مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/09/21 15:00
عزة الاسلام بين الأصل و التاصيل

عزة الإسلام بين الأصل والتأصيل

 

لقد تناول المستشرقون من علماء أوربا الإسلام والمسلمين بالدراسة من نواح مختلفة، وكان منهم من ملَكه الهوى فأضلّه على جهل أو علم، ومنهم من آثر أن يكون مُنصفًا يصدَع بالحق متى هُدي إليه بعد البحث والتنقيب.

 

ومهما يكن فإن الدراسة التي تتميز بالجد والعمق للإسلام لم تبدأ إلا منذ القرن التاسع عشر، حين ذاعت ثقافة الشرق والإسلام في أوربا، وحين أخذ الغرب يَبسُط سلطانه باسم الاستعمار على الشرق والبلاد الإسلامية، عندئذ نهَض كثير من رجال أوربا العلماء لبحث هذا الإسلام وتراثه ورجاله، محاولين معرفة سرِّ حيويته وبقائه.

 

و قد كان هؤلاء الباحثون - ولا يزالون - طوائف شتى، يَنتمون إلى أمم عديدة، وتدفعهم عوامل مختلفة إلى احتمال البحث وعنائه، وإن ألف بينهم جميعًا العمل على تجلية الإسلام من نواحيه المختلفة، كل من الناحية التي تخصَّص فيها وعلى ما يرى من الأوضاع.

 

و قد كان اهتمامهم بكتب السير والتاريخ، ثم أخذوا في دراسة القرآن وعلومه، والفقه وأصوله، وعلم أصول الدين والفِرَق الإسلامية، وما إلى ذلك كله من مظاهِر الفِكر الإسلامي.

 

إن الإسلام بمعناه العام هو الانقياد؛ أي: انقياد المؤمنين لله، فهذه الكلمة تركز أكثر من غيرها الوضع الذي وضع فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين بالنسبة إلى موضوع عبادتهم وهو "الله"، وكذا إحساس الشعور بالتبعية الذي يحس به الإنسان أمام القدرة غير المحدودة، وهذا هو المبدأ السائد في الدين.

 

والدعوة إلى الله... إلى ما يُجسد هذه التبعية، وكذلك الشعور بأحقية استمرارية الرسالة المحمدية على مر العصور هي دعوة جليلة عريقة.

 

فالدين الإسلامي هو منهج إلهي للحياة البشرية، يتمُّ تحقُّقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها حينما تسلم مقاليدهم، ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.

 

إن الله قادر على تبديل فطرة الإنسان، عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه، ولكنه - سبحانه - شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحِكمة يعلمها، وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والرغبة في الهدى؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، و شاء أن تعمل فطرة الإنسان دائمًا ولا تُمحى ولا تعطَّل؛ ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

 

وشاء أن يتمَّ تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]، كما شاء أن يبلغ من كل هذا بقدر ما يبذل من الجهد وما ينفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم.

 

وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3].

 

إذًا؛ الأهمية تبرز بنفسها ولنفسِها وهي أن لكل أحد من الخَلق واجبًا في أن يُدرِك الحقائق ويعرفها، والرساليون هم أكثر الناس إدراكًا لهذه الأهمية في أن الدعوة تعمل في واقع الحياة البشرية وتفسِّر أحداث التاريخ البشري على ضوئها، فيفقه الدعاة خط سيرها التاريخي من ناحية، ويعرفون كيف يواجهون هذا الخط ويوجهونه من ناحية أخرى، ويعيشون مع حكمة الله وقدره، فيَنطبِع بهم الانطباع الصحيح من ناحية ثالثة.

 

هذا هو المنهج الإلهي الذي يُمثِّله الإسلام في صورته النهائية، كما جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتحقَّق بكلمة "كن" الإلهية مباشرة لحظة تنزُّله، ولا يتحقَّق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب، إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به إيمانًا كاملاً وتستقيم عليه - طبعًا بمقدور تحمُّلها - وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتُجاهد لهذه الغاية بكل ما تَملك، ولا يتمُّ ذلك إلا بمجاهدة القلب في كراهيته للباطل والعزم على نقل الحق للإسلام، ومجاهدة المُنكَر باللسان بالتبليغ والبيان، وبذلك رفض الباطل الزائف، وتقرير الحق الذي جاء به الإسلام، والمجاهَدة باليد بالدفع والإزالة من طريق الهدى حين يَعترِضونه بالقوة الباغية والبطش الغشوم.

 

وسيلقى مُبلِّغ الدعوة في تلك المُجاهَدة ابتلاءً وأذًى وتنكُّرًا من القريب والبعيد، لكن لا بد من الصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضًا، يعلوهما الصبر على النصر؛ لأنه أشق من الصبر على الهزيمة، وعلى الداعي أن يَثبُت ولا يرتاب، ويستقيم ولا يتلفَّت، ويمضي في طريق الإيمان راشدًا صاعدًا صعود النجوم الأبطال في التألق.

 

إن من أهداف الدعوة توسيعَ حقيقة الإيمان، والتي لا يتمُّ تمامُها في قلب حتى يتعرض لمجاهَدة الناس في أمر هذا الإيمان؛ لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتَنفتِح له أبدًا وهو قاعد آمن ساكن، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة، لم تكن لتتبين له أبدًا بغير هذه الوسيلة، ويبلغ هو نفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبدًا بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة، وهذا ما يشير إليه - سبحانه وتعالى - في قوله: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، وأول ما يفسد هو فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح وتسترخي معه الهمة، ويُتلفها الرخاء والطراوة، ثم تأسن الحياة كلها بالركود، أو بالحركة في مجال الشهوات وحدها، كما يقع للأمم حين تُبتلى بالرخاء، ولا ننسى في ذلك أن أساس رُقي الأمم وتحضُّرها هو النهضة بأبعادها الدعوية، والتي ترتكز أساسًا على العمل الجماعي بلغة التوحيد.

 

فيا مسلمون، تباهَوا بعزة الإسلام، تكنُّه صدوركم وتمدحه أقلامكم، فالضمانة الحقيقية التي تجعل الجماعة المسلمة تحقِّق هذه العِزة هي تلك الوَحدة وذاك الود، تلك الرحمة فيما بيننا مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40، 41].

 

أكيد بداخلي وبداخلكم إحساس بعزة الإسلام وعزة القرآن، فلنرفَع راية العزة بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ولنشاهد العدو حينما يفر من الزحف لما يرى فينا تلاحمًا وقوة وإصرارًا على التأصيل، فبين الأصل والتأصيل أنفة وكرامة وشهامة، ولما لا ديمومة جوهرة أمة في لمعانها وندرتها، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، قولوا معي: آمين.



أضافة تعليق