لا تتوقَّف في منتصف الطريق
تَدفَّق كالماء الزُّلال بصوت الخرير يَجُر الأصدافَ والأحجارَ على السواء، في رُفقة الرحلة إلى شلال مُتَّسِع النزول بكل قوة؛ ليَسعَ الأرض في انبطاحها رزقٌ فائض ليس مُنتهيًا، ما أروعك وأنت تمشي مِشية التصميم لوصول آخر نقطة في أُفُق حُلمك! مني أنا ما أروعك! وأنت تصلِّي كلما دخل وقت الصلاة؛ لتقترب من الله أكثر، وتسأله السؤالَ الواعي منك أن يُذلِّل من أمامك الصِّعابَ، ويمنحك الصبرَ والتفاؤل، إني أتشجَّع بك أيها الكبير في عيني، ولو أن سنَّك صغيرة جدًّا، ولا تزال خطواتك حديثة العهد بك في أن تُقلِّد الكبار.
أرى نفسي فيك حينما تَنظُر نظرةَ الاستنفار لكل ما يُسيء إليك، وأتصوَّر نفسي مكانك حينما تتعرَّض لاستفزاز الكرامة، أترقَّب بفضول ما أنت مُقدِم عليه، صغيرة هي سنُّك، لكنه الكِبَر والاتساع في عقلك الذي احتوى مساوئ الناس وتهوُّرهم، رائع منك وأنت لا تُجيب من كان كلامه لغطًا وثرثرة مُنهِكة لحسابات رأسك ومواعيد أجندتك، جميل منك هذا الموقف الحكيم، وأنا أُطِلُّ من نافذة قاعة الدرس، لمحتُ منك بعضَ الكلام والاستفسار، ولكن بيديك؛ فكرهت أن تكون في خِصام أو شجار، ولو أني تأكَّدت أنك في لحظة غضب فنبَّهت عليك بإشارة مني أن تَكُف عن مخاطبة الغير بيديك، فكان منك الفَهْم الجيد لملاحظتي البسيطة، ولو أني لم أسترسل في الشرح؛ لأني أردتُ أن أُتابِع بقيَّة المشهد من بطولة دورك وليس دوري، فلست أريد اختلاطًا في أدوار الإقدام على الحياة، حينما تكون أنت مَن يُصارِعها، وحينما أكون أنا وقلمي من يُثني على مواقفك السليمة، ولو أنها أحيانًا تَنطِق بالخطأ، فذاك ليس عيبًا؛ لأن الحقيقة في نجاح التصرفات والسلوكيات، هي مبدئيَّة الأخطاء في مقدِّمة الصراع مع الحياة، ثم لا تنسَ أهمَّ تضحيةٍ منك، وهي أنك نزلت ميدانَ الواقع لتعارك المتناقضات والمتداخلات من الكثرة في الفوضى لتسقي نفسك الأصح والأحقَّ والأصدق والأنفع، فكثيرون هم مَن يَكتفون بالجلوس، حيث انتهى بهم المجلس، ولا يُواجِهون، بل يَنطِقون بالتعليق وأي تعليق، لا داعي مني أو منك الاسترسال فيما لا يُجدينا في الفائدة.
لا تَندفِع، فلطالما كان الاندفاع يُورِث نَدَمًا في نهاية الفعل، نعم، لا تندفع، ولو كنتَ ترى الجمالَ والإعجاب منك في أي كان، سواء إلى شخص أو مادة ثمينة أو شيئًا يَملِكه الغير، أو راودتك فكرة أن تتعرَّف على مَن ظننتهم طيبين في الملامح من الوجه، ولكن ما خفي في القلب أعظم؛ لذلك أُكرِّر لك: لا تندفع؛ فلطالما شربت أنا المرارَ من فكرة الاندفاع، والتي لم أندم على لقطة من مشوار حياتي اندفعت فيها؛ لأنها كانت قضاء وقدرًا في تعرُّفي على طبائع الناس، ولكن الخسارة كانت أكثر من الرِّبح، خسارة كانت في راحة البال واقتناع الضمير، أنه ما صدر مني لم يكن عمدًا من سوء التقدير لموازين الأمور، وبما أني شربت من كأس الإخفاق، فإني أنصحك وأُصِر على هذه النصيحة: لا تندفع لأي موضع طَرِبت له أذنك أو أُعجِبت به عيناك، بل استأذن عقلك، أو بالأحرى استفتِ قلبك، وتريَّث كثيرًا، وكن ثقيلاً في اتخاذ أي قرار مِثْل ثبات الجبل في مكانه، لا تَهُزه الرياح مهما هبَّت، ومَن أي صوبٍ امتدت، إذًا تريَّث وادرس وشاوِر أهلَ المشورة، ثم توكَّل على الله بعد أن تكون قد عزَمتَ على الأمر، ولا تنسَ صلاةَ الاستخارة، حينما تنوي الإقدامَ على تنفيذ ما لم تتعوَّد عليه، كأن يُتاح لك مشروع فيه الكثير من النجاح والتألق، فلست تدري أين مَكمَن الخير؟ وأين هو بالضبط موقِع مفتاح الخير؟ فلربما كان مفتاح الشر مُغلِقًا للخير، وأنت في غفلة من أمرك، إذًا استعن بالله، ولا تتوقَّف في منتصف الطريق، فلطالما كان في المنتصف رجوع للخلف، أو فِقدان لربح كثير جنيتَه في بداية الطريق، وإني أحزن كثيرًا أن يُطلَق عليك وصْف التي نقضتْ غزلَها من بعد قوة أنكاثًا؛ لذلك راجع سيرةَ الحبيبِ المصطفى في مختلف جوانب الحياة؛ لتأخذ الرأي الصائبَ، وتترك عنك ما يُلهيك عن عقيدتك، وخذ لك من ورد القرآن ما يكون لك ضياء في الدنيا والآخرة.
سأكون سعيدة جدًّا وأنت تتَّبِع ما حفِظتَه عن ظهر قلب لن تنساه أبدًا (كتاب الله وحديث النبي)، فابعث في نفسي انشراحًا واطمئنانًا في أنك طبَّقتَ نصيحتي جيدًا كما أردتُ أنا، وليس كما أردتَ أنت؛ لأنك لا تزال حديثَ العهد بتجارب الحياة، ثم أنا من كنتُ السَّباقة في أن أتذوَّق طَعمَ الصعبِ والألم معًا، وإني أَستحضِر حكمة السلف في أنه مَن يَسبِقك بليلة في العمر حتمًا يَسبِقك بحيلة، لست أُقلِّل من حجم إرادتك، ولكني أخشى أن تتعثَّر العَثْرة الكبرى، ولا تقوم لك قائمة بعد اليوم، ثم لستُ أُعينك على كلِّ شيء، بل أكتفي بالمراقبة من بعيد، وأتدخَّل وقت الضرورة فقط؛ حتى لا تُتعِبني؛ لأني لست أقوى على التعب من جديد.
ختام كلامي: لا تتوقَّف في منتصف الطريق، وتَسلَّح بسلاح التقوى، واستحضر مراقبةَ الله في كلِّ خطواتك تجده أمامك، فلا تُفقِدني ثقتي بك إن أنت توقَّفت في منتصف الطريق، فهذا درب اليائسين والفاشلين الذين تسلَّل إليهم الملل من أصغر منافذه، ولست أُعجَب بهذا النوع من المقبلين على الحياة.
كتبتها نصيحة من مِداد الأيام وبقلم الآمال قبل أن أبدأ درسي في مادة العلم بعيدًا عن مادة الحياة، فقط عِدْني أنك لن تتوقَّف في منتصف الطريق؛ لأطمئن أن مَن سيحمل المشعل عني يومًا أهل وكفء لذلك.
حفِظك الله ورعاك، أستاذتك المحبة لرواد الطريق المنتهي وليس بالمنتصف.