ليس منطقيًّا عدم نصرة المظلوم
لا شيء يفسد الأعمال مثل الإعجاب بالنفس ورؤيتها في صورة المحقَّة دائمًا، ولا شيء يدمِّر القِيَم مثل التنكُّر للحق وأهله؛ فالله سبحانه وتعالى إذا أراد خيرًا بالعبد وفَّقه وأعانه في قوله وعمله، وثبَّته ضد الصعوبات والعراقيل التي تَعترضه في طريقه وهو ماضٍ كما يحثُّه دينُه، وكما تنصُّ عليه وتُشجِّعه سُنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالعارف يقوم بعمله وهو موقن بالأجر من الله على تعبِه، مُعتذِرًا بذلك في مرضِه أو في ضعفه لسبب من الأسباب، فيبدو صريحًا ومعبرًا لذلك التقصير بكل وجاهة وبكل صراحة، وليس يخاف أن يُقلِّل ذلك مِن عطائه أو شأنه في شيء؛ لأنَّ ما كان فوق طاقة تَحمُّل الإنسان فلا لوم على التقصير، وما كان بسبب ظروف قاهرة تُوهن القوَّة وتُضعف الإرادة فلا حرج من الاستسلام المؤقَّت لحين الشُّعور بالانتِعاش من جديد، فكما للمريض حق في سكونه ولجوئه للراحة، فمن حق المظلوم أن يشعر بذاك الإحساس بالانتقاص في الكرامة؛ لأن ثمة خطبًا من كلام جارح أو سلوك منافٍ للأخلاق قد أحدث شرخًا في الحُرمة الروحية، فنحن بشر، والشعور بانتقاص فيالحرية وفيالحق هووارد فينا؛ بسبب أو لطارئ من الطوارئ، فلا يلام العبد على تهاونه في أداء واجب من الواجبات حينما يتراجَع خطوات للوراء بدافع حفظ ماء الوجه من التعارُض والتصادم، ربما مع فتن أو مشكلات من شأنها أن تُعكِّر العلاقات مهما كان نوعها، أو من شأنها أن تَعود على صاحبها بالخسارة، وله طرق أخرى بإمكانه اتِّباعها للحصول على نتائج مرضية وبأقل الخسائر.
لكن مِن القَضايا الشاغلة للفكر، والمُسيطِرة على مواضيع التواصُل والسلوكات الاجتماعية:
قضية السكوت عن نُصرة المظلوم، فيتجاوز الساكت نصابه من المنطق، بل يَخترقه لأبعد حدٍّ من السذاجة، فتتحوَّل حِكمة الصمت من حكمة الرضا وتجاوز الأزمات، إلى فتنة التولي عن قول الحق وملازَمة الضعيف لحين يستعيد قوَّته وعُنْفوان لياقته العقلية والنفسية، فيُصبح الدور هنا هو الخذلان وعدم الوقوف وقت الأزمات، لتبدو الصداقة أو الأخوة على غير ما هو متعارف عيله على أكمل وجه من نصاب الشجاعة والصدق والوفاء، ثم بغير عُرى العلاقة المتينة التي تربط بين المسلمين لن ننتصر على ما يُهدِّدنا من ضعف؛ فقد حثَّ دينُنا الحنيف على التآزُر والتواصي بالحق، والوقوف وقت الأزمات؛ ليتحقَّقَ فينا مصطلح مسلمين؛ لأن الوصول إلى المطلوب لا يتوقَّف على الهَجر والابتعاد والاكتفاء بالسكوت؛ وإنما بالمبادرة وأداء الميسور من الدور بحسب القُدرة وبحسب الظرف من غير أن يزيد ذاك التدخل إلى مزيد من الفتن وتَشتيت الشمل، فالإنسان المؤمن والساعي للخير كيِّس فَطِن، يُمسك زمام الأمور بوسطية مُعتَدِلة؛ حيث لا يكون فيها إفراط ولا تفريط، وما أحوَجَنا لعامل الصدق في سلوكاتنا، فحتى لو لم تتوفَّر القدرة والطاقة اللازمتان للنُّصرة فلا ضرر ولا ضرار في الاكتفاء بالدعاء؛ لأنَّ ما يؤلم هو ذاك الصمت المفتعل والمعبِّر عن مكنونات نفس خبيثة تتمنى الألم والعذاب والأسى والضعف للغير، ثم ما الفائدة، وما هو المغزى، وما هي النتيجة من كل هذا الحياد السلبي؟ والله هو الناصر حقيقة أولاً وأخيرًا، لكننا بشر، ونتفاعل وسط مجتمع، ويحتاج فينا الضعيف للقويِّ كسند ظاهر بحسب درجة القرابة وبحسب صلة الضعيف بالقويِّ، فإن دعت ويسرت الظروف لمد يد العون والمساعدة فلا بدَّ من تقديمها وعلى أكمل أداء، من غير إحراج أو إشعار بأن ذاك الواجب قد يتحول إلى نوع من العطاء بمُقابل مستقبلي، فتتحول الروحانيات إلى ماديات وإلى مصالح، فيغيب الفهم الحقيقي لتعاليم الدين، ويختلط بذلك الهوى النفسي مع ما كان واجبًا بل لازمًا أحيانًا من نصرة المظلوم.
وعليه، ففي عصرنا هذا مجموعة من العوائق وأنواع من المخالفات، بعضُها ناشئ من التربية والبيئة التي تربَّى فيها الإنسان، وبعضها مُكتَسَبٌ من عوامل الإخفاق والفشل في دروب الحياة، فينمو مركب النقص في النفس البشرية، ولا تجد لها طريقًا للظهور بصيغة القويِّ والحسن والمتميز إلا ذاك السكوت عن نصرة المظلوم تعبيرًا عن حب ذاك الموقف واستحسانه بدافع مِن الشعور بالارتياح المرَضي، والذي لم يكن ارتياحًا صحيًّا؛ لأن ما عولج بالمنطق المسالم وتداولته الفِطنة الوجدانية لا يقبل الطعن في نتيجته فيما يخص قضية النصرة، لكن حينما يتعلق القلب بالدنيا وملذاتها يُصبح الإنسان هنا مريضًا من غير إيمان ومِن غير حمد ومن غير قناعة، على العكس من القلب المؤمن المتعلق بالله سبحانه وتعالى؛ تجده قلبًا كبيرًا، ومحبًّا للخير للناس، ومُشفقًا على وضع الأيتام والمرْضى والمظلومين والمحرومين في هذه الحياة مِن أنصبة الدفاع الحقيقي، كما تجد أصحاب القلوب الطيبة يَقتسمون ما وهبهم الله إياهمن خير ورزق وغِنى، فلا يترك محتاجًا إلا وقاسمه حاجته، ولا يترك مظلومًا إلا نصَرَه ولو بالدعاء له عن ظهر الغيب، وهو لا يدري أن ساجدًا ما يلحُّ بالدعاء لتفريج الكرب وكشفِ الغمِّ، وهذا ما نحتاجه في تمام الأخلاق وكمال المعاملات، حتى يكون المجتمع طبقيًّا في مستوى الاستفادة من عوامل الارتياح والعدل والحرية، فلو تمَّ في أي مجتمع نصرة المظلوم بأيِّ طريقة من الطرُق، سواء بالقانون أو بالصُّلح أو بالتوسُّط، لفك عقد المَظالم حتى يسودَ العدل ويَفرح الناس بما أوتوا من مكاسب تمنحُهم فرصًا لتحقيق ولو جزءًا يسيرًا من الرغبات، والتي هي مشروعة وحق يكفله الشرع والقانون، ما دام السعي إليه تمَّ بطرق سليمة ولم تكن فيها مُخالَفات أو تعدٍّ على حقوق الغير، لكن متى نَعي ثقافة المساندة والإيثار والتعاون والتآزر وقت الشدة، ووقت الضعف، ووقت الحِرمان، ووقت الظُّلم؟ ليس يهم أن يكون ذلك وقت النجاح أو وقت سعة الخاطر وقوة الشخص وقدرته في الدفاع عن نفسه، وبذلك يسترد حقه المسلوب، بل المطلوب، بل المهمُّ أن تتحقق وقت الحرمان ووقت الوحدة ووقت التألُّم؛ ليشعر مَن ندافع عنهم ونواسيهم أن الدنيا لا تزال بخير، وأن العدل والحق يتكلمان بسواعد قوية، كلها إيمان وحب وإخاء ورحمة، فهل فعلاً تحقَّق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم؛ وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)؟
فإذا ما كان القلب مليئًا بالضغن والحسد وتمنِّي زوال النِّعم على الغير، فما الفائدة من إتيان العبادات الأخرى؟ والواجب أن يقاس إيمان المرء على قلبه، ثم إن لم نَنصُر مظلومنا، فمن ينصرُه؟ وإن لم نساعد الضعيف فينا، فمَن يُساعده؟ وهل بالصمت تعالج الأمور؟ وهل بهذا السكوت سيأتي حقًّا الخير، أو تتحقَّق النتائج التي ننشدها في كتاباتنا وأقوالنا وأفعالنا؟ لا، لن يتحقَّق شيء مما يَرغبه الطامحون وهم يتخلون عن قريب لهم في أشد مِحنة، فالأولى هي النصرة والمساندة ولو بالكلمة الطيبة، فأصعب شيء يدمر إرادة الإنسان المُبتلى هو الخذلان، والذي مِن أسبابه: تخلي النفس عما خُلقت عليه في الأصل، وهذه الأسباب هي في النفس ومنها، وما الأرواح الطيبة إلا تلك الجنود التي تتأهب من نومها وراحتها لتُنقذ غريقًا كادت به المكايد، فأنقذت هذا، وسامحتْ ذاك، وحقَّقت الصُّلحَ بين اثنين متخاصمَين فآختْ بينهما، فتحقق ميزان العدل الصحيح، فهؤلاء الناس قليلون حينما يُقاسون بأولئك الذين يُسارعون في تدمير القيم وزرع الفِتَن وإفساد العلاقات، هم مَوجودون حتى إنَّ بعضَهم فضَّل العمل في الخفاء اتِّقاءً للفِتَن ودرءًا للرياء، فهنيئًا لمن قاسم المظلومين حزنَهم، ومسَح دمعتهم، وقال كلمة حقٍّ، وطلَّق الصمت الخبيث بالثلاث، إنها فعلاً القوة الحقيقية التي نَحتاج إليها لبناء مُجتمَع مُتساوٍ في الحقوق وعادل في المُكتَسبات، فحينما يُنصر المظلوم، يُصبح طريق التحصيل واضحَ المعالم بعد أن غطَّاه ضباب الصمت والتنكُّر والفرار مِن القيام بواجبٍ حثَّ عليه الدين، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم نموذجًا مثاليًّا في المعاملات، خاصة منها النُّصرة، فهلا اقتدينا به حق الاقتداء؟!