وقفات ومستوقفات
أحيِّي فيَّ شعورًا بالأمس مات واندثر، أوقَدَ لي شمعة في طريق، بالأمس ضللْته فضِعتُ في غيابات مظلمة، أجمع شتات فكري يوم أن استسلمت لليأس عبر لحظات التيئيس من البشر، ولستُ بالتأكيد أيئس من رَوح الله، حتى في تيئيس البشر ابتلاء لقوتي، وإن خارت في نواح عديدة، سأجمع ما اندثر وضاع، هي باختصار مهمتي ولو كانت شاقة، فما ضاع مني لن تعيده إليَّ، ولستُ أقبل فكرة أن ما كان لصيقًا بشخصيتي ضاع مني حقيقة؛ لأني أعده حُلمًا فقط، فيه أمل كبير أني سأجد ضالتي في مكان ما، وإني لدالة لك على علامات ما أبحث عنه؛ لأني اللحظة في وقفات مع نفسي بداية ولزامًا.
فإن كان القوم بالأمس مدَحوا نخلة، فحتمًا لها من طول القامة وينع التمر ما كان لها من دلالات الأبهة في واحة الثراء، أليست النخلة أول شجرة حظيت باستقرار على الأرض؟ وإن كان لهم مدح للأقحوان في رحيقه، فحتمًا له علامات في عطره الزكي، وإن كان لهم ثناء على الجبل في صموده، فحتمًا له دلالات من على قمة الشموخ ثباتًا ليس بالمتزلزل، هي هكذا مواصفات القوى والجمال والعزة، فامنحني وقتًا أسترجع فيه ما ضاع مني؛ لأنك ربما تكون لي مُستوقفًا من بين مجموع المستوقفات التي أرسلت إليَّ رغبة في الوقوف طويلاً مع واقعي، ولستُ براغبة في أن أفتقر إلى أنفاسي المعبرة عن مناي في مجال من التفكير، وكلي تأمل واعتبار، ولي بالمناسبة إعجاب بقول أمية بن أبي الصلت:
تأمَّلْ صنْعَ ربِّكَ غير شكٍّ
بعينكَ كيف تَختلِف النُّجومُ
دوائب في النهار فما تراها
وتُمسي مسْيَ ليلتِها تعومُ
فما تجري سوابق مُلجَمات
كما تَجري ولا طير تَسومُ
هو المُجري سوابقها سراعًا
كما حبَس الجبالَ فما تَريمُ
|
إنه مُنطلقي من التأمل في ملكوت الله، وهو قناعتي أن ما مِن شيء إلا يسبح بحمده، فلا تُكثر جدالي فيما أكتب فيه من وقفات لنفسي وبنفسي، وليتك تجود وتستوقِفني في كثرة الحيرة من أمري؛ لأني فعلاً أحتار لمتغيرات الأمور في كل شيء، بدءًا بوصال الخاطر مع شبهه من الخاطر في تحاور العقول الندية التي تقطر انزعاجًا مما آل إليه واقعنا من تعب وتناقض في المراد، بالأمس لم يكن لديَّ أي تخطيط لما أريد؛ لأن الحياة كانت سهلة بمُخطَّطاتها الارتجالية، واليوم لستُ أضبط خطة محكمة لا مع القريب ولا مع البعيد في أن نتقاسم حلاوة الحياة ومرَّها عبر سفينة الارتحال إلى أي مكان هي أرض الله منبت الخير والأمان والرزق الهنيِّ، أين أنا من رحلة الماضي الدافئ؟ وأين أنا من واقع مُتضارب في العلامات؟! فلا النجيب يأخذ تفوقه بالامتياز المعهود له بالمألوف من التقدير، ولا المجدُّ يتحصَّل على تقدير لمَسعاه الذكي من محاولات البناء والتصحيح بالشكر والعرفان، فعلاً أغرق في متاهة ضبط الحساب الحقيقي لمعادلة الكفاءة والنجابة والذكاء، ولربما صددتُ روحي عن متابعة الأحداث حتى لا أفقد نكهة العيش ولو أني بدأت بفقدانها بالتدريج.
بكل احترام لك، صلني بواقعي في تكتُّم، واضبط لي رزنامة عملي على غير المعتاد، أريد أن أتخلَّص من تقييد الزمن لي ومن واجبات مضيِّعة لمواهبي، أقطع وصالي بأحلام اليقظة وأربط شعاع أملي بكل من لديهم نفس طموحي، أكيد أنهم كثُر ومُتعددو الجنسيات، ومتوحِّدو العقيدة، فقط هم هنا وبالتقريب هناك.
إلى أن تصلني بهم سأُواسي نفسي بمستوقفة أبيات لشاعر:
هذه الدنيا وإن سرْ
رَتْ قليلٌ من قليل
إنما العيش جوارُ الل
ه في ظلٍّ ظليل
حيث لا تسمَع ما يؤ
ذيك مِن قال وقيل
|
فهل فهمت عني أني بالكاد وجدتُ ضالتي لمَّا تأخرت في مساعدتي لإيجاد الضائع من المضيع، لم أكن أريد الانتظار طويلاً؛ فقد مللت التجاوز عن مثبطات الإرادة لدي؛ ولذلك سعيتُ بمقدرتي وحدود معرفتي في أن أفك عني قيد الضباب هذا؛ لأني لم أعد أبصر عن بصيرة، فكل في مضيعة التمويه منسكب، لكني وفي وقفة من الوقفات، وبفضل مستوقفة التأمل والتدبر أدركت أن السكون والقرب من الله هو خير مسكِّن لي لآلام لم تبرح روحي وفكري حتى وأنا في إبداع، ما زاد في حدة التوجع أني أحس بالضعف في وقت لم يَحن فيه بعد الضعف، وهذا ما يؤسفني حقًّا، لكني لستُ في ملل على الإطلاق؛ لأنه التجديد بعينِه يَنبثق من بواطن يأسي إلى أن الجديد مُتطلِّع رغمًا وحتمًا عن عوامل السلب بالقرب من قلمي، لكني بأحرف العزيمة طاردة لشوائب تَبغي الرقود بالقرب من رنَّة قلمي، ولست أسمح لها بذلك؛ خوفًا من أن يصاب قلمي بالركود هو الآخر.
بالأفِّ والآه عبَّرتُ عما بداخلي، لكن بـ: "يا ألله" استرجعت طاقة المضي قدمًا إلى حيث مقصدي، هي وقفات ومستوقفات لأفهم ما يبغيه السؤال الملحُّ مني:
أين أنا من واقعي؟ فكان الجواب:
يا مَن يرى مدَّ البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الألْيَلِ
ويرى نياطَ عروقها في نحرها
والمخَّ في تلك العظام النُّحَّلِ
اغفِرْ لعبد تاب من فرطاته
ما كان منه في الزمان الأوَّلِ
|