رياض بن ناصر الفريجي
حين نتحدث عن العمل الخيري والإعلام فإننا نتحدث عن أمرين عظيمين وشأنين كبيرين؛ فكيف ونحن نتحدث عن الربط بينهما؟
فالعمل الخيري ليس بمعناه الضيق الذي يفهمه الناس أنه مجرد مساعدة لهذا، وعون لذاك؛ وإنما تعدت أدواره ليكون لبنة أساسية في بناء أي مجتمع عبر دوره الريادي التوعوي والتنموي؛ ولذلك أُطلق عليه “القطاع الثالث”.
أما الإعلام فإن العصر اليوم بكل تأكيد هو عصر الإعلام؛ حيث غزا، شئنا أم أبينا، كل بيت، بل كل فرد، ولم يعد أحد قادراً على الابتعاد عنه أو تجاهل تأثيره وتبعات ذلك التأثير على الفرد والمجتمع.
بيد أن العلاقة بين العمل الخيري والإعلام قد شابها توترٌ لفترات طويلة، وما كان ذلك إلا لانصراف كيانات العمل الخيري عن الإعلام باعتبار أنه ليس أحد أولوياتها، ثم لاتخاذ الإعلام في أحايين كثيرة موقف الخصم والضد للإعلام الخيري وكياناته؛ الأمر الذي أساء كثيراً لصورة العمل الخيري لسنوات طويلة، وأضره، وأثر في عمله بشدة.
ولست هنا بصدد البحث عن أسباب تلك العلاقة المتوترة؛ فقد تم تجاوزها في وطننا بدرجة كبيرة والحمد لله تعالى، ثم لأننا يجب أن نكون إيجابيين وعمليين؛ فنتحرك نحو جسر الهوة بين الطرفين متجاوزين أسباب الخلاف ومبرراته ومنطق “من المخطئ ومن المصيب”، وواضعين ذلك كله خلف ظهورنا.
العمل الخيري والإعلام.. قواسم مشتركة:
يجمع العمل الخيري والإعلام قواسم مشتركة أكثر مما نظن لأول وهلة؛ ومنها:
– كيانات العمل الخيري وهيئات الإعلام كلها مؤسسات من مؤسسات الدولة، وكلها تتبع لسياسة الدولة وأنظمتها، وكلها تتناغم مع المؤسسات الأخرى التابعة للدولة وتتكامل معها؛ وبالتالي لا يمكن إخراج أيٍّ من العمل الخيري والإعلام من هذه المنظومة، وإذا كان الشأن كذلك فهما إذن صنوان وذراعان لجسد واحد؛ فاختلافهما أمرٌ غير مقبول بأي حال من الأحوال.
– يَعتبر علماء الاتصال وظيفة تنمية المجتمع إحدى أهم وظائف الإعلام ، وفي الجهة المقابلة فإن التنمية بمفهومها الشامل ما هي إلا مهمة من مهام العمل الخيري، وهي ليست مجرد مهمة بل ركن أصيل من أهداف العمل الخيري.
أما والحال هكذا فكيف يقبل عقل اختصامهما؟
– العمل الخيري يعمل على تنمية موارده باستثمار طاقات الأمة، وخصوصاً شبابها، عبر التشجيع على التطوع؛ فكثير من الأعمال الخيرية تقوم على سواعد المتطوعين، وكم رأينا نجاحات تحققت على يد هؤلاء المتطوعين.
أما الإعلام فكم سعى، وما زال، إلى توجيه شباب الأمة حتى لا ينزلقوا في منزلقات خاطئة وخطيرة، وضرورة أن يستثمروا طاقاتهم في ما يفيد، وهل هناك أفضل من التطوع كاستثمار؛ فيقوم الإعلام باستقطابهم لذلك التوجه؟
الطريق واحد؛ فعلامَ الخلاف إذن؟
– العمل الخيري يهتم بتنمية موارده، ويُعنى بذلك، ويسعى بكل طاقته لتحقيقه؛ لأن الأمر ببساطة أنه لا يمكن وجود عمل خيري دون وجود موارد تمكنه من الإنفاق على نشاطاته وما يقدمه من خدمات.
والإعلام من مهامه التسويق للمنتجات بهدف زيادة مكاسب الشركات؛ وكم رأينا من قنوات يكاد يتجاوز وقت الإعلانات فيها وقت برامجها.
إذا تم النظر للعمل الخيري بهذا المنطق؛ فهو “عميل” مثله مثل الشركات، ولديه “منتج” مثل الشركات سواء بسواء، الفارق الوحيد هو أنه يسوق مفهوماً وقيمة لا سلعة وبضاعة؛ ويدعو لمنتج معنوي لا مادي؛ لو نظر الإعلام للعمل الخيري بهذه النظرة لوجد أن طريقهما واحد.
هذه بعض القواسم المشتركة بين العمل الخيري والإعلام، وإذا فطن الطرفان إلى هذه النظرة سيجدان قواسم أخرى، وسيكتشفان أنهما أقرب ما يكونان إلى أن يصبحا وجهان لعملة واحدة، وهذه العملة هي مصلحة الفرد والمجتمع والوطن.
أما وقد عرفنا أن قواسم الالتقاء بين العمل الخيري والإعلام أكبر وأكثر من قواسم الافتراق؛ فماذا على الطرفين أن يفعلا لجسر تلك الهوة المفتعلة بينهما؟
ماذا على العمل الخيري أن يفعل؟
على العمل الخيري واجبات كثيرة تجاه الإعلام؛ من أهمها:
– الالتفات أولاً إلى أهمية الإعلام ووضعه في مكانته المناسبة، وتقديمه في أولويات العمل الخيري واهتماماته؛ وكم يبتعد عن الحقيقة من ينكر أهمية الإعلام بالنسة للعمل الخيري وأنه أحد أهم أولوياته؛ فبدون الإعلام كيف سيستطيع العمل الخيري أن يعرِّف العالم به وبما يقوم به من عمل، وما يقدِّمه من خدمات تسهم في رفعة المجتمع وإعلاء شأنه ورأب صدعه؟ وبدون الإعلام كيف سيتمكن العمل الخيري من الدعوة إلى تنمية موارده، وزيادة مُدخلاته، وهي التي ينفق منها على مشروعاته وأعماله؟ وبدون الإعلام كيف سيستجمع العمل الخيري طاقات المتطوعين ويستثمرها في مجالاته وأنشطته؟ الإعلام اللغة الفصحى التي يُعبِّر بها العمل الخيري عن مكنوناته، والبوابة الذهبية التي يَعْبُر منها إلى العالم.
– تعريف العاملين في العمل الخيري بقيمة الإعلام وأهميته ودوره في المجتمع وتأثيره فيه، وبحاجة العمل الخيري الشديدة له، وهو ما يعني استمرارية أعماله وفتح مجالات أخرى أكبر وأوسع؛ إذ جزء كبير من أسباب هذه الفجوة مع الإعلام تعود إلى عدم فهم كل طرف بقيمة الطرف الآخر عموماً وله على وجه الخصوص، وهذا خطأ يجب الانتباه إليه وإصلاحه.
– التواصل مع هيئات الإعلام ورجالاته؛ فلا يُقبل أبداً أن يُغفِل العمل الخيري هذا التواصل، ولا يُعقَل أن تكون هناك قطيعة بين الطرفين.
على كيانات العمل الخيري أن تتواصل مع هيئات الإعلام ورجالاته، وأن تبرز له قمية الإعلام وكياناته لديها، وأن تعرِّف بمبادئها وأهدافها وبما تقوم به من أعمال، وإن كان لديهم أي لبس أو سوء فهم في أمر ما فعليها أن تصحح الصورة وتزيل اللبس وتستدرك سوء الفهم، كما لا يقتصر هذا التواصل على ما سبق؛ فعلى كيانات العمل الخيري أن تجعل هذه الكيانات والأفراد على قائمة المدعوين في أي فعالية تقوم بها، باختصار: أن تجعلهم جزءاً من كيانها حالهم كحال العاملين في هذه الكيانات والمستفيدين والمتطوعين.
– استخدام كيانات العمل الخيري الإنترنت على أوسع نطاق في التعريف بقيمها ورؤاها وأعمالها ونشاطاتها؛ فالإنترنت بكافة أنواعها سواء كانت مواقع إلكترونية أو منصات تواصل اجتماعي أو رسائل بريد إلكتروني هي وسيلة إعلام تتميز بالتواصل المباشر دون قيود أو موانع؛ فالعمل الخيري حين يفعل ذلك يكون قد كسر حواجزه المتوهمة والمصنوعة مع الإعلام، الأمر الذي يقربه من وسائل الإعلام الأخرى أيًّا كان شكلها، ويمهد الطريق للعلاقة بينهما كما يجب أن تكون.
ماذا على الإعلام أن يفعل؟
على الإعلام واجبات كثيرة تجاه العمل الخيري؛ من أهمها:
– العمل على تغيير النظرة السائدة عن العمل الخيري بأنه مجرد مساعدات تُقدَّم للمحتاجين بأنواعهم أو أعمال تُنفذ في بعض المناطق؛ وغرس المفهوم الصحيح والحقيقي للعمل الخيري على أنه مشروع تنموي توعوي تثقيفي، وأحد ركائز التنمية المجتمعية.
إن غرس هذا المفهوم سيغير -بلا شك- الصورة الذهنية واتجاهات الرأي في المجتمع؛ حيث سيؤدي إلى بناء صورة ذهنية إيجابية عن العمل الخيري، وهذا بدوره سيُنتِج زيادة تقدير المجتمع للعاملين في هذا المجال، وهو ما يصل إلى زيادة إقبال أفراد المجتمع على الإسهام بإيجابية في فعاليات العمل الخيري.
ولا ننسَ كذلك أن تثبيت هذه النظرة يمنح كيانات العمل الخيري في وطننا مزية التوافقية مع الفكر الخيري عالميًّا مما يمنح كياناتنا تقديراً أكبر واحتراماً أسمى، وهذا كله من شأن أن يقرب الإعلام من العمل الخيري.
– الاقتراب من العمل الخيري ومتابعته وتغطية فعالياته ونشاطاته، ولا نقول هنا المديح المطلق أو الإشادة المستمرة؛ فلا مانع من النقد الموضوعي، بل يجب ذلك حقيقة إذا وُجد ما يستحق النقد.
المطلوب هو معاينة العمل الخيري وتغطية الفعاليات، والإشادة بما يستحق الإشادة، وذكر جوانب القصور والخطأ ونقده بموضوعية وحيادية وأمانة؛ هذا الفعل حريٌّ به أن يعزز إيجابيات العمل الخيري ويدعمه ويسنده، ويلفت النظر إلى سلبياته لسرعة علاجها وتلافيها قبل أن تكبر وتستفحل ويصبح من الصعب تلافيها.
فِعلٌ من الإعلام كهذا من شأنه أن يضع الإعلام بقوة في أجندة العمل الخيري.
– كما قلنا في واجبات العمل الخيري تجاه الإعلام؛ يجب تعريف العاملين في الإعلام بقيمة العمل الخيري وأهميته ودوره في المجتمع وتأثيره فيه، وبحاجة الإعلام الشديدة له ليمنحه المصداقية والتوثق لدى الجمهور؛ إذ جزء كبير من أسباب هذه الفجوة مع العمل الخيري تعود إلى عدم فهم كل طرف بقيمة الطرف الآخر عموماً وله على وجه الخصوص، وهذا خطأ يجب الانتباه إليه وإصلاحه.
– التعريف بنماذج العمل الخيري المشرفة التي بذلت الجهد وأعطت هذا الوطن ورفعت رأسه في العالم، هذه النماذج قد تكون أفراداً أو كيانات أو مشروعات.
هذا التعريف يحقق نتائج جمة؛ كتشجيع هذه النماذج على الاستمرار والنجاح، وكتوفير الدعم من الآخرين لهذه النماذج، وكتعريف غيرهم بها ليقتدوا، ويضاف إلى كل ذلك إبراز قيمة الإعلام لدى العمل الخيري.
– الإبداع في استخدام وسائل الإعلام لخدمة العمل الخيري؛ من حيث تنوع الوسائل، واستخدام أعلى التقنيات وأكثرها تطوراً، والابتكار في الأفكار والطرق والأدوات عبر التفكير خارج الصندوق.
هذا الإبداع من شأنه أن يحقق للعمل الخيري رواجاً لدى الرأي العام؛ وهو ما يعني عائداً متعدد الجوانب سواء كموارد أو كتطوع أو كدعم مؤسسي وإعلامي ومعنوي، ومكانةً لا تُنافس للإعلام.
العمل الخيري والإعلام يمثلان الوجه المشرق للوطن، وتضامنهما وتكاملهما وتعاضدهما ما هو إلا تعبيرٌ عن الوفاء للوطن وردُ بعضٍ من جميله.
إن من أهم أسباب الهوة الموجودة بين العمل الخيري والإعلام هو اعتماد الطرفين على السماع عن الغير؛ وهنا :
يا ابنَ الكِرامِ ألا تدنو فتُبْصِرَ ما … قد حدَّثوكَ فَمَا راءٍ كَمَنْ سَمِعا
يا أيها القائمون على العمل الخيري، ويا مسؤولو الإعلام، هلاَّ وعيتم والتقيتم وتكاملتم وعملتم يداً بيد؛ فما عاد مقبولاً أو معقولاً أن تبقى هذه الهوة موجودة؛ فلنجسرها معاً.