هم الأخيار فعلا
أنت حر حينما تعطي لنفسك وقتًا لترتاح بعيدًا عن العمل وضغوطات اليوم، بالأخص عندما تكون إنسانًا مرتبًا في هِندامك وسلوكك مع الآخرين، وفكرك في حوارك مع نفسك، حتى لو - لا سمح الله - طرأ طارئ على مواعيدك، فالكل لك في حالة استنفار قصوى؛ لفوضى طرأت فجأةً في رُزْنامةِ مواعيدك؛ لأنك لست من النوع الذي يخلف عهدًا أو كلمة.
صدقًا، نوعك هو من فئة البشر التي ستتعب كثيرًا؛ لأنك تحب أن ترى كل شيء مرتبًا وجميلاً وفي أوانه، والأجمل أنك من فئة الأخيار، الذين لا يشتغلون بالناس في أمورهم، ولا يتكلمون غيبة أو نميمة فيما لا يعنيهم شأنُه، هذا الصنف من الناس لا يفهمهم غيرهم، ويحسبونهم من طينة المدللين أو المتكبرين؛ حينما لا ينزلون مراتب فيها الكثير من فرص إضاعة الوقت والتفكير الدنيء، بما لا يليق برمشة عين منهم، تراهم ركَّعًا سجدًا، في نسق الخشية من الله، هم في رحيل عن الدنيا وما حملت واحتوت، تراهم جلوسًا على مكاتبهم يكتبون بتركيز، ويطالعون بصدق، ويهدون إبداعهم للغير؛ ليستفيدوا منه من غير تقصير أو حكر لحرف، إلا إن شابَهُم مرض أو ضعف أو مشكلة، لكن الأخيرة ليست تأخُذُ من وقتهم الكثير، فالمشاكل لجمعها و لاسْمِها تزعج جمال أرواحهم؛ لذلك يحبون دائمًا أن يكونوا على استقامة في الخلق عند استقبال يوم جديد من حياتهم، ويحسبون لهذا اليوم حسابًا دقيقًا من الزمن، فليس يضيع من غير تحصيل لمنفعة، أو تعلم لعلم، أو نصح يبدونه لغيرهم في مؤازرة منهم لإخوانهم، تراهم يغادرون مجالس الكلام لو انحرف الحديث عن أصله؛ فلا يتسع صدرُهم لما لا يفيد، فتراهم يصمتون حينما يؤذيهم غيرهم بالكلام، إلا ما كان انتقاصًا لكرامتهم، فتثور ثائرتهم في قصاص يُعيدُ لهم راحةَ روحهم التي تعذبت من ويل ما سمعته آذانهم، ثم حينما يستعيدون خفة في أنفسهم بعد عاصفة هوجاء من الحزن، يركنون للكلام الذي فيه موعظة؛ رغبةً منهم في تصحيح السلوك المنافي للأخلاق، ولهم في ذلك قمة من الفهم المقنع، والبرهان المثبت لحجتهم، فلو تكلموا لا يذكرون الناسَ بعيوبهم، ولا يردون عليهم بالندِّ مثلَ ما آلمهم منهم تصرفُهم، لكنهم يقولون الحقيقةَ كما هي، ولا يدافعون عن أنفسهم حينما يخطئون، بل يتقدمون للصلح والعفو الجميل، ولهم في كل ذلك ميزان يقيسون به حجم ما آلمهم، فلا يتأثرون بنقد هدَّام، ولا يتشجعون بتصفيق ممن يفتقدون للبصيرة المحكمة بلجام التقوى.
وعليه؛ يستعدون لأي طارئ في الدنيا؛ فيصبرون ويصابرون، ورغم ذلك يكملون المشوار حتى لو كانت بين فواصل التكملة لقطاتٌ من الراحة، لما يَلفُّ المسيرةَ من عراقيل توقف الساعة أحيانًا من غير سبب واضح لميعاد وقتها، لكنهم يصمتون وينتبهون للطاعن في السنِّ، فيشفقون على أنفسهم فيما هي آيلة إليه مستقبلاً من كبر ونقص في الشباب والصحة والحيلة، ومن منطلق آخر، ليسوا يتراجعون لو واجهتهم أعاصير مكسرة لأجنحتهم، لكنهم يسبحون ويستغفرون حتى يلطفوا أجواء التوتر عندهم، بعيدًا عن المهدِّئات أو أي سلوك آخر ينافي طبائع التربية لديهم.
هم هكذا جُبلوا، وكثير ليس يفهم منهم هذا الانتظام الجميل في حياتهم، لكنهم رائعون لو تكلمت معهم كلامًا أوليًّا فيُبدون الاستعداد لأيِّ خدمة تطلبُها منهم، ولا يبحثون عن وقت لهم في ذلك؛ لأنهم تربوا على أن الأرزاق مهما تنوع شكلها ليست لهم وحدهم، بل يشاركهم فيها مستضعفون وقليلو الجهد من التحصيل للحاجة المرغوب فيها!
هم رائعون! حينما يمطرون مسامع محدِّثيهم بكرم مرتب لا خطأ فيه: نحوًا، ولا معنًى، ولا شكلاً؛ لأنهم تعودوا على الكلام الطيب، وحين تخونهم الكلمات يرسلون ابتسامةً عريضة، فيها ترجمة على أن الأفكار خانتْهم اللحظة، لكنهم مواصلون الشرحَ لنهاية الحديث بخاتمة يطرب لها القلب، وتسكن لها الروح، وتسرُّ لها العين، هم هكذا: إذا غابوا افتقدهم مَن أَلِفَهم، وإن حضروا سرَّ لهم المجلس بما وسع من أعداد المحبين، وحتى الكارهون الضامرون للكُرْهِ في قلوبهم يسترقون بنظراتهم جمالَ الوجه، وسماحةَ النفس في تلك اللحظات لهؤلاء البررة!
هم هكذا لا يميزون بين هذا وذاك، ولا يضعون حدودًا أو فواصلَ، لكنهم ينسحبون بشرف لو اختلط الحابلُ بالنابل، وحضر من لا تسعُهم الخواطر، ولا تستلطفُهم الأعين، ولا تستهويهم الأفكار.
هم هكذا يخيم السكون على ردود أفعالهم لو تحيروا لأمرٍ ما، ويستسلمون للموعظة لترتب الحكمة على ألسنتهم.
هم هكذا أخيار من غير مواعيد ولا تنسيق لحضورهم، ولهم في كل أفعالهم فوائد مثل ما قال الأسدي:
ليس الفتى بفتًى لا يُستضاء به
ولا تكون له في الأرض آثارُ
|
يسعون لإدخال السرور إذا ألم بهم خطْبٌ أو حزن، ويسدون النصيحة الملأى بالأمل من عمق قلوبهم بكل يقين، فكلامهم يصل إلى قلوب سامعيهم، وتترنم به عقولهم، وتدركه حاجات الناس رغبة في الطمأنينة النفسية، هم هكذا ألفوا الخير فألفهم، ونبذوا الشرَّ ففارقهم، فلو أنشدوا لك أنشودة لطلبت منهم تكرارها فور ختامها؛ لأن لحنًا رائعًا أضفى عليه جمالُهم رنة أخرى من الإقبال، هم هكذا لا يبدعون إلا طيبًا؛ فيألفهم الكرم حينما يكرمون به قدومًا في ميعاد اللقاء المسجى بأحلى أمنية أن لو كان اللقاء يطول، وليس ينقضي الوقت للرحيل، لأصروا على الدوام، هم هكذا تتزين الأمنيات بحلو كيانهم المتواضع والخفيف الظل.
هم هكذا أخيار فعلاً؛ يمضون في طريقهم وشعارهم قول خالد بن الطيفان الدارمي:
فما الدنيا بباقيةٍ لِحَيٍّ
ولاحيٌّ على الدنيا بِبَاقِ
|