هلا قريبًا ألقاك جدتي
انتهيت من واجباتي في البيت، بعد أن أنهيت واجباتي مع الله، لا يزال لديَّ الوقت قبل أن أذهب إلى فراشي لأنام.
أردت شيئًا مثلما أريد أحيانًا أكل شيء ما، عادة يكون حلو المذاق.. لم أدرِ ما أريد في هذه الدقائق من عمري.. بعد أن أسكتني الحظُّ في أن لا أحد يسأل عن حالي.. ربما حالي كان أقرب من رأسي حينما يشتد الألم.. طبعي أني لا أسكِّن الآلام بالدواء، بل أترك الألم يسكِّن الآلام، لكنه لا يداويها للأبد.. لا داعي دموعي أن تنزلي؛ لأني في موقف أريد أن أبكي الآن.. فرجاءً لا تنزلي؛ لأني سأتقوَّى بالصمت، فلا داعي لإزعاجي؛ لأني سأركن للهدوء بعد حين.
أنا الآن في سكون مع سكوت، أريد أن أتأمل صورتك جدتي، لا أعرف من أين أبدأ النظر، عادة أحب النظر إلى عينيك؛ لأنها تشبه عيني، أو لأن نظرتك هي نفسها نظرتي.
أنا وأنت جدتي نتشابه في الكثير من الأمور الخلقية والفطرية.. مهلاً لا تقطعي حزني؛ لأني موجودة بالحزن منذ موتك بحوالي أربع سنوات لم تكتمل بعد.
انقلب نبض الحياة معي إلى العكس، فأصبحتُ لا أشعر بطعم الحياة، لا شيء جميل بعد موتك، لا شيء صادق بعد صمتِك بسكتة الموت، والأهم أنه لا أحد يحبني مثلك.. فالموت كان الفيصل في تلك الحياة، والقصة المثيرة أني أشبهك كثيرًا، بالأمس لم أكن أفهم ما تحاكينني إياه سوى ابتسامتك القلقة عليَّ، كنت أشعر بالخوف من خوفك عليَّ، لكن سرعان ما لا أبالي، لكنه كان يجب عليَّ أن أبالي من أن اللامبالاة ستسرق مني يومًا ما ابتسامتي وأماني.. آسفة أني لم أبالِ، لكنه طيش الطفولة، وحب اللعب والمزاح.
أوصيتِني كثيرًا، لكني من الكثرة نسيتُ الكثير؛ لأني شعرت بالخوف أن تبتعدي عني، ولا أجد مَن يفهمني ويلاعبني بالحكاية المضحكة مرة، وبالحكمة الجادة مرة أخرى، كنتِ كَنزًا من العِبر والتجارِب، كنت صبرًا وقوة لا تنفدان وغير قابلتين للنفاد، كنت شعلة من الإصرار لا تخبو، كنت التحدي ولم تمثلي في حياتك دور المتحدي، تحدٍّ ضد النار.. الرصاص.. الغضب.. القلق.. مغامرات الموت.. كنت جوهرة الجمال بقامة الكبرياء.. حتى في انحنائك تواضع مؤقت؛ لأنك سترفعين رأسك في إطلالة منك إن كان هناك خطب أو استفزاز.. لأن الاستفزاز يحوِّل هدوءك إلى إعصار.. لا داعي للاعتذار؛ لأنها الفطرة، ولأنها البيئة، ولأنها تقوى الله في أن لا شيء يخيفك ما عدا الخوف من الله.
كنتِ ينبوع الحنان بتقاليد الحياء، في أن حنانك بخلت على الكثيرين به؛ لأنك لا تثقين أولاً، ولأني شغلتُ حيز قلبك بلا حدود، كنتُ أنبض بداخلِك، كنت أكبر أمامك بسرعة؛ لأني أتغذى على حكايات الجهاد، حتى وإني بعد لا أزال طفلة صغيرة، لكنك كنت مدرسة ثانية بعد مدرسة المستوى الصغير، فأصبح العلم علمينِ، وأصبح الذكاء موسوعة، لم تطعميني إسرافًا أو بدارًا، لكنك أصررت أن أمشي في الظلام، وأَبَيتِ أن تساعديني في الوقوف، حينما تخونني الحجرة الصغيرة، وأتعثر تمهيدًا للسقوط، أما الحجرة الكبيرة، فكنتِ تأمرينني أن أنقش اسمي عليها؛ لأتعلم حِرْفة الصبر على موال قطرة الماء التي تنزل على الحجارة، فتصنع بالتواتر حفرةً.. كان درسًا من دروس المصابرة والثبات في استقامة الخطى.
أهديتني قبل موتك سوارًا؛ حتى لا أنساك، أصر أن يبقى حكاية، بل أسطورة أخرى لا أستطيع الخوض فيها الآن.
أتوقف هنا؛ لأني لا أستطيع أن أتذكرك أكثر من هذه الأسطر، ليس تناسيًا؛ وإنما رأفة بقلبي الجريح.. فهلا قريبًا ألقاكِ؟ لأني كل يوم أتذكرك، وأخشى ألا أموت على وصاياك، وإن كان الموت حقًّا وقدَرًا عليَّ.. سأبقى أحبك جدتي حتى ألقاك.