لماذا يحسدونني؟
استمعتُ لشكواكِ يا أختاه بلحن الألم منك، لكني كنتُ في ركن آخر أطلُّ من نافذة مكتبي حينما زُرتِني، وفيكِ بَوح انطلق بدموعك التي لم تتمالك نفسك في كَبتِ سَراحها! فقد أودعت لك وقتًا كافيًا لتعبِّري عما يحيِّر روحك ووجدانك، وركنت في سكوني أرقب ذاك الأنين الخافت على مسامعي؛ لأنك كنت متحفِّظة وبريئة وضعيفة، والتقى الكل على بعضه؛ ليشعِرنَني بآفة هذا العصر التي شتَّتت الشمل، وألحقت الضرر بالأجساد، وهدمت طموحاتٍ كادت تصل إلى علو المراتب.
أخفيتُ عنكِ يا أختاه نظراتي التي أطرقتُ بها على ملفاتي تحت ذراعي، وأنا أخط بقلمي رسوماتٍ لم أكن أقصد منها شيئًا سوى أني أخفيت انطِباعي وتجاوبي مع حسرتك أختاه، واكتفيت بالاستماع المجمَل بطأطأة رأسي الذي وافق فيه كياني كلَّ انفعالاتك وحيرتك! صدقًا ما أصعبَه من ألم! وما أعقدَها من قضية؛ حينما لا يكاد المخلص والتَّقيُّ ينفك من مشاكلَ كهذه لم يكن سببها سوى حسدٍ أضحى واضحَ المعالم والتعبيرات!
لكن لم كل هذا؟ وهل فعلاً في الحسد متعة ونتيجة، وأفق صريح لما تطمح إليه النفس المريضة والضعيفة؟! ولو أنها كانت تبدي الكثير من حسن التربية والكلام الجميل اللَّذين لم يكونا على الإطلاق يعبِّران عن حقيقة ما تخفيه تلك الشخصية الغامضة من حقيقة، وأي حقيقة؟! إنها علة الحسد لكل ذي نعمة.
يا لألمي على هذه الأخت التي عصَر الفراق قلبها! حينما رحَل عنها الهناء والنَّوم والسعادة، وحتى عنوان ابتسامتها رحلَت هي الأخرى، فلم تعُد تشعر بأي معنى للحياة بعد هذه الآفة، يا لصمتي الذي لزمَني في ذاك الدُّعاء الخفي، وأنا أسأل الله أن يفرج كربتها ويعوضها خيرًا ويرزقها الأمن والأمان وراحة البال!
هذا ما قدرتُ عليه؛ لأنَّ لها مستوًى إيمانيًّا يكفيها الصبر والفهم الصحيح لما هي فيه من ضيق؛ فقد روت لي كيف كانت تحسِن لكل من عرَفها، وتمد يد العون لمن طرق بابها، وكيف كانت تطلب من الكل أن يشاركها فرحة الحياة في أيِّ نجاح تحقِّقه، ولم تكن على الإطلاق تنتظر ردودَ فعل تفاجئها بالمتغيرات الحقيقية التي كانت موجودة في الأصل، لكنها كانت ضامرةً لا تَظهر على الملامح.
فروَت لي كيف اشتد عليها المرض من نوبة إلى أخرى، وكيف كانت تسقط في شباك الإخفاق؛ بسبب حسد المقربين لها، على رغم أنها كانت تحسُّ بدنو أي انتكاسة لها، فكانت تزداد قربًا من الله، وتلتزم ضوابط الأذكار أكثر من ذي قبل، طبعًا هذا بعد أن وجدت نفسها تصارع الضياع والتغير الذي آل بها من حال إلى حال، سبحان الله مغير الأحوال! في أن يكون لك مال وصحة وشأن مرموق، ثم تهوي فجأة إلى غير مستوى يعرفك فيه من أعجب بك من قبل! ألهذه الدرجة حسد الحاسد يُبعد المُنى والأمل والرزق والخير؟! صدقًا إنه موتٌ عن قرب وحتى عن بُعد فالأقرب في حسده أشدُّ وأكثر تأثيرًا ممن لا يعرف تفاصيل حياتك ومكنونات المواهب لديك.
ثم هل سيُطالَب المرء دائمًا أن لا يتكلَّم ولا يشارك أحدًا وليمة أو عرسًا أو فرحة أيًّا كان سببها؟! وهل في تكافل المجتمع المسلم مَنفذ للحسد أسلوبًا لإيذاء المحسود الذي لديه أمور فقدَها وصبر عليها، ولم يُبدها لأحد؟!
ثم لم كل هذه الغيرة والمرض والله عز وجل قسم الأرزاق بقدر، فحرَم هذا وأعطى ذاك؛ لحكمة يعلمها هو عز وجل، فأين القناعة من صدور هؤلاء؟! وأين الرضى في قلوبهم بما قسمه الله لهم؟! وما النتيجة والهدف المبتغى من الحسد؟ ولم يؤذي المؤمنُ أخاه المؤمنَ هكذا عبثًا واعتباطًا؟! أوَلم يوصنا حبيبنا محمدٌ بالتراحم فيما بيننا والتكافل؛ لنكون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضًا وقت الأزمات؟!
ثم كيف ننشد التغيير ونحن نؤذي بعضنا بعضًا ويتمنى الحاسدون زوال النعم عن المحسودين؟! كيف نؤدي رسالة الخير والإحساس بالغير في حرمانه ومرضه وعوزه وآلامه؟ ألهذا منحنا فرصة لأعدائنا أن يعبثوا بكراماتنا وكل ما له صلة بإسلامنا؟! ألهذا كثر الكره والتخاصم والتنافر، والتفرُّق والتشتت؟ ألهذا كثرت الأمراض الروحية ولزم أصحابُها فراش المرض مددًا؟! ألهذا لم نعد نتذوق طعم الحياة الحقيقي؟! ألهذا فضلنا الانغلاق على أنفسنا خوفًا من الأذى والحسد؟ ألهذا لازمنا بيوتنا بعيدًا عن مجالس الذكر والسمر السعيد بذكر الله والصلاة على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؟! ألهذا تعطَّل الانبعاث الحضاري لخلل فينا، وليس في غيرنا من الأمم؟!
نسأل غيرنا: لم نحن في تيه وضجر من العيش، والعلة هي فينا لكننا نأبى التغيير وعلاج أمراض القلوب بما يريحها بالإيمان والقناعة ومشاركة الغير أرزاقهم ليسعد الكل بالهناء والطمأنينة.
أفقت من تساؤلاتي الخفية بيني وبين نفسي، وأختي - أي: صديقتي - وإن كنت أفضّل تسمية الأخت، أحسن من الصديقة؛ لأنها الأقرب إلى قلبي وهي جالسة أمامي تشير إليّ أني لست أركِّز مع حديثها حينما همَّت بسؤالي: لماذا يحسُدونني؟!
فكان أن أفقتُ من شرودي، والذي لم يكن شرودًا في حقيقة الأمر بقدر ما كان حوارًا جادًّا مع نفسي إثر ما أخبرَتني به صديقتي، فكَّرت برهة من الزمن وأجبتها: يحسُدونك لأنَّهم يشعرون بمركَّب النقص أمامك، والذي لا يكون موجودًا حينما تكون التقوى تزين قلوبهم؛ يحسدونك لأنهم فتحوا منافذ الشيطان ليفرق بينك وبينهم، يحسدونك لأنهم لم يَبلغوا مرتبة التفوق التي حباك الله بها، والتي لم تأتِ هكذا بسهولة، بل جاءت بمثابرة منكِ وعمل حثيث، ويحسدونك لأنهم يحبون الخير لأنفسهم وفقط، وهذا لن يتحقق لهم، حتى وإن تذوَّقوه فإن تذوُّقهم لن يدوم؛ لأنهم يناقضون شرع الله، يحسدونك لأنهم حيارى في أنفسهم كيف يَبلغون مرتبة النجاح مثلك؛ فإنهم نسوا أو تناسوا أنهم لو قصَدوك لتعلّميهم كيف بلغت مرتبة التفوق فأبدًا لن ترفضي لهم طلبًا؛ لأنك يقينًا ستتقاسمين معهم الرزق والفضل!
وعليه أختاه، اصبري واحتسبي، وحصِّني نفسك بالقرآن والأذكار صباحًا ومساءً، ولا تنامي إلا على وضوء وذكر ودعاء، واستيقظي على دعاء الحمد والشكر وصلاة الفجر وترتيل آيات كريماتٍ من القرآن، سيكون ذلك تحصينًا لك ووقاية من عيون الحسَّاد وشرارة أنفسهم المتعبة، وكُره قلوبهم المريضة، وبالمرة اسألي الله لهم الهداية والبصيرة والتوبة النصوح، لا تنسَيهم من فيض إحسانك؛ فذاك صدٌّ أكيد لشرِّهم، وتأكدي أنك ستنتصرين ما تمسَّكت بذلك، وأكثري من فعل الخير والاستغفار، ولا تبالي بهم، ولا تشغَلي تفكيرك بكيدهم؛ حتى لا يتمكن أذاهم منك، لا تخافي أختاه، وأكثري من قيام الله؛ فذاك لك رحمة وطمأنينة بالقرب من الله عز وجل.
يقول الطغرائي الحسين بن علي:
جامل عدوَّك ما استطعت فإنه
بالرِّفق يطمَع في صَلاح الفاسدِ
واحذر حَسودَك ما استطعتَ فإنه
إن نمتَ عنه فليس عنك براقدِ
إنَّ الحسود وإن أراك تودُّدًا
منه أضرُّ من العدوِّ الحاقدِ
ولربَّما رضي العدوُّ إذا رأى
منك الجميلَ فصار غيرَ معاندِ
ورِضا الحسودِ زوالُ نعمتك التي
أوتيتَها مِن طارفٍ أو تالدِ
فاصبر على غيظ الحسودِ فنارُه
تَرمي حَشاهُ بالعذاب الخالدِ
أوَما رأيتَ النار تأكل نفسَها
حتى تعود إلى الرَّماد الهامدِ
تضفو على المحسودِ نعمةُ ربِّه
ويذوبُ مِن كمَدٍ فؤادُ الحاسدِ
|
وأختم لك يا أختاه: إني أحبك في الله محبَّة تنسيك كيدَ الحاسد، وغيظَ الكاره، وكيد المنافق، أحبك في الله حبًّا يشعِرك أن الدنيا لا تزال بخير، وأن هناك قلوبًا نمت وترعرع نبضُها على حب الخير للغير، وتمنِّي الرحمة للضعفاء، والغنى للفقراء.
إني أحبك في الله، بأمانة الوفاء وجمال الصدق أن أبقى لك وفيَّة ما حييتُ؛ لأني أتطلع إلى ذاك اليوم الذي سيُظلنا الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله الكريم، نعم أحبك في الله!