- د. إبراهيم التركاوي
إن العمل الصالح في حقيقته تجرد وتضحية , لأنه انتصار علي ما تحبه النفس من حب الراحة والدعة والكسل , ومن ثمّ فهو حركة وهمة ونهوض لما هو مطلوب .
وتعظم قيمة العمل الصالح كلما تجاوز الأثرة والأنانية , إلي التجرد والتضحية , من أجل سائر الخلق وعامة الناس .!
وما تنعم به البشرية اليوم من إمكانات , وتقنية اختصرت الأزمنة وقربت الأمكنة , وساهمت في إسعاد الإنسان ورفاهيته , وتَمتّعِهِ بحياة مادية عالية , ماهو إلا من جهد أناس كرّسوا حياتهم , وأفنوا أعمارهم في العمل والإبداع..!
ولا عجب , إذا كان من خير الناس ومن أحبهم إلي الله ( عز وجل ) أنفعهم للناس , وكان من أحب الأعمال إلي الله : سرور تدخله علي مسلم , أو تكشف عنه كربة , أو تقضي عنه دينا , أو تطرد عنه جوعا , أو تمشي في قضاء حاجته .. وكل ذلك وغيره ثابت في أحاديث نبوية شريفة .
إن من أكبر سوء الفهم , وأكثر المفاهيم المغلوطة , قصر العمل الصالح علي عبادات فردية – علي ضرورتها وشدة أهميتها – لا تنفع إلا صاحبها – أوعلي شؤون دينية بحتة دون شؤون الدنيا.
فالعمل الصالح - علي نحو ما ذهب الشيخ الغزالي رحمه الله – : (تصنعه فأس الفلاح , وإبرة الخياط , وقلم الكاتب , ومشرط الطبيب , وقارورة الصيدلي , ويصنعه الغواص في بحره , والطيار في جوه , والباحث في معمله , والباحث في معمله , والمحاسب في دفتره , يصنعه المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء , ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته ) .
إن العمل الصالح يستوعب كل ما يعود علي البشرية بالصالح العام في الدنيا والآخرة , و تزداد أهميته , وتعظم قيمته , بقدر ما يتعدّي نفعه , ويعمّ خيره ..!
إن ما يحدث اليوم في بعض وسائل الإعلام من صخب ومراء , وتبادل الاتهامات بلغة هابطة تصل إلي حد التسفل والإسفاف , وما يحدث بين بعض القوي السياسية من مشاحنات , وجدل دون عمل , وانشغال باللغو عن البناء , ومحاولة إقصاء بعضها لبعض , عمل غير صالح .!!
بل هو من المراء المذموم الذي لا يأتي بخير , ومن الضلال بعد الهدي ..كما جاء في الحديث الشريف : "عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ ، ثُمَّ قَرَأَ : مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) [الزخرف:58]" [صحيح سنن الترمذي 3-3253].
إن العمل الصالح يدعو أصحابه إلي الوحدة لا الفرقة , والحب لا البغض , والتآلف لا التنافر, والتكامل لا التضاد , والعمل لا الجدل , والبناء لا الهدم , والتعمير لا التدمير , والتقدم لا التأخر , والاحتواء لا الإقصاء ، والستر والنصيحة لا التشهير والفضيحة , والتجرد والتضحية لا الأثرة والأنانية..!!
في ضوء هذا أفهم قول النبي – صلي الله عليه وسلم - : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله ! وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله ؟! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) [صحيح سنن الترمذي :757].
تأمل سر سمو النبي ( صلي الله عليه وسلم ) بالعمل الصالح – في الأيام الأول من شهر ذي الحجة – علي سائر أنواع الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء , ليتأكد لنا أن الأمة لا تُبني ولا تُسترد كرامتها , ولا يُعاد لها عزها وسيادتها , إلا إذا تجاوز أبناؤها الانتماءات الضيقة , والولاءات الخاصة , والمصالح الذاتية , وسموا بالعمل الصالح إلي مستوي التجرد والتضحية .!!
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [التوبة :105].
-------------------
(*) باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي