حينما غربت شمس الحضارة عن عالمنا الإسلامي في العصر الحديث، فقد أشرقت في سماء الغرب، وعندما غرق المسلمون في ظلمات التخلف تأسست فيهم قابلية عميقة للتدخلات الغربية التي زادتهم وهناً على وهن، ومن رحم التزاوج بين الآفات الداخلية والغزوات الخارجية ولدت المصائب الكبرى، وفي مقدمتها تقسيم الأمة الواحدة إلى مستعمرات مستباحة بين كبار الغزاة الغربيين، وجاءت اتفاقية سايكس بيكو سنة ١٩١٦م لتعمد هذه الاستباحة وتحدد نصيب كل بلد من الكعكة الإسلامية (القصعة في الحديث الشريف)، وبعد عقود طويلة من بث الثقافة القطرية وترسيخ أواصرها الضيقة خرج المحتلون من بلداننا بأسلحتهم العسكرية وتركوا آفاتهم الثقافية تعمل في بيئة خصبة بجانب أنهم أبقوا لها حراساً أقوياء من أبناء جلدتنا، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا قد زرعوا قنابل موقوتة في أعماق وعينا الجمعي: طائفية وعرقية وجهوية وحدودية؛ حتى يمنعوا عودة المسلمين إلى الاجتماع تحت راية الأمة الواحدة.
وبشأن القنبلة الحدودية حرص الغزاة على أن يخلقوا بلدانا صغيرة في خواصر البلدان الكبيرة، وأخذوا قطعة من هذا البلد ملحقين إياها ببلد آخر؛ حتى تبقى الحزازات والأحقاد تسكن القلوب وتمنع تطبيع العلاقات وتوثيق العرى بين الأشقاء، وحينما يغضبون على بلد ما أو لا يرضون عن نظامه السياسي أو يشعرون بأنه يكبر أكثر من اللازم؛ فإنهم يقومون عبر وسائل شتى بتفجير تلك القنبلة الموقوتة؛ كما فعلوا في الحرب التي التهمت قرابة مليوني إنسان بين العراق وإيران وأنتجت ملايين المعوقين وأحرقت مئات المليارات من الدولارات طيلة ٨ سنوات من الحرب التي أهلكت الحرث والنسل وأحرقت الأخضر واليابس!
وهذه القنبلة الحدودية نفسها هي التي جعلت علاقات كثير من البلدان الشقيقة في دينها وأنسابها والمتجاورة في جغرافيتها وتأريخها، علاقة عداوة مستحكمة كعلاقة القط والفأر، ولنتأمل على سبيل المثال ما حدث طيلة العقود الأخيرة كيف كانت علاقة تركيا بكل من سوريا والعراق، وعلاقة الجزائر بالمغرب، وعلاقة السودان بمصر!
وسقطت في هذه الهوة السحيقة كافة التيارات السياسية من ليبرالية وقومية ويسارية، حيث عض أبناؤها بالنواجذ على مقتضيات سايكس بيكو، وبقيت التيارات الإسلامية طيلة عقود تقاوم هذه التقسيمات وتعمل على تجفيف منابعها العفنة ومعالجة أعراضها الضارة بقدر الإمكان!
وكان مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة حسن البنا حكيما بجمعه بين المثالية التي لا تفرط بوحدة الأمة على المستوى الفكري، وبين الواقعية التي لا تتجاهل حقائق الواقع في ممارساته العملية، فقد كان يرى أنه مصري ضمن الدائرة العروبية، وعربي ضمن الدائرة الإسلامية، مؤكدا أنه لا تعارض بين الدوائر الثلاث، وبالمناسبة هذا الفكر هو نفس ما كان يؤمن به الشيخ عبدالحميد بن باديس مؤسس وزعيم جمعية علماء الجزائر، وكان البنا حكيما في حديثه عن الوحدة التدريجية للأمة؛ فقد كان يدعو لوحدة وادي النيل، لكن السودانيين كانوا حساسين إزاء هذا الأمر بسبب موروثات الاستعمار البريطاني وممارسات ما سمي بالاستعمار الثنائي (البريطاني - المصري) للسودان، ولا سيما أن الأحزاب المصرية كانت تطالب في برامجها الحزبية بعودة السودان إلى حضن مصر وتصوره بما يشبه بيت الطاعة؛ فقام حسن البنا في أحد مؤتمرات حركته بإزالة الشبهة التي أثيرت ضده وإطفاء جذوة الفتنة قبل أن تصبح نارا مشتعلة، فقال في كلام معناه: ليس هناك حقوق لمصر في السودان، ولكن مصر هي السودان الشمالي والسودان هي مصر الجنوبية، وكلاهما شطرا وادي النيل الذي يتساوى جميع أبنائه في الحقوق والواجبات!
وكان المكر الغربي المبني على خبرات تأريخية وجغرافية، ومسلح بمعطبات علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس، كان يواصل مسلسل تجزيئ الأمة وإسقاط حصونها واحدا بعد الآخر، بدعم تام من أغلب الأنظمة الوظيفية التي أنتجتها اتفاقية سايكس بيكو في منطقتنا، وبعد ثورات الربيع العربي تم التسريع في عملية إعادة حرث الأرض العربية، وتم إيجاد واستثمار عدد من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة والمعقدة، من أجل الضغط على بعض الحركات الإسلامية أو بعض رموزها القيادية للانخراط التدريجي في ثقافة القطيع القطري؛ حتى بدا للمتفحص في أحداث السنوات الأخيرة كأن كل حركة تبحث عن خلاصها الذاتي وخلاص وطنها بمعزل عن الخلاص العام للأمة!
هذا الشعور هو الذي دفع الإسلاميين في الجزائر والمغرب، على سبيل المثال، للتخندق مع نظامي بلديهما رغم أن كليهما مخطئ بالمقياس الإسلامي، فالنظام الجزائري مخطئ في دعم شرذمة البوليساريو التي تريد الانفصال بجزء عزيز من أرض شقيقه المغربي، والنظام المغربي مخطئ في الارتماء بأحضان الغرب والتماهي مع دعوات التطبيع مع الصهاينة، معتقدا أنه بذلك يحافظ على الصحراء المغربية ويحقق نقطة تفوق على الجزائر التي تمتلك ما لم يمتلكه وهو النفط والغاز بجانب المساحة الأكبر!
وحتى يبرر الإسلاميون في البلدين لأنفسهم هذا التخندق مع نظاميهما في موقفيهما الخاطئين، فقد نظر كل طرف إلى ما هو إيجابي في نظام بلده مختزلاً القضية كلها في تلك الزاوية، فالإسلاميون الجزائريون نظروا إلى نظامهم من زاوية أنه غير سلالي ومنتخب، ولو شكليا، وأنه واقف مع القضية المحورية للأمة الإسلامية (فلسطين) في ظل الخذلان الكبير لها والتآمر عليها وأنه ضد التطبيع، ونظر إسلاميو المغرب إلى نظامهم الحاكم من زاوية أنه نظام مدني ويتدثر بالشعارات الدينية ويبني المساجد في المغرب وإفريقيا وأنه يحافظ على مقصد من مقاصد الدين وهو الوحدة بمحافظته على الصحراء!
وبالطبع فقد حصل هذا الأمر في المرحلة الوسطى من مراحل مواقف الإسلاميين في البلدين من الخلافات بين بلديهما، حينما حدث التعادل بين الفكر الوحدوي الإسلامي الأصيل وبين الثقافة الوطنية الانفصالية الدخيلة، ولهذا فقد كانوا يتخفون في اختلافهم مع بعضهم خلف نظامي بلديهما، فالتخفي خلف النظامين كان حياء من الفكر الأصيل الذي يسكنهم أما التخندق فمن الواضح أنه ثمرة الثقافة التجزيئية الدخيلة التي كرستها سايكس بيكو طيلة عشرة عقود ونصف من الزمن!
ويبدو أن إسلاميي الجزائر والمغرب قد دخلوا مرحلة ثالثة في الفترة الأخيرة، فقد أمسى الخلاف بين الطرفين مباشرا وأبعد عن الإعذار المتبادل ويحمل في طياته شيئا من الاتهام حتى في النوايا ولا يخلو من شيطنة للآخر عند صقور الطرفين، ويبدو أنه قد وصل إلى ذروته حينما ظهر العلّامة المغربي د. أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في مقابلة تليفزيونية وهو يتكلم عن أن الصحراء، المتنازع عليها بين بلاده والبوليساريو المدعومة من الجزائر، لا نقاش حول مغربيتها وفقا للوثائق التاريخية، بل إن ما تسمى الآن بجمهورية موريتانيا هي مغربية وفي أعناق أهلها بيعة شرعية لأمير المؤمنين في المغرب، مؤكدا أن ما تفعله الجزائر بدعمها لجبهة البوليساريو بالمال والسلاح واحتضان قياداتها في إحدى المدن الجزائرية القريبة من الحدود مع المغرب، إنما هو خطيئة كبيرة، وأن أمير المؤمنين (ملك المغرب) لو دعا الشعب المغربي للزحف السلمي على مقرات جبهة البوليساريو داخل الأراضي الجزائرية فلن يتأخر أحد!
ورد بعض إسلاميي الجزائر على كلام د. الريسوني وفق المنهج الانفعالي عند عرب الجاهلية والذي يقول:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا!
فتم شن الغارة عليه من قبل كثيرين، وأوسع بعضهم د. الريسوني سبا وشتماً بطريقة غريبة لا تليق بمقاماتهم ولا بقيم الأخوة فضلا عن قيم العلم ومقامات العلماء، ولم تتأخر جمعية علماء الجزائر عن الحملة، فقد أصدرت بيانا ملتهبا وذهبت إلى حد إعلان انسحابها من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لأن الريسوني رئيسه، مع أنه قال ما قال بوصفه مواطنا مغربيا لا رئيسا للاتحاد، بغض النظر عن مدى صواب ما قال أو خطئه، ولم تخلُ الردود الفردية لبعض علماء المغرب على علماء الجزائر من ردود فعل واتهامات، وظلت الحملة المتبادلة بين الطرفين تكبر مثل كرة الثلج، ودخل بجانب علماء الجزائر بعض علماء موريتانيا، من ذات الزاوية القطرية التي أحدثتها سايكس بيكو، حتى اضطر الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للتبرؤ من كلام الريسوني بل وطلب منه البعض الاستقالة، وبالفعل قدم استقالته من رئاسة الاتحاد، وبعد أسبوع من تقديم الاستقالة لم تتوقف التداعيات فأعلن، أي الريسوني، انسحابه من عضوية الاتحاد نهائيا!
وزاد المكر الغربي بالحركات الإسلامية خبثا وأبلسةً ليغلق كل المخارج عليها، بحيث لا يظهر أمامها إلا مخرج واحد، وهذا المخرج لا بد أن يتم على حساب حركة أو حركات وأوطان أخرى شقيقة، كما فعلوا مع حركة حماس بالتنسيق مع أنظمة الانبطاح السنّية وأنظمة الأبلسة الشيعية، فقد ضيقوا الخناق على حماس وشنوا عليها الحرب من كل الاتجاهات، حتى اضطروها للقبول بالمساعدات الإيرانية التي بدأت من دون شروط تحت شعارات المقاومة والممانعة، ومع ازدياد الضغوط على حماس واتساع الحاجة صارت هذه المساعدات مشروطة، كما يظهر من قرائن عديدة، ومن أهمها بروز تصريحات من قبل بعض قادة الحركة فيها ثناء على إيران وميليشياتها في المنطقة: الحوثيين في اليمن وحسن نصر الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، وقبل ذلك نظام بشار الأسد في سوريا الذي يعاد تسويقه ودمجه في المنطقة وضُغط على حماس من قبل إيران حتى تعيد العلاقة معه بعد قطيعة استمرت سنوات نتيجة جرائمه الفظيعة في حق الشعب السوري المثخن بالجراح!
ولم يكن وقع هذا الامر سهلا على الإسلاميين في سوريا ولبنان واليمن والعراق، وتوضح ردود بعضهم بأنهم يحسون وكأن حماس صارت تقتات من لحوم شعوبهم التي تمزقها آلة الحرب الإيرانية وتوابعها!
وقريب من هذا الأمر ما حدث من حصار للتجمع اليمني للإصلاح من كل الاتجاهات، ودفعه تحت مشاعر الاضطرار للوقوف بجانب السعودية والإمارات رغم ما فعلتاه وتفعلانه بالإسلاميين في مصر وليبيا والسودان وغيرها، ورغم أنه حدد دعمه لموقفهما من الانقلاب الحوثي في اليمن ولم يثنِ على موقفهما في أي بلد خارج اليمن إلا أن إسلاميين في مصر وغيرها ممن نالتهم أذية البلدين يشعرون بالمرارة بلا شك!
وفي ذات الدرب الشائك، ونتيجة ما يتعرض له الاقتصاد التركي من ضغوطات وتراجعات، فقد بدت الحكومة التركية التي يقودها الاسلاميون الأتراك، في الفترة الأخيرة وكأنها تبحث عن خلاص بلدها ولو على حساب قضايا شعوب أخرى، فقد أعادت سفارتها في (إسرائيل)، وفاوضت نظامي بشار الأسد والسيسي لإعادة العلاقات مع بلديهما، وقبل ذلك قامت بمغازلة النظامين الإماراتي والسعودي واستدعت حاكميهما لزيارة أنقرة وتم استقبالهما بصورة أثارت حفائظ كثير من الإسلاميين !
وبعد إبراز هذه النماذج نتساءل بكل ألم وخوف: هل تعد هذه المواقف براهين كافية للتدليل على أن الإسلاميين قد سقطوا مثل بقية القوى العربية في دوامة سايكس بيكو وانخرطوا في منظومتها وصاروا جزءا من القطيع الذي صنع ويصنع غثائية الأمة؟!
أم أن الإكراهات الداخلية والخارجية قد اضطرتها للأكل من لحم الخنزير والتلفظ بعبارة التفرقة الكفرية بينما قلوبها ما تزال مطمئنة بالإيمان أن الأمة جسد واحد ولا يمكن القبول بتجزئته بأي حال من الأحوال؟!
وبشأن القنبلة الحدودية حرص الغزاة على أن يخلقوا بلدانا صغيرة في خواصر البلدان الكبيرة، وأخذوا قطعة من هذا البلد ملحقين إياها ببلد آخر؛ حتى تبقى الحزازات والأحقاد تسكن القلوب وتمنع تطبيع العلاقات وتوثيق العرى بين الأشقاء، وحينما يغضبون على بلد ما أو لا يرضون عن نظامه السياسي أو يشعرون بأنه يكبر أكثر من اللازم؛ فإنهم يقومون عبر وسائل شتى بتفجير تلك القنبلة الموقوتة؛ كما فعلوا في الحرب التي التهمت قرابة مليوني إنسان بين العراق وإيران وأنتجت ملايين المعوقين وأحرقت مئات المليارات من الدولارات طيلة ٨ سنوات من الحرب التي أهلكت الحرث والنسل وأحرقت الأخضر واليابس!
وهذه القنبلة الحدودية نفسها هي التي جعلت علاقات كثير من البلدان الشقيقة في دينها وأنسابها والمتجاورة في جغرافيتها وتأريخها، علاقة عداوة مستحكمة كعلاقة القط والفأر، ولنتأمل على سبيل المثال ما حدث طيلة العقود الأخيرة كيف كانت علاقة تركيا بكل من سوريا والعراق، وعلاقة الجزائر بالمغرب، وعلاقة السودان بمصر!
وسقطت في هذه الهوة السحيقة كافة التيارات السياسية من ليبرالية وقومية ويسارية، حيث عض أبناؤها بالنواجذ على مقتضيات سايكس بيكو، وبقيت التيارات الإسلامية طيلة عقود تقاوم هذه التقسيمات وتعمل على تجفيف منابعها العفنة ومعالجة أعراضها الضارة بقدر الإمكان!
وكان مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة حسن البنا حكيما بجمعه بين المثالية التي لا تفرط بوحدة الأمة على المستوى الفكري، وبين الواقعية التي لا تتجاهل حقائق الواقع في ممارساته العملية، فقد كان يرى أنه مصري ضمن الدائرة العروبية، وعربي ضمن الدائرة الإسلامية، مؤكدا أنه لا تعارض بين الدوائر الثلاث، وبالمناسبة هذا الفكر هو نفس ما كان يؤمن به الشيخ عبدالحميد بن باديس مؤسس وزعيم جمعية علماء الجزائر، وكان البنا حكيما في حديثه عن الوحدة التدريجية للأمة؛ فقد كان يدعو لوحدة وادي النيل، لكن السودانيين كانوا حساسين إزاء هذا الأمر بسبب موروثات الاستعمار البريطاني وممارسات ما سمي بالاستعمار الثنائي (البريطاني - المصري) للسودان، ولا سيما أن الأحزاب المصرية كانت تطالب في برامجها الحزبية بعودة السودان إلى حضن مصر وتصوره بما يشبه بيت الطاعة؛ فقام حسن البنا في أحد مؤتمرات حركته بإزالة الشبهة التي أثيرت ضده وإطفاء جذوة الفتنة قبل أن تصبح نارا مشتعلة، فقال في كلام معناه: ليس هناك حقوق لمصر في السودان، ولكن مصر هي السودان الشمالي والسودان هي مصر الجنوبية، وكلاهما شطرا وادي النيل الذي يتساوى جميع أبنائه في الحقوق والواجبات!
وكان المكر الغربي المبني على خبرات تأريخية وجغرافية، ومسلح بمعطبات علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس، كان يواصل مسلسل تجزيئ الأمة وإسقاط حصونها واحدا بعد الآخر، بدعم تام من أغلب الأنظمة الوظيفية التي أنتجتها اتفاقية سايكس بيكو في منطقتنا، وبعد ثورات الربيع العربي تم التسريع في عملية إعادة حرث الأرض العربية، وتم إيجاد واستثمار عدد من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة والمعقدة، من أجل الضغط على بعض الحركات الإسلامية أو بعض رموزها القيادية للانخراط التدريجي في ثقافة القطيع القطري؛ حتى بدا للمتفحص في أحداث السنوات الأخيرة كأن كل حركة تبحث عن خلاصها الذاتي وخلاص وطنها بمعزل عن الخلاص العام للأمة!
هذا الشعور هو الذي دفع الإسلاميين في الجزائر والمغرب، على سبيل المثال، للتخندق مع نظامي بلديهما رغم أن كليهما مخطئ بالمقياس الإسلامي، فالنظام الجزائري مخطئ في دعم شرذمة البوليساريو التي تريد الانفصال بجزء عزيز من أرض شقيقه المغربي، والنظام المغربي مخطئ في الارتماء بأحضان الغرب والتماهي مع دعوات التطبيع مع الصهاينة، معتقدا أنه بذلك يحافظ على الصحراء المغربية ويحقق نقطة تفوق على الجزائر التي تمتلك ما لم يمتلكه وهو النفط والغاز بجانب المساحة الأكبر!
وحتى يبرر الإسلاميون في البلدين لأنفسهم هذا التخندق مع نظاميهما في موقفيهما الخاطئين، فقد نظر كل طرف إلى ما هو إيجابي في نظام بلده مختزلاً القضية كلها في تلك الزاوية، فالإسلاميون الجزائريون نظروا إلى نظامهم من زاوية أنه غير سلالي ومنتخب، ولو شكليا، وأنه واقف مع القضية المحورية للأمة الإسلامية (فلسطين) في ظل الخذلان الكبير لها والتآمر عليها وأنه ضد التطبيع، ونظر إسلاميو المغرب إلى نظامهم الحاكم من زاوية أنه نظام مدني ويتدثر بالشعارات الدينية ويبني المساجد في المغرب وإفريقيا وأنه يحافظ على مقصد من مقاصد الدين وهو الوحدة بمحافظته على الصحراء!
وبالطبع فقد حصل هذا الأمر في المرحلة الوسطى من مراحل مواقف الإسلاميين في البلدين من الخلافات بين بلديهما، حينما حدث التعادل بين الفكر الوحدوي الإسلامي الأصيل وبين الثقافة الوطنية الانفصالية الدخيلة، ولهذا فقد كانوا يتخفون في اختلافهم مع بعضهم خلف نظامي بلديهما، فالتخفي خلف النظامين كان حياء من الفكر الأصيل الذي يسكنهم أما التخندق فمن الواضح أنه ثمرة الثقافة التجزيئية الدخيلة التي كرستها سايكس بيكو طيلة عشرة عقود ونصف من الزمن!
ويبدو أن إسلاميي الجزائر والمغرب قد دخلوا مرحلة ثالثة في الفترة الأخيرة، فقد أمسى الخلاف بين الطرفين مباشرا وأبعد عن الإعذار المتبادل ويحمل في طياته شيئا من الاتهام حتى في النوايا ولا يخلو من شيطنة للآخر عند صقور الطرفين، ويبدو أنه قد وصل إلى ذروته حينما ظهر العلّامة المغربي د. أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في مقابلة تليفزيونية وهو يتكلم عن أن الصحراء، المتنازع عليها بين بلاده والبوليساريو المدعومة من الجزائر، لا نقاش حول مغربيتها وفقا للوثائق التاريخية، بل إن ما تسمى الآن بجمهورية موريتانيا هي مغربية وفي أعناق أهلها بيعة شرعية لأمير المؤمنين في المغرب، مؤكدا أن ما تفعله الجزائر بدعمها لجبهة البوليساريو بالمال والسلاح واحتضان قياداتها في إحدى المدن الجزائرية القريبة من الحدود مع المغرب، إنما هو خطيئة كبيرة، وأن أمير المؤمنين (ملك المغرب) لو دعا الشعب المغربي للزحف السلمي على مقرات جبهة البوليساريو داخل الأراضي الجزائرية فلن يتأخر أحد!
ورد بعض إسلاميي الجزائر على كلام د. الريسوني وفق المنهج الانفعالي عند عرب الجاهلية والذي يقول:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا!
فتم شن الغارة عليه من قبل كثيرين، وأوسع بعضهم د. الريسوني سبا وشتماً بطريقة غريبة لا تليق بمقاماتهم ولا بقيم الأخوة فضلا عن قيم العلم ومقامات العلماء، ولم تتأخر جمعية علماء الجزائر عن الحملة، فقد أصدرت بيانا ملتهبا وذهبت إلى حد إعلان انسحابها من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لأن الريسوني رئيسه، مع أنه قال ما قال بوصفه مواطنا مغربيا لا رئيسا للاتحاد، بغض النظر عن مدى صواب ما قال أو خطئه، ولم تخلُ الردود الفردية لبعض علماء المغرب على علماء الجزائر من ردود فعل واتهامات، وظلت الحملة المتبادلة بين الطرفين تكبر مثل كرة الثلج، ودخل بجانب علماء الجزائر بعض علماء موريتانيا، من ذات الزاوية القطرية التي أحدثتها سايكس بيكو، حتى اضطر الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للتبرؤ من كلام الريسوني بل وطلب منه البعض الاستقالة، وبالفعل قدم استقالته من رئاسة الاتحاد، وبعد أسبوع من تقديم الاستقالة لم تتوقف التداعيات فأعلن، أي الريسوني، انسحابه من عضوية الاتحاد نهائيا!
وزاد المكر الغربي بالحركات الإسلامية خبثا وأبلسةً ليغلق كل المخارج عليها، بحيث لا يظهر أمامها إلا مخرج واحد، وهذا المخرج لا بد أن يتم على حساب حركة أو حركات وأوطان أخرى شقيقة، كما فعلوا مع حركة حماس بالتنسيق مع أنظمة الانبطاح السنّية وأنظمة الأبلسة الشيعية، فقد ضيقوا الخناق على حماس وشنوا عليها الحرب من كل الاتجاهات، حتى اضطروها للقبول بالمساعدات الإيرانية التي بدأت من دون شروط تحت شعارات المقاومة والممانعة، ومع ازدياد الضغوط على حماس واتساع الحاجة صارت هذه المساعدات مشروطة، كما يظهر من قرائن عديدة، ومن أهمها بروز تصريحات من قبل بعض قادة الحركة فيها ثناء على إيران وميليشياتها في المنطقة: الحوثيين في اليمن وحسن نصر الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، وقبل ذلك نظام بشار الأسد في سوريا الذي يعاد تسويقه ودمجه في المنطقة وضُغط على حماس من قبل إيران حتى تعيد العلاقة معه بعد قطيعة استمرت سنوات نتيجة جرائمه الفظيعة في حق الشعب السوري المثخن بالجراح!
ولم يكن وقع هذا الامر سهلا على الإسلاميين في سوريا ولبنان واليمن والعراق، وتوضح ردود بعضهم بأنهم يحسون وكأن حماس صارت تقتات من لحوم شعوبهم التي تمزقها آلة الحرب الإيرانية وتوابعها!
وقريب من هذا الأمر ما حدث من حصار للتجمع اليمني للإصلاح من كل الاتجاهات، ودفعه تحت مشاعر الاضطرار للوقوف بجانب السعودية والإمارات رغم ما فعلتاه وتفعلانه بالإسلاميين في مصر وليبيا والسودان وغيرها، ورغم أنه حدد دعمه لموقفهما من الانقلاب الحوثي في اليمن ولم يثنِ على موقفهما في أي بلد خارج اليمن إلا أن إسلاميين في مصر وغيرها ممن نالتهم أذية البلدين يشعرون بالمرارة بلا شك!
وفي ذات الدرب الشائك، ونتيجة ما يتعرض له الاقتصاد التركي من ضغوطات وتراجعات، فقد بدت الحكومة التركية التي يقودها الاسلاميون الأتراك، في الفترة الأخيرة وكأنها تبحث عن خلاص بلدها ولو على حساب قضايا شعوب أخرى، فقد أعادت سفارتها في (إسرائيل)، وفاوضت نظامي بشار الأسد والسيسي لإعادة العلاقات مع بلديهما، وقبل ذلك قامت بمغازلة النظامين الإماراتي والسعودي واستدعت حاكميهما لزيارة أنقرة وتم استقبالهما بصورة أثارت حفائظ كثير من الإسلاميين !
وبعد إبراز هذه النماذج نتساءل بكل ألم وخوف: هل تعد هذه المواقف براهين كافية للتدليل على أن الإسلاميين قد سقطوا مثل بقية القوى العربية في دوامة سايكس بيكو وانخرطوا في منظومتها وصاروا جزءا من القطيع الذي صنع ويصنع غثائية الأمة؟!
أم أن الإكراهات الداخلية والخارجية قد اضطرتها للأكل من لحم الخنزير والتلفظ بعبارة التفرقة الكفرية بينما قلوبها ما تزال مطمئنة بالإيمان أن الأمة جسد واحد ولا يمكن القبول بتجزئته بأي حال من الأحوال؟!