مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/09/15 00:50
اجرام ذوي الأرحام...مظالم في الخفاء
اجرام ذوي الأرحام...مظالم في الخفاء
 
تناولت قراءة بعض صفحات من كتاب "منهاج البلغاء و سراج الأدباء " لأبي الحسن حازم القرطاجي من تقديم و تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ، أي فن احتواه الكتاب لما وقع منه في الصميم ؟، و أي بلاغة حازت على تناسق في المعنى ...انه الفن الأدبي بامتياز.
فاذا كان حازم قد ترك ما تناوله الآخرون و ترك الآخرون ما تناوله هو ، فإننا نقف على الجملة التي هي أرجح وزنا في غرضنا و هي قوله : قد سلكت في التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مرامه ، و توعر سبيل الوصول اليه ، هذا على أنه روح الصنعة و عمدة البلاغة ،فاني رأيت الناس لم يتكلموا الا في بعض ظواهر ما اشتملت عليه ،فتجاوزت أنا تلك الظواهر ، بعد التكلم في جمل مقنعة مما تعلق بها .
و قد نقلت هذه الفقرة من الكتاب من الصفحة 74 قول أبو علي بن سينا" المجانسة اتحاد في الجنس و المشاكلة اتحاد في النوع و المشابهة اتحاد في الأطراف ، و الهو هو اتحاد في شيء من اثنين يجعل اثنين  في الوضع تصير به اثنتيهما اتحادا بنوع من الاتحادات الواقعة بين اثنين كما قيل.

و بالإسقاط على هذا الكلام ، أتساءل عن نوع الخانة أو المركز الذي تصنف فيه جرائم ذوي الأرحام و الى أي نوع من الجريمة سيتم تكييفه ، لأن منطلق المنطق الغير مشروع بين أفراد الأسرة الواحدة يجعل تصنيف كلا من الجاني و المجني عليه لا يأخذ نفس التصنيف بالمشاكلة في كلا الطرفين ، لأن الجريمة في تصنيفها كفعل غير مشروع يحدد لها القانون فاعلها  و ضحيتها بنوع من المنطق المشروع ، و المنطق المشروع في تحليل الظاهرة سيجد حتما سبب ارتكاب الفعل بين أجانب ، و قد يقف هذا المنطق المشروع في وضع أخوين أو أختين كطرفا للجريمة ، فيصعب التكييف ان ما تم دعم أحد الطرفين من الأب أو الأم أو أحد الاخوة أو الأخوات أو من الأصول و حتى من الفروع ، فتأخذ الجريمة المرتكبة من ذوي الأرحام منطقا آخر و لو أن الفعل المخالف للقانون سيصنف ضمن خانة من خانات الاجرام و لكن كيف للقانون أن ينصف الضحية من فعل الجاني و قد تم دعم هذا الأخير من أحد أفراد الأسرة بمجاراته على فعله لوجود مصلحة من المصالح وجب صونها و عدم افساد مبتغاها ، فتأخذ 
الجريمة المرتكبة هنا من ذوي الأرحام منطقا آخر و لو أن الفعل المخالف للقانون سيصنف ضمن خانة من خانات الاجرام ، و يحوز الجاني على دعم معنوي يعينه على التباهي و الرضى بما قام به من تجاوزات على أخيه أو أخته.
مثلا ،أن يسلب الأخ من أخته حقها في قطعة أرض بإيعاز و موافقة من أحد الوالدين ، فلمن ستشتكي الضحية و طرفا مشكلتها هم أفراد الأسرة التي ترعرت فيها؟ ، فهنا لا يمكن للبنت مساءلة والدها في هذا التجاوز لأنه في الأخير الأملاك هي ملكه و يتصرف فيها كيف يشاء حتى و لو حدثت فيه تجاوزات شرعية فما يقتنع به الأب أن المال ماله أو العقار هو ملكه و لا يصوب بعين الحق وفق ما ورد في القرآن من ضرورة الانصاف و العدل فيما بين الأولاد ،هذا من جهة و من جهة أخرى و من حسن خلق البنت أنها لا يمكن أن ترفع صوتها لتطالب بحقها و قس على ذلك في أمور أخرى هي كثيرة و متنوعة ، فنوع الجريمة هنا هو سلب حق مشروع من غير وجه حق غالبا ما يقابل بتفويض الأمر لله تعالى فهو من يصون الحقوق في الدنيا و الآخرة .
و قد يلاحظ في قانون الأسرة أو قانون العقوبات ملامح التعميم  و عدم التخصيص و التدقيق في دراسة اجرام ذوي الأرحام ، و كمثال ثان فعل طرد الأب لابنته أو لابنه بسبب قولها حق في موقف من المواقف مثلا ، أو تجاوز الأخت على أختها لتحوز الانتباه و التفضيل مع زوجها على حساب أختها الغير متزوجة ، وبالفعل تميل كفة الوالدين الى البنت المتزوجة و زوجها و لا يبالي أي منهما بالغير متزوجة فتشعر الأخيرة بمظلمة الاحتقار و التهميش و اللاعدل تحت سقف الأسرة الواحدة ، و يمنع منعا باتا من اخراج صدى الظلم الى الخارج و الا تضاعف الظلم الى ظلمين لتتولد فكرة الانتقام بأي طرقة للتخلص من صوت الحق المنادي رفضا لتلك التجاوزات..
 
فظاهرة التحريض و المداراة على الفعل تنفي القصد الجنائي و لا يصبح واضحا في فاعله الأصلي كأن يداري الأب مظلمته لابنته بدفع أحد الاخوة أن يظهر هو في صورة الفاعل في حين الأب يبدو الراعي الحنون للأسرة و لا تثبت ضده أي تهمة و ما اصعب هذا النفاق من طرف الوالدين لأنه يولد الضغينة و الشحناء بين الأخوات و الاخوة و لكن لا مساءلة لهما أو لأحدهما حفاظا على البر ، ثم لا يمكن التصدي لفعل التجاوز  خوفا من الوقوع في العقوق ، فكيف تصنف مثل هكذا تجاوزات و كيف يفصل فيها القانون ؟.

و الغريب في الأمر أن من يبدو مجرما داخل الأسرة يبدو وديعا و اطارا و مثقفا خارجها و هنا تقمص لشخصيتين في وقت واحد ، الشخصية الأولى تبدو مجرمة بتجاوزاتها و مظالمها و الشخصية الثانية تبدو سوية لما تعكسه وظيفة صاحبها كونه مهندسا او طبيبا او اطارا ذو سمعة مهنية مرموقة ، و هنا مربط الفرس ،هو هذا التزاوج الذي يزينه النفاق و العياذ بالله ، و غالبا ما تكون المصالح المتبادلة أو عنصر المادة هي من تحدد طرفي أي نزاع داخل الأسرة الواحدة ، و ما يضمن هذه المصالح هو عنصر التهديد الذي يطال العناصر الضعيفة حتى لا تطالب بأي حق من حقوقها و الا لحقتها تجاوزات أخرى.
و لعنصر التدليس و الكذب و البهتان دور في تمويه الفعل المجرم ، ليبدو في صورته النمطية مجرد نزاع بين الاخوة كباقي الأسر التي تحدث فيها خلافات أخوية في حين أن الأمر مستفحل لدرجة إصابة الضحية بالانهيار العصبي او مرض العزلة و الخوف الذي يجسده الرعب من أي تصريح  بالحقيقة المعاشة في الواقع.
و من العوامل التي ساعدت في انتشار هذه المعضلة من الاجرام بين ذوي الارحام هي استخدامات التكنولوجيا فيما يدعم الدليل ، كالقيام بتسجيل فيدو صوتي لكلام منقول عن الضحية في لحظة غضب او ضغط من احد أفراد أسرتها لتقول كلاما يحسب على أنه نوع من العنف اللفظي و الذي قد يتخذ ذريعة لاتخاذ التجاوزات معها لتصير في منحى الأفعال المشروعة لغرض التأديب او التهذيب و هو في حقيقة الأمر تمويه لوضع الضحية في خانة المتهم و ليس العكس..
 
فإجرام ذوي الأرحام أخذ في هذا العصر صورا عديدة بالكاد يصنف على أنه تصرفات تأديبية فقط لانتفاء الدليل المادي على من ادعى، في حين أن التجريح اللفظي أثره أكبر من لقطة ضرب أو صفعة للتأديب ، و ما الدليل على التجريح الذي سبب عاهة نفسية؟ و كيف يوصف المتسبب بأنه هو الفاعل الأصلي لتلك العاهة و الذي نجم بسبب التوتر و القلق الزائد أو الضغط النفسي، و هي أمور قد لا ينتبه اليها رجال القانون لوضع النصوص الكفيلة بتكييف الفعل الغير مشروع على النحو الكافي و المستلزم للعقوبة ..
و بدوري كباحثة و كقانونية أتساءل : كيف للقانون أن يكون عادلا في تكييفاته لهذا النوع من الاجرام فيما بين " ذو الأرحام" ؟ و كيف يتم اظهار الحقيقة خاصة و أن طبيعة الفعل المرتكب تبنى على الهدم المعنوي و النفسي أكثر منه على عملية سرقة أو تخريب أو قتل و هو ما يخلف آثارا واضحة.

وبقدر التخلي عن القيم و الأخلاق بقدر ما تزيد ظاهرة الاجرام بين ذوي الأرحام ، في حين يتأخر القانون في تكييفها و في إيجاد آليات مكافحتها ، و ان كان مشكلة التخلي عن القيم و الأخلاق لا تحل الا بالعودة لتفعيلها من جديد و لا شأن للقانون بذلك سوى ما يقوم به من حماية و فرض عقوبات واضحة ،لأن مقابلة القانون أو النصوص القانونية مع ظاهرة التجرد من الأخلاق لن تجدي نفعا الا بمعالجة الداء من أصله و طبعا في الأسر ، و كما قيل : داوها بالتي كانت هي الداء ، و مثلما يقول ابي الحسن حازم القرطاجي في كتابه السالف الذكر : و ليست تحرك الأقاويل الكاذبة  الا حيث يكون في الكذب بعض خفاء أو حيث يحمل النفس شدة ولعها بالكلام لفرط ما أبدع فيه على الانقياد لمقتضاه ، و ان كان مما يكره و لا يصدق الحاض عليه ، و مع هذا فتحريكها دون تحريك الأقاويل الصادقة اذا تساوى فيهما الخيال و ما يعضده مما داخل الكلام أو خارجه.  
 

أضافة تعليق