، ولا شك بأن مهارات أي قائد بدأت تُصقل في إطار الأمة وفي إطار تلك الطبيعة. ولم يكن أمام الطامحين للقيادة إلا التخلص من خصومهم أولاً، وكان السلاح هو الفيصل في الأمر، ولا شك بأن القائد لا يقاتل بمعزل عن الطليعة التي هو أسَّسها للوصول إلى غرضه، وقد تكون الطليعة هي التي أفرزته لتلك المهمة . وطليعة أي أمة هي إفراز لقيم مجتمعية تختلف من فترة زمنية إلى أخرى، والقادة هم إفراز لتلك الطليعة، وقد تختلف الطليعة أو تنقسِم على نفسها، أو تتشكل أكثر من طليعة في آنٍ واحد،كما هو الحال في المجتمعات الديمقراطية متعددة الأحزاب، وفي كل الأحوال، فلا يمكن أن ينشأ القائد في فراغ !! فصلاح الدين نشأ في أسرة مالكة، ولولا الإسلام لما عُرف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه )، ولما ذاع صِيته خارج شعاب مكة، ولولا حزب (أَمْنو ) الماليزي لما عرف الناس مهاتير محمد !!
تجديد الله للأمة أمر دينها لا يعني بالضرورة أن يكون المجدد فرداً، بل إن الأقرب للفهم هو أن التجديد يكون بالطليعة الواعية في كل المجالات، مع ملاحظة أن الحديث أشار إلى تجديدٍ لأمر الدين!!
هل يمكن حدوث نهضة إذا وُجدت الطليعة دون القائد أو العكس ؟
لا يخلو الأمر من احتمالات عدة:
الحالة الأولى: توجد طليعة واعية، وقائد قوي، فهذه هي الحالة المثالية، والأمة من خلالها تنهض وتتقدم .
الحالة الثانية : لدينا طليعة قوية، وقائد ضعيف، وهنا ستعمل الطليعة على إنقاذ الأمة، والصبر عليه، حتى إذا انتهت فترة ولايته امتنعت عن إعادة انتخابه ، وإذا عِيل صبر الأمة فمن حقها وعبر طليعتها أن تخلعه وتحاكمه .
الحالة الثالثة : طليعة ضعيفة، وقائد قوي، هنا يستبد القائد، وتزيد مساحة الاحتقان في المجتمع يوماً بعد يوم حتى ينفجر الوضع، ويحل الدمار، والفتنة لا تستثني أحداً.
الحالة الأخيرة: طليعة ضعيفة، وقائد ضعيف، هذه هي حالة الموت السريري، والأمة لا ترتجي نهضة ولا حضارة من مثل هذه الحالة.
في المجتمعات البدائية والمتخلفة حضارياً ليس للقائد أن يبرز إلا بقوة السلاح، أو الانقلاب المدعوم من أطراف داخلية أو خارجية، فإذا وصل القائد إلى الحكم هتفت الجماهير باسمه !! وفي المجتمعات المتحضرة، يحتكم الجميع للصندوق، وبذلك فقد استبدلوا رصاص البنادق بأوراق الاقتراع، وبدلاً من فرز قائد ذي سلطة مطلقة، وفترة زمنية مفتوحة، فرزوا قادة في كل اتجاه .
خلاصة الموضوع:
في البلدان المتقدمة تتوزع المسؤولية والقيادة، وتُعزز فيها سلطة المؤسسات فتصبح حاجة الناس إلى قائد استثنائي ضئيلة جداً، وأما في المجتمعات المتخلفة، حيث تتركز السلطة فيها بِيدِ الفرد، فمن الطبيعي أن يبحث الناس فيها عن القائد الملهم، وأن ينتظروا المُخَلص أو إمام آخر الزمان بفارغ الصبر .