د. إبراهيم التركاوي
لعل المتأمل في حال الأمة الإسلامية – وما يجري في معظم بلادها من ركود وتقادم – وأحوال العالم من حولنا – وما يحدث في معظم بلاده من تغيير وتقدم - يستثيره هذا السؤال – الذي يتكون من شقين , لاينفصمان , لأن فهم أحدهما مرتبط بالآخر - , ويلح عليه : متي يفهم الطغاة ..؟ ومتي تفهم الشعوب..؟!
وإذا رحت تبحث عن إجابة لهذا السؤال علي امتداد التاريخ - القديم والحديث - في ضوء القرآن الكريم , لوجدت :
كم من طاغية يأتي علي أنقاض طاغية .. !, وكم من ظالم يحل مكان ظالم! لكن ما فهم ما حدث , ولا اعتبر بمن سبق , ولا وعي ضرب الأمثال.. ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) [إبراهيم: ٤٥]
الأحداث الضخام, والآيات العظام - تمر بالطغاة ومن حولهم - , تزلزل الجبال , و تهتز لها الأرض .., فلا يحس بها منهم من أحد , فهم في حكمهم جائرون , وفي غيهم سادرون , وفي طغيانهم يعمهون .. !
(أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) التوبة ١٢٦ .. (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) [يوسف: ١٠٥
وإذا تساءلت عن سر هذه البلادة - التي أصابت الحس فلا يشعر , وطول الغفلة التي أذهلت القلب فلا يفقه , وعن هذه الغشاوة التي غشت الأبصار فلا تبصر.. – ؟ ! جاءك الجواب –- من كتاب الله – عز وجل – (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) [القمر: ٥] (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) [يونس: ١٠١] (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: ١٧٩] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: ٤٦]
وإذا كانت الآيات والنذر لاتغني عن قوم غلفوا قلوبهم , وأعموا أبصارهم , وأصموا آذانهم .. لك أن تتساءل – مرة تلو المرة - إذن متي يفهم الطغاة ؟ !
وإذ بالجواب يأتينا من الرئيس المخلوع , بعدما أحيط به , وأطبق عليه من شعبه , وقف مرتعدا – في آخر خطاب له قبل رحيله بساعتين - يقول : ( الآن فهمت مطالبكم ..!! ).
آلآن فهمنا .. ! وتأكد لنا – أيضا - كما تأكد لك ولغيرنا : متي يفهم الطغاة ؟
يفهم الطغاة اللغة الوحيدة – وليست غيرها – التي أذلوا بها الشعوب , وكمموا بها الأفواه , وحبسوا بها الأنفاس ...
يفهم الطغاة - لغة الذل والقهر - عندما يُذلوا ويُقهروا – بضم الأول وفتح ما قبل الآخر - , عندما يحاط بهم , ويطبق عليهم من شعوبهم.
عندها فقط , يفهم الطغاة – بعد فوات الأوان وحيث لايجدي الفهم – مطالب شعوبهم.. ( الآن فهمت مطالبكم .. )
يفهم الطغاة فهم (إمامهم الأكبر:فرعون) – فهم القهر والذل - الذي يَقْدُمُهُم بقوله – بعد ما أحيط به وأمسكته يد الجبار - : (...حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) [يونس: ٩٠-٩١]
يفهم الطغاة عندما تفهم الشعوب أنها- وحدها - هي التي تصنع الطغاة بذلها, وهي – وحدها أيضا - التي تخلع الطغاة بعزها.
يفهم الطغاة عندما تفهم الشعوب أن الظلم لايرفع عنها إلا إذا سارعت برفعه , وجاهدت من أجل إزالته .. وهذا ما أكده القرآن : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: ١١] (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) [العنكبوت: ٦٩]
وما طغي الطغاة , ولا ظلم الظالمون , إلا باستخفاف الشعوب , وفسقها , وذلها .. (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) [الزخرف: ٥٤ ]
ولله در من قال :
أنصفت مظلوما فأنصف ظالما .. في ذلة المظلوم عذر الظالم !
فعندما تفهم الشعوب أنها تتحمل - أمام الله - مسؤولية طغيان الطغاة وظلم الظالمين .. فتنهض من سباتها , وتسعي لعزها , وتحطم أصنامها.. فتتحرر وتتحرر بلادها - من المحتل الوطني - , عندها وعندها فقط – يفهم الطغاة .
إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر
ولابـــــــد لليل أن ينجلــــي .. ولابد للقيد أن ينكســــر
ولابد , أن يفهم الطغاة , بعد أن تفهم الشعوب , فلا يرفع الظلم إلا المظلوم .. !