جيوب فارغة.. لكنه غنى الروح
كم كان يا حظُّ لك من مداخلات؟ كنت قد وثقتُ في فرصكَ الجميلة، واجتهدتُ قدرَ المُستطاع لأظفرَ بصفقة من صفقاتك، لكنك كنت في ملامي واضحَ الكلام.
لستُ أخشى منك حرمانًا من أني سأبقى هكذا حتى تخبو شَمعتي، ولست نادمة في أني لم أقبض بقبضة من حديد على بريق الأمل فيك؛ لأني كنت أرى فيك الابتلاء والبلاء، ومن حد مفهومي لك وخوفي من الاختبار الرباني قرأتُ سيَرَ من ظفروا بك وبمَجدِك، وكيف آلت إليهم حظوظُ الدراسة ليتصدَّروا قوائم المتفوقين، وكيف ارتفعت بهم بورصات المال، لكن في الختام من أمرك وبعد أن صعدت بهم تلك الحظوظ إلى عليين، انقلبت الدنيا على أعقاب أصحابها في دورة مكوكية؛ لتنقلهم إلى كوكب آخَرَ غيرِ كوكب القناعة.
قرأت أيضًا آراء النقاد فوجدت نَقدهم متضارب الآراء، ولكن لم أفهم ما المقصود من هذا التضارب والاختلاف.
فحدثتُ نفسي حديثًا رزينًا: ماذا لو اغتنمتُ فرصة الحظِّ ولو عن تجربة؟ أليس فضول البشر يَلتقِط الروعة من لبِّ الإعجاب؟
لكن قبل أن أغتنمَ فرصةً لا تقلْ عني أقاويل أنا في غنى عنها، فهي ليست من معجم الصواب ولا الحقيقة.
كنت كلما أسمع مقولةَ أنْ لا حظَّ لي، أضع يدي في جيبي، وأخط باليد الأخرى كلامًا جميلاً؛ لأدافع عن نفسي من تُهمِكَ، هي لقطة الرضا مني دونما أي شك في نزاهة الزهد لدنيا زائلة.
في هذا العصر جلُّ اهتمامي على ملامح التغيير في أكثر من نموذج حضاري، لا أعلم أي نموذج فيه التوفيق والسداد في ضربة الحظِّ، ولكني حينما كتبتُ عن الأمل بدأت بنقطة الحظِّ الإلهي فيمَن أوتي الحِكمة، ففي الحكمة خلاص من نقدك؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].
وأظنُّ أن الحكمة هي ذاك الفهم الصحيح، والذي هو سجية من الله - عز وجل - ليَنتقلَ الفهم من المعلومات الجزئية إلى المعلومات الكلية، وهل للحظِّ مكانة خاصة مقارنة بما للحكمة من مكانة؟
فلو ألقيت حجرًا في بركة ماء هادئة حتمًا سيَنجم عن ذلك حلقات متتابعة فوق الماء، تبدأ صغيرة ثم تتَّسع شيئًا فشيئًا، وهكذا شأنك يا حظُّ إن تزينت بالحكمة، فالرصيد كبير، والخير وفير.
هي نظرتي فيك ولستُ أَنتظِر منكَ كمًّا ولا كيفًا؛ لأنها غِنى الروح في أن أعزف نفسي عن تتبع مَشاويرك، وأتعب في تحصيل الحاصل، هو مُناي، لذلك سأرضى بالقليل؛ لأن الكثير في كيان الروح هواء زائد في دهاليزها البريئة.
فيا حظُّ لا تظن بي فقرًا
فإني أتعبني من الصبر طهرا
كم رفعت بالناس مجدًا
لكنه في الختام غدَا قيدا
سلكتُ سلوكَ الزاهدين
على أن أكونَ من القانعين
أبصرتُكَ تَنظر لجيبي فارغًا
ولم تدرِ ما في القيامة من قارعٍ
كانت في معنى القرآن الصاخَّة
فخافت روحي من هول الساعة
هي غِنى الروح ليس إلا
فلا داعيَ أن تكون ثقلا
جيوبي في لحظة الحصاد خاوية، ولستُ أتحسَّر لفراغها؛ لأنَّ غِنى الروح أجمل نشيد أُنشِده، وأحلى ثوب أرتديه، فمالي وما للناس في الركض خلف توابِع الدنيا، والعالم الله إلى أين المستقر، وكيف هو حال المَغنَم؟
فمِن جود الطاعة القناعة عمَّا في اليد دُونما وجهِ مُقارنة لما عند الناس، فتلك المُقارَنة تُفسِد عليَّ نومي، وتُخسرني في راحة بالي، كانت جيوبًا فارغةً لكنه غِنى الروح الأبدي الذي لا يَفرغ طالَما فيه منِّي تزكية نفس، وصبر على الابتلاء، وعفو عن الناس، وعلوٍّ بهمَّة الضمير في القرب من الله بطاعة زهيدة، وصمت رحيم أن لا شيء يُغنيني عن ذِكر الله.