مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2019/10/14 13:15
محطات في النزاع القومي الكردي في تركيا: تحالف الحزب الحاكم مع القوميين والعمليات العسكرية نفّرا الكرد من الحزب

2019-10-12 | 

في أواخر أيام الدولة العثمانية، أقنع أتاتورك الأكراد، أن يقاتلوا ضمن الجيوش الحميدية كعشائر مسلحة، في المعارك ضد الأرمن عام 1915، كعدو مشترك للمسلمين. وبعد تلاشي دولة العثمانيين، بات الأكراد بين أربع دول ذات طابع قومي فارسية تركية عربية، فبدأوا يعملون على تأسيس دولتهم القومية، وفي معاهدة سيفر 1920، وقعت حكومة إسطنبول على منح الكرد حكما ذاتيا، لكن أتاتورك ظل يقنع الكرد بالتخلي عن الحكم الذاتي، بعد أن نجح بعقد تحالف مع عشائر الكرد بالحرب ضد الأرمن1917، مستخدما الرابطة الدينية، وبالفعل تنازل الكرد عن الحكم الذاتي في معاهدة لوزان 1923، وأعلن عصمت أينونو في مؤتمر لوزان أن «تركيا للشعبين الكردي والتركي بحقوق قومية متساوية أمام الدولة".

اعتبر الكثير من الكرد أنهم تعرضوا لخديعة باسم الدين، بعد أن قاتلوا معا أعداء "الخلافة العثمانية"، خصوصا الأرمن، قبل تأسيس الجمهورية، وبعد إعلان أتاتورك تأسيس الجمهورية عام 1923، تجاهل اتفاق لوزان، ورسخ الطابع القومي الطوراني التركي، فاندلعت ثلاث ثورات كردية كبيرة، واحدة إسلامية للشيخ سعيد بيران وأُعدم عام 1925، وأخرى من ضابط عثماني كردي هو إحسان باشا 1926، وثالثة من الأكراد العلويين في ديرسيم (تونجلي) عام 1937، وقصفتها الطائرات، بمشاركة أول طائرة حربية في العالم واسمها صبيحة (التي يحمل اسمها مطار صبيحة)، وتسببت بمجزرة بالآلاف، اعتذر عنها اردوغان رسميا، لاحقا في عام 2011. وأدت سياسة الدمج القومي إلى تتريك معظم أكراد المدن، وظهر منهم سياسيون كأتراك، بينما أطلق على المناطق الريفية "أتراك الجبال"، واحتفظوا بلغتهم الكردية في محافظات جنوب شرق البلاد.

في أواخر السبعينيات، تأسس حزب العمال الكردستاني، وبدأ بشن عمليات عسكرية دامية، سقط في إثرها آلاف المدنيين الأكراد جنوب شرق تركيا، ومع الانقلاب العسكري عام 1980، الذي اصطدم بتمرد الأكراد، تم منع استخدام اللغة الكردية في مؤسسات الدولة، ومنع تسمية أسماء كردية (كما يحصل مع المتجنسين العرب حاليا) وتغيير أسماء قرى كردية، ومنع التحدث مع القاضي باللغة الكردية، وصلت شدة تلك السياسات لدرجة الحكم بسجن الوزير شرف الدين الصن عام 1981، لأنه تحدث عن أصله الكردي، وتعرض الفنان إبراهيم تاتليس للمحاكمة، لأنه غنى بالكردية، (قيل لي في أورفا إنه عربي ووالدته كردية)، ولاحقا تعرض فنان كردي يدعى أحمد كايا، للسجن 6 شهور، لأنه أعلن عن إطلاق ألبوم باللغة الكردية.

لكن عام 1990، قام توركوت أوزال بإصلاحات ومصالحة مع الكرد، وقام برفع حظر جزئي عن اللغة الكردية، وأطلق آلاف السجناء السياسيين الأكراد، وتحدث عن أصول والدته الكردية، لكنه توفي بشكل مفاجئ قبل توقيع اتفاق تاريخي مع أوجلان، يقضي بإنهاء النزاع وما زالت الشكوك تحوم حول موته المفاجئ، خصوصا أن القوميين الأتراك والجيش لم يكونوا متحمسين للمصالحة، وكان اعتقال أوجلان عام 1999 ضربة قوية لحزب العمال، واستمرت المفاوضات معه داخل السجن حتى اليوم، لمحاولة إنهاء هذا النزاع.

أربكان الإسلامي حاول إجراء مفاوضات مع أوجلان، لكن الجيش أطاح به بانقلاب. مع قدوم أردوغان للسلطة عام 2001، جذب حزبه الإسلامي كتلة كبيرة من الأكراد المحافظين، وخففت القيود على الثقافة الكردية، وكانت تلك الإصلاحات جزءا من جهود تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، وأصبح من الممكن استخدام اللغة الكردية في خلال المرافعات القضائية، لكن الهوية الثقافية الكردية ظلت مسألة شائكة، فقد أعلن أردوغان عن تدريس اللغة الكردية في المدارس، لكن تنفيذ القرار ظل يواجه عراقيل في بعض المناطق..

وبقي اعتماد الكردية لغة رسمية مثار جدل، وحتى منتصف 2019، ظلت المطالبات قائمة باعتماد اللغة الكردية في البلاد لغة رسمية، وصدر تصريح بذلك من زعيم المعارضة كليدتشار أوغلو، لكن من الواضح أن القوميين تمكنوا بنفوذهم من عرقلة ذلك، وترسخ نفوذ القوميين بالذات بعد محاولة انقلاب 2016، إذ تحالف حزب العدالة، الإسلامي الجذور، مع الحركة القومية في الانتخابات لمواجهة تحالف المعارضة، وهنا بدأت عقارب الساعة تعود للوراء، ومع تراجع فرص انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، بدأت الحكومة تتحلل من بعض التزاماتها الديمقراطية، ومن أهمها احترام التنوع القومي، ونبذ سياسات الدمج الهوياتي، شنت حملة جديدة على مراكز التعليم الكردية وأغلقت عدة صحف كردية.

وفي 2018، أصدر القضاء التركي قرارا بإعادة قسم طلابي في المدارس يتضمن عبارة (أنا تركي) بضغط وتأييد من القوميين، وهذا القسم الطلابي، كان حزب العدالة قد ألغاه عام 2013 ضمن محاولة تركيا اللحاق بمعايير الاتحاد الأوروبي، وجهود الحزب في انفتاحه على باقي القوميات، خصوصا الكرد والعرب جنوب تركيا، حيث يحتفظ الحزب بقاعدة انتخابية معقولة، واشتهر عن اردوغان قوله في خطاباته، تعبيرات عن (أمة واحدة لعدة أقوام، ترك كرد عرب إلخ).. لكن تزايد تحالف الحزب مع القوميين، انتخابيا وأمنيا، والعمليات العسكرية في عفرين، نفّر الكرد من حزب العدالة، وعارض حزب الشعوب الممثل الأكبر لأكراد تركيا، العمليات بقوة، وازداد التوتر والاحتجاج بين أكراد تركيا على العمليات.

وبينما دعمت أصوات القوميين حزب العدالة في الانتخابات، خسر الحزب بالمقابل أصوات الأكراد في معظم المحافظات الكردية وفي اسطنبول، وأدى هذا إلى فوز المعارضة التركية في إسطنبول، ما شكّل ضربة قوية لحزب العدالة الإسلامي، الذي بدا أنه اختار طريق التحالف مع القوميين، ولو على حساب جمهوره الكردي الواسع، وتشير مصادر عميقة الاطلاع، أن القوميين ما عادوا شريكا لحزب العدالة، وفقط، بل زادت هيمنتهم على مفاصل مهمة في القضاء والأجهزة الأمنية، تحديدا في وزارة الداخلية والجيش، وهذا كان نتيجته هذه المرة غاية في الإقصاء للقوى الكردية السياسية، إذ بات قائد حزب الشعوب الكردي المنتخب ديمقراطيا، في السجن، ومن بعدها زج في السجن، رؤساء المحافظات الجنوبية الثلاثة، الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة من حزب الشعوب الكردي، وكان هذا إعلانا بفشل مدو في إدارة النزاع القومي داخل الدولة، فظهر أن الطابع القومي التركي للدولة عصي على قبول باقي القوميات، وعلى رأسها الكرد، وانتقد تلك القرارات رئيس الوزراء التركي السابق داوود أوغلو بشدة، وكذلك عبد الله جول رئيس الجمهورية السابق، واستخدمت الحكومة التركية مبررات ارتدت عليها من حيث لا تعلم، فاتهام حزب الشعوب الكردي، الممثل الأول لأكراد تركيا، حسب نتائج الانتخابات، اتهامه بوجود علاقات لبعض أفراده مع حزب العمال المحظور، يعني أن حزب العمال يحظى بتأييد شعبي في تركيا! وهو الحرج نفسه الذي تقع فيه السلطات التركية، عندما تنشر رسالة من أوجلان للأكراد، إذ إنها تعتبره زعيما لمنظمة إرهابية، وفي الوقت نفسه تقر بنفوذه الشعبي بين أكراد تركيا، وتستخدم رسائله لتمرير مواقف سياسية، كما حصل قبل انتخابات إسطنبول الأخيرة، في محاولة لكسب أصوات الأكراد لصالح تحالف حزب العدالة.

ومع بدء العملية التركية ضد الأكراد شمال سوريا، ظهر بشكل جلي، الانقسام الشعبي الكردي التركي مجددا، ولعل أوضح صوره تمثل في إعلان حزب الشعوب الكردي التركي، الذي يحظى بالتأييد الأكبر في الشارع الكردي، أن العملية تعد "اعتداء على الشعب الكردي"، وعكست المشادات الكلامية بين أعضاء البرلمان التركي من حزب الشعوب، وباقي الأحزاب التركية، مدى الانقسام القومي الحاد في تركيا، إذ تأكد أن الشعور الكردي في سوريا وتركيا متوحد ضد العملية، وكذلك مع كردستان العراق، التي أصدر فيها مسعود البارزاني بيانا حادا ضد الهجوم على ما سماه "كردستان الغربية"، وكذلك هاجم الداعية الإسلامي الكردي، سوران عبد الكريم، العملية والرئيس التركي بشدة، رغم أنه إسلامي وليس يساريا كما حزب "بي واي دي" في شمال سوريا، في إشارة أخرى إلى وحدة الشعور القومي الكردي المتجاوز للأحزاب والمتجاوز لحدود قسمتهم بين أربع دول.


أضافة تعليق