فيك النصر تجلى يا رمضان
لكم أسعَدُ بقدومك، وقد تعوَّدْتُ بين جنبات أيامك نصرًا، وتفوُّقًا، وفرجًا، وخلاصًا من أزمات عديدة؛ فعبر حلولك - بأيامك الملاح - يدور في نفسي حوارٌ عن نوع الحدث الجديد الذي سأعيشه في أيامك المباركة، فكانت لي - أنا شخصيًّا - لقطات ثمينة جدًّا، تركتْ بصماتها على ذاكرتي، ولا يمكنني نسيانها، بل بالعكس عند كلِّ قدوم لك أسترجِعُ ما كنت فيه من نصر؛ لانفراج أزمة من الأزمات، أو لتحوُّل محنة إلى مِنْحة؛ لأستخلِصَ هذا العام حكمةً أبديَّةً أنك - فعلاً - شهرُ الانتصارات والتألُّق إلى العُلا.
فإن كان للمسلمين تفوُّقٌ ونجاح في مهمات عديدة في مسيرة الجهاد، فهذا دليل على أنك كنت الفرصة والخلاص والسبيل للتتويج الأكيد بالنصر المظفَّر بعد مكابدات عديدة مع أعوان الشيطان وأعداء الدين، ولك أيها القارئ أن تتفحَّص التاريخ الإسلامي لتستشفَّ منه عبرًا وحكمًا، فستكتشف أمورًا عجيبة كانت تحدُثُ في هذا الشهر الفضيل، على المقابل من وجود محاولات للحاقدين على ديننا الحنيف، الذين يترصَّدون بالمسلمين وبالإسلام لبثِّ البَلْبلة والفتنة، ومحاولة تجريد المعتنق لدينه من كلِّ صفات الانتماء، أرقى صفات بثَّتْها فينا عقيدة سمحة، محاولين بذلك زرع أمور دخيلة لم تكن للمسلمين، لا في ترتيبات دينهم، ولا في ميولات أرواحهم الطاهرة التي تستنشِقُ عَبَقَ الإيمان مسكًا من بين صفحات القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة.
فالأمثلة عديدة وكثيرة، منها: دخول سليم العثماني دمشق دون مقاومة، فقد تمَّ حصار دمشق لمدة 12 يومًا؛ كما سجل في شهر رمضان انتصار العثمانيين على الصفويِّين في معركة شماهي، وخسر الصفويون في هذه المعركة 15 ألف قتيل، كما تم في شهرك أيضًا انتصار المسلمين في معركة البويب في العراق، وما الانتصار الرائع في معركة بدر إلا دليلٌ قاطع على أنك يا رمضانُ تمثِّل منحةً للمسلمين؛ لينتقلوا من مرحلة الضعفِ إلى مدارج القوة التي تزيد في قوتهم وتوحِّدُهم، وبالتالي تغيِّرهم من حال الذلِّ إلى حال العزة، وبفرحة ليست تعمُّ الأفواه فقط، وإنما تنبعث من الروح والعينين لينسجِمَ الفرح بغير حدود.
ما أحلاك يا شهرَ الرحمة والبركة! صدقًا ما أحلاك وما أغناك!
رمضان فيك النصر تجلَّى ببوادر الانعتاق من قيود النفس لأنك كنت فرصةً للجامِها بلجام التقوى وقوة العزيمة.
إن الجهاد الأكبر تلوح قواعده في الكفِّ عن الأكل والشرب وكل ما كان في الإفطار مباحًا، وبغير قيود - إلا ما نصَّ عليه الشرع القويم - وعليه أتوق لأن أصف الفضل في شهرك كالرهام المتساقط رذاذًا من عطر مزكَّى كله نفحات إيمانية، وعزيمة أكيدة في العودة والاقتراب من الله أكثرَ فأكثر، وبصمودِ الواعين بضرورة الخوف والخشية ممن أمرنا بأن نأتيَ ما أراده لنا من خير، والامتناع عما كان لنا شرًّا ومشقة، وقد كان ذلك واضحًا في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، إنها الرحمة الإلهية في الرِّفْق بالمريض، ومَن حال بينه وبين الصيام عارضٌ من العوارض كالسفر، لك الحمد يا رب على نعمك التي لا تُعدُّ ولا تحصى، ولنا في كل سجود تذلُّلٌ ودمع ينهمر؛ لأنك يا رب خلقت كلَّ شيء بقدر، وقد جعلت لنا فرصًا ومناسبات لنستغلَّها فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا وأخرانا، فكان شهر رمضان إحدى الهدايا الجميلة والمُفرحة بفيض الخير الذي يحملُه بين جوانحه، وقد أضيئت له فوانيس الكون ترحابًا بقدومه، حللتَ سهلاً ونزلت أهلاً يا رمضان، وأبقى أحتفظ في قلبي بإحساس لا يفارقني وأنا أستقبل فيك يا رمضان فرصةً ثمينة لتجديد إيماني ولوعة فكري؛ فيزداد الحب لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل ما للإسلام ينتمي، ويزداد أيضًا الإكثار من الطاعات، وتصحيح الزلاَّت والأخطاء، إنها رحمات من عند الله تهلُّ علينا ونحن في أوْجِ الضعف والتوتر مما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي من تغيُّرات بدَّدَتْ ملامحَ التكافل والتآزر فيما بين المسلمين، وما هي من شيم الأتقياء والأطهار، لكنها فتن آخر الزمان، التي نسأل العلي القدير في هذا الشهر المبارك أن يجفف منابع إراقة الدماء، ويُضمِّد جراح المتألمين لفراق الأحباب والأصدقاء والأبناء، وأن يوحِّد صفوف المسلمين، ويقوي عزيمة الحفاظ على أمانة ثقيلة أودعها الرسول الكريم فينا، أمانة السير على نهجه السديد، والتحلي بمكارم الأخلاق مهما اشتدت عواصف التفرقة.
صدقًا فيك تجلَّى النصر يا رمضان، وأقولها حبًّا في أن نستغل كل أوقاتك فيما يرضي الله عز وجل، رمضان، أنت الضيف، والخير، والرحمة، والتوبة، وأنت - بالنسبة لي - عنوان الانتصار بعد تجارب أوهنت فيَّ الفكرة والرأي والإرادة، ولكنك الفرصة التي تأتي محمَّلة بثمار الصبر لصاحبها، من صامك حقَّ الصيام، ورتل فيك القرآن بتدبر وتركيز.
رمضان، أنت لي فانوس النصر الأكيد، وأكيد لغيري من المؤمنين والمؤمنات.
اللهم تقبَّل منا الصيام والقيام، واغفر لنا وارحمنا، وأحسن خاتمتنا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على حبيبي محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعه إلى يوم الدين.