د. فؤاد البنا
اندلعت شرارة الربيع العربي في نهاية 2010م ، واشتعل أوارها في 2011 م في كل من تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، ووصلت رياحها إلى سائر البلدان العربية بنسب متفاوتة، وكانت مفاجأة الغرب كبيرة جداً من انفجار الشعوب العربية المكبوتة بهذه الطريقة، التي جمعت بين الاتساع الأفقي الذي شمل سائر التيارات وبين العمق الرأسي الذي شمل جميع الطبقات، مع انضباط شديد في شتى الفعاليات، مما رفع من أسهم الشعوب العربية وحسّن صورتها لدى الجماهير الغربية، لكن النُّخَب اليمينية المتطرفة واللوبيات الصهيونية لم يَرُقْها ذلك، فكان أن حافظت على رباطة جأشها، وقامت بمُسائلة أجهزة استخباراتها عن عدم قدرتها على التنبوء بما حدث، رغم إمكاناتها الضخمة التي مكّنتها من تشريح الجسم الإسلامي والتغلغل في مفاصل الحياة، ورغم علاقاتها الوثيقة مع الأجهزة الأمنية في أنظمة تلك البلدان العربية!
▪ولما كان الغربيون أسرع الناس يقظة بعد غفلة وأشدّهم كَرّة بعد فرّة، كما قال عمرو بن العاص منذ زمن طويل، ولأن الأنظمة الاستعمارية تقوم استراتيجيتها مع البلدان الإسلامية على مُسلّمة مفادها أن ضفتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية طرفا نقيض وأنهما مثل كفتي الميزان؛ فقد اعتقد هؤلاء أن الربيع العربي سيضع في كفّة العرب على المدى البعيد حريةً وعدالةً ووحدةً وقيَماً حضارية عديدة، وأن هذه القيم ستُخصم بالضرورة من رصيد أوروبا أو ستؤثّر سلباً على كفّة الغرب، ولهذا فقد ذهبوا بكل ما أوتوا من خبث ودهاء إلى إيقاد جمور الحقد التي كانت تتسعر تحت الرماد في قلوب قادة الدول العميقة في بلداننا، وقاموا بطرائقهم الشيطانية بإشعالها في كل ما تمتلك تلك البلدان من قدرات بشرية ومادية وبُنية تحتية، حيث اندلعت الحروب في سوريا، وليبيا، واليمن، وكادت أن تستعر في تونس ومصر لولا أن الدولة العميقة هناك استعادت أزِمّة السلطة بدون مقاومة، ومن بضع سنوات ما زالت الحرب تشتعل وتتسع لتحرق الأخضر واليابس، ومع اتضاح إجرام الدول العميقة والنخب المتغوّلة على حقوق الشعوب في سوريا ، وليبيا، واليمن، إلا أنها أضعف من مقاومة إرادة الشعوب، ولذلك وجدناها تتكئ على ركن شديد وهو الغرب الذي خان كل ما يدّعيه من قيم ديمقراطية ومن حقوق إنسان، حيث أمدّ هذه النظم بأسباب البقاء، وعمل بكل ما أوتي من قوة من أجل إطالة أمد الحرب إلى أقصى مدى ممكن.
فما هي يا ترى مصلحة الغرب في إطالة أمد الحروب في هذه البلدان العربية؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة، ويبدو لي أن أهم الأهداف من وراء ذلك هي:
1- حَصْد أكبر عدد ممكن من أحرار العرب:
إن قيمة أي أمة تُقدَّر بما تمتلك من أحرار يملكون الاستعداد لأن يَفدوا أوطانهم بأنفسهم، وقد أبرز الربيع العربي وجودَ عددٍ مقدّر من هؤلاء. ورغم عدم وجود أرقام دقيقة عن أعداد الضحايا من الشهداء والجرحى والمشردين وغيرهم ممن لَفَحتهم هذه الحروب بنارها، إلا أن الضحايا فوق كل تصور، وعلى سبيل المثال فقد ذكرت مصادر عديدة أن عدد الشهداء في سوريا وحدها تجاوز مليون شهيد، وأضعافهم من الجرحى والمُشوّهين، أما عدد المشردين فقد وصل إلى ثمانية مليون سوري أي أن ثلث الشعب السوري صاروا في المنافي والمَهاجر وفي مخيمات الضياع يَتجرّعون الآلام ويَقتاتون الآمال!
ورغم أن الحروب في الدول الثلاث ذات منشأ داخلي، إلا أنها تُسيَّر عن بُعد من ذات القوى الدولية المتنفذة عبر وكلائها الإقليميين، وهي التي ترسم الاستراتيجيات والخُطط للمُنفذين المحليين، فإن هذه الحروب تركز على أجساد الصناديد الأحرار ولا سيما من أبناء الحركات الإسلامية الذين قادوا ثورات الحرية وشكّلوا الكتلة الصلبة لها، ولَوّنوا بدمائهم القانية وُرُودَ الربيع العربي المنشود.
وعلى سبيل المثال فقد أعلن حزب الإصلاح اليمني في بداية مارس 2018 أن شهداءه وحده قد وصلوا إلى اثني عشر ألفاً، هذا من حيث الكَمّ أما من حيث الكيف فإن أغلبهم من صفوة المجتمع اليمني، حيث يوجد فيهم أساتذة الجامعات والمدارس والمعاهد العليا، والأطباء والمهندسون والحقوقيون ورجال الأعمال والدعاة والإعلاميون، بجانب طلاب الجامعات وهم الرصيد الذي يدلف به اليمن نحو المستقبل، ووصل عدد جرحى حزب الإصلاح إلى ثلاثين ألف جريح، وما يزيد عن عشرة ألف من السجناء والمختطفين الذين تعرضوا لشتى صور التعذيب والانتهاك، حتى أن منهم من فقَد عقله تحت التعذيب أو فقَد حياته أو أصيب بالشلل والعاهات المستديمة، هذا بجانب عشرات الآلاف من النازحين في الداخل والمشردين في الخارج الذين ضاقت بهم الأرض وعانوا مرارات الذل والفاقة في كثير من البلدان، أما الذين فقدوا وظائفهم وأعمالهم وصاروا يهيمون على وجوههم بلا مرتبات فحدِّثْ عنهم ولا حرج، وهذا في إطار حركة إسلامية واحدة وفي بلد واحد، فكيف بسائر الحركات وسائر البلدان التي تدور فيها رحى هذه الحرب اللعينة؟!
وتزداد المأساة عندما نعلم أن الاغتيالات التي تحدث بسبب فوضى الحرب لا تستقصد إلا الوسطيين من ذوي العقول الناضجة والحضور الإيجابي الفاعل، حيث يدرك من يتربصون بالأمة الدوائر أن هؤلاء هم الرصيد الحقيقي لأمتهم، ولذلك فإن كل طرق الموت تصل إليهم بما فيها الحوادث المرورية!!
2- ازدهار الاقتصاديات الغربية ولاسيما صناعة الأسلحة:
من المعلوم أن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية كان يعاني قبل بضع سنوات من أزمة خانقة، حيث ارتفعت نسبة العجز بصورة غير مسبوقة، وحققت البطالة أرقاما قياسية، لكن أمريكا تعيش اليوم طفرة اقتصادي ورفاها كبيراً، وبالطبع فإن هناك أسبابا عديدة لهذا الانفراج، ولكن لا يمكن تجاهل ما يحدث في البلدان العربية، حيث أصبح النفط يباع بأسعار متدنية، وكل الدول ذات العلاقة بهذه المَحرقة وقّعت عقودا تسليحية واقتصادية بأرقام فلكية، فالمملكة السعودية وقّعت عقودا مع أمريكا بمبلغ زاد عن 450 مليار دولار عند زيارة الرئيس الأمريكي ترامب لها، وهذا غير العقود التي وقّعها ولي العهد السعودي عند زيارته لأمريكا الأسبوع الماضي وهي بمئات المليارات، وبعد ذلك فإن دونالد ترامب يعلن بأن القوات الأمريكية ستغادر سوريا، وإذا أرادت السعودية بقاءها فلتقم بدفع الأموال، هكذا في وضح النهار وبدون أي مواربة، ووقّعت السعودية عقودا تسليحية مع بريطانيا بستين مليار جنيه استرليني، وفعلت مثل ذلك مع روسيا ومع فرنسا ودول أخرى، وللإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين عقودها وصفقاتها الأخرى، أما الدول التي تجري المحارق في أراضيها فقد صارت لقمة سائغة للاعبين فيها ومن يقف خلفهم من وراء الحدود، ولو أخذنا سوريا كمثال سنجد أن بشار الأسد قد رهن جزءا كبيرا من مقدرات البلد لعقود عديدة لصالح روسيا التي سلّطت أسلحتها الحديثة التي لم يتم تجريبها في قتل مئات الآلاف من السوريين، وتخوض إيران نزاعاً مكتوماً مع روسيا على القصعة السورية، حيث أعلن بعض مسؤوليها أن على الأسد أن يدفع فاتورة بقائه على سدة الرئاسة، وأن يعوض الإيرانيين عن تضحياتهم بتوقيع عقود طويلة الأمد لاستغلال ثروات الشعب السوري بتسهيلات تفضيلية، أما أمريكا فقد انحصر تدخلها العسكري تحت ما سمّته بالتحالف الدولي في المناطق النفطية في سوريا والعراق حيث تسيطر قواتها على أهم منابع النفط التي دعا كيسنجر لاحتلالها منذ 1974عندما تم إنشاء قوات التدخل السريع لهذا الغرض بعد قيام الدول العربية بقطع النفط عن الدول التي دعمت إسرائيل في حروبها ضد العرب، حتى أن أحد صُنّاع الاستراتيجية الأمريكية قال آنئذٍ: إنه يجب على أمريكا احتلال منابع النفط العربية وتصحيح ما سماه ب(الخطأ الإلهي) الذي أعطى هذه الثروة لمن لا يستحقونها!
وفي هذا الإطار تقوم الدول الغربية بتجربة أسلحتها الجديدة التي لم تُمتحن في أي حرب، كما حدث من قبل روسيا التي أعلنت لشعبها، وهي تبرر له مشاركتها في هذه الحرب أنها ليست بصدد الدفاع عن الأسد وإنما ستكسب الكثير من الفوائد، ومن ضمن ذلك تجريب أحدث الأسلحة في ترسانتها الحربية، حيث دفعت بصواريخ طويلة المدى وطائرات جديدة للمشاركة في الحرب ضد ثورة الشعب السوري الأعزل.
3-إعادة تقسيم خارطة المنطقة:
كانت المنطقة العربية الواحدة قد تم تمزيقها قبل مائة سنة في اتفاقية سايكس بيكو إلى عدد من البلدان التي لا تمتلك معظمها مقومات الدولة التي تمكنها من الحافظة على استقلالها، حيث توجد دول بأراض واسعة وثروات ضخمة بدون سكان مناسبين مثل ليبيا ودول الخليج، ودول تمتلك عددا كبيرا من السكان بدون ثروات طبيعية مقدرة مثل مصر، وتوجد دول صغيرة لا تمتلك أدنى مقومات الدول مثل البحرين، ولكن بعد قرن من الزمن اتضح للغرب أن بعض الدول تمتلك مقومات النهوض حيث يوجد قدر من التناسب بين العدد السكاني وبين المساحة، وكذا بين التأريخ والجغرافيا، وفي مقدمة هذه الدول: العراق، السعودية، مصر، الجزائر، سوريا، السودان، المغرب، اليمن، بجانب تركيا هذه الدولة الصاعدة بقوة بما تمتلك من مقومات النهوض المادية والمعنوية، ولذلك يسعى من يرى في هذه البلدان خطراً تأريخياً عليه إلى تفجير القنابل الموقوتة فيها، وهي القنبلة الدينية والقنبلة الطائفية والقنبلة العرقية والقنبلة الحدودية، وذلك من أجل تمزيق المنطقة بتقسيم المقسم إلى كيانات أصغر يصعب اعتمادها على ذاتها وتظل مستندة دائماً إلى الحماية الغربية، كما يحدث بالنسبة للقنبلة الكردية مثلاً في العراق وسوريا وتركيا وإيران التي يحاول الغرب تفجيرها في وجه هذه الدول الأربع وإنزال أكبر قدر من الخسائر فيها إن لم ينجح مشروع التجزيئ والتقسيم.
وشهد المواطنون الذين خرجوا للمطالبة بالحرية في اليمن وسوريا وليبيا أياماً سُوداً وعاشوا سنوات عجافاً، حيث فقدوا مئات الآلاف من أقاربهم ومعارفهم، وظهر أمثالهم من الجرحى والمشوهين، ونتج عن هذا الجنون أضعاف هؤلاء من النازحين والمشردين، وفقد الملايين وظائفهم ومدخراتهم، وتم تدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية، وانعدم الأمن وحلّت الفوضى ونشطت العصابات والمليشيات، وتعرضت كل هذه البلدان لأخطار الانقسام الحقيقي، فاليمن مهدد بالانقسام إلى شطرين على الأقل، مع وجود قابليات التشظي في كل شطر إلى أجزاء أصغر، حيث تتأهب حضرموت مثلاً للانفصال لو نجح انفصال الجنوب عن الشمال، وسوريا تواجه خطر الانقسام إلى ثلاث دويلات كردية ونُصيرية (علوية) وسُنّية، وليبيا تكاد أن تكون شطرين منفصلين بالفعل في الشرق والغرب، كما انقسم اليمن بالفعل إلى شمال وجنوب!
ولو نجحت خطة تقسيم هذه البلدان فإن الأقليات الطائفية والعرقية في كل بلد جاهزة للانفجار بفعل تسيّد الفكر المتخلف وقوة التدخلات الخارجية العابرة للحدود، فالقنبلة الشيعية جاهزة للانفجار في السعودية، وكذا السُّنية في العراق، والأمازيغية في الجزائر والمغرب، والزنجية في موريتانيا، ويواجه السودان مخاطر انقسام عرقي عديدة حتى بعد انفصال الزنوج في الجنوب، حيث يتطلع للانفصال عن الوطن الأم الفُوريون في الغرب والنُّوبيون في الشمال والبِجَه في الشرق، أما لبنان فهو منقسم بالفعل تحت قشرة الدولة المدعومة من جهات عديدة لتمنع الانفجار!
4- تصفية القضية الفلسطينية والتمكين للكيان الدولي:
بعد أن اندلع الربيع العربي عاشت إسرائيل في رعب حقيقي، حتى أن مصر التي كبّلها الغرب والصهاينة باتفاقات خنوع وبأوضاع لا تسمح لها باستنشاق عبير الكرامة لزمن طويل، كانت تتململ بقوة وتعمل بقوة من أجل التخلص من أغلالها، واحتضنت حركات المقاومة وأوقفت إجراءات التطبيع على الأرض وإن لم تعلن ذلك رسميا، ودفعت جيشها للدخول إلى سيناء بأعداد وأسلحة لا تسمح لها اتفاقية كامب ديفيد بها!
وبعد الثورات المضادة وعودة الكيانات الموازية والدُّوَل العميقة إلى سدة الحكم؛ تنفست إسرائيل الصُّعداء وتم إعادة الحصار على حركات المقاومة بصورة فاقت ما كان موجودا وتم هدم الأنفاق التي تتنفس غزة من خلالها، وتم تشديد الحصار على الشعب بكله حتى يندفع للثورة على المقاومة في غزة.
وبدأت دول عديدة تتحدث عن التطبيع أمام الأضواء بعد أن كانت تفعل ذلك في الظلام ومن خلف الكواليس، وبدأ الحديث الجدي عما يسمونها بصفقة القرن، وذلك بتصفية القضية الفلسطينية وتخليص إسرائيل من الكتلة السكانية الفلسطينية، عبر إسكانهم في سيناء مقابل بعض الأموال وصكوك بالبقاء لهذه الأنظمة التي تخاف من ثورة شعوبها المقهورة عليها، وتصاعدت وتيرة بناء المستوطنات في الضفة الغربية بصورة محمومة منقطعة النظير، وتم تنجيس المسجد الأقصى بأقدام الصهاينة مع تقييد حركة الفلسطينيين داخله في المقابل، وتمّ تصعيد عملية الحفريات تحت الأقصى وتجفيف منابع الفلسطينيين في القدس، واتباع أساليب الأنظمة العربية في قتل الفلسطينيين بدون محاكمات وتهجيرهم بدون جرائر، ومصادرة بيوتهم وأموالهم بدون أي وجه حق!
5- محاولة القضاء على النموذج التركي الناهض:
ولأهمية هذا العامل وطول الكلام حوله فسنُفرد له المقالة القادمة بإذن الله تعالى.
(*)مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
رئيس منتدى الفكر الإسلامي،أستاذ العلوم السياسية جامعة تعز.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه و لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع.