– د. إبراهيم التركاوي (*)
ما ظُلم مفهوم في تاريخنا – خاصة في فترات التخلف والتراجع – كمفهوم ( الإرادة الإنسانية ) ، الذي شابَهُ كثير من القصور والتخبط ، حتي أصبح الإنسان يمشي في دنيا الناس – من جراء هذا القصور والتخبط – كأنه ريشة في مهب الريح حائرة ، فهو لا حول له ولا قوة ، ولا قدرة له ، ولا إرادة ، يصرفه القدر حيث شاء ، كما قال الجبريون :
كريشة في مهب الريح حائرة .. لاتستقر علي حال من القلق
فلا غَرْوَ إن شاعت بين الناس مقولات ( هذا نصيبنا ، هذا قدرنا ، هذا مكتوب علينا ) وغيرها كثير من المقولات التي يستر الإنسان بها العجز والكسل ، وتعطي له مسوغا للهروب من مواجهة أخطائه ، ومن البحث عن سبب إخفاقه ، فإذا رسب الطالب ، لا نبحث عن سبب رسوبه ، بل ينسب إلي أقرب طريق ، وأسهل وسيلة ( هذا نصيبه ، وذاك قدره ) تريحنا من عناء البحث والمسؤولية ، وإذا أخفقت البنت في زواجها ، فبدل من البحث عن الأسباب ، والبحث عن حلول لها ، نعزوا الأمر إلي أقرب طريق ( هذا نصيبها أو معمول لها عمل أو .. ) إلي آخر ، مايتذرع به
الناس من أشياء يسترون بها عجزهم أو يبررون من خلالها أخطاءهم ، وللأسف أصبح هذا الفكرالانهزامي من مكوناتنا الثقافية ، ولا يسلم منه إلا من رحم ربك . !
ونتج عن هذا الفكر العقيم , والثقافة المغلوطة للإرادة الإنسانية , الأمور التالية :
• انتشار الفكر الخرافي , واتساع دائرته في معظم شرائح المجتمع .
• أصبح المجال مرتعا خصبا للمشعوذين , والدجالين , الذين استغلوا بساطة الناس ، وسذاجتهم , نتيجة لانتشار الفكر الخرافي .
• تخلف الأمة وتدهورها سياسيا واجتماعيا وعلميا , بسبب سيطرة الأفكار التي تدعو إلي إيثار الراحة والدعة بالتواكل , وبالركون إلي القضاء والقدر.
• تعميق الاستبداد , وتمكينه , بتسكين حركة الشعوب , وامتصاص غضبها , بحجة أن هذا قدرها ,ولابد أن ترضي به , فليس في الإمكان أبدع مما كان , حتي قال بعضهم – وكان مسؤولا كبيرا رحمه الله – في بعض البلاد العربية , عندما سئل عن انتخاب رئيسه لفترة جديدة – وهو في الحكم منذ ثلاثين سنة - , قال : سأنتخبه , قيل له , لماذا تنتخبه ؟ , قال : ( جني نعرفه أفضل من إنسي لا نعرفه ) . !
المتأمل في القرآن وفي تعاليم الإسلام , يجد غير هذا , يجد أن الله - عز وجل – قد شاءت إرادته أن يسير الكون وماعليه وفق سنن لا تتبدل ولا تتحول , (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) [فاطر: ٤٣]
ووفق هذه السنن تعمل الإرادة الإنسانية , وتتجلي من خلالها أهمية الإنسان , وسمو منزلته عند الله – عز وجل – من جانب , وبيان شرفه , وعلو مركزه ومكانته بين العوالم الأخري من جانب آخر .
فلقد تفرد الإنسان دون سائر المخلوقات بميزات لم تتوفر إلا له , من أهمها :
• أعطاه الله حرية الاختيار في أهم قضية في الوجود , قضية الإيمان بالله , فكيف بغيرها ؟! . (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) [الكهف: 29]
• جعل الله مصير الإنسان – بما ركب فيه من استعداد حرية الإرادة - بيده , فالإنسان هو الذي يصنع مستقبله في الدنيا والآخرة . (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ) [الأنعام: 104] ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة: 14] (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء: 7] وغير ذلك كثير في كتاب الله , يبلغ المئات من الآيات التي تقرر حرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله .
• حمل الله الإنسان – بحرية الإرادة - مسؤولية التكليف , وأمانة التغيير والإصلاح .. (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) [الأحزاب: 72]
وبقوة الإرادة الإنسانية , رأينا شعوبا سادت وقادت وكان لها ما أرادت , لأنها آمنت بحرية الإنسان , وبمسؤوليته عما يفعل ويترك , فملكت بذلك أسباب التقدم والازدهار .. !
ولذا قلت في مقالي السابق – قوة الإرادة – ( لا تتفاوت الشعوب في النجاح والتوفيق , وفي العزة والإباء , وفي التقدم والرخاء , إلا بقدر ما يملك أبناؤها من صلابة الإرادة , وقوة العزيمة , فتصبح إرادتها من إرادة الله , وقوتها من قوة الله , وهذا معني قوله تعالي : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]
وفي ضوء هذه الآية , وماسبق , يُفهم قول ( أبو القاسم الشابي ) :
إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيد أن ينكسر
وبهذا لايكون البيت مخالفا للعقيدة , بل يمثل جوهر العقيدة الإسلامية , ويتواكب مع سنن الله في التغيير والإصلاح .
وهذا ما جعلني أقول : – بعد أن بلغني أن بعضهم قد هاجم هذا البيت لمخالفته للعقيدة في أوائل اندلاع الثورة المصرية - يؤسفني أن يكون الشاعر أفقه بفقه سنن تغيير النفوس من كثير من بعض حفاظ النصوص . !
إذن , ما المشكلة التي نتج عنها هذا الفهم ؟
المشكلة تكمن - كما يقول الدكتور محمد السيد الجليند - في الخلط بين نوعين من القضاء الإلهي , وعدم التفريق بينهما :
( الأول :قضاء كوني قدري ضروري : , لا يحاسب الإنسان عليه ثوابا أو عقابا , ولكن يجب عليه في ذلك أحد أمرين : الشكر لله إن تسسب علي نفاذ قضائه – سبحانه - نعمة , أو الصبر عليقضائه - سبحانه - إن أصاب الإنسان بسوء .. وذلك كالصواعق والأمراض والابتلاءات..
والثاني : قضاء ديني تكليفي شرعي : مبني علي الاختيار وإرادة الإنسان .. وهو مناط الثواب والعقاب في الآخرة . ) ا.هـ بتصرف يسير
وفي ضوء النوع الأول ( القضاء الكوني القدري ) , تفهم أبيات الإمام الشافعي والتي مطلعها :
دع الأيام تفعل ماتشاء .. وطب نفسا إذا حكم القضاء
وغيرها من الأبيات التي تدور في نفس الفلك , كقول القائل :
دع الأمور تجري في أعنتها .. ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عين وانتباهتها .. يغير الله من حال إلي حال
بقي شيء , هل الإرادة الإنسانية مطلقة ؟
كلا .. فهي محدودة في إطار المشيئة الإلهية المطلقة , فلا يخرج شيء عن مشيئته وحوله وقوته – جل وعلا - : (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ) [الإنسان: 30]
فالإنسان - كما يقول الدكتور القرضاوي – ( حر مختار في حدود ما رسم الله للوجود من سنن .. فهو حر لأن الله أراد له الحرية , أوهو يشاء , لأن الله هو الذي قدر له أن يشاء) ا.هـ
تلك هي عقيدتنا نحن المسلمين , نتعبد إلي الله بالأخذ بجميع الأسباب , وقلوبنا مع رب الأسباب .
بهذا الفهم ساد الجيل الفريد من الصحابة , وصاروا من رعاة غنم إلي رعاة أمم , وجاء من بعدهم من سار علي دربهم , فكانوا أساتذة الدنيا , وسادة العالمين .
صدع المغيرة بن شعبة – بهذا الفهم وبتلك العقيدة – لأحد الفرس حينما سأله : من أنتم ؟ , قال : ( نحن قدر الله ابتلاكم الله بنا , كما ابتلانا بكم , فلو كنتم في سحابة لارتفعنا إليكم , أو لهبطتم إلينا لن تنجو منا نحن قدر الله.. ) .
ولله در محمد إقبال حين قال : ( المؤمن الضعيف يحتج بالقدر لأنه قدر الله عليه , والمؤمن القوي يعتقد أنه قضاء الله الذي لايرد , وقدره الذي لا يقهر ) . !
-------------------
(*) باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي