إن علوم الأدلة الجنائية بما لها من أهمية قصوى في مجال الكشف و بيان غموض الجرائم عند التحقيق ، بها يمكن للمحققين الجنائيين من استخدام الدليل الجنائي لإثبات الجرم و توفير الأدلة الساندة بحق المتهم أو تثبت براءته و التعامل بشكل دقيق ومتميز لجميع الآثار المادية و طرق كشفها و التعامل معها على أساس علمي سليم و معالجتها عن طريق الخبرة الفنية والمختبرية حتى تصبح دليلا جنائيا يعتد عليه في الإثبات و الإدانة أو النفي و البراءة.
و قد عرف الدليل الجنائي بأنه : البرهان القائم على المنطق و العقل في إطار من الشريعة الإجرائية لإثبات صحة افتراض أو لرفع درجة اليقين الاقناعي أو حفظها في واقعة محل خلاف.
و من هذا التعريف تظهر السمات الأساسية المحددة للدليل الجنائي و التي تتمثل بأنه برهان يقوم على المنطق و العقل ويهدف إلى الإقناع بما يكفل الحرية في أسلوبه و شكله و نوعه و يرفض القيود على إطلاقه إلا بما كان مرتبطا بالتشريعات القانونية و هناك أنواع من الأدلة الجنائية الإجرائية ، أدلة قانونية و أدلة مادية و أدلة قوليه و أدلة فنية ، فالأدلة الشرعية (القانونية) هي مجموع الأدلة التي حدد المشرع و عين قوة كل منها بحيث لا يمكن الإثبات بغيرها كما لا يمكن للقاضي أن يعطي أي دليل منها قوة أكثر مما أعطاها المشرع.
أما الدليل المادي فهو الذي ينبعث من عناصر مادية، و الدليل القولي هو الذي يتمثل فيما يصدر عن الغير من أقوال تؤثر في قناعات القاضي (مثل اعتراف المتهم و شهادة الشهود..)، أما الدليل الفني فالمقصود به ما ينبعث من رأي الخبير حول تقدير دليل مادي أو قولي قائم في الدعوى و هو عادة ما يقدمه الخبراء في مسائل فنية لا تستطيع المحاكم بحكم تكوين أعضائها الوصول إلى نتائج حاسمة بشأنها.
و يلاحظ أن هناك خلط لدى كثير من رجال القانون بما فيهم العاملين في الأجهزة الأمنية بين المقصود بالدليل المادي و الأثر المادي،و لذلك انبثق تعريفا لكل منهما ، حيث يعرفان الدليل المادي بأنه (حالة قانونية تنشأ من استنباط أمر مجهول من نتيجة فحص علمي أو فني لأثر مادي تخلف عن جريمة و له من الخواص ما يسمح بتحقيق هويته أو ذاتيته ) أما الأثر المادي فقد عرف بأنه:
( كل ما يمكن إدراكه و معاينته بالحواس ، سواء كان جسما ذا جرم أو مجرد لون أو شكلا أو رائحة) كأثر استعمال آلة ووجود بقع دموية أو غيرها و بذلك يكون الأثر المادي مصدر للدليل المادي و قد يشكل هذا الأثر دليلا بعد الفحص والمعالجة.
* معرفة آثار الجاني من منظور بيولوجي و أوجه دلالتها:
تتواجد الآثار البيولوجية عادة إما على شكل بقع دموية أو على المتهم و تحت أظافره و على ملابسه أو على الجثة و ما عليها من ملابس أو على مسرح الحادث و ملحقاته و كل ما يتصل به من أماكن و خاصة الأرضيات و الجدران و قطع الأثاث الموجودة و على الأسلحة و الأدوات المستخدمة في الجريمة و على السيارات و إطاراتها مع ملاحظة أشكال البقع الدموية ودلالة كل شيء فيها ،و أهم الطرق الفنية لرفع البقع الدموية سواء كانت على شكل دم سائل أو متجلط أو دم جاف سواء كانت على الأرض أو على الأسطح المختلفة أو على المفروشات و غيرها ثم إيضاح الفحوص التي تجري على البقع و المتلوثات الدموية و هي اختبارات مبدئية على شكل اختبارات ميكروسكوبية أو اختبارات خاصة و تشمل اختبار الترسيب و فصيلة الدم و الحامض النووي.
أما الأهمية الفنية للبقع و المتلوثات الدموية في مجال التحقيق الجنائي فتشمل معرفة هوية الجاني و معرفة حركته و سلوكه عند ارتكاب الجريمة أو حركة المجني عليه بعد الإصابة و بالتالي المساعدة في معرفة الزمن التقريبي لوقوع الحادث أو الجريمة ، و معرفة سبب الوفاة في بعض الحالات و إثبات حالات البنوة و الأبوة أو نفيهما و تحديد عدد الجناة و غير ذلك.
و لا بد من دراسة اللعاب كأحد الآثار البيولوجية من حيث أماكن تواجدها في مسرح الجريمة و كيفية رفعها و فحصها، والأهمية الفنية و الجنائية للمتلوثات اللعابية ثم توضيح آثار الأسنان و أنواعها و أماكن البحث عنها و طرق رفعها و مقارنتها و دلالاتها الفنية و أهميتها في التحقيق الجنائي ، فقد تساعد على التعرف على الجاني ، أو التعرف على الجثث المجهولة الهوية و المعالم أو التعرف على الجثث عقب الكوارث و الحوادث الجماعية و التعرف على بعض أسباب الوفاة الناتجة عن التسمم المزمن بالإضافة للأظافر و آثارها و أنواعها و كيفية التعامل معها و أهميتها من الوجهة الجنائية و كذلك آثار الشعر ومكوناته و خصائصه و أماكن العثور عليه في مسرح الجريمة و الطرق العلمية و المخبرية لفحصه .
أما الأهمية الفنية للشعر فهي للتعرف على الجثث و أنواع الجروح أو التفريق بينها و تحديد الأداة المستخدمة في إحداثها إذا وقعت الجروح في مناطق من الجسم مغطاة بالشعر ، كما تساعد في التعرف على فتحة الدخول و فتحة الخروج في إصابات الأعيرة النارية في حالات الإطلاق من المسافات القريبة و كذلك للتفريق بين آثار الحروق و تشخيص بعض حالات التسمم المعدنية ، و حوادث الدهس و الكشف عن المخدرات و حدوث العنف أو المقاومة و إثبات النسب و غير ذلك.
أما بالنسبة لدراسة السائل المنوي فان له أهمية كبيرة في الكشف عن مرتكبي الجرائم الجنسية و ذلك بالبحث عن أماكن المتلوثات المنوية ووسائل و طرق كشف البقع و الطرق العلمية لرفع الآثار المنوية و أهم الفحوص المخبرية للكشف عنها والاستفادة منها في المجال الجنائي سواء في مجال إثبات المواقعة الجنسية أو التعرف على هوية الجناة.
كذلك بصمات الأصابع ،و نظرا لأهمية هذه الأخيرة في الكشف الجنائي كان من الواجب بدءا إعطاء تعريف للبصمة ، فهي عبارة عن خطوط على باطن أصابع اليدين و الكفين و القدمين ، حيث تتكون من خطوط حلمية بارزة تحاذيها خطوط أخرى منخفضة و عند ملامسة الأشياء تترك الخطوط الحلمية البارزة ما يسمى بطبعات البصمات أو الأثر ، و قد أثبتت البحوث الطبية كثيرا من الحقائق العلمية المميزة للبصمات و منها إثبات شكل الخطوط الحلمية بالبصمات منذ تكونها في الشهر الرابع من الحمل و حتى نهاية العمر و عدم تأثر البصمات بعامل الوراثة حتى في حالات التوائم التي تنتمي لبويضة واحدة فكلا بصماتها مختلفة و أن هذه الخطوط خاصة بكل فرد و لا تتطابق مع غيرها لأي شخص آخر.
و هناك آثار الأقدام و الأحذية و أنواعها و طريق مضاهاتها مع آثار المتهمين ، و تكمن أهمية آثار الأقدام في المجال الجنائي و أوجه دلالاتها من حيث معرفة عدد الأشخاص الذين كانوا متواجدين في مسرح الحادث ، و معرفة الجهة التي قدم منها الجاني و حالة القدم و العمر التقريبي لصاحبها و حالة صاحبها وقت تركه للأثر من حيث الوقوف أو السير أو الجري أو حمل الأشياء الثقيلة أو للدلالة أحيانا على بعض صفات الأثر من حيث سلامة الجسم أو كونه أعرج أو أعور أو أنه في حالة سكر و وجود اضطراب أثناء تواجده في مسرح الجريمة.
و عليه ، يمكن الاستدلال على آثار ناتجة من أدوات ناتجة عن ارتكاب الجريمة مثل آثار الأسلحة النارية و آثار الآلات ، آثار السيارات ، آثار السموم، فالجريمة فعل يحتاج الفاعل لتنفيذه إلى بعض الأدوات و هذه الأدوات التي قد يلجأ الجاني لاستخدامها كثيرة و متعددة بحيث يصعب حصرها ، فالأسلحة النارية من أكثر الوسائل استخداما و الآثار الناتجة عن استخدامها ذات حضور كبير في مجال الأدلة الجنائية حيث يمكن الإجابة عن عدد من التساؤلات مثل: ما نوع السلاح المستخدم؟ كم تبلغ المسافة بين الجاني و المجني عليه عند الإطلاق؟ و من مستخدم السلاح؟ و غيرها ، فمن أهم النتائج التي ترافق عملية الإطلاق ما يلي:
المقذوف الناري ، الغازات،اللهب، الدخان ، حبيبات البارود غير المحترقة أو المحترقة جزئيا ، الظرف الفارغ و غيرها ، كما يرافق عملية الإطلاق الناري تشكل مجموعة من الآثار ذات الأهمية البالغة في الإجابة على كثير من الأسئلة التي تدور في ذهن المحقق و تصنف هذه الآثار حسب مكان ظهورها و تواجدها.
كما أن هناك آثار تساعد على الاستدلال و كشف الجريمة كآثار السيارات الممكن العثور عليها في مسرح الحادث حيث يوجد آثار للإطارات و آثار الزيوت و السوائل المتساقطة من السيارة المشتبه بها في حوادث الدهس من خلال تتبع ا لمواد العالقة بالسيارة.
أما عن الأدلة السمية ، فقد عرف السم بأنه المادة التي إذا دخلت الجسم السليم عن أي طريق أحدثت اعتلالا بالصحة أو الوفاة و تصنف السموم خاصة في المجال الأمني و حسب ظروف الحادثة إلى ثلاثة أنواع و هي:
1- التسمم الجنائي و هو الذي يكون بفعل فاعل و من أهم مميزات السموم المستخدمة في ذلك أنها لا طعم لها و لا رائحة و أن طعمها و رائحتها تلائم نوع الطعام و الشراب الذي تدس فيه كما تمتاز بأنها ذات مفعول بطيء ليتمكن الجاني من الابتعاد ، وغالبية الأعراض التي تنشأ عن هذه السموم تشبه إلى حد كبير الأعراض التي تظهر نتيجة الإصابة ببعض الأعراض المرضية الغير مفسرة أحيانا .
2- التسمم الانتحاري و يستخدم في هذا المجال سموما سريعة المفعول لا تحدث آلاما شديدة.
3- التسمم العرضي الذي يحدث عند اتصال الشخص بالمواد السامة أو غيرها.
و كخلاصة لهذا العرض يبقى مسرح الجريمة ذو أهمية في مجال التحقيق على حسب مركبات عناصر
الجريمة و خاصة في مجال التحري لكشف الغموض الذي يكتنف بعض الحوادث الجنائية فهو مستودع أسرارها و منه تنبثق كافة الأدلة ليبقى بمثابة الشاهد الصامت الذي إذا أحسن المحقق الاستدراج للأدلة حصل على معلومات مؤكدة.
و مسرح الجريمة يمتد إلى الأماكن التي تحتوي على الأدلة الجنائية أو التي تساعد المحقق على كشف الجريمة و التوصل إلى الحقيقة، ليشمل الطرق الموصلة إليه و الأماكن المحيطة به و أماكن الإخفاء و غيرها و يعتبر المكان الذي تنبثق منه كافة الأدلة ، و بالتالي فان مسرح الجريمة ملكا مؤقتا لسلطات التحقيق بعد علمها بالجريمة يخضع لإشرافها المطلق و لها أن تتحفظ عليه و تعين الحراسة اللازمة بحيث يكون هناك إشراف مطلق من قبل القضاء للمعرفة المسبقة بالطرق و الوسائل التي يلجأ إليها المجرم لاقتحام مسرح الجريمة ليشمل ذلك اقتحام النوافذ ، الأبواب و فتحات السقف و الجدران مما يساعد المحقق على البحث عن الأدلة في هذه المواقع.
ليبقى علم الأدلة الجنائية علم له خصوصياته من حيث أهميته في مجال الإثبات الجنائي ، هذا جانب بسيط منه ، ليبقى العلم والتكنولوجيا الحديثة و سرعة المعلومة عوامل تلح على ضرورة الاكتشاف في هذا العلم ليصل الأمر إلى الانتباه إلى الحشرات و إجراء دراسات ميدانية و علمية لتصبح أداة لمعرفة عمر الضحية بعد الموت و معرفة حقيقة ارتكاب الفعل المجرم و المعاقب عليه قانونا، و هو ما سيكون موضوع بحثنا القادم إن شاء الله.