رياض بن ناصر الفريجي
كلنا يدرك قيمة العمل الخيري، ودوره فِي رفع المعاناة عن كاهل جزء كبير فِي مجتمعنا، وأثره فِي صناعة عالم أفضل.
ونحن على يقين أن هذا الأثر الخيري مَا كان ليصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ لولا الإعلام الذي رافقه وقام بدور كبير للتعريف به وبما يقدِّم للمجتمع والأمة والعالم.
ومع تعاظم دور العمل الخيري، وكبر حجمه، وتوسع مساحته؛ كان لزاماً أن يكبر حجم الإعلام الخيري ويتعاظم دوره.
وكي يتحقق ذلك وجب أن يتم بدايةً تأصيل مفهوم الإعلام الخيري، وتحديد منطلقاته.
الإعلام الخيري.. نظرة على الواقع:
مر العمل الخيري على مدى تاريخه الذي بلغ عشرات السنين بمراحل كثيرة؛ بَدْءاً من اعْتِمَاده على الأشْخَاص والعمل الفردي، مُرُوراً بكيانات صغيرة تلتمس طريقها فِي هذا العالم، وُصُولاً إِلَى كيانات ضخمة تعتمد العمل المؤسسي، وتنتشر فِي أصقاع العالم، وتمتلك ميزانيات بأرقام مذهلة، وتمتلك رصيد خبرةٍ ضخماً وكبيراً.
تشير الإحصائيات إِلَى أن عدد المؤسسات العَرَبِيّة والإسلامية المعتبرة التي تقوم بالأَعْمَال الخَيْرِيَّة قد تجاوز الخمسمائة مُؤَسَّسَة، وتقوم بأَعْمَال خَيْرِيَّة فِي أكثر من أربعين دولة حول العالم، ويتجاوز مَا تنفقه فِي هذه الأَعْمَال سَنَوِيّاً المائتي مليون دولار.
وبالرغم مِمَّا سبق؛ فإن كيانات العمل الخيري مَا زالت تُعَانِي من عدد من المشكلات التي لا يمكن غض الطرف عنها بحال؛ منها الخارجي كالتأثير الفكري المضاد، وتعاظم حجم التحديات الواردة من الخارج، وتنامي ظاهرة الإرْهَاب عَالَمِيّاً، ومنها الداخلي كتراكم الخبرة المؤسسية لا الفردية، وتأصيل الفكر الاسْتِثْمَاري لا التبرعي؛ ثم من أهم هذه المشكلات ضعف الاهتمام بالجانب الإعلامي على الرغم من أهميته القصوى، ودوره الذي لا غِنَى عنه فِي تثبيت أركان هذه المُؤَسَّسَة وترسيخ دعائمها على أصل ثابت لا يتزعزع ولا يميل.
لا يُنكر أن هناك محاولات لعلاج معضلة الإعلام الخيري قامت بها العديد من المؤسسات هنا وهناك؛ لكنها بكل أسف لم ترقَ للمستوى المأمول الذي يحقق المعنى الحقيقي للإعلام الخيري، ويغرس منطلقاته فِي المجتمع ويؤصلها ويثبتها، ويقاوم التحديات الدَّاخِلِيَّة والخارجية بكافة أشكالها.
إن عشرات السنين من العمل الخيري لم تفلح فِي الانتباه الحقيقي لمشكلة الإعلام الخيري، ولم تشفع فِي حلها أو تجاوزها!!
مفهوم “الإعلام الخيري”:
أما وقد أدركنا حاجة هذه المؤسسات إِلَى المراجعة الإعلامية كَيْ تحقق أكبر قدر من النجاح فِي أَعْمَالها؛ فإنه يَجْدُر بنا أن نؤصل لمفهوم “الإعلام الخيري”.
يمكن القول إنَّ مفهوم “الإعلام الخيري” قد تبدى من جَبْل رب العالمين هذه الأمة بمفهومَي “الإعلام”، و”الخَيْرِيَّة”؛ ثم من سنوات طويلة من ممارسة عمل الخير والدعوة إليه.
ولعل أول من طالب باعْتِمَاد هذا المفهوم الدكتور عبدالقادر طاش – رَحِمَهُ اللَّهُ – ؛ والذي طالب كذلك بِدَعْمه بوظائف اجْتِمَاعِيّة للوصول إِلَى الإعلام الخيري المرجو، وذكر منها: “تشكيل وعي اجْتِمَاعِيّ داعم للعمل الخيري، وبناء صورة ذهنية إِيجَابية عن الجمعيات الخَيْرِيَّة فِي المجتمع، والمساهمة فِي تنظيم وتنفيذ حَمْلاَت إعلامية للأَعْمَال الخَيْرِيَّة” (“نحو تفعيل الإعلام الخيري” – جدة – الجمعية الخَيْرِيَّة لتحفيظ القُرْآن – 1422هـ).
منطلقات الإعلام الخيري:
– أول منطلقات الإعلام الخيري هو أن أمة الإسلام أمة مجبولة على فعل الخير والحث عليه والدعوة إِلَيْهِ وإعلامه للعالمين؛ فأمتنا هي أمة “الخَيْرِيَّة”؛ بِحَسَبِ وصف الله تعالى للأمة المسلمة:﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾آل عمران/ 110، وقد أُمرت الأمة المسلمة بهذه الخَيْرِيَّة فقال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ آل عمران/104، وفي تفسير الآية يقول العلاَّمة ابن عاشور فِي تفسيره: “والتعريف فِي (الخير والمعروف والمنكر) تعريف الاستغراق؛ فيفيد العموم فِي المعاملات بِحَسَبِ مَا ينتهي إِلَيْهِ العلم والمقدرة فيُشبه الاستغراق العرفي”.
وغني عن الذكر أن من سيقوم بالدعوة إِلَى الخير بعموميته تلك عليه أن يمارس الخير أولاً؛ فهي أمةٌ خيِّرةٌ عقيدةً وفعلاً وقولاً.
كما يقول الله جل شأنه:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾الحجرات/ 13؛ “لتعارفوا”؛ هكذا بيَّن رب العالمين الغاية من وجود البشر كشعوب وقبائل، إنه التعارف والتواصل بين الناس، والإعلام هو وسيلة هذا التواصل؛ ليس هذا فحسب؛ فقد جاء الإسلام بَلَاغاً للعالمين: ﴿هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ إبراهيم/ 52، وأمرنا نبينا صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإِبْلَاغ فقال: “بلغوا عني ولو آية” رواه البخاري.
إنه التعارف والتواصل بين الناس؛ ثم إعلام العالمين بدين رب العالمين.
أمتنا هي أمة فعل الخير والدعوة إِلَيْهِ وإِيْصَاله للعالَمين.
– يعتبر خلق “القيمة الخَيْرِيَّة” ثاني هذه المنطلقات؛ فالأمة بكافة مكوناتها، وعلى رأسها كيانات العمل الخيري، مطالبة بغرس “القيمة الخَيْرِيَّة” فِي الفرد والمجتمع والأمة، وأن يكون هذا الغرس أحد منطلقات الإعلام الخيري الأساسية والضرورية والملحة، و”القيمة” تعني أنها أصبحت من مكونات الشخصية، وليست فكراً أو سلوكاً دخيلاً عليها؛ قيمة كقِيم حسن الخلق والأمانة والصدق والجد فِي العمل، ومكوناً فِي الشخصية مثله مثل التفكير والتعبير عن الذات والسعي وخلاف ذلك.
إن الأمة إذا نبتت فِي نفوس أبنائها هذه القيمة فإنها ستنعكس على تصرفاتها؛ لتغدو بَعْدَ ذَلِكَ سلوكاً يبدأ من “الخير” مع النفس والبدن والعقل الذين ائتمننا الله تعالى عليهم؛ ثم “الخير” فِي سلوكياتنا وتعاملاتنا مع الآخرين، ليصل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى المحتاجين والمعوزين والمتضررين، وفي النهاية يعم “الخير” الكون بمن فيه ومن عليه؛ ولعل مَا سبق هو “الترجمة” الإسلامية – إن جاز التعبير – للمصطلح الإعلامي المعروف بـ”اتجاهات التأثير”؛ بل أؤكد بكل ثقة أن المفهوم الإسلامي للمصطلح أعم وأشمل من المصطلح الإعلامي.
– ثالث المنطلقات يكمن فِي إشاعة “ثقافة الخَيْرِيَّة”؛ وأعني بها عِدَّة مبادئ؛ أولها أن يكون “الخير” هو أول مَا يتبادر إِلَى ذهن المسلم حين يتحدث الناس عن الآخر، وأن يكون التَوْجِيهان الربانيان بـ”المسارعة” و”المُبَادَرَة” هما أول مَا يقوم به الفرد حين يَحْتَاج مجتمعه إِلَى شيء، وأن يتداعى سائر الجسد بالسهر والْحُمَّى إذا اشتكى منه عضو.
وإشاعة “ثقافة الخَيْرِيَّة” يَمْتَاز بِأَنَّهُ يتجاوز الجانب الفردي؛ ليصل إِلَى الجانب المؤسسي؛ فالمجتمعي؛ فالعالم، مع تحقيق التكاملية فِي هذا السياق.
– رابع المنطلقات يتبدى فِي نشر الوعي الإِنْسَاني والتوعية المجتمعية، وهذا كفيل بأن يضع الأمة المسلمة فِي مكانها الطَبِيعِيّ كأمة شاهدة على الأمم الأُخْرَى:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾البقرة/ 143؛ فهي بما تحمله من وعيٍ خيِّرٍ تسعى لمد يد العون للأمم الأُخْرَى؛ مَا يؤهلها كَيْ تكون الأمة الشاهدة بحق على العالمين.
إن الإعلام الخيري أصبح بدّاً لا مناص منه، وضرورة لا يمكن التنازل عنها.
إنه الباب الذي لم يُفتح على مصراعيه بعد وحان دور فتحه الآن؛ ليقدِّم تلك الخِدْمَة الجليلة للكون كله.
إنه الأسْبَاب التي أمرنا ديننا بالأخذ بها، مع احتفاظنا بتوكلنا على الله تعالى.
إن الإعلام الخيري شأن بالغ الأهمية، وتزداد أهميته يَوْماً بعد يوم، وتكمن أهميته الحقيقية فِي تشعباته المتعلقة بِدَوْرِهِ فِي إبراز أهمية العمل الخيري، وفي التعريف بالكيانات الخَيْرِيَّة وما تقوم به من أَعْمَال وأَنْشِطَة خدمةً للمجتمع، وتزويد الناس بالحقائق والمعلومات؛ ليصل ذلك كله إِلَى تشكيل الأمة لتكون أمة الخَيْرِيَّة بحق، وشأن بهذا القدر وتلك القيمة كان من المهم تحديد مفهوم الإعلام الخيري وتوضيح منطلقاته؛ كَيْ يصل إِلَى المستوى الذي يؤهله لحمل مهامه الثقيلة وأعبائه الجسام.
@riyadhtopmedia