إصلاح ذات البين مسؤولية فردية أم جماعية؟
كثيرًا ما نسمع عن قضايا التخاصم بين الإخوانِ والأخوات، فيطول هذا الخصام ويشتدُّ الاحتدام كلما كان مستوى فَهم أصولِ الدين لم يَرْق بعدُ إلى المستوى المطلوب، وإلا لتمَّت معالجة كثير من القضايا التي تَطال مجتمعنا الإسلامي؛ حتى لا يضيع الحقُّ بكثرة النزاعات وسط كوم المشاكل.
وعليه فإن إصلاح ذاتِ البَيْن هو:
التوفيق في فكِّ خصام اثنين، وهي كلمة مشتقَّة من الصلاح، وهي التقويم من الانحراف وإصلاح ما فسد، وحين تَرى مجتمعاتنا اليوم تَغرق في خصوماتٍ عديدة؛ منها ما كان لأسبابٍ تؤدِّي إلى القَطيعة، ومنها ما كان لأسباب تافهة لا تَرقى لدرجة البعدِ والهجران لأكثر من ثلاثة أيام فهذا مؤشر على فساد ذات البَين، ثمَّ إن القرآن والسنة وضحا في مواضع عديدة وقيِّمة رتبةَ المسلم عند أخيه المسلم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، وقد قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله: "مِن علامات الصادق في أخوَّة أخيه أن يَقبل عِلَله، ويسدِّد خَلَله، ويغفر زلَّته"، وفيما مضى قيل: "إن خير الإخوان مَن أقبَل عليك إذا أدبر الزمانُ عنك"، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه،...))؛ رواه البخاري.
وحين تتشابك أحيانًا أسبابُ الخصام بين اثنين فقد يُعرف سبب الهجران وقد لا يُعرف، وما عُرف منه يكون بسبب أحد الأخوين؛ لحسدِ أحدهما للآخر، بسبب رقيِّه أو نجاحِه، أو ظهورِ مستجدَّات جديدة في حياته، كزواجٍ؛ حيث يشعر الطرفُ الآخر بمركَّب النقص، هذا النقص يُفجِّر شرارة السخط على قضاء الله، جاهلاً بذلك أنَّها أرزاق، فتظهر بوادر الغيرة ويُوسوس الشيطانُ للنفس، فيشتد النفورُ وتزيد فجوة الابتعاد، ويختلق في ذلك أسبابًا لا وجود لها في الحقيقة، أو قد يقع أحدُ الإخوان في فسادِ الأخلاق بسبب اتِّباع أصحاب السُّوء، فينفصل عنه أخوه الذي جمعَت بينها أخلاقُ الإسلام.
وهناك من الأسباب المتشابكة غير الواضِحة وغير المنفصلة، بل التي تكون مترابطة ببعضها البعض؛ كأن يكون لأطرافٍ أخرى دورٌ في حصول الفُرقة، وانكسار حلقة المتانة في علاقة الأخوَّة في الله بين أخوين؛ بسبب النَّميمة الخفيَّة، التي غالبًا لا يُعرف صاحبُها؛ لأنه يعمل في صمتٍ وبعيدًا عن الأنظار، وهذا ما نهى عنه الرسول الكريم، ثمَّ الفتنة في مرتبتها هي أشدُّ من القتل بمعنى أنَّ نتائجها تكون وخيمة وضارة جدًّا.
وقد يرى المُشاهد غيابَ خصلة إصلاح ذات البَين في زمَنِنا هذا؛ بحُجَّة أن الأمر لا يَعني أحدًا، وأن التدخُّل قد يسبِّب مَشاكل وويلات لا يمكن تفاديها، وأرى في هذا الصدِّ نوعًا من الجُبن والخوف، أو فيه خوف على ضياع مصلحة خاصة إن كان الطَّرَف الملاحظ يَعرف الأخوَين المتخاصمين، فقد يَسرُّه هذا الخصامُ ولا يسعى للصلح، وهنا نعود لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إيَّاكم والظنَّ؛ فإنَّ الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم؛ لا يَظلِمه، ولا يَخذُله، ولا يَحقِرُه، التقوى هاهنا، بحَسْب امرئ من الشرِّ أن يَحقِر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وعِرضُه ومالُه))؛ رواه البخاري.
وقوله أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبُنيان، يشدُّ بعضه بعضًا))؛ رواه البخاري.
وإصلاحُ ذات البَين قد يظنُّ البعض أنه يَقتصر على أداءٍ فَردي، لكنه في مواضعَ أخرى يتطلَّب أكثر من شخص للإصلاح مثلما يحدث في الخلافات الزوجيَّة، فيكونُ بين الزوجَين فيما اختلفَا فيه، بما يحقق لكلِّ طرفٍ حقَّه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرً ﴾ [النساء: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].
إذًا الصُّلح خير من درجة أخرى مِن فضِّ الخصام؛ كاللُّجوء إلى المحاكم في مثل تلك الأحوال، ويبقى أجر المصلِح أفضلَ أداءً؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضلَ مِن دَرجة الصيام والصَّدقة والصلاة))؛ أي: درجة الصيام النَّافلة، والصدقة النافلة، والصلاة النافلة - فقال أبو الدَّرداء: قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البَين)).
ومِن هنا تتجلَّى عظَمة ديننا الحنيف، الذي يحثُّ على مكارم الأخلاق والبُعد عن مُفسِدات الأمور، وبالنظر إلى حال أمَّتنا اليوم فإننا نحزَن كثيرًا والعدوُّ في خططه يسعى إلى التفرقة لاحتلال أي بلد، فتَشتَّت الشملُ وظَهرَت الطائفية وكَثر سَفْك الدِّماء؛ لأن كل طرَفٍ يَرى نفسَه أنه على حقٍّ، وغابت الحكمةُ والمرونة والتعقُّل للإصلاح، فانفكَّ رِباطنا كمُسلِمين وأصبحنا محلَّ سخرية الجميع، ولم تَقُم لنا قائمةٌ بعدُ.
بل الملاحِظ يرى أنَّ هوَّة الاختلاف تزداد كلَّ يوم، ومن منطقةٍ لأخرى، والدور الحقيقي لم يُؤدَّ بَعْدُ على كثرة العدد وعلى توسُّع انتشار الإسلام، لكن أين المسلمون مِن الوَحدة والصلابة والقوة؟! هذه القوَّة التي أمرَنا الله تعالى بأن نتَحصَّن بها: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
هلا أدرك كلُّ واحد منَّا ضرورةَ أن يسعى لإصلاح ذات البَين بين أخوَين أو أختين فرَّق بينهما إما الشيطان وإما سببٌ من الأسباب! وهل وَعى هذا المصلِح أنه مُطالَب بإصلاح ذات البين، ولا يضع نفسَه موضع المحايِد أو المتغاضي عن قضايا المسلمين؛ فالله ناظِر لأعمالنا بل لِنَوايانا بدءًا، وإصلاحُ ذات البين خصلةٌ محمودة، فيها الأجر الكثير؛ لدَرْء القطيعة والهجران والكراهية، ونبذ الأحقاد.
ومن كان يخاف عارضًا من عوارض السعي لإصلاح ذات البَين فعَليه قبل أن يأتي بالإصلاح أن يَسأل أهلَ الفقه؛ ليتحرَّى في موضوع الإشكال القائم، وأن يستعملَ الذَّكاء والحكمة لكَسْب الطَّرَفين وإرجاعهما إلى جادَّة الصواب، وبِنيَّة صادقة وقلبٍ صافٍ لا يحمل غلاًّ أو حسدًا، فمتى تَصفو مَنابِعُ إخوتنا وإخواننا في العالَم العربي بدلاً من التناحر والتقاتل؟
متى نَفقه نُبل إصلاحِ ذات البَين؟ ومتى نَفقه أنه بكثرة عددنا وتوحُّدنا وحبِّنا لبعضنا البعض سنَهزم عدوَّنا نفسيًّا قبل أن يَنهزِم بالسلاح؛ لأن توحُّدنا يزعِجه ويؤرِّق نومَه، فهلاَّ سعى كلُّ واحد منَّا لإصلاح ذات البين بنيَّة خالصة؛ ابتغاءً لوجهِ الله تعالى؟ وهلاَّ سعى المصلِح للدعاء بظهر الغيب بأَن يَنصلِح حالُ اثنين أو حالُ قوم حينما لا يُفلح في ذلك؟! فالدُّعاء مِن الإيمان، وبذلك يكون قد أدَّى ما هو مطلوب منه كمسلمٍ، ينبض في قلبه نبضُ الإسلام، وروعة الدِّين تجعلك تتسامى فوق كلِّ الاعتبارات، وتمحو كلَّ الحساسيات، وتزيل كلَّ حواجز الخلاف، ولك أن تَعود إلى السِّيرة النبوية؛ كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُصلح بين المتخاصمين؛ مصداقًا لقوله: ((إنَّما أنا لكم بمنزلةِ الوالد)).
جعلَنا الله ممَّن يسعَون لإصلاح ذات البَين، غير مُحايدين ولا غافلين عن قضايا تهمُّنا وتهم صلابة مجتمعنا وأمَّتنا، اللهمَّ وفِّق مَسعى كلِّ مَن يُصلح بين المتخاصمين والمتنازعين، ويَسِّر له مَسعاه، وأيِّده بالتيسير في مهمته النبيلة.