مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/06/01 21:01
شذرات من ملحمة الجزائر

شذرات من ملحمة الجزائر

 

 

محطات من تاريخ الجزائر، هو العنوان الذي أعطاه المؤلف عبدالحميد زوزو لمجموعة مختارة من مقالاته ودراساته، قرأتها بتركيزٍ، وهي تتنوع بين الكتابة باللغة العربية والفرنسية، أعطى فيها المؤلف نماذجَ عن المقاومة الجزائرية المتميزة إبَّان الاستعمار الغاشم وقبلَه، فجاءت التواريخ فيها مكتظةً بالأحداث، وجُلُّها مُوثَّق بشهادات حية لمن عايشوا الثورة والأحداث، أو لمن رُوِيَتْ لهم مِن أجدادهم الذين شاركوا بالسلاح في ملحمتها، وبإخلاص في حتميَّة الظفر بالنصر مهما كان الثمن غاليًا، فلا شيء يغلو أمام غلوِّ الجزائر الحبيبة، وما يوجد في متاحف الجزائر - وعلى الأخص: متحف المجاهد، ومتحف الجيش - إلا أحداث مُجسدة في مخلفات حقيقيَّة لمن شاركوا في الثورة، ويمكن لأي زائر لها أن يطَّلِع بنفسه على تلك الشواهد القيِّمة؛ ليستخلِصَ مدى عظمة تلك الملحمة، وفي أروقة كلا المتحفَيْنِ تمازجٌ وثيق بين الجهاد الروحي، والجهاد العسكري؛ لأن امتزاجَ الدم بطلقات الرصاص هو التاريخ الشاهد على جسامة وعِظم تلك التضحيات الجبَّارة، التي لم يُشهد لها مثيل في تاريخ الجزائر لما بعد الاستقلال، وحتى بالمقارنة بغيرها من الدول، فلن تصلَ مقاومة الشعوب الأخرى إلى ما سجَّله تاريخ الجزائر من أحداث جبارة، دُوِّنت وحُفِظت في الأرشيف كبيانات تستقي منها الذاكرةُ في كل مناسبة - بل في كل وقفة - أمجادَ تلك البطولات، وإن العينَ لتدمع أمام تلك التضحيات، والعقل يرحل إلى حيث تلك الحقبة الصعبة من الاصطدام بمُسْتدمِرٍ أرادها جزائرَ فرنسيةً، فلم يكن له ما يريد، وهو لا يزالُ يحاولُ ويُجدِّد المحاولات؛ ليُحقِّق هذا المكسب، ولن يكون له بإذن الله ما دام للجزائر رجالٌ واقفون، حتى وإن لم يتكرَّر جيلُ نوفمبر، فمِن الأحفاد من يسري في دمهم عشقُ الجزائر حاملاً للمشعل.

 

وما أعجبني بالمناسبة في كتاب المؤلف هو حديثُه عن الإسلام[1] حينما ذكر أن تطبيقه كان من الأمور المفروضة على السكَّان والجنود على حدٍّ سواء؛ ففي منشور صادر عن القيادة في الولاية الثالثة بتاريخ 29/ 11/ 1957 نقرأ: "الصلاة واجبة على الجنسَيْنِ: ذكورًا وإناثًا، بدءًا من سنِّ الخامسةَ عشرةَ، وأن صلاة الجمعة ينبغي أن تُقام في كل القُرَى".

 

وفي منشور آخر وبنفس التاريخ تقريبًا، صادرٍ عن ولاية الأوراس يذهب في نفس السياق؛ حيث تُؤكِّدُ تعليماته على ضرورة الأخذ بتعاليم الإسلام، واتِّباع إرشاداته من قِبَل كلِّ المُجنَّدين، وأَيَّة مخالفة في هذا الشأن من أيٍّ كان، قد تُوصله إلى المثول أمام المحكمة العسكرية.

 

لكَمْ بعثَت في نفسي هذه الصرامةُ وهذا الحرص على احترام وتطبيق شرعنا الحنيف!

 

ورحل فكري إلى استخلاص عبرة قيِّمة، وهي: أن انتصار المجاهدين إبان الثورة التحريرية لم يُحقِّقْه السلاح وحده فقط؛ وإنما ضَمِنه ذاك الحرصُ الأكيد على العيش بالإسلام، والتعامل به، وأداء ما هو مفروضٌ؛ بتأكيد مسايرة تطبيقه لعقوبات رادعة في حالة الإخلال بالنظام؛ وهو ما جعل النصر يكون حليفًا للمجاهدين، وفي أصعب الظروف، وعلى كمائن من موت كان يترصَّد المجاهدين كلَّ وقت من مسيرة الكفاح.

 

وهذا الامتثال للمبادئ الإسلامية كان مثارَ تساؤلات ضباط الاستخبارات الفرنسية؛ حيث ذكر المؤلِّفُ أن اقتران الدين الإسلامي بالعمل الثوري طرح أسئلة عديدة، من بينها: فيما إن كان هذا التقيد خاصًّا بكل ولاية، أم هو مبدأ أقرته لجنة التنسيق والتنفيذ؟

 

وهو ما أشار إليه الكاتب في مؤلَّفِه إلى عدم أخذ الفرنسيِّين بالثابت والمُتغيِّر لدى المجتمعات الإسلامية، وما يميزها عن غيرها من خصائص، واعتقادهم بأن اللائكيَّة هي من مميزات الأمم الحديثة؛ باعتبار تعدُّد الملل والنِّحل عندهم، أما لدى الجزائريِّين فالإسلام واحد، وهو عامل وحدة، والجزائريون مسلمون، وكلُّهم سُنِّيُّون، ومن هنا تأتي القراءة المتفرِّسة من أن الإسلام وظف كعامل للتعبئة والاستقامة والإخلاص وغير ذلك من الفضائل، وهذا ما يشرَح الأخلاقيَّات الجديرة بالمجاهدين لمواجهة الاستدمار الفرنسي، خاصة منها: خلق الصبر، والاستعداد للتضحية؛ تلبيةً لنداء الواجب الوطني، للاستشهاد في سبيل الوطن الغالي.

 

وعلى ذكر نصِّ المادة 17 من قانون العقوبات الداخلي في المنطقة الأولى بالولاية: "يُعاقَبُ كلُّ مَن يتهاون في الصلاة بالتوبيخ، والحراسة أولاً، ثم بالسجن لمدة ثمانية أيام"، هذا بالنسبة للجنود، أما بالنسبة للمدنيِّين: "فكل مَن يمس بمبادئ الدين يحاكم حالاً وتطبق عليه القوانين الإسلامية؛ بموجب المادة: 25 من قانون العقوبات الداخلي الخاص بالمدنيين".

 

ويُلاحَظُ أن الولايات التي يُسيطِرُ عليها العنصرُ الأمازيغيُّ، هي أكثرها استعمالاً وتوظيفًا للغة العربية في المراسلات والإدارة؛ وهذا ما يجعلنا نشيدُ بالدور الطموح للغة العربية في تحرير المراسلات، وبالآلات الراقنة البسيطة.

 

ومن خلال قراءتي لبعض هذه المراسلات لاحظتُ كتابةً صحيحة بترتيب لُغويٍّ دقيق، فيه الاختصار، ويَحدُوه التلميح والتحفُّظ في آنٍ في قضايا المبحوثِ عنهم من طرف عملاءِ فرنسا، الذين وُشِمت على جباههم مهمة الخيانة، وتسريب الأسرار، والتبليغ عن مواقع المجاهدين البواسل.

 

حقيقةً كثيرةٌ هي الأحداث، وكثيرة جدًّا الوثائق التي تكشف عما يدور في ذاكرة الجزائريِّين الذين عايشوا الأحداث الجهادية ضدَّ المُسْتدمِرِ الفرنسيِّ، وكثيرة - أيضًا - تلك الوثائق الموضِّحة لطريقة تسيير الثورة بعد التخطيط الجيِّد والمُحْكَمِ لها، وما فكرةُ "مؤتمر الصومام" إلا بصمة عظيمة لأشهر البصمات الجزائرية، التي لمَّت الشمل، ووحَّدت الصف على اختلاف الأطياف، واللون السياسي، بتنوع المفاهيم الأيديولوجية، وصبها في جبهة واحدة.

 

وأحسنُ ما في الفكرة أيضًا أنها وحَّدت المفاهيم الإدارية، وحدَّدت المهمَّات السياسية والعسكرية، وضبَطَت المسؤوليَّات، ورسَمَتْ إطارًا عامًّا للمبادئ التنظيميَّة، والقوانين العسكريَّة، وما إلى ذلك من القضايا، التي كانت تَهدفُ إلى مَنْحِ سلطة مركزية للثورة التحريرية، ممثَّلةً في لجنة التنسيق والتنفيذ[2].

 

وفي أثناء شرود فكري بالتحليل، ومحاولة هضم جسامة الأحداث، وصدق النيات في وقتها آنذاك، حاولتُ إحداثَ إسقاطٍ على طريقة تعاطي المجاهدين لإخراج الاستدمار الفرنسي من أرض الجزائر، وكيفيَّة تعاطي الشعوب العربية مع ثورات الربيع العربي، فماذا لو اقترنَ التنظيمُ لإعلان انتفاضة الشعوب بمبادئ الإسلام المعتدلة والموزونة المعايير والأهداف؛ ليتحقق الطموح الشرعيُّ لشعوبٍ مغلوبة على أمرها، من غير أن يَحْدُثَ ما يُسمَّى: بـ"الإسلام فوبيا"، ولو أنها تسميةٌ متعمَّدة لتشويه صورة الإسلام، وهو بريء من ذلك التطاول، وبالتالي هو مفهوم غيرُ صحيحٍ لما يُشاعُ عن الإسلام اليوم في المجتمع الغربي، ومدى تخوُّفِه من الإسلام كقوة معتدلة ذات تأثير قوي، وتنظيمي في الفكر والقناعة، وليس إرهابًا كما يشاع، لتتبع مدى انتشاره، وتوسُّعه عبر العالم الذي يشهد في الآونة الأخيرة إقبالاً كبيرًا لاعتناقِه.

 

صحيحٌ قد لا يَتشابَهُ الموقفَانِ معًا؛ لخصوصية كل ظرف وكل حدث بين محاربة شعب ضد مستعمِر أجنبي، أراد اغتصابَ الأرض بالقوة، ومسخَ الشعب من هُويته، وتجريده من انتمائه الحقيقي، وبين ثورات الشعوب المنتفضة للمطالبة بحقِّها في العيش بكرامة بعد طول انتظار لما سيقدِّمُه الحاكم من عمليات إصلاحية ضد الفساد، وهضم حقوق الإنسان.

 

ولكن من منطلق الدفاع عن النفس: كلا الموقفَيْنِ أو الحدثَيْنِ كانت لهما مرجعية واحدة، ومن منطلق الدفاع عن النفس والمال وصون الحقوق، أكيد سينطلق مما يحفظُه الإسلام وينصُّ عليه من مبادئ، وخطوط حمراء لا يمكن تخطيها تحت أي ذريعةٍ تضر أكثر مما تخدم، ومن ينادي بتحقيق العدالة والحرية أكيد سيتبنَّى مشروعًا منطلقه مبدأ إسلامي، ولا شأنَ لأفكار أجنبيَّة أن تُقحِمَ نفسَها في مشروع التغيير إلا ما كان منه بمثابة الفرصةِ الثمينة لاستغلال الثروة، والمصلحة المنفعيَّة، وهو ما كان واردًا في المخطط الأمريكي، بُغيةَ تقسيم الشرق الأوسط، ومحاولة الظفر بأكبر قطعة من الكعكة العربية بعد تقسيمها إلى دُوَيْلات، أو مسحها من الخريطة الوجودية لها؛ مثل ما يحدث في العراق وسوريا.

 

كانت وَمْضة من أحداث مؤرَّخة قادتني إلى طرح تساؤل، ربما فيه الكثير من الصواب، وربما فيه الكثير من الخطأ، ولكن الأصح من كل ذلك هو أن ثورات الجزائر تمثِّل موسوعة من التجارب والحِكَم، تشرح وعيًا ناضجًا، وتخطيطًا مُتَّزِنًا، وكفاحًا مُستمرًّا، وصمودًا متينًا أمام واجب التضحية لحين طرد المستعمر من الجزائر، وحدث ذلك فعلاً، ولو أن أطماع المستعمر لا تزالُ قائمةً وبخطط مغايرة؛ كخطة الاستعمار الجديد التي تسعى لتغيير الهوية، من خلال محاولة بعث مشروع اللغة البديلة عن اللغة الأم، ولو بتدرج في التخطيط، لكنها الأطماعُ التي تسعى دائمًا للظفر ولو بالقليل، وسأُكْمِلُ بإذن الله سردَ لقطات تاريخية لكبار المؤرِّخين والمؤلفين الجزائريين، الذين كتبوا عن ثورات الجزائر بماء من ذهب.



[1] عبدالحميد زوزو، محطات في تاريخ الجزائر، دراسات في الحركة الوطنية والثورة التحريرية (على ضوء وثائق جديدة)، طبعة خاصة بوزارة المجاهدين دار هومة، الجزائر نص: 18-19.

[2] عبدالحميد زوزو، المرجع السابق، ص: 21.




أضافة تعليق